موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٨

طوني مفرّج

١
٢

٣
٤

الإصطلاحات أو الرموز المستعملة

في توضيح لفظ أسماء القرى والمدن

٥
٦

جبيل

بيبلوس

JUOBAIL BYBLOS

جنجل. دوقا

JINJUOL.DUOQA

الموقع والخصائص

جبيل ، مدينة ومرفأ لبنانيّ ، هي بيبلوس القديمة ، أقدم المدن الفينيقية على الإطلاق ، تشكّل اليوم قاعدة قضاء جبيل ، تمتدّ أراضيها البالغة ٤٧٩ هكتارا بين شاطئ وارتفاع أمتار قليلة عن سطح البحر ، وتبعد مسافة ٣٧ كلم عن بيروت شمالا. وتتبعها مزرعتا دوقا وجنجل اللتان أصبحتا جزءا لا يتجزّأ من كيانها العقاريّ.

عدد أهالي جبيل المسجّلين نحو ٠٠٠ ، ١٢ نسمة ، من أصلهم حوالى ٠٠٠ ، ٨ ناخب. ومن مجمل عدد أهالي جبيل المسجّلين حوالى ٠٠٠ ، ٢ من أبناء الطائفتين السنيّة والشيعيّة ، والباقون مسيحيّون أكثريّتهم الكبرى مارونيّة ، وهناك أقليّات أرثذوكسيّة وكاثوليكيّة وأرمنية. ويقطن جبيل عدد يكاد يساوي عدد أهاليها الأصليين ، جلّهم من مناطق القضاء ومن الأقضية الشماليّة

٧

المجاورة. أمّا سبب ارتفاع عدد الناخبين بالنسبة لعدد الأهالي ، فيعود إلى عوامل عديدة أهمّها : عدم تصحيح لوائح الشطب ، عدد الرهبان الذين كانوا يسجّلون في سجلات البلدة ، الأرمن الذين لم يتكاثروا في المدينة وجلّ جيلهم الجديد قد تركها إلى غير مكان ، هجرة الشبّان الكثيفة.

تضمّ مدينة جبيل سوقا نامية تتنوّع فيها المؤسسات التجاريّة والحرفيّة والماليّة والمصرفيّة والسياحيّة على أنواعها ، فتشكّل مركز القضاء الاقتصاديّ والإشتائيّ مثلما هي مركزه الإداريّ. كما تعدّ من أهمّ المراكز السياحيّة الأثريّة في لبنان ، وهي مهيّأة بعدد لا بأس به من الفنادق والمطاعم والمقاهي والمسارح والمتاحف ، إضافة إلى مرفئها البحريّ الذي يشكل مرفقا سياحيّا مميّزا ، وإلى سوقها الأثريّة المعروفة بالسوق العتيق ، وإلى آثارها المتعدّدة العهود التي تكاد تتجمّع في كيلومتر مربّع واحد ، يضمّ قلعة جبيل ومحيطها الذي قد يكون أغنى متحف حضاريّ في الهواء الطلق في العالم قاطبة ، ذلك بفضل تواصل الحضارات عليه ، منذ ما قبل التاريخ المدوّن بعشرات ألوف السنين حتّى بداية القرن الواحد والعشرين دونما انقطاع.

ويتنوّع شكل الهندسة المعماريّة في جبيل بين القديم والحديث ، بين البيوت التقليديّة والفيلات الحديثة والأبنية الشاهقة ، ويتوزّع في مناطقها عدد كبير من المدارس المختلفة والمستشفيات والمستوصفات والمجمّعات الطبيّة والمراكز الثقافيّة والمكتبات والصيدليّات والمعابد والأديار والدوائر الرسميّة على أنواعها وتعدّد خدماتها.

تتنوّع الزراعات في محيط جبيل بين الحمضيّات والخضار والثمار الإستوائيّة والخيم البلاستيكية حيث لا تزال مساحات خضراء داجنة وبرّية تزهو ، مانحة هذه المدينة اللبنانيّة الخالدة طابعا جماليّا وصحيّا فريدا.

٨

الإسم

الدكتور أنيس فريحة ، وهو أهمّ الباحثين في أسماء الأماكن اللبنانيّة ، وضع حول إسم جبيل التالي : من GEBEL السريانيّة ، أي : مصنع خزف. وقد ورد اسمها في يشوع ١٣ : ٥ وحزقيال ٢٧ : ٩. وقد يكون معناها الحدّ والتخم من GABAL الآراميّة. وقد ورد اسمها أيضا في النقوش المصريّة بأشكال مختلفة : KPNI ,KPN ,KBN ولفظهاKUPNI ,KUPNA ,KUBNA ، وفي الأشوريّةGUBLI. أمّا الإغريق فقد سمّوها على اسم الورق الذي كان ينقله تجّار جبيل الفينيقيّون في مراكبهم من مصر إلى بلاد اليونان ، ومعلوم أن المصريّين كانوا يصنعون ورقا من لب ، لا من قشر ، نبتة اسمهاPAPYRUS أو البردي ، ومن هذه اللفظة اشتقّوا كلمةPAPIER وPAPER. أما هيرودوتس فإنّه كان أبدا يذكرBUBLOS عوضا عن PAPYRUS ، تحريفا أو خطأ ، لا ندري. وعن هيرودوتس أخذ الكثيرون. ولأنّ مصدر الورق عند الإغريق كان جبيل ، فإنهم سمّوهاBYBLOS ، على إسم المادّة التي كانت جبيل تصدّرها لهم. وكذلك سمّى الإغريق الكتاب BIBLOS تصغيره BIBLION ، وجمعه BIBLIA وهكذا سمّوا التوراةTABIBLIA أي مجموعة الكتب ، ومنها جاء اسم BIBLE.

لسنا ندري لماذا استبعد البحث إمكانيّة أن يكون أصل إسم جبيل في الساميّة القديمة من مقطعين : جب إبل GUBIL أي : بئر الله أو نبع الله ، على أنّنا نميل إلى اعتماد هذا التفسير ، خاصّة وأنّ في مركز جبيل الأولى ، بحسب تصنيف الحفريّات الأثريّة ، ينبوع مياه بنيت جبيل القديمة أوّل ما بنيت بمحيطه. ثمّ إنّ الميثولوجيا الجبيليّة التي دوّنها سنكونياتون ، تذكر أن" إبل ، إبن سماء ، إبن عليّون ، هو باني جبيل".

٩

جنجل ، وهي من مناطق مدينة جبيل ، نرجّح أنّ اسمها من مقطعين آراميّين ـ سريانيّين : GEN GEL أي : حمى مكشوف. إلّا أنّ فريحة قد ردّ الإسم إلى GILGAL جلجل ، بمعنى عجلة ودولاب.

دوقا ، وهي من مناطق مدينة جبيل أيضا ، أصلها في الآراميّةDAWQA وهي تعني : النظر والتطلّع والمراقبة ، وإن كان هناك نظريّة تقول بأنّ إسمي الدوقا والدوق هما من بقايا الصليبيين ، غير أنّ موقع المحلّة المرتفع يجعلنا نميل إلى اعتماد الإسم الساميّ.

وفي قلب جبيل منطقة تعرف باسم قصّوبة ، وتحمل الإسم نفسه قرية شماليّة في قضاء بشرّي تابعة لقنات ، فيها بقايا هيكل فينيقيّ. وقد تعدّدت الاجتهادات حول هذه التسمية بردّها إلى الساميّة القديمة ، ولكنّ الراجح أنّ الإسم من جذرQASAB السامي المشترك الذي يفيد عن القطع والنحت ، ولا نزال نستعمل هذه الكلمة في لغتنا العاميّة للدلالة على تهذيب الحجر.

تاريخها القديم وآثاره

جرت في مدينة جبيل تنقيبات ودراسات لآثارها لم يجر مثلها لأيّة محلّة أثريّة أخرى في لبنان ، وقد قسمت تلك الدراسات العلميّة حقبات التاريخ التي عنتها تلك الآثار إلى ١٩ حقبة ، وبالإمكان استخلاص ملحمة لتطوّر الحضارة على هذا الجزء من الأرض بالإستناد إلى ما مدّت به آثار جبيل العقل البشريّ من معلومات من شأنها أن تحكي عن تطور مسيرة الإنسان الطويلة منذ ثمانية آلاف سنة دونما انقطاع ، أي منذ العصر الحجري الحديث الذي يبدأ في حوالى ٦٠٠٠ ق. م. حتّى مطلع الألفيّة الثالثة الذي نعيشه اليوم.

١٠

بعد أن أمضى الإنسان ملايين السنين ليتطوّر من مرحلة اللجوء إلى الأشجار العالية للمبيت كما لا زالت تفعل القردة ، انتقل إلى مرحلة متقدّمة نسبيّا إذ صار يلجأ إلى الكهوف الطبيعيّة والمغاور ليحتمي فيها. بخلال هذا التطوّر المديد مرّ الإنسان في عصور حجريّة ، نسبة إلى الأدوات الحجريّة التي كان يستعملها في تدبير شؤونه ، وقد قسمت تلك العصور في هذه المنطقة من العالم إلى ثلاثة : العصر الحجرّي الأوّل ، وقد اتّفق على أنّه يعود إلى حوالى ٢٠٠ ألف سنة خلت ، ثم العصر الحجريّ المتوسّط الذي يلي الأوّل ليمتدّ بين حوالى ١٢٠٠٠ و ٦٠٠٠ ق. م. إذ يبدأ العصر الحجريّ الحديث الذي استمرّ حتّى حوالى ٤٠٠٠ ق. م. ليليه العصر الحجري ـ النحاسيّ حتّى ٣٠٠٠ ق. م. ثمّ العصر البرونزيّ حتّى ١٢٠٠ ق. م. عندما أخذ الحديد يعمّ في صناعة الأدوات.

إنّ أقدم ما حفظت لنا أرض جبيل من آثار في طبقة الحفريّات الأولى ، هو أدوات حجريّة تعود إلى إنسان العصر الحجريّ الحديث ، وقد قدّر العلماء أنّ تاريخها يعود إلى حوالى ٥٠٠٠ ق. م. ، يليها أدوات لمختلف الحقبات التالية دونما انقطاع.

ينتسب الإنسان الذي عاش على هذه الأرض في تلك الحقبة السحيقة من التاريخ إلى عرق حوض البحر الأبيض المتوسّط ، الذي ينتمي أصلا إلى العرق الأبيض القوقازيّ الذي ستتفرّع عنه الشعوب الساميّة والحاميّة ، وقد دلّت الدراسات على أنّه أقدم شعب توطّن شرقيّ البحر الأبيض المتوسّط ، دون أن تقرّر المصدر الذي انتقل منه في عصور البداوة إلى لبنان. وإنّ الآثار التي وجدت لإنسان تلك العصور في كهف مجاور لينبوع داخل المنطقة الأثريّة في جبيل ، تدلّ على أنّ سكّان جبيل ، في العصر الحجريّ

١١

الحديث وفي العصر الحجريّ النحاسيّ ، كانوا يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وصيد الأسماك وتربية المواشي. وتدلّ الأسلحة الحجريّة المكتشفة ، من خناجر ورؤوس سهام ونصال ورماح وشفرات مسنّنة ، على أنّ إنسان جبيل ، في تلك الحقبة ، كان محاربا إضافة إلى أنّه كان صيّادا ، ولا شكّ في أنّه كان يتعرّض للغزوات من قبل جماعات بدويّة كانت تجوب المنطقة طمعا بالرزق. وممّا يدلّ على أهميّة السلاح عند ذلك الإنسان ، أنّ الأدوات النحاسيّة الأولى التي صنعها إثر اكتشاف النحاس كانت أسلحة ، بينما استمرّ مئات السنين يستعمل الحجر الصوّانيّ المصقول في صناعة سائر أدواته الزراعيّة والبيتيّة. وفي الوقت نفسه استمرّ إنسان جبيل في التطوّر الحضاريّ في ذلك العصر القاسي من التاريخ ، فاستعمل الفخّار البدائيّ في صناعة أوانيه ، وراح يخزّن محاصيله كما لم يكن بوسعه أن يفعل من قبل. في الوقت نفسه بدأ يطحن الحبّ بواسطة مطاحن حجريّة تشبه الجاروش ، ويستعمل فرن الفخّار في الطهو والخبز ، لا بل راح يصنع الحلي ، وارتقى بتفكيره إلى الماورائيّات ، فنحت الصنم ، وأقام هيكلا للعبادة وجدت آثاره عند الطرف الجنوبيّ للقرية الأثريّة ، ودفن موتاه بطريقة متقدّمة ، فاستعمل النعش الذي كان كناية عن آنية خزفيّة يوضع فيها الميت بعد طيّ الرجلين حتّى تلامس الركبتين الذقن ، وزوّد الميت بما خيّل له أنّه قد يستعمله في حياته الثانية ، فدفن معه الأباريق والدنان والملاعق والخواتم والحلق ، وإذا كان محاربا دفن معه سلاحه الذي كان كناية عن خنجر نحاسيّ وخوذة حجرية. أمّا البيت في تلك الحقبة فكان كوخا محاطا بجدران حجريّة واطئة بعضها مستطيل وبعضها الآخر مستدير ، وقد فرشت أرضه بالتراب وحتات الحجارة ، أمّا السقف فكان من القشّ أو الأغصان أو الجلود.

١٢

البيت الحجري الأوّل.

يتّسم العصر الحجريّ ـ النحاسيّ بأهميّة كبرى في تاريخ جبيل. ففي هذا العصر ، وفي الطبقة الأثريّة الثانية من مكتشفات جبيل ، يظهر أثر إنسانيّ على مستوى عال من الأهميّة : البيت الحجريّ الحقيقيّ الأوّل ، الذي يقوم على شكل هندسيّ ، وقد وجدت بقاياه في الجهة الجنوبيّة الغربيّة من المدينة ، قرب القلعة البحريّة. وقد كانت تلك البيوت مستديرة الشكل ، مبنيّة بالحجر المشذّب ، على أساسات حجريّة ، وأرضها مرصوفة بحجارة مربّعة مملوء في ما بينها من فراغ بالحصى المرصوص ، وجدرانها مطليّة من الداخل والخارج بالطين ، وداخلها مقسّم إلى غرف ، والأرجح أنّ سقوفها كانت من الأعمدة والألواح الخشبيّة المغطّاة بالتراب ، وكانوا يركّزون هذا السقف على الجدران من الأطراف وعلى أعمدة خشبيّة في ما بين الجدران قائمة على قواعد حجريّة ، وقد دلّت الأبحاث العلميّة التي جرت على طبقات التربة التي كانت تقوم عليها تلك البيوت ، على أنّ زمنها يعود إلى حوالى ٣٢٠٠ ق. م.

واعتبر بعض علماء الآثار الذين قاموا بالحفريّات أنّ تلك البيوت تشكّل أقدم نموذج لبناء في الشرق ، إن لم يكن في العالم. وقد وجدت بقربها مقبرة يعود تاريخها إلى حوالى منتصف القرن الأربعين ق. م. ؛ ويبدو أنّ مركز جبيل آنذاك كان محصورا بين الشاطئ ونبع المياه الذي نسبت جبيل إليه. وكانت المدينة إذذاك قرية صغيرة جدران بعض بيوتها الخارجيّة منحنية أو مقوّسة ، وبعضها الآخر ذات جدران مستقيمة الأضلاع ، وشوارعها مرصوفة بالحجارة ومساحتها ما يقارب ٨ دونومات.

ولا يظهر ، في ما وجد من أسلحة نحاسيّة ومن أدوات فضيّة للزينة في جبيل الثانية ، أيّ دليل على أنّ هذه الصناعة كانت واقعة تحت تأثير بلاد ما

١٣

بين النهرين ، بل تدلّ على أنّها صناعة معدنيّة مستقلّة. ليس هذا وحسب ، بل قد يكون أنّ صناعة المعادن في العالم الإيجي قد اكتسبت عن جبيل. وإنّ في هذه الخلاصة التي استنتجها علماء كبار ما من شأنه أن يشكّل مفخرة للبنانيّين لأهميّة عراقة حضارتهم.

بدء الملاحة والإزدهار

ممّا يدعو للدهشة حقّا أنّ الآثار المكتشفة في مصر ، كالجسور من جذوع خشب الأرز وسواها من آنيّات ، دلّت على أنّ جبيل كانت على اتّصال بمصر في عهد الأسرة الفرعونيّة الأولى قبل أن تتّحد مصر العليا والسفلى ، علما بأنّ عهد السلالتين الأولى والثانية يعود إلى الحقبة الواقعة بين ٣٢٠٠ و ٢٩٨٠ ق. م. ؛ ومن شأن هذه الإكتشافات أن تدلّ ، بما لا يدع مجالا للشكّ ، على أنّ الجبيليّين كانوا قد بدأوا تجارتهم البحريّة قبل القرن الثلاثين ق. م. ، لا بل في هذه الإشارة إلى الملاحة البحرية الجبيليّة المبكرة ما يدعو للتساؤل عمّا إذا كان الجبيليّون الأوائل قد اختاروا مركز جبيل ، وهو الميناء الطبيعيّ ، بعد أن اكتشفوا الملاحة ، كما سيتمّ في ما بعد اختيار المرافئ الطبيعيّة ليبنوا مدن صيدا وصور وبيروت وأرواد. على أيّ حال ، فإنّ النموّ المتسارع نسبيّا لحضارة جبيل ، من شأنه أن يفيد ، من دون شكّ ، عن بحبوحة اقتصاديّة لا يعقل أن تكون قد حصلت من دون تجارة خارجيّة مرتكزة على أعمال التصدير ، ولم تكن السلع المتوفّرة مقتصرة على خشب الأرز ، بل كان هناك النحاس والفخّار البدائيّ والجلود والزيوت والطيوب ، وربّما المواشي المدجّنة حديثا ، وبذار القمح وسائر المزروعات المكتشفة في ذلك العهد. وقد دلّت آثار الحقبة الثانية في جبيل (٣٢٠٠ ـ ٣٠٠٠ ق. م.) عن علاقة المدينة التجاريّة بقبرص والقوقاز أيضا.

١٤

لقد شبّه بعض الباحثين نشاط الملاحة البحريّة الجبيليّة في ذلك الوقت بأكبر الشركات البحريّة نسبة إلى اليوم ، وإنّ آثار الحقبة الثالثة من حقبات جبيل التي تنتهي في حوالى ٣٠٠٠ ق. م. تدلّ على أنّ حدثا أسطوريّا أصاب القرية فغيّر معالمها ، إذ وسّعت البيوت وحّسنت هندستها وتلاصقت ، وأقيم حول كلّ منها شبه سور ، وأصبح الحجر المستعمل في بنائها أكثر تهذيبا ، وبدأ استعمال الأعمدة الخشبيّة عموديّا والجسور أفقيّا في عمليّة سقفها ، وتمّ بناء هيكل جديد للعبادة بالقرب من النبع ، ووسّع الهيكل الأوّل فأصبح من بناءين ؛ كذلك تطوّرت صناعة الخزف بعد أن عرفوا دولاب الخزّاف والأتون من خلال اتّصالهم بفلسطين وبلاد ما بين النهرين ، وأصبحت صناعته حرفة تقوم بذاتها ، وإنّ أقدم قطع خزفيّة لبنانيّة ، قد وجدت في جبيل ؛ وبدأوا يتعاطون صناعة المعادن بشكل واسع. ومن دلالات التطوّر الإجتماعيّ السريع في تلك الحقبة نقل المدافن إلى خارج المناطق السكنيّة.

مع بداية العهد البرونزي في أوائل الألف الثالث ق. م. ، كانت مساحة جبيل قد زادت إلى حوالى عشرة دونومات كما بيّنت حفريّات الطبقة الرابعة ، وقد اكتظّت هذه المساحة بالبناء الذي أصبح متلاصقا حول أزقّة يتّصل جميعها بطريق يقود إلى المقابر ، وقد ظهرت معالم أقنية لتصريف المياه زوّدت بها تلك الأزقّة. وكان الهيكل الرئيسيّ قد أضحى أكثر اتساعا وأضيف إليه ، فضلا عن ذلك ، باحة خارجيّة رحبة مرصوفة. واستمرّ ذلك التوسّع طوال العهد البرونزيّ ، إذ سرعان ما أصبحت جبيل ، قبيل حلول منتصف القرن الثلاثين ق. م. ، مدينة مزدهرة التجارة الخارجيّة كما تدلّ آثار الحقبة الثالثة من حفريّاتها ، وتؤكّد على ذلك الآثار الفرعونيّة في مصر ، فإضافة إلى الأخشاب التي كانت تصدّرها جبيل إلى مصر الفقيرة بهذه المادة ، أصبحت

١٥

المراكب الجبيليّة تحمل إلى وادي النيل الخمر والزيت والزيتون وصموغ الأرز والصنوبر والشربين والسرو التي كان يستعملها المصريّون في التحنيط ، وتعود من مصر محمّلة بالذهب والمعادن وورق البردى ، وكانت القوافل التجاريّة بين جبيل ومصر تعبر ، إضافة إلى البحر ، الطريق البريّة التي كانت تصل جبيل بدلتا النيل مرورا بمحاذاة الشاطئ اللبنانيّ فالفلسطينيّ وصولا إلى سيناء فدلتا النيل. وبدءا من زمن الأسرة الفرعونيّة الثانية الذي يعود حكمها إلى أواخر الألف الرابع ق. م. ، كانت القرابين والتقدمات الملكيّة المصريّة تقدّم إلى هيكل جبيل كما أكّدت الآثار ، ما يدلّ على أنّ المصريّين كانوا قد بدأوا يزورون جبيل لحاجات تجاريّة ، ويعتقد الباحثون بأنّ المصريّين كانوا في هذه الحقبة قد أنشأوا لهم جالية في جبيل ، مستدلّين على ذلك بما وجد من آثار وبقايا مصريّة في حفريّات جبيل ، منها مزهريّة من المرمر مرفوعة إلى الإلهة ـ بعلة جبيل ـ محفور عليها إسم الفرعون خوفو باني هرم الجيزة حوالى ٢٨٠٠ ق. م. ، كما وجدت تقدمات ونذورات مشابهة من الذين سبقوا خوفو وعقبوه ، ومن أروع الإكتشافات الأثريّة على الإطلاق زورق خوفو الذي كان يستخدم في مراسيم دفن الموتى وطوله ستّون قدما ، عثر عليه شابّ مصريّ سنة ١٩٥٤ قرب هرم الجيزة مدفونا داخل طبقة كلسيّة تحت الأرض ، وكان لا يزال بحالة سليمة ، وهو مصنوع من خشب الأرز ، وقيل إنّ خشب هذا الزورق لا يزال يحتفظ حتّى اليوم برائحة الأرز ؛ وإنّ المراكب الشراعيّة المصريّة ، بدءا بالأسرة الفرعونيّة السادسة (٢٦٢٥ ـ ٢٤٧٥) كانت تعرف ب" مراكب جبلة" ، ومنذ ذلك التاريخ الغارق في القدم أصبح إسم الجبيليّ ملازما لصناعة السفن ، ويعتبر عدد كبير من الباحثين أنّ المصريّين كانوا يخشون ركوب البحر وأنّ الجبيليين هم الذين علّموهم فنّ الملاحة ، وأنّ الجبيليّين كانوا يصنعون السفن للمصريّين إمّا في جبيل أو في

١٦

مصر بعد نقل الأخشاب إليها ، وهنالك نظريّة تقول بأنّ جزيرة أرواد كانت أساسا تابعة لجبيل ، لا بل ملكا لها ، وأنّها كانت ميناء مستعملا لصناعة السفن الجبيليّة كما يدلّ اسمها المركّب من ثلاثة مقاطع جبيليّة قديمة ، بالإمكان كتابتها : AR ـ WA ـ DE أي : معمل ـ السفن التجاريّة ـ مكان ، أي مكان صنع السفن التجارية.

يبدو أنّ العلاقات الجبيليّة ـ المصريّة قد عرفت تواصلا إنسانيّا وديّا وحضاريّا مميّزا ونادرا في تلك الحقبة من التاريخ ، فقد دلّت حفريّات جبيل على وجود معبد للآلهة المصريّة" إيسيس" إلى جانب معبد البعلة ، حتّى غدت الآلهتان على مرّ الزمن إلهة واحدة. وقد دلّت اكتشافات الحقبة الجبيليّة السادسة (٢٥٠٠ ـ ٢١٥٠ ق. م.) على أنّ الجبيليّين كانوا آنذاك قد بنوا هيكلا للبعلة ، يفوق بحجمه وأهميّته الهيكلين اللذين سبقاه ، وقد أغرق الفراعنة هذا الهيكل بنذوراتهم الممهورة بأسمائهم بالحرف الهيروغليفي. وأضاف الجبيليّون إلى صادراتهم الدببة التي كانوا يأسرونها في جبال لبنان وكان المصريّون يشترونها لأهداف ترفيهيّة ، وإلى مستورداتهم الشمع والحبال. وسوف يتّضح لاحقا أنّ بعلة جبيل التي بنى لها الجبيليّ هيكلا في ذلك العصر الذي يسبق دخول الكنعانيّين إلى المنطقة ، كما يسبق إطلاق إسم الفينيقيّين على سكّانها ، هي عشتروت ، وهكذا يظهر بوضوح أن الجبيليّين الأوائل من أبناء العرق المتوسّطيّ هم الذين أوجدوا عبادة أدونيس وعشتروت التي ستصبح في ما بعد ما يمكن تسميته يومذاك : ديانة عالميّة. وكانت الهياكل والقصور قد عرفت تطوّرا جديدا في بنائها ، فأصبحت تبنى حول باحة في الوسط مكشوفة السقف ، بينما تقوم الأبنية الداخليّة على أعمدة من الجانبين ، وكان المدخل الرئيسيّ مبنيّا بشكل قنطرة يدخل منها إلى قاعة

١٧

كبرى تنفتح من جهاتها الثلاث على عدد كبير من الغرف ، وكان يحجب المذبح داخل القاعة الكبرى في الهيكل ستارة ، وأصبحت حجارة البناء أكبر حجما حتّى بلغ بعضها المترين طولا ، ودرج آنذاك تهذيب الحجر بشكله الذي لا يزال مستعملا حتّى اليوم ومعروفا بال" مبوّز" ، أي أنّ الحجر يكون منحوت الجوانب دون واجهته التي تبقى نافرة. ومن جبيل انتقل هذا الطراز إلى قصور العبرانيّين وهياكلهم بما في ذلك هيكل سليمان.

وسط هذا التقدّم الحضاريّ الرائع ، من الواضح تماما أن الجبيليّ كان في نهاية الألف الثالث ق. م. يتوجّس خيفة من خطر داهم ، وقد دلّت الأثريّات المكتشفة العائدة إلى حوالى ٢١٥٠ ق. م. على أن الجبيليين راحوا آنذاك يحصّنون المدينة بترميم الأسوار والقلاع القديمة المحيطة بها وتدعيمها ، وببناء أخرى إضافيّة ، وهذا ما من شأنه أن يفيد عن ملامح هجوم محتمل لغاز ما ، وسوف يصدق التوقّع ، وتدفع جبيل ضريبة الإزدهار خرابا ودمارا ودخول شعب جديد عليها ، ربّما ليندمج مع الأهالي الأصليّين أو ليبيدهم ويحلّ محلّهم.

العصر الكنعانيّ

دلّت الأبحاث التاريخيّة على أن أقدم الساميّين الذين دخلوا لبنان ، كانوا العموريّين والكنعانيّين الذين ينتمون إلى أصل واحد ساميّ بدويّ ، كان موطنهم في شمالي الجزيرة العربيّة بعدما ارتحلوا إليه من خليج العجم. وفي حوالى ٢٢٠٠ ق. م. زحفت تلك القبائل إلى بقعة الهلال الخصيب بشكل يشبه الإجتياح. قبل ذلك التاريخ كانت جماعات قليلة منهم ترد المنطقة طلبا للمرعى وللرزق دون أن تشكّل خطرا حقيقيّا ، ولكن في هذه الموجة الإجتياحيّة انتشرت الجموع العموريّة في السهول الشرقيّة وفي شرق الأردنّ

١٨

وتلال اليهوديّة وجبال لبنان في شبه احتلال ، وعبرت القبائل الكنعانيّة إلى الساحل ، متوغّلة نحو الشاطئ ، فشكّلت تهديدا جديّا للجبيليّين الذين لم يكونوا قد عرفوا حتّى ذلك التاريخ غزوا بهذا الحجم ، إنّما كانت الغزوات السابقة مجرّد هجمات محدودة الحجم كانت تقوم بها جماعات صغيرة من البدو ، وكان الجبيليّون يصدّونها بسهولة.

تفيد معالم الحقبة السابعة من طبقات الحفريّات الدراسيّة في جبيل بوضوح على أنّ المدينة بدأت تتعرّض لغزو خطير في حوالى العام ٢١٥٠ ق. م. ، ويدلّ على هذه الأحداث آثار الحريق الظاهرة على جدران الهيكل الرئيسيّ ، وتراجع الإزدهار بحيث لم تعد البيوت دورا متعدّدة الغرف بل أصبحت غرفة واحدة ، كما غاب التخطيط عن الأزقّة التي كانت تشكّل شوارع تلك الحقبة. ويظهر جليّا أنّ تلك الغزوات قد انتهت بتمكّن الكنعانيّين من دخول جبيل والسيطرة على مقدّراتها واندماج الغازين مع أبناء عمّهم الجبيليّين الذين سوف يشكّلون معهم جزءا ممّا سيعرف بالشعب الفينيقيّ.

باندماج الكنعانيّين مع أهل جبيل الأصليّين ، بدأت المدينة تحاول استعادة نشاطها الإجتماعيّ والإقتصاديّ ، ولم يمض وقت طويل حتّى أخذت جبيل تستعيد ازدهارها ، يشهد على ذلك ترميم الأسوار والتحوّل في شكل الهيكل الذي أصبحت أرجاؤه مزروعة بالمسلّات الحجريّة ، وصارت العبادة فيه لإله الموت والخصب : رشف بعل ، الذي يعني اسمه الكنعانيّ : النار أو النور ، إشارة إلى الشمس ، فهو إله الموت والخصب ، والشمس تميت وتحيي ، وفي دخول عبادة رشف إلى جبيل تأكيد واضح على دخول الكنعانيّين إليها لأنّ الساميّين الذين اجتاحوا المنطقة كانوا يعبدون رشف. ويقوم إلى جانب مسلّات المعبد العشرين نصب عموديّ أو شجرة مقدّسة ، إذ كانت الشجرة

١٩

رمزا لخلود الحياة. كما كشفت التنقيبات التي جرت على أرض الهيكل في مراحل متعدّدة عن غرف يبدو أنّ الكهنة كانوا يقومون في داخلها بأعمال التنبّؤ عن الغيب للناس الذين كانوا يقصدونهم.

وفي هذه الحقبة أيضا ، أصبحت قبور الملوك غرفا وجد في بعضها تحف ثمينة موسومة بأسماء الملوك. وأخذت التجارة تستعيد نموّها وعاد الإتصال بالعالم الخارجيّ إلى ازدهاره. ويبدو أنّ الجبيليّين ، في هذا العصر ، قد حاولوا تحقيق تقدّم على صعيد كتابة الحرف ، إذ نجد في هذه الطبقة من الحفريّات رموزا هيروغليفيّة مختلفة عن المصريّة لم يتمكّن العلماء من فكّ معانيها حتّى اليوم.

وقد دلّت آثار هذه الحقبة من التاريخ على أن الجبيليّين كانوا قد وسّعوا نطاق أسفارهم الخارجيّة عبر البحار ، بحيث مخرت سفنهم عباب البحر الأسود وبلغوا بلاد الخوقاز التي يعتبر بعض الباحثين أن التجّار الجبيليين قد وصلوها بحرا قبل الألف الثالث ق. م.

عصر الهكسوس

ما أن بدأت جبيل تجني ثمار اتّحاد الكنعانيّين مع أهلها الأصليّين حتّى برز خطر احتلال جديد داهم كان مصدره هذه المرّة : الهكسوس.

إعتبر المؤرّخون أنّ شعب الهكسوس المحارب القويّ مجهول الأصل ، وهو مزيج في أكثره ساميّ العرق ، يشمل الأموريّين والكنعانيّين والعرب وربّما بعض قبائل الخبير والعبرانيّة ، تداخله عناصر غير ساميّة من الحوريّين والحثيّين والمتانيّين ، وقد تكامل هذا الخليط من الشعوب في شرق البحر الأبيض المتوسّط ، واجتاح أوّلا القسم الأكبر من هذه المنطقة قبل أن

٢٠