موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٨

طوني مفرّج

ينحدر جنوبا ليحتلّ مصر ويسودها بقوّة السلاح زمنا. وكان المصريّون أوّل من أطلق على هذا الشعب إسم الهكسوس ، ومعنى الإسم في لغتهم : أسياد البلدان الأجنبيّة ، وأوّل مؤرخ استعمل هذا اللفظ كان مصريّا كتب باللغة اليونانيّة ، وفسّر الإسم على أنّه : الملوك الرعاة.

كان الهكسوس في جميع البلاد التي أخضعوها يمارسون الإقطاع العسكريّ غير المنظّم ، وكانت الطبقة الأرستقراطيّة فيه بمعظمها من الفرسان الأقوياء الذين يملكون المركبات والجياد ، علما بأنّ الهكسوس هم الذين أدخلوا الحصان إلى هذه المنطقة ليستعمل فقط في الشؤون الحربيّة ، وهذا ما مكّنهم من فتوحاتهم السريعة لمدن ومملكات لم تكن شعوبها تعرف الحصان ، فضلا عن حيازتهم للسيوف الحديديّة المقوّسة وللقوس المزدوج واستخدامهم البرونز في سائر أسلحتهم.

أدّى دخول الهكسوس إلى جبيل إلى كثافة سكانيّة ظاهرة في آثار الطبقة التاسعة (١٧٥٠ ـ ١٥٨٠ ق. م.) فامتدّت المدينة إلى خارج الأسوار وأصبح النشاط في المركز القديم مقتصرا على الحرس والكهّان وخدّام الهيكل ، وأنشئت التحصينات الإضافيّة ، وظهرت العربة التي يجرّها الخيل وما أدخله الهكسوس معهم من سيوف معقوفة وأقواس مزدوجة ورماح وحراب. ولا تظهر لنا حفريّات هذه الحقبة أيّ شيء له علاقة بالتجارة الخارجيّة ، إذ يبدو أنّ الهكسوس الذين احتلّوا جبيل وسائر مدن الشاطئ قد قطعوا علاقات تلك المدن التجاريّة والوديّة بمصر ، فكانت مصر لهم بمثابة العدوّ الذي تمكّنوا من قهره واحتلاله في حوالى العام ١٦٠٠ ق. م. ، وقد استمرّت سيادتهم على مصر زهاء ثلاثين سنة قبل أن يشنّ أحد أمراء الجنوب المصريّ من مدينة طيبة : أحموس الأول (١٥٧٠ ـ ١٥٤٥ ق. م.) حربه التحريريّة الظافرة عليهم ،

٢١

ولم يكتف هذا الأمير الثائر بتحرير مصر بل طاردهم بجيشه إلى فلسطين فلبنان ، وقد تابع خلفاؤه هذه المطاردة الطويلة التي حوّلت مصر من مملكة مسالمة إلى إمبراطوريّة محاربة إستعماريّة كبرى ، إلى أن قام طحوتموس الثالث (١٤٩٠ ـ ١٤٣٦ ق. م.) بتوجيه الضربة القاضية في سورية ومدن الشاطئ اللبنانيّ إلى دولة الهكسوس وأحلّ مكانها السيادة المصريّة. ولا تفيدنا الآثار عن أنّ جبيل قد تعرّضت جرّاء هذه الحرب إلى الخراب أو الدمار ، ويبدو أنّ طرد الهكسوس منها لم يكن دمويّا.

الأبجدية الجبيلية الفينيقية

في غضون هذه الحقبة من التاريخ ، يبدو أنّ سكّان مدن شرقيّ البحر الأبيض المتوسّط الواقعة على البقعة الممتدّة بين مصبّ العاصي ، شمالي أو غاريت ، وجنوبي عكّا في فلسطين ، قد بدأوا يعرفون بالفينيقيّين. وكان أهمّ تلك المدن : أو غاريت ، أرواد ، طرابلس ، جبيل (بيبلوس) ، بيروت (بيريت) ، صيدا (صيدون) ، صور ، عكّا. وقد أصبح اليوم معروفا أنّ شعب تلك المدن قبل أن يعرف بالفينيقيّ ، كان يعرف بالكنعانيّ ، وأنّ أصل إسم كنعان ، الذي هو أقدم إسم أطلق على هذه المنطقة ، يرجع إلى لفظ حوريّ : كنجي ، أي بلاد الأرجوان ، (وليس كما كان يعتقد سابقا بأنّ أصل اللفظ ساميّ ويعني الأرض المنخفضة) ، ولفظة كنجي ذاتها تصبح في اللغة الأكاديّة : كنخني ، وفي رسائل تل العمارنة : كنخي ، ويصبح لفظ" كنخ" في الفينيقية : كنع ، وفي العبريّة : كنعان ، كما ورد في التوراة. واستنادا إلى هذا التعليل الفيليولوجي للإسم تكون صناعة الأرجوان معروفة ومزدهرة في القرن الثامن عشر أو السابع عشر ق. م. ، أي لمّا وطّد الحوريّون في شمال العراق القديم علاقاتهم مع سكّان شاطئ البحر المتوسّط. أمّا لفظ" فينيقي" فإغريقيّ أصله PHOINIX ومعناه

٢٢

أيضا : الأرجوان. وبذلك يكون إسما : كنعاني ، وفينيقي لمعنى واحد : الأرجوان. إلّا أنّ اللفظ الأغريقيّ جاء حتما لاحقا للعبرانيّ المشتقّ من الحوري ، أي أنّ اسم الفينيقيّين قد جاء لاحقا للقرن السابع عشر دون أن يمكننا تحديد زمن بدء إطلاق إسم الفينيقيّين على من أطلق عليهم بالتحديد. ولكنّنا نقدّر ذلك الزمن بالقرن الخامس عشر ق. م. ، أي بعد تغلّب المصريّين على الهكسوس ، إذ أصبحت السيادة المصريّة على جبيل وسواها من مدن المنطقة مباشرة ، ولكن يبدو من خلال المراجعات أن جبيل قد تمتّعت بشيء من الإمتيازات الخاصّة ، نظرا لقدم العلاقات التي كانت تربطها بمصر. على أيّ حال ، فإنّ روح السيطرة الخارجيّة لدى الفراعنة كانت قد خبت منذ عهد أمنحوتب الرابع المعروف بأخنتون (١٣٧٧ ـ ١٣٥٨ ق. م.) وبقيت على حالها إلى أن قام ستي الأوّل حوالى سنة ١٣١٧ ق. م. الذي عاد فاجتاح مدن الشاطئ اللبنانيّ في خلال عهده الذي ينتهي في حوالى ١٣٠١ ق. م. ؛

خلال هذه الحقبة ، وبالرغم من النكسات التي تعرّضت لها جبيل نتيجة الصراعات الإقليميّة والأطماع الخارجيّة ، سطّر الجبيليّون تطوّرا حضاريّا يعدّ واحدا من أهمّ الإنجازات التي حقّقها الجنس البشريّ في تاريخه : الأبجديّة.

كان الجبيليّ قد بدأ منذ زمن بعيد محاولات لتطوير الحرف ، نجد أقدم بقايا تلك المحاولات في الطبقة الثامنة من حفريّات جبيل الأثريّة العائدة إلى ما قبل ١٨٠٠ ق. م. ، وهي رموز هيروغليفيّة خاصّة بالجبيليّين ، تختلف عن تلك المصريّة ، ولم يتمكّن العلم من كشف معانيها حتى اليوم. ومعلوم أن الكتابة قبل حرف جبيل الأبجديّ ، كانت قد عرفت نظامين رمزيّين غير هجائيّين : النظام المسماريّ السومريّ في العراق القديم ، والهيروغليفيّ في

٢٣

وادي النيل ، إلّا أنّ هذين النظامين الرمزيّين لم يختلفا من حيث عدم تعدّي الرمز المرئيّ إلى الصوت المحكيّ ، بمعنى أنّ الكتابة قبل الأبجديّة الجبيليّة كانت في البدء صوريّة ، ولم تكن صوتيّة ، وقد تمكّن المصريّون ، على مرّ القرون ، من تطوير النظام الصوريّ إلى نظام صوريّ ـ صوتيّ ، فاتخذوا أربعين صورة من صور كتابتهم الهيروغليفيّة وجعلوا كلّا منها رمزا لوحدة صوتيّة ، وتوقّف التقدّم المصريّ على صعيد الكتابة عند هذا الحدّ ، بينما لم تتعدّ المسماريّة الرمز الصوريّ.

يعتقد الباحثون أن أوّل من حاول تطوير فنّ الحرف من الصورة إلى الرمز المختصر لها الذي يشكّل حرفا صوتيّا ، كانوا أسرى كنعانيّين أو بعض عمّال التعدين الكنعانيّين في شبه جزيرة سيناء ، في المناجم المعروفة بوادي المغارة ، حيث ظهر إسم بعلة جبيل واضحا على بعض جدرانه. ويعتبر بعض الباحثين أن أولئك الكنعانيّين ـ الجبيليّين قد وجدوا صعوبة في ذلك المزيج المزعج من صور ورموز وما يفترض أن يكون أحرف هجاء ، فعمد هؤلاء إلى اتّخاذ الرموز التي تشكّل أحرفا صحيحة كأساس في تهجئة الكلمة ، ووضعوا لتلك الرموز أسماء ساميّة وأعطوها قيمة صوتيّة تلائم الأصوات اللغويّة في لسانهم. فإنّهم مثلا اتّخذوا الرمز الذي يشير إلى رأس الثور وسمّوه في لسانهم : ألف ، بقطع النظر عن إسمه باللسان المصريّ ، وأصبحت كلمة" ألف" تمثّل الوحدة الصوتيّة التي تبدأ بها ، أي : همزة. إلّا أنّ العامل في سيناء استخدم فقط الفكرة الأبجديّة الموجودة في العلامات الساكنة المصريّة وشكّل لنفسه مجموعة بسيطة من العلامات التي يمكن أن تتهجّى بها الكلمات. أمّا الهجاء الذي ينسب إلى جبيل ، وهو خطّي مستقيم ، فيتألف من ٢٢ حرفا صحيحا ويكتب من اليمين إلى اليسار. ثمّ كان للكنعانيّين أنواع

٢٤

أخرى من الكتابة المعقّدة ، منها الكتابة المقطعيّة التي وضعت على مثال الكتابة الهيروغليفيّة المصريّة ، أي المؤلّفة من رموز أو صور يشير الرمز فيها إلى مقطع لا إلى هجاء واحد ، وقد وجدت نقوش في جبيل سنة ١٩٣٠ مكتوبة بهذا النظام ، وهي من أقدم النماذج اللغويّة للسان الكنعانيّ ، ويعود زمن وضعها إلى حوالى ١٣٧٥ ق. م. ، ثمّ استعيض عن هذا النظام المقطعيّ بالكتابة البابليّة المسماريّة ، وهي الكتابة التي خطّت بها رسائل تل العمارنة.

كذلك ظهرت في فلسطين في أواخر الألف الثاني ق. م. عدّة محاولات للكتابة هجائيّا ، ولكن في الألف الأخيرة قبل المسيح اختفت جميع هذه الأنظمة الكتابيّة وتنوسي أمرها وبقيت الحروف الهجائيّة الجبيليّة وحدها في الميدان ، لا ينازعها في مكانتها منازع. وإنّ أقدم نقش فينيقيّ تامّ سهل الفهم مكتوب بالهجاء الكنعانيّ ، هو نقش يتألّف من خمسة أسطر محفور على حجر كلسيّ عثر عليه MAURICE DUNAND المستشرق الفرنسيّ في قلعة جبيل القديمة ، وفي هذا النقش إشارة إلى بناء سور أقامه شافاط ـ بعل ، بن إبلي ـ بعل ، بن يهي ـ ملك ، وهؤلاء جميعا كانوا من ملوك جبيل. وقد ردّ الباحثون تاريخ هذا النقش إلى القرن السابع عشر ق. م. ، إلّا أنّ بعض المؤرّخين اعتبر أن هذا التقدير" عال" ، وأنّ تاريخ النقش إنّما يعود إلى زمن أقرب إلينا. غير أنّهم جميعا سلّموا بأنّ الحروف الهجائيّة التي كتب بها هذا النقش القديم تبدو بأشكال تدلّ على أنّها أقدم عهدا من الحروف التي خطّ بها نقش الملك أحير ام الشهير ، الذي عثر عليه المستشرق الفرنسيّ مونته PIERRE MONTET سنة ١٩٢٣ في جبيل ، والذي يعود عهده إلى القرن الحادي عشر ق. م. ، وهناك نقش يعود لملك جبيليّ آخر بالحروف الفينيقيّة وجد على نصب للفرعون أوزركون يعود زمنه إلى حوالى ٩٠٠ ق. م.

٢٥

إنّ الدراسة المعمّقة لمسألة الحرف والأبجديّة التي عرفت بالفينيقيّة ، لا تدع مجالا للشكّ في أنّه كان للجبيليّ اهتمام مميّز عن أيّ كان في عمليّة تطوير هذه الأبجديّة التي ستصبح أمّ الأبجديّات في العالم. وإلا فما تفسير عدم اكتشاف أيّ نصّ أبجديّ في تلك الحقبة من التاريخ ليس لها علاقة إمّا بأرض جبيل ، أو بملك جبيليّ؟ وهي أمّ الأبجديّات في العالم لأنّ اليونان سوف ينقلونها ، بين ٨٥٠ و ٧٥٠ ق. م. ، محافظين على الأسماء الساميّة للحروف وعلى شكلها العامّ وترتيبها ، وكانت تكتب الحروف في أقدم الكتابات الأثريّة اليونانيّة من اليسار إلى اليمينن ، كما في الكتابة الفينيقيّة ، واعترف اليونان بما نقلوه في قصّة قدموس الذي ينسب إليه إدخال ستّة عشر حرفا. ونقل اليونان في القرن السادس إلى الرومان أبجديّة أدخلوا إليها بعض التحسينات ، ومنها تولّد معظم الأبجديّات الأوروبيّة. والآراميّون الذين أخذوا أبجديّتهم عن الفينيقيّين نقلوا تلك الأبجديّة إلى العرب والهنود والأرمن وسائر الشعوب الشرقيّة التي تستعمل الأبجدية. وقد ظهّرت جبيل المعاصرة كون جبيل مهدا للأبجديّة بإقامة" نصب الأبجديّة الفينيقيّة" في الساحة الكبرى مقابل الواجهة الجنوبيّة للقلعة ، وهو من تصميم ونحت الفنان نبيل بصبوص.

وسط التجاذب الحثّي ـ المصري

في الوقت الذي كان فيه الجبيليّ على هذا المستوى من الفكر والإبداع ، كانت مصر قد فقدت سيادتها العمليّة على المنطقة ، وكانت قد ظهرت في الشمال قوّة عسكريّة جديدة عملاقة ، تألفت من مجموعة شعوب مختلطة انضمّت إلى قبيلة مغمورة من قبائل الأناضول تعرف بقبيلة ختّي ، فعرف مجموع هذا الشعب ب" الحثيين" ، وقد أنشأ هؤلاء في أوائل القرن التلسع عشر ق. م. مملكة لهم شملت الأناضول وجزءا من شمال سورية والعراق ، وفي

٢٦

١٣٨٠ ق. م. اعتلى العرش الحثّي ملك طموح ومقدام إسمه شبّلوليوما ، اكتسح المملكة المتنّية وجعل في شمالي سورية له مركز انطلاق ضدّ الفراعنة الذين كان قد بدأ عصر انحطاطهم الحربيّ ، وسرعان أن ضمّ الملك الحثيّ إلى سلطانه ، قبل موته سنة ١٣٥٥ ق. م. ، المدن الفينيقيّة الواقعة شمال جبيل ، التي سارعت إلى عقد تحالف ضدّ الغازي الجديد مع بيروت وصيدا وصور برئاستها ، وكانت المملكة الحثيّة قد اتسعت وأضحت عاصمتها كركميش ، الواقعة على الفرات جنوب جبال طوروس ، وهي التي ستعرف في ما بعد بجرابلس ، وأصبحت المملكة الحثيّة الدولة الأقوى في منطقة غربي آسيا.

في هذا الوقت ظهرت حول المدن التي لم يكن الحثيون قد احتلّوها بعد ، عصابات من القبائل التي عرفت بالخبيرو ، وراحت تشنّ الغزوات على المدن وخراجاتها ناهبة سالبة مدمّرة عائثة فسادا. في الوقت ذاته اغتنم بعض أمراء العموريّين ، أبناء أعمام الكنعانيّين ـ الفينيقيّين الساميّين ، هذا الوضع العكر ، وراحوا يحاولون اصطياد الغنائم. وكان من جملة هؤلاء" عبد أشيرتا" الذي كان يتولّى إمارة عموريّة عند أعالي العاصي ، وقد لعب على حبلي الولاء للحثيّين من جهة ، وللفراعنة من جهة ثانية ، ليتمكّن من تحقيق مطامعه الإنتهازيّة ، وقد تمكن عبد أشيرتا ، بفضل دهائه ، من السيطرة في البداية على الإمارات المجاورة له ، ثمّ راح يتوسّع باتّجاه الشاطئ ، وتمكّن العموريّون ، على يده وإبنه" عزيزو" ، من الإستيلاء تباعا على قطنة وحماة ودمشق ثمّ على أرواد وشكّا وأنفة والبترون ، وأخيرا سقطت بيدهم سميرا الواقعة على الشاطئ الفينيقي شمالي أرواد ، والتي كانت مقرّ العامل المصريّ أنذاك ، فأصبحت جبيل التي كانت تعتبر أنّ سميرا تابعة لها ، شبه مطوّقة.

٢٧

عبثا حاول حاكم جبيل الموالي لمصر : ربّ عدي ، أن يحصل على النجدة من الفراعنة لصون مدينته من الغزو ، فقد حفظت لنا رسائل تل العمارنة حوالى خمسين رسالة متلاحقة بعث بها الحاكم الجبيليّ إلى الفرعون المصريّ يحثه فيها على التدخّل لحماية المدينة دون جدوى ، وقد حقّق في هذا الحدث المؤرخ اللبنانيّ الكبير الدكتور فيليب حتّي ، واستخلص ما أسماه ب" مأساة رب ادّي" (أو عدي) على الشكل التالي :

" بعث رب أدّي ، صديق مصر ، الرسالة تلو الرسالة ، ينعي فيها على عبد أشيرتا (الكلب) وابنه عزير وخيانتهما ويلتمس منه العون. ولكنه لم يلق من مصر جوابا. وأرسلت مدينة بيروت (BI ـ RU ـ TA) وصيدا (SI ـ DU ـ NA) رسائل تطلب فيها إلى فرعون مصر أن يسرع إلى نجدة جارتهم إلى الشمال ، جبيل ، التي أصبح الضغط على أميرها شديدا. ولدينا آجّرة ـ ولكنّها مشوّهة تصعب قراءتها ـ فيها ذكر لعامل مصر الذي وعد بأن يرسل مراكب وعساكر على جناح السرعة لصد الأموريّ (العموريّ) المغتصب ، ولكن هذا الوعد لم يتحقّق. وقد تحسّس أمنحوتب مرّة فأرسل فرقة من جيشه ـ عوضا عن أن يرسل جيشا كبيرا يسير في مقدّمته كما كان يفعل سلفه طحوتموس ـ تمكّنت من استرداد مدينة سميرا وقمعت الثورة ولو لوقت قصير. ولكن الفرقة كانت صغيرة فلم تستطع أن تقف في وجه الخطر المداهم من الشمال : خطر الحثيّين. وإن موت عبد أشيرتا قتلا لم يغيّر في الوضع شيئا ، فإنّ أبناءه ، وعلى رأسهم عزيرو ، ساروا في خطوات أبيهم واتّبعوا الأساليب المكيافيليّة ذاتها. ولم يتغيّر الوضع السياسيّ في مصر ، ففي هذه الأثناء تسنّم أخناتون عرش مصر سنة ١٣٧٧ ق. م. فازدادت الحالة سوءا على سوء. وأخذ ربّ أدّي ، أمير جبيل ، يرسل الرسائل إلى فرعون مصر ذاكرا فيها خبر الكوارث

٢٨

والمصائب ، يقول : ـ كان ملوك كنعان في ما مضى من الزمان إذا رأوا جنديّا مصريّا ولّوا الإدبار. أمّا الآن فإنّ أبناء عبد أشيرتا يهزأون بالشعب المصريّ ، ويهدّدوني بأسلحة مريعة ـ. وبعد فترة قصيرة وقعت" ألّازا" و" أرداتا" في قبضة عزيرو ، ونصف مدينة أو غاريت التهمتها النيران ، واستردّ سميرا وهدّمها تهديما كاملا مدعيا أنّه فعل ذلك كي لا تقع في أيدي الحثيّين.

في هذه الأثناء كان رب أدي قد فقد رشده وأعياه اليأس. فقد كان رسله إلى مصر يعودون بخفّي حنين. حتّى أن أخاه كان يدبّر مؤامرة مع أبناء عبد أشيرتا لقلب الحكم في جبيل. وكان يشعر ، كما يقول هو ذاته ، ـ أنّه حبيس كعصفور في قفص ـ ، وها هي أخته وأولاده يلجأون إلى أمير صور ، أبي ملكي ، الذي لم يكن قد انضمّ إلى سائر الأمراء الكنعانيّين الناقمين.

وكان أمير صور ، كأمير جبيل ، يبعث بالرسائل إلى مصر نادبا فيها حظّه ومتوسّلا ملكها ليبعث إليه بالعون ، ولكن دون جدوى. وأخيرا دبّ اليأس إلى قلب هذا الأمير الشجاع (رب عدي) الأمين ، فهجر مدينته جبيل ولجأ إلى بيروت. وكان حاكم بيروت" عمونيرا" ذا قرابة له عن طريق المصاهرة. أمّا زوجته وأبناؤه فقد سلّموا جميعا إلى عزيرو ... وعندما أصبحت بيروت ذاتها مهدّدة ، غادرها أمير جبيل وسار جنوبا نحو صيدا ، ولكنّ أمير صيدا ، زمريدا ، كان قد تنكّر للحلف المعقود بينه وبين مدن الشمال برئاسة جبيل ، وانضمّ إلى العموريّين ، وبذلك وقع ربّ أدي بقبضة الذي كان هاربا من وجهه : عزيرو ، ولقي حتفه بسبب شهامته ووفائه للمصريين".

قبل أن يستشهد رب عدي ، والذي ذكره حتّي غالبا باسم رب إدي ، كانت جبيل قد سقطت بأيدي العموريّين الغزاة الذين أحرقوا المدينة بعد أن نهبوها.

٢٩

بقيت جبيل رازحة تحت وطأة الإحتلال أكثر من ثلاثين سنة ، وليس لدينا أي أثر حسّي عن الأحوال الدقيقة للمدينة وأبنائها بخلال هذه الحقبة التي تلت سقوطها بيد العموريّين ، وإن كان بوسعنا أن نستشفّ السيطرة الحثيّة عليها ومرورها بظروف ركود وجمود ، ولا بدّ من أن يكون بعض الأموريّين قد اندمجوا مع جبيليّي تلك الحقبة الذين عفا عنهم الدمار ، ولكنّنا لا نستطيع أن نعطي أيّ رقم عن عدد سكّان المدينة في ذلك الزمن ، إذ ليس من مرجع أو مقارنة من شأنهما أن يفيدانا بشيء حول هذا الموضوع.

في حوالى ١٣١٧ ق. م. ، اعتلى العرش المصريّ شجاع ينتمي إلى الأسرة التاسعة ، إنّه ستي الأول الذي أعاد إلى قومه روحه الوطنيّة وزهو طموحاته ، وبعد أن أعاد تأليف الجيش وتعزيزه ، شنّ الحرب على الحثيّين في مناطق احتلالهم في فلسطين ولبنان ، فتمكّن من الإستيلاء على الشاطئ حتى تعدّى مدينة أرواد إلى سميرا ، فعادت بذلك جبيل إلى الفلك المصريّ ، وأصبحت أحيانا قاعدة لبناء المراكب للأسطول الفرعونيّ لقربها من موارد خشب الأرز. وانتهت الحملة المصريّة إلى صلح عقد مع الحثيّين دون أن يعيّن حقّ أيّ من القوّتين في السيطرة على مدن الشاطئ ، فأصبحت بذلك جبيل ، كما سائر المدن الفينيقيّة ، في وضع عدم استقرار سياسيّ واقتصاديّ ، خاصّة وأنّ ذلك الصلح بدا وكأنّه هدنة موقّتة ، كان كلّ من الفريقين يستغلّها لتعزيز قواه. وما أن خلف رعمسيس الثاني أباه ستي الأوّل في حوالى ١٣٠١ ق. م. حتّى زحف بجيشه شمالا عبر الشاطئ اللبنانيّ ، ومنه اتّجه شرقا إلى منابع العاصي. ونحن نعتقد أنّ رعمسيس قد سلك طريق أفقا ـ العاقورة ـ اليمّونة خلافا لما يرى البعض من أنّه سلك طريق وادي الليطاني. على أيّ حال فقد تلاحم الجيشان على ضفاف العاصي في حوالى ١٢٩٦ ق. م. حيث

٣٠

تعرّض الفرعون لكمين حثّيّ كاد أن يودي بحياته ، ويذكر بعض المؤرّخين أنّ الجبيليّين قد هبّوا إلى نجدة الفرعون إثر تعرّضه للكمين ، وساعدوا على فكّ الطوق عنه وعن جيشه ، وأنّ الفرعون قد حفظ هذا الجميل لهم فأقام في جبيل زمنا أغرق خلاله ملوكها بالهدايا الثمينة التي وجدت في قبورهم.

لم يتمكّن المصريّون من اجتياز نهر العاصي نحو الحثيّين ، ولم تتجاوز سيطرتهم الفعليّة منطقة الشاطئ رغم الحملات المتعاقبة التي استمرّت قرابة عشرين سنة كانت نهايتها سنة ١٢٨٠ ق. م. عندما عقد المصريّون مع الحثيّين معاهدة صداقة وحسن جوار ، وتعدّ هذه المعاهدة التي حفظتها رسائل تلّ العمارنة بنسختيها المسماريّة والهيروغليفيّة ، والتي بقيت سالمة حتّى اليوم ، أقدم المعاهدات الدوليّة المكتوبة في العالم قاطبة ، وهي تنصّ على إحلال السلام إلى الأبد بين القوّتين ، وعلى الإعتراف بشمال سورية وبلاد العموريّين بلادا حثيّة ، وبجنوب سورية ومدن الشاطئ اللبنانيّ بلادا مصريّة ، وهكذا عادت جبيل إلى الإستقرار في علاقاتها مع مصر من جديد.

لن تكون السيطرة المصريّة على جبيل هذه المرّة بذات شأن ، فإنّ ظلّ السيادة المصريّة قد أخذ بالتقلّص من جهة ، ولم تكن الصلات معها من جهة جبيل وديّة شفّافة مثلما كانت قبل بدء الحروب المتعدّدة الجنسيّات ذات المصالح والمطامح ، فقد ظهرت في جبيل روح استقلاليّة نستشفّها لأوّل مرّة من خلال نقش كتابيّ من رسائل تلّ العمارنة ، هو تقرير بعث به رسول الفرعون الذي كانت مهمّته الحصول على خشب الأرز من جبيل ، وقد ضمّن المبعوث تقريره الشكوى من أنّه قضى تسعة عشر يوما في ميناء أمير جبيل ـ زكر بعل ـ الذي كان يرفض مقابلته صراحة ويردّ على طلبات المقابلة الملحّة عبر حرّاس الميناء بقوله : " فلينصرف عنّي". ويبدي الرسول خوفه من أن

٣١

يأمر أمير جبيل بقتله في أيّة لحظة. ويذكر أنّه كان يقصد شاطئ البحر ليقضي الساعات هناك جالسا يندب حظّه. ويتّضح من خلال التقرير أنّ سبب جفاء الأمير الجبيليّ للرسول المصريّ كان عدم حمل هذا الأخير المال الكافي لدفع ثمن الخشب المطلوب ، وفي محاولة منه لاستمالة الأمير أرسل له الرسول جارية مصريّة مغنّية لترفّه عنه ، ثمّ بعث له بغلام يرجوه السماح له بالمواجهة ، وبعد كلّ هذه المحاولات الدبلوماسيّة الذليلة تعطّف الجبيليّ واستقبل المبعوث في عليّته القائمة على الميناء مباشرة فوق البحر ، ونافذتها تطلّ على مكاسر الموج ، وبادر المبعوث بتعال لافت إذ قال له : " إعلم أنّي لست بخادم لك ولا للذي أرسلك إليّ ، أنا إذا ناديت لبنان تتفتّح السماء وتتدحرج جذوع الأرز من جبال لبنان إلى هذا الشاطئ" ، وعبثا حاول المبعوث المصريّ تليين موقف الأمير الذي لم يوافق على تلبية طلبه إلّا بعد أن استلم كامل ثمن الخشب مالا وورق بردي. عندها أرسل الأمير الجبيليّ ثلاثمائة رجل معهم ثلاثمائة ثور لتأمين جذوع الأرز التي كان الفرعون يبغي بناء سفينة للإله" رع" بخشبها.

إستقلال وسط التحولات الإقليمية

من شأن الشكل الذي تعامل به حاكم جبيل مع المبعوث المصريّ أن يوحي بأنّ سلطة ذلك الحاكم كانت مطلقة ، وبأنّ النظام الذي كان قائما في جبيل كان ما يمكن تسميته بلغة اليوم بالتظام الرئاسيّ ، ولكنّ هذا الإستنتاج ليس حقيقيّا ، فإنّ طريقة الحكم في المدن الفينيقيّة ، وخاصّة جبيل ، كانت شوريّة على مرّ التاريخ ، فكان القاضي الأوّل ، هو نفسه الكاهن الأكبر ، وكان له اعتبار جدّ مميز لأنّه ذو حقّ إلهيّ ، بصفته متحدرا من سلالة الآلهة بحسب المعتقد ، ولكنّه لم يكن متفرّدا في حكمه ، فقد كان هنالك" مجلس شيوخ" ذكرته

٣٢

التوراة منذ أقدم العهود بإشارتها إلى ـ شيوخ جبيل ـ. ولسنا نعرف مجلس شيوخ في التاريخ أقدم من المجلس الجبيليّ ، وكان هنالك ما يشبه مجموعة السلطة الحاكمة التي كان قوامها أصحاب المال وجماعات التجّار وقباطنة الملاحة ، بل نلاحظ أيضا أنّ نوعا من الديموقراطيّة كان يفرض بظلّه على السلطة ، ففي نقش على ناووس الملك الجبيليّ" يهاف ملك إبن يهاف بعل" الذي كشفت عنه الحفريّات ، دعاء ينتهي بأن يحوز الملك بعد الموت" على رضى إلهه ورضى شعبه" ، وذلك دعاء لا يصدر عن ملك ليس لدى شعبه أيّة سلطة.

وهنالك إشارات أخرى إلى مكانة الشعبّ في المجتمع الجبيليّ ، منها أنّ بيوت العامّة ومدافنهم لم تكن ذات فارق يذكر عن بيوت أكابر المجتمع. وبالإمكان اعتبار أنّ نظام الحكم القرطجنّي الذي اقتبسه الرومان ، ومن ثمّ نشروه في العالم المتمدّن ، إنّما هو امتداد لنهج الحكم الصوريّ المنقول حكما عن أمّ المدن الفينيقيّة : جبيل.

كانت جبيل ، كما سائر المدن الفينيقيّة ، قد أخذت تنعم باستقلال تامّ بعد المعاهدة المصريّة ـ الحثيّة في أواخر الألف الثالث عشر قبل الميلاد ، عندما كانت شعوب مختلفة تتدفّق على منطقة الهلال الخصيب من كافّة الجهات البريّة والبحريّة. فقد اجتاحت القبائل الآراميّة سورية والعراق وشمالي الجزيرة العربيّة ، ونتعرّف أوّل ما نتعرّف على هذه القبائل البدويّة الرحّل ، التي قصدت المنطقة طلبا للماء والمرعى ، في الجزيرة العربيّة في حوالى الألف الخامس عشر ق. م. ، وقد نزلت مجموعات متعدّدة من هذه القبائل شواطئ الفرات الأوسط ، ومن هناك اتّجهت غربا نحو فلسطين ولبنان وسورية ، حيث سيطرت على تلك المناطق سيطرة تامّة بعد أن طردت منها

٣٣

من طردت ، واندمج من تبقّى من السكّان السابقين من عموريّين وحوريّين وحثيّين بالشعب الجديد. أمّا الجبل اللبنانيّ فقد بقي سدّا منيعا في وجه التغلغل الآراميّ غربا ، فبقي سكّان جبال لبنان بمنأى عن الإجتياح الذي لم يصب جبيل وسواها من ممالك الساحل بشيء.

من جهة أخرى عبرت البحر الإيجي قبائل الباليستوPELSTE أوPULASTE أوPURASTI وهي القبائل التي شكّلت الشعب الذي عرف بالفلسطينيّ ، وهي تنتمي إلى العرق الهندو ـ أوروبيّ ، فوصلت الشاطئ السوريّ مجتاحة مدنه الساحليّة اجتياحا بربريّا صاعقا ، فخرّبوا وأبادوا من جملة ما أبادوه أقصى المدن الكنعانيّة ـ الفينيقيّة شمالا : أو غاريت ، ولا ندري كيف سلمت جبيل وسائر مدن الشاطئ اللبنانيّ من شرّ هؤلاء الغزاة الذين وصلوا إلى حدود مصر حيث صدّهم رعمسيس الثاني (١٢٠٠ ـ ١١٧٩ ق. م.) ، ولكنّ فلولهم المتراجعة تمكّنت من إنشاء موطن لهذا الشعب على الشاطئ الجنوبيّ بين غزّة ويافا ، ومن هناك أخذوا بالتوسع شرقا.

وبينما كان الآراميوّن في الشرق الشماليّ ، والفلسطينيّون في الشمال الغربيّ يوطّدون أركان موطن كلّ منهما ، وكانت جبيل والمدن الفينيقيّة الأخرى لا تزال ناعمة بالهدوء والإستقلال متّقية شرّ الإجتياح ، دخل العبرانيّون من مصر وراحوا يتغلغلون في بلاد كنعان. وهكذا بدأ صراعهم مع الفلسطينيّين الهندو ـ أوروبيّين ، حيث تمكّنوا في النهاية من إنشاء مملكة داود قبل بدء الألف الأخير ق. م.

وسط هذا التدفّق الشعوبيّ الغريب في خلال القرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد ، وحدها المدن الفينيقيّة الواقعة على شاطئ لبنان بقيت أصيلة مستقلّة ، بينما أصبح باقي المنطقة التي عرفت بالهلال الخصيب

٣٤

موزعا بين العموريّين والكنعانيّين والحوريّين والحثيّين والآراميّين والفلسطينيّين والعبرانيّين ، ولم يعد للمصريّين أيّة مناطق نفوذ.

في هذه الحقبة من التاريخ ، أصبح الجبيليّ ، كما وسواه من أبناء مدن الشاطئ اللبنانيّ ، بوضع عزلة عن محيطهم ، ما يدفعنا إلى الظنّ بأن الفينيقيّ لم يجد له سوى البحر منفذا للطموح ، ويعتبر الباحثون أنّ الفينيقيّين قد نشطوا ، في ذلك العصر الواقع في بداية الألف الأخير قبل الميلاد ، في أعمالهم البحريّة ، فكانوا روّاد اكتشاف العوالم الجديدة. أمّا جبيل تخصيصا ، فقد خسرت بريقها التجاريّ أمام المدن الفينيقيّة الفتيّة نسبيّا ، خاصّة صيدا وصور ، غير أنّها ، من جهة أخرى ، حقّقت مكانة منقطعة النظير على صعيد الدين. إذ إنّ البعلة التي كانت تختصّ بها مدينة جبيل منذ القدم ، سوف تصبح معبودة الأمم ، وسوف تصبح مدينة جبيل ومحيطها محجّ المؤمنين وقبلة أنظارهم.

جبيل عاصمة دينية

قبل أن يحلّ الألف الأوّل السابق للميلاد ، كان الشعب الفينيقيّ ـ الكنعانيّ قد بلغ مرحلة جدّ متقدّمة على الصعد الحضاريّة كافّة ، فكريّا وعلميّا وفنيّا واجتماعيّا وسياسيّا واقتصاديّا.

على الصعيد الفكريّ ، حقّق الفينيقيّ تعمّقا وسموّا بعيدين بعد أن أوجد الجبيليّ الحرف الكتابيّ ، فبذلك أصبح تبادل الأفكار العلميّة والدينيّة متاحا بسهولة مع الحضارات الأخرى ، خاصّة وأنّ الفينيقيّ كان متمكّنا كلّ التمكّن من الأسفار عبر البحار بل كان سيّدها ، ولسوء حظّنا فإنّ الجبيليّ كان يكتب على ورق البردي القابل للتلف ، ما حرمنا من آثار كتاباته في تلك الحقبة ،

٣٥

غير أنّ التفاعل الفكريّ يظهر جليّا في الدين ، بحيث أنّ العنصر الأساسيّ في ذروة المعتقدات الدينيّة عند الفينيقيّ ، كان تأليه الخصب ، وهذا المعتقد عمّ جميع ديانات الشعوب الساميّة ، ويبدو واضحا أثر المعتقد البابلي في المعتقد الساميّ ، كما يبدو تأثّر هذين الدينين بالدين المصريّ ، وفي الدراسة المتعمّقة لهذه الأديان الثلاثة وللدين الإغريقيّ في ما بعد ، يظهر بوضوح أن وسيطا ما ، كان له فضل تفاعل حضارات تلك الشعوب مع بعضها البعض ، ولا يمكن أن يكون ذلك الوسيط غير الفينيقيّ البحّار الجوّال التاجر المبدع الذكيّ الخلاق.

إلى جانب التجارة والدين والفكر ، كان الفينيقيّ يحمل معه الفنون ذهابا وإيابا ، وقد سما الجبيليّ برسم أشكال عدد من الأزهار المحليّة على الحلى والأسلحة والمركبات إلى مستويات رائعة ، وقد وجدت آثار وبقايا لتلك الرسوم المنقوشة في جبيل ، كما في مصر وسواها من المراكز التي تعرّضت للحفر والدراسة. حتّى أنّ الفينيقيّين عموما ، ولا يمكن أن يكون الجبيليّ قد شذّ عن ذلك ، ابتكروا ، من جملة ما ابتكروه ، صنع الأزهار الإصطناعيّة من الزجاج والمعدن ، وقد وجدت في حفريّات جبيل ومصر نماذج من أجرار لها قعر حادّ صنعها الجبيليّ لنقل الصمغ والقار والعسل والزيت ، لم يتمكّن المصريّون من تقليده قبل القرن السابع ق. م. ، وأقدم العاديّات الفينيقيّة عند الإغريق تعدّ تقليدا متأخّرا للفنون الفينيقيّة كما تشهد الآثار وتؤكّد الدراسات.

كذلك اقتبس العبران عن هذا الشعب كلّ ما يمكن وضعه تحت خانة الفنون والصنائع ، بما في ذلك صنع المجوهرات والحلى والأسلحة والجرار والقدور ، فالفينيقيّون هم الذين سوف يزخرفون قصر آخاب (٨٧٥ ـ ٨٥٣ ق. م.) في السامرة بنقوش العاج ليعرف القصر بقصر العاج. وهم الذين

٣٦

كانو قد زخرفوا بالعاج القصر الذي وجد في مجدو ، والذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وتدلّ النماذج المكتشفة على أنّ الفينيقيّين قد برعوا في زخرفة العاج بشكل ينمّ عن الدقّة والذوق الرفيع ، وتعدّ العاديّات من هذه القطع من أثمن العاديّات الشرقيّة وأنفسها.

وكانت طقوس العبادة الفينيقيّة تشمل الغناء والموسيقى ، وإنّ جبيل التي سوف تتبوّأ المركز الدينيّ الأهمّ بين سائر المدن الفينيقيّة أعارت الموسيقى والغناء اهتماما خاصّا ، ويذكر الباحثون أن ألحان الفينيقيّين وأدوات موسيقاهم قد انتشرت في جميع بقاع المتوسّط. وأنّ أسماء أدوات الموسيقى في اللغة المصريّة القديمة تعود في أصلها إلى كلمات ساميّة. وكما اقتبس المصريّون الموسيقى عن الفينيقيّ ـ الكنعانيّ ، كذلك فعل العبرانيّون والإغريق ، وعندما رقص داود أمام تابوت العهد إنّما كان يقوم برقصة كان يمارسها الفينيقيّون في عبادة أدونيس في جبيل. وقد بلغ الفينيقيون شأوا فنيّا عاليا في صنع الزجاج وزخرفته ، لا بلّ إنّ العلماء المتخصّصين يعيدون أصل صناعة الزجاج إلى الفينيقيّين. وفي الحقبة نفسها شاعت أعمال غزل الصوف المحلّي وحياكته في هذه النقطة المبدعة من العالم ، كما حاكوا خيط الكتّان وصنعوا الكتّان من القنّب المحلّي ، أمّا صباغ الأرجوان الذي تؤكّد الآثار على أنّه كان معروفا منذ منتصف القرن الثاني قبل الميلاد ، وإن كان الجبيليّ قد عرفه حتما ، إنما البراعة والشهرة فيه تعود إلى صور.

وإنّ الجبيليّ الذي راد البحار بمراكبه ، ما كان ليتمكّن من ذلك لو لم يكن قد حقّق معرفة أساسيّة بعلم الفلك ، فلم يكن التنبّؤ بأحوال الطقس هو الضرورة العلميّة الوحيدة لتمكّنه من الملاحة البعيدة المدى ، بل كان من الضرورات الأساسيّة الشرطيّة أن يتقن قراءة خارطة السماء : النجوم. ولا

٣٧

مندوحة عن اعتبار أن الجبيليّ هو الذي اكتشف نجمة القطب الشماليّ ليتمكّن من تحديد الجهات ، وإن يكن الإغريق قد سمّوا في ما بعد هذه النجمة بإسمهم. كما أنّ أطرزة السفن التي صنعها الجبيليّون وتطوّر أشكالها تنمّ عن نزعة علميّة أكيدة عند ذلك الشعب المذهل. وتؤكّد الدراسات الحديثة على أن الجبيليّين هم أوّل من أعطى شعوب الأرض فنّ الملاحة ، فبعد المصريّين ، أقتبس الإغريق عن الفينيقيّين فنون الملاحة وصناعة المراكب ، وكذلك فعل العبران الذين علّمهم الصوريّون في ما بعد كيفيّة الإبحار.

وإذا كانت اقتصاديّات المدن الفينيقيّة التي نشأت في زمن متأخّر عن زمن نشوء مدينة جبيل ، قد تركّزت على الفنون والتجارة والملاحة ، بعد أن كانت جبيل قد عبّدت الطريق لكلّ هذه الأنشطة الحضاريّة ، فإنّ الجبيليّ قد أعطى الزراعة منذ البدء اهتماما كبيرا لأنّ اقتصادياتّه قد اعتمدت عليها في الأساس. ويستخلص الباحثون أنّه كان للزراعة ، التي كانت الأساس في صراع الجبيليّ من أجل البقاء ، أبعد الأثر في العقيدة الدينيّة عند الفينيقيّ.

نجد أوّل ما نجد من آثار للعبادة الجبيليّة القديمة ، هيكلا للإله" رشف بعل" ، وقد وجدت آثار هذا الهيكل في الطبقة الثانية من الحفريّات التي تعود إلى ما بين ٣٨٠٠ و ٣٢٠٠ ق. م. ، وإسم رشف بعل يعني : النار والنور ، وهذا يدلّ على أنّه كانت لذلك الإله علاقة بالشمس ، وليس بالنّار كما يظنّ البعض. فإنّ تطوّر الديانة الجبيليّة في ما بعد سوف يدلّ على أنّ فكرة موت إله الخضرة في الصيف وقيامه في الربيع كانت تقرن بقوّة الشمس وحرارتها وانتصارها على الشتاء.

أمّا الهيكل الأقدم في جبيل ، والذي سيستمرّ وجوده طوال الحقبة السابقة للمسيح ، فهو هيكل بعلة جبيل. وقد كان لكلّ مدينة فينيقيّة في ذلك الزمان إلهة

٣٨

بعلة ، غير أنّ اسم البعلة كان يبقى سرّا ولا يذكر احتراما وإجلالا ، ما جعل أسماء البعلات تندثر وتنسى مع مرور الزمن ، غير أنّ بعلة جبيل احتفظت بإسمها : عشترت ، وهي التي سيصبح اسمها : عشتروت ؛ وزوجها أدون ، الذي سيعرف في ما بعد بإسم أدونيس.

في هذه الحقبة من التاريخ الواقعة عند نهاية الألف الثاني ق. م. ، وبينما كانت المدن الفينيقيّة على الشاطئ اللبنانيّ في حال استقلال وسط تقاسم شرق البحر الأبيض المتوسّط بين شعوب مختلفة ، كانت أرواد وصور وصيدا تحقّق ازدهارا كبيرا على صعد الملاحة والتجارة واكتشاف العالم الجغرافيّ والبشريّ وعلى صعيد الإستعمار ، بينما كانت جبيل تتّجه نحو مكانة دينيّة مهمّة ، إذ فيها نشأت الشعائر والطقوس لإحياء ذكرى موت أدونيس وقيامته.

ومن جبيل ، انتشرت هذه العبادة ، ففي مصر تصبح عشتر : إيسيس ، ويصبح أدون : أوسيرس. وكان المعتقد السائد أنّ أوسيرس مصر قد قطّع إربا ودفن في أرض جبيل. وعند الإغريق أصبحت عشترت : ASTARTE ثمّ قرنوها بإسم إلهتهم أفروديت ، وأصبح أدون : أدونيس ، وهو الإسم الذي سيعمّ لاحقا.

وقبل أن يبدأ العدّ العكسيّ للألف الأخير قبل الميلاد ، نجد جبيل قد أضحت عاصمة دينيّة للدين الفينيقيّ ـ الكنعانيّ من دون منازع ، لمّا لم يكن الأشوريّون قد وصلوا في غزوهم إلى الشاطئ اللبنانيّ بعد.

في زمن أشور وبابل

أوّل ما نجد ذكرا لجبيل إبّان الفتح الأشوريّ في حوالى ١٠٩٤ ق. م. ، عندما زحف تغلث فلاصر الأوّل بجيشه من أعالي دجلة محاولا الوصول إلى شاطئ المتوسّط ، فاحتلّ أرواد لبعض الوقت ، وقد سارعت مدينتا جبيل وصيدا

٣٩

إلى إرسال جزية إليه اتّقاء لشرّه ، وحصل على كميّة من خشب الأرز ليبني هيكلا لآلهته. غير أنّ دخول الأشوريّين في هذه المرحلة لم يكن سوى غزوة خاطفة إذ لم يدم وجودهم طويلا. ودامت المنطقة في منأى عن خطرهم زهاء قرنين من الزمن حتى ظهور ناصر بال الثاني (٨٨٣ ـ ٨٥٩ ق. م.) الذي اجتاح سورية سنة ٨٧٩ ق. م. ودخل لبنان من الشمال عابرا الشاطئ دون أن يلاقي مقاومة تذكر ، وقد دفعت جبيل هذه المرّة أيضا للفاتح الأشوريّ جزية ، كما فعل سائر المدن الفينيقيّة ، دون أن تخضع للسيطرة الأشورية التامّة. وفي هيكل عاصمته ترك ناصر بال نقشا ذكر فيه ، من بين ما ذكر ، أنّ جبيل وسائر المدن الفينيقيّة قد دفعت له الجزية" ذهبا وفضّة وقصديرا ونحاسا وآنية نحاس وثيابا كتّانيّة مزركشة زاهية الألوان وقرودا كبيرة وصغيرة وآبنوس وخشب الصندل وعاجا وأنياب بقر البحر".

وفي سنة ٨٥٥ ق. م. تحالف اثنا عشر ملكا من ملوك الكنعانيّين والآراميّين والفينيقيّين والعبرانيّين لاقتلاع الوجود الأشوريّ من المنطقة ، غير أنّ معركة قرقر التي جرت بين الثائرين وشلمناصر في وادي العاصي لم تكن حاسمة ، وقد انتقم الأشوريّون من المدن الفينيقيّة شرّ انتقام ، وكانت جبيل أقلّ تضرّرا من سواها لأنّها لم تكن قد اشتركت في الثورة ضد أشور ، ولكنّها استمرّت تدفع الجزية ، إذ نجد أنّ ملكها" شتي ـ بعل" قد دفع الجزية للملك الأشوريّ" تغلث" ، وكذلك فعل أحيرام الثاني الذي كان ملكا على جبيل وعلى صيدا وعلى المستعمرات الفينيقيّة في قبرص. ويعتبر بعض الباحثين أنّ جبيل تمتّعت في هذه الحقبة بمكانة خاصّة لدى أشور بسبب سياستها الحكيمة التي انتهجتها ، وأنّ أفضل برهان على ذلك بروز سلطة ملكها أحيرام الثاني على صيدا وبعض المستعمرات. بينما اعترفت صيدا بالحكم الأشوريّ ، وفي زمن

٤٠