موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٦

طوني مفرّج

المكتشفات ووضعوها في مصاف اكتشافات بنكا دي روما ، وأشاروا إلى أهميّة الفنّ الأثري البالغ لمنطقة ساحة النجمة التي تعتبر تجمّعا لمبان رومانيّة ضخمة. وفي ٢٠ تشرين الثاني ١٩٩٨ تمّ العثور في موقع البازيليك على قاعدة تمثال من الحجر بطول ٢٠ سنتم وعرض ٦٠ سنتم ، تحمل كتابات يونانيّة أو رومانيّة على ما يعتقد. وخلف مبنى الأوبرا وجد المنقّبون عمودا يعود إلى العهد البيزنطي منقوش وسطه صليب ، يبلغ طوله ثلاثة أمتار ونصف المتر ، وقطره أربعون سنتم. كما تمّ اكتشاف تاج العمود وهو مزخرف نقشت على جوانبه دوائر ، داخلها صلبان صغيرة.

الحديقة والحمّامات الرومانيّة

هذه الحمامات اتي تقع تحت السرايا ، كانت الحمامات العموميّة لبيريت الرومانيّة ، وتشكّل جزءا من الوسط التجاري الروماني الأثري الفخم (الفوروم) ، الموجود في محيط ساحة النجمة. إنّها بناء أثري ضخم يعود تشييده إلى القرن الأوّل. ويبدو أنّها كانت ذات أهمّية كبرى ، بدليل هندستها المميّزة والمواد المستعملة في بنائها من رخام وفسيفساء وقرميد ، وجدرانها المزخرفة بالنقوش والمغطاة بالمرمر. وهي تحوي جرنا نادرا هو واحد من نموذجين إكتشفا حتى الآن في العالم ، أحدهما وجد في حمّامات مدينة بومباي. وتعتبر هذه الحمّامات من العلامات المميزة في الهندسة الرومانيّة ، ونجدها حيثما إمتدّت الإمبراطوريّة ، من روما حتى افريقيا واسيا. وتتألّف أساسا من ثلاثة أقسام : ١ ـ الحجرة الباردة : " فريجيداريوم" (FRIGIDARIUM).٢ ـ الحجرة الدافئة : تيبيداريوم (TEPIDARIUM) حيث يتكيف الجسم تدريجيّا مع الحرارة. ٣ ـ الحجرة الساخنة : كالداريوم (CALDARIUM) وهي شديدة الحرارة ولا يستطيع الجميع تحمّلها ، وفيها جرن من المياه الساخنة. وفي كل

٤١

حجرة جرن كبير أو مغطس يمكن استخدام مياهه لرش الجسم أو الغطس فيه كليّا. وتؤلف الحمامات جزءا من مجمّع متكامل ، يضم حدائق وأمكنة للتنزّه ومقهى وحتى مكتبة. وكانت مكانا عامّا يلتقي فيه أهل الفكر والمجتمع وشخصيّات من مختلف الفئات. أمّا أوقات ارتيادها فمقسّمة بين الرجال والنساء ، إضافة إلى أوقات مخصّصة للعائلات. الآثار الموجودة في الموقع تمثّل جزءا من هذه الحمّامات التي تمتدّ حتى الجهة الجنوبية ، وصولا إلى أسفل الدرج الذي يؤدي إلى السرايا ، وكذلك شرقا تحت مبنى بنك سوريا ولبنان. أمّا المعالم الظاهرة منها في المشروع فهي : ـ آثار الحجرتين الدافئة والساخنة التي تعتمد على ال" أيبوكوست" ، وهو نظام تدفئة مركزيّ يقوم على أعمدة فخّارية من حجر الطوب المشوي ، تشكّل فاصلا بين مستوى الحمّامات ومستوى الأرض أي بين طبقتين ، الأولى رخاميّة والثانية حجريّة. المساحة الفارغة بينهما يمرّ فيها البخار المتسرّب من قناطر مبنيّة بالآجرّ ، لتسخين أعمدة الفخّار التي تحتفظ بالحرارة طويلا وتوزّعها على أرض الحمّامات الرخاميّة. وثمّة فتحات جانبيّة في الجدران المزدوجة تساهم أيضا في دخول الهواء الساخن الحجرتين الدافئة والساخنة. ـ الأفران (PRIFURUM) وكانت تعمل على الحطب لتسخين الهواء والمياه. ـ الجرن الكبير (LABRUM) الذي تنسكب المياه فوقه ، وموجود في الحجرة الساخنة. ـ بركة السباحة (SODASIUM) المغطاة بالرخام والمرمر ، وكانت تستعمل أيضا غرفة للصونا. ـ أقنية محفورة في الصخر لجرّ المياه تسمّى AQUADOTTO ، قسم منها كان يأتي بالمياه من نهر بيروت عبر قناطر زبيدة إلى تلّة السرايا ، وتتجمّع بعدها في برك كانت تغذّي الحمّامات. أمّا القسم الآخر فشكّل شبكة تصريف للمياه المستعملة في إتجاه الفوروم عند ساحة النجمة. وثمة قطع فسيفساء وزجاج ملوّن كانت تغطّي أرض الحمّامات وتدلّ على غنى هذا

٤٢

الموقع والمواد المستخدمة في تشييده. المديريّة العامة للآثار رمّمت الحمّامات ، بعد إكتشافها ، في ستينات القرن العشرين. لكن الموقع أهمل إبّان الحرب ، فطمرت الآثار بالردميّات والنفايات وفقد بعضها. وفي آذار ١٩٩٥ ، عاودت المديريّة التنظيف والتوسع. وبعد انتهاء الحفريّات ، تقرّر الحفاظ على المكتشفات في موقعها وترميمها وإدراجها في المخطّط التوجيهيّ لبيروت ، ضمن حديقة عامّة تتولّى" سوليدير" الإشراف عليها بعدما قام الخبراء بتنقيبات إضافيّة في موقع الحديقة وتأكّدوا من خلوّ شمال الحمّامت من الآثار. وعهد إلى مكتب" انترسان" الفرنسي والمكتب الهندسي الإستشاري اللبناني وضع تصميم الحديقة ومتابعة الإشراف على تنفيذ المشروع. أمّا حديقة الحمّامات فتبلغ مساحتها العامّة ٨٢٥ ، ٢ م ٢ وتضم : ١ ـ حديقة العطور ، وقد زرعت بأنواع خاصّة من النباتات العطرة ، تفوح منها روائح جميلة تذكّر بالعهد الروماني وحمّاماته ، ولا سيّما أنّ الرومان اعتمدوا في حدائقهم على العطر في شكل أساسي ، وقدّموه على الألوان والعناصر الأخرى ، ومن أنواع تلك النباتات : الخزامى ، البنفسج ، الياسمين ، النعناع ، الميرت ، الصنطولية ، والخبيزة. وتغطّي الحديقة عريشة من الورود والياسمين. ٢ ـ حديقة أجران الفخار ، زرعت بنباتات طبّية ومعطّرة ببهارات متنوّعة منها : القرنفل البرّي ، الزعفران ، الصعتر ، الصعتر الحمضي ، الريحان ، ذهب الشمس ، السوسن وغيرها. ٣ ـ " التونال" وهو ممر يصل حديقة أجران الفخار بحديقة العطور. تغطيه عريشة من النباتات العطريّة ، وتزيّن أرضه لوحات حديثة من الفسيفساء المستوحاة من رسوم الفسيفساء الرومانيّة القديمة. ٤ ـ الإيمبلوفيوم (IMPLUVIUM) ، وهو شلّال يصبّ على سطح من الفخّار قاعدته خشب وتحته جرن تجتمع فيه المياه. ٥ ـ مدرج صغير لإقامة العروض الفنّية ، وكان محور مناقشة ودرس مع المديريّة العامة للآثار التي اطمأنت لاحقا إلى إقامته

٤٣

بعدما تأكّدت من عدم إضراره بالموقع الأثري. ٦ ـ مسرح لإقامة العروض والإحتفالات. كذلك ، لحظ المشروع ممرات خاصّة تسمح للمعوّقين بالتنقّل بين أرجاء الحديقة ، رغم المعوقات الطوبو غرافية وجغرافيّة المكان الصعبة. أمّا المساحات المتبقّية ، فأقيمت فيها مصاطب تشرف على الحمّامت الأثرية وزوّدت بمقاعد للإستراحة. وغطّت الموقع أشجار تلائم المناخ المتوسطي ، منها : السرو ، الصنوبر ، الأكاسيا ، الجاكرندا ، والبلح ، والزيتون. أمّا الشجيرات فهي الدفلى ، العرعر وزهرة الربيع. وللحديقة مداخل عديدة. أوّلها مزدوج ، يقود الزائر من شارع المصارف إلى الأدراج الشماليّة المطلّة على" حديقة العطور". وهناك ثلاثة مداخل أخرى في شارع الكبوشيّين ، واحد منها يؤدي إلى الموقع الأثري والمسرح. وينهي الزائر إذا شاء ، جولته المعطّرة بأريج الماضي ، باستراحة قصيرة على مصطبة تطلّ على الموقع ، يصلها عبر رصيف شارع الكبوشيّين. كلفة المشروع الذي موّلته" سوليدير" ، بلغت نحو ٨٠٠ ألف دولار أميركي.

الحاضرة التّاريخيّة

أحد أهمّ المشاريع الّتي تدرس لمستقبل وسط بيروت ، تنظيم" حاضرة تاريخيّة" تبرز ماضي العاصمة وأهمّيّتها. ويقضي المشروع بإقامة" طريق التّاريخ" التّي ستربط بين المواقع التّاريخيّة كالحمّامات الرومانيّة والمساجد والكنائس والمعالم الأثريّة والمواقع الفينيقيّة والفارسيّة ، إضافة إلى الأسواق. وتضمّ هذه الحاضرة التياتر والكبير الذي شيّد ١٩٣٠ ويمثّل أحد أبرز وجوه التّراث الفنّي في بيروت ، وسيعاد ترميمه ، وهو الذي يتميّز بنماذج من الفاكهة والنبات والحبوب حفرت على أعمدته في شكل رائع. وسيضاف إلى هذه المعالم التّاريخيّة" متحف المدينة" الذي ستمرّ به" طريق التّاريخ" حيث

٤٤

يتسنّى للزوّار التّعرف إلى مختلف المراحل التّاريخيّة وإلى آثار وسط بيروت ، إنطلاقا من الكنعانيّين والفينيقيّين وصولا إلى العثمانيّين.

المعالم الكبرى لمدينة بيروت

نستعرض في ما يلي أهمّ المعالم الكبرى للعاصمة اللبنانيّة ، وهي التي اشتهرت أو تميّزت بها مدينة بيروت في حقبات مختلفة من تاريخها ، وذلك بهدف التعريف بتلك الميّزات التي من المفيد أن يعرفها كلّ لبنانيّ مثلما يريد أن يعرف عن قريته أو بلدته أو إقليمه ، فإنّ بيروت هي عاصمة كلّ لبنان ، ولا تكتمل معرفة الإنسان ببلاده إن غابت عنه معرفة عاصمتها.

معابد بيروت القديمة

تداولت حكم بيروتّ أمم عديدة منذ أقدم العصور ، وتركت في ربوعها الكثير من آثار فنونها وثقافتها ومعتقداتها ، ولم تلبث هذه الآثار أن أبيد معظمها لكثرة ما واجهت بيروت من فتوح واستقبلت من غزاة وما دهمها من كوارث. ففي العهد القديم الذي كان الناس يعيشون في مدن تؤلف ممالك صغيرة مستقلّة ، كان أهل بيروت يدينون بالوثنية ويدعون الإله الأعظم معبودهم باسم البعل. وكان أهل كل مدينة من مدن الساحل يعبدون الإله الأعظم على هيئة خاصة وينسبونه إلى مدينتهم. فتعدّدت بذلك أسماء الإله الأعظم مع وحدانيّته. وقد اعتبر الكنعانيّون القدماء بيروت مدينة مقدّسة ومكرّسة لعبادة" بعل بريت". وبحكم إستيلاء الفراعنة طويلا على بيروت ، تأثّر أهلها إلى حد كبير بالديانة المصريّة القديمة ، كما تأثّر المصريون ، بدورهم ، بالصلة الوثيقة التي قامت بينهم وبين الفينيقيّين. واكبر مثل على ذلك

٤٥

إنتشار عبادة البعل في مصر ، وتشييد المعابد في لبنان على الطراز المصري ، والتعبّد فيها بطقوس شبيهة بالطقوس المصرية. ولمّا دخل اليونان فينيقية وتملّكوا بيروت ، سمحوا للخاضعين لأمرهم بحفظ دينهم ، ثم مزجوا بين آلهتهم وآلهة الفينيقيّين وكسوها بمسحة يونانيّة. وجرى الرومان مجرى اليونان في إحترام شعائر أهل بيروت عند ما استولوا على مدينتهم سنة ٦٤ قبل المسيح ، وسمّوا آلهة الفينيقيّين باسماء رومانيّة ، فدعوا البعل باسم" جوبيتير" وعشتروت الزهرة باسم" فينوس" ، وبنوا في بيروت القصور الجميلة والمعابد الفخمة. وكان المعبد مكرّما من قبل الفينيقيّين والرومان على السواء. وممّا ذكره المؤرّخون عن تلك المعابد والقصور أنّها نافست في بهائها ورونقها معابد وقصور روما. وقد جرت عادة أهل ذلك العصر أن يختاروا مشارف الجبال ذات المناظر الجميلة ليبنوا عليها المعابد ، فأقام البيروتيّون لآلهتهم معبدا في الجبل المشرف على مدينتهم في دير القلعة بجوار بيت مري ، وهو هيكل" بعل مرقد" ، وصاروا يقصدون إليه لتقديم الضحايا والقرابين. ويبدو من النقوش الأثريّة التي عثر عليها في هذا المعبد الفخم أنّه لم يكن مكرّسا لعبادة" بعل بريت" فحسب بل جعل" بانتيون" البيروتيين ، أي مجمعا لآلهتهم ، وصار مشتركا بين الرومان والوطنيّين ، ومكرّسا لعبادة جميع الآلهة (راجع : دير القلعة). واستمرّت الديانة الفينيقيّة شائعة ألاف السنين ، وظلّت الطقوس والعادات الوثنيّة متأصّلة تأصّلا عميقا في البيروتيّين حتّى ظهر الدين المسيحي ، فناهض دعاته عبادة الأوثان وتحمّلوا من أجل القضاء على دين الشرك ضروب الإضطهادات إلى أن تمّ لهم الفوز على الوثنيّة في القرنين الرابع والخامس ، إذ حوّل الروم البيزنطيّون هياكل الوثنيّين إلى كنائس وأديرة ومزارات مسيحيّة. وممّا يؤسف له أنّ هذه المدينة العريقة قد نكبت بالزلازل مرّات عديدة ، ونشب فيها الحريق الذي

٤٦

التهم معابدها ومعاهدها وقصورها سنة ٥٦٠ م. ، كما نكبت مرارا بويلات الحروب التي دثرت معالمها. وأخصّ ما حفظ التاريخ لنا من أسماء لمعابد بيروت القديمة ما ذكره المؤرخ زكريّا السرياني المعروف بالخطيب الذي دوّن كتاباته أواخر القرن الخامس للميلاد ، وكان قد انقطع في بيروت إلى درس الفقه ، فكتب باللغة السريانيّة سيرة رفيقه ساويروس الإنطاكي الذي صار في ما بعد أوّل بطريرك على المونوفيزيّين. فقد روى زكريّا عن بيروت في زمانه أنّه كان فيها عدّة كنائس بيزنطيّة ، ذكر منها" كنسية القيامة" و" كنيسة مريم" و" كنيسة الرسول الشهيد يهوذا". وحدثنا صالح بن يحيى في" تاريخ بيروت" عن" كنيسة الفرنسيسكان" وما حلّ بها بعد الصليبيّين فقال : واتّخذوا الكنسية التي شرقي البلدة داخل السور ، فكانت لهم منزلا. وكانت هذه الكنيسة تعرف بكنيسة افرنسيسك ، ويزعم الفرنج أنّ فرنسيسك هذا قدّيس ظهر متأخّرا من مدّة مئتي سنة مضت إلى هذا التاريخ. وكانت هذه الكنيسة كبيرة. ثمّ يقول : وهي في وقتنا الحاضر خراب ، بيعت لبني الحمراء فنقلوا حجارتها إلى مدرستهم وذلك بعد العشرة والثمانية وكانت معروفة بالسلف. وروى بن يحيى في كتابه أيضا عن أيقونة خشب ذاع خبرها بين النصارى ، تمثّل صورة مصلوب ضربها بعض اليهود بسكّين فصارت تنزف دما ، وقال :إنّ هذه الصورة نقلت إلى قسطنطينيّة فعمّروا عليها كنيسة يعظّمها الفرنج. وقيل إنّ كتابة يونانيّة كانت فوق باب الدركاه اقتطعت من رتاج باب كنيسة بيزنطيّة ، وهذه الكتابة آية من الإنجيل محتواها تحريك عاطفة الرحمة في قلوب الداخلين ليسعفوا أصدقاءهم وإخوانهم البائسين. وفي سنة ١٩١٦ عثر العمال في سوق البزركان على آثار أبنية بيزنطيّة قديمة كانت بينها كنيسة ظهرت بعض أعمدتها مع صلبان بيزنطية الشكل. وذكر مؤرّخو السريان أنّ بيروت تفتخر بالرسولين لبّي أو تدّي المعروف بيهوذا ، والرسول مرقس

٤٧

والرسول لوقا ، وقالوا إنّ لبّي الرسول شخص إلى بيروت إثر صعود المخلّص وبشّر أهاليها بالكرازة المسيحيّة ، وأسّس فيها كنيسة وفيها توفّي ودفن ، وعلى اثر وفاته شيّد المسيحيّون في بيروت كنيسة كبرى تيّمنا باسمه سمّوها" الكنيسة المعتبرة جدّا" أو" كنيسة لبّي". وإليها كان يختلف زكريّا السريانيّ الفصيح وزميله سويرا في السنتين ٤٨٧ و ٤٨٨ يوم كانا منكبّين على درس الشرع في مدرسة بيروت الفقهيّة ، و" كان مديرها القسّيس قوسما ، ويساعده في خدمتها القس يوحنّا الفلسطينيّ المعروف بإسم أدريان". وبعد لبّي الرسول تولّى أبرشيّة بيروت قوارطس أحد التلامذة السبعين ، وقد عاون الرسول بولس في الكرازة الإنجيليّة فنصّبه هذا الأخير أسقفا على بيروت. وأثبت اسمه في تحيّته للرومانيّين بقوله : يسلّم عليكم أرسطس خازن المدينة وقوارطس الأخ. وذكر الرحّالة" هنري مندرل الإنكليزيّ" في القرن السابع عشر أنّه شاهد هذه العبارة : قوارطس أوّل أساقفة بيروت منقوشة على جدار إحدى كنائسها. وحضر غرلايغوريوس أسقف بيروت سنة ٣٢٥ المجمع النيقاويّ الأوّل. وكان طيمثاوس أسقفها في جملة آباء المجمع القسطنطينيّ الأوّل. ولمّا تولّى أوسطاثيوس أسقفيّة بيروت (٤٤٣ ـ ٤٦٠) عقد مجمعا عام ٤٤٨ للنظر في قضيّة يهيبا مطران الرها (٤٣٥ ـ ٤٥٧) ، وكان يهيبا من أئمّة كتبة السريان في عصره خلّف مداريش ورسائل جمّة تشهد بطول باعه ، وحدث تنافس بين أوسطاثيوس وبين فوط مطران صور فتمكّن أوسطاثيوس بوساطة ثئودوسيوس قيصر الثاني (٤٠٨ ـ ٤٥٠) من الإستقلال بكرسيّه البيروتيّ زمنا. وضمّ إليه أساقفة جبيل والبترون وطرابلس وعرقا وطرطوس. وأصبحت بيروت منذ ذلك العهد مستقلّة عن صور خاضعة توّا للكرسيّ الإنطاكيّ. ومن أساقفة بيروت يوحنّا الذي أورد اسمه زكريّا السريانيّ الفصيح في ترجمة زميله سويرا ورفيقه في مدرسة الفقه البيروتيّة.

٤٨

وقال إنّ مراسلات جرت بينه وبين ربولا السميساطي الذي أنشأ ديرا عظيما في لبنان. ثمّ إنّ زكريّا المؤرّخ المذكور أثبت في تلك الترجمة أسماء ستّ كنائس في بيروت هي : كنيسة لبّي الرسول ، وكنيسة أنسطاسيا الكبرى التي أنشأها أوسطاث أسقف بيروت (٤٤٣ ـ ٤٦٠) ، وظلّت قائمة حتّى ٥٥٩ تاريخ الزلزلة الهائلة التي قوّضتها ، وكنيسة والدة الله وكان موقعها ضمن بيروت بالقرب من المرفأ ، وكنيسة الشهيد لاونطي ومركزها في مدينة بيروت ، وفيها التأم طلّاب مدرسة الحقوق المسيحيّون ليحضروا عماد لاونطي ، وكنيسة القيامة التي شيّدها أوسطاث سالف يوحنّا ، وكانت من أكبر كنائس بيروت وأفخمها ، تقع ضمن سور المدينة ، قريبا من مدرسة الفقه ، ويرجّح أنّها لم تكن بعيدة عن كنيسة مار جرجس. وكنيسة مار إسطفان أوّل الشهداء وهي البيعة السادسة ، تأسّست تيمّنا باسم القديس إسطفانوس رئيس الشمامسة وأوّل الشهداء ، إضمحلّ رسمها منذ أواسط القرن السادس بسبب الزلازل الهائلة التي ضربت السواحل الفينيقيّة اللبنانيّة. وفي عهد أغسطاس قيصر (٤٩١ ـ ٥١٨) تولّى مرين أسقفيّة بيروت فتحزّب لسويرا بطريرك أنطاكية (٥١٢ ـ ٥١٨) وشاركه في القدسيّات. وقام بعده تلاس فناضل عن عقيدة آباء المجمع الخلقيدونيّ الذين بلغ عددهم ٦٣٦ أسقفا. ووقّع تلاس عريضة مع أساقفة المشرق السريان رفعوها عام ٥٣٦ إلى أغابيط الحبر الرومانيّ (٥٣٥ ـ ٥٣٦) في قضيّة إشهار الحرم على أنتيمس أسقف قسطنطينيّة. ولمّا احتلّ الفرنجة بيرون عام ١١١٠ كان المسيحيّون فيها فئتين : فئة سريانيّة وفئة ملكيّة ، ولكلّ منهما كنيسة أو كنائس يقيمون فيها فروضهم الدينيّة. أمّا كنيسة السريان فالراجح أنّها كانت في سوق البازركان حيث اكتشفت آثار كنيسة قديمة في مدّة الحرب العالميّة الأولى.

٤٩

الكنائس والمساجد والجوامع الأثريّة

الجامع العمري : كان كنيسة من آثار الصليبيّين شيّدها الملك بودوان سنة ١١١٠ م. على أطلال معبدرومانيّ قديم على اسم القديس يوحنّا المعمدان ، وهو الذي يدعوه المسلمون النبي يحيى ، وكان قبلا مبنى محكمة الشعب الرومانيّة. صلّى في الكنيسة الصليبيّة المسيحيّون مدة ولاية الصليبيّين على بيروت ، وحوّلها صلاح الدين الأيوبي إلى مسجد عرف بالجامع الكبير ، وأطلق عليه اسم" العمري" تخليدا لذكرى الخليفة عمر ابن الخطّاب. ثمّ استعاده الصليبيّون سنة ١١٩٨ م. وحوّلوه إلى كاتدرائيّة استعاده المسلمون سنة ١٢٩١ م. ، وقال صالح بن يحيى في" تاريخ بيروت" : لمّا قدّر الله بنزع بيروت من يد الفرنج استقرّت كنيستهم جامعا وكانت تعرف عندهم بكنيسة مار يوحنّا ، وكان بها صور فطلاها المسلمون بالطين ، وبقي الطين إلى أيّام الجدّ (أي جدّ صالح بن يحيى) فبيّضه وأزال عنه آثار تلك الصور. وقد بقي في كوّته ، على شمال الداخل إليه من بابه الغربي ، كتابة يونانيّة هي آية من الزّبور" وإنّ صوت الربّ على المياه" ، ممّا يدلّ على أنّ جرن المعموديّة كان هنالك. ويقال إن يد يوحنّا المعمدان كانت مدفونة في هذا المكان. ويتألّف المبنى من رواقين مسقوفين ، وقد دلّت الترميمات التي أجريت سنة ١٩٥٣ على أن بيروت كانت منخفضة عما هي عليه اليوم ، وأنّ لهذا المسجد دهليز غلب عليه الماء يقوم على أعمدة لمعبد رومانيّ قديم.

جامع الخضر : يقع في محلة الخضر ، أو الكرنتينا ، قرب كنيسة مار ميخائيل. وكان ، كما يروي المؤرّخون ، موضع الجامع كنيسة بيزنطيّة قديمة بنيت تخليدا لذكرى القدّيس جرجس في المكان الذي تقول الأسطورة إنّه أنقذ فيه إبنة حاكم بيروت الروماني من مخالب التّنين المفترس. والقدّيس جرجس كان

٥٠

قد تدرّج في الجيش الرومانيّ حتّى وصل إلى مركز مرموق ، استشهد بسبب اعتناقه الدين المسيحي في عهد ديوقلسيانوس الإمبراطور الروماني في ٢٣ نيسان ٣٠٣ ، يعيّد له المسيحيّون ويكرّمه المسلمون وهم يعرفونه باسم الخضر. وذكر" مونكو نيز" عام ١٦٤٧ و" دارفيو" عام ١٦٦٠ وجود كنيسة في هذه البقعة ، ذكرا إنّها حوّلت إلى جامع ، ولكنّهما لم يعيّنا موقعها تماما. وقال الكونت" دي منيل" الذي زار بيروت سنة ١٩٢٧ للتحرّي عن مكان المعركة التاريخيّة إنّه رأى آثار الكنيسة وبجوارها بئر زعم أنّه كان مأوى للتنّين. وروى أيضا عن أيقونة قديمة تمثّل السيّدة العذراء ترضع طفلها ، وقال إنّها كانت في الكنيسة المشار إليها ونقلت إلى كاتدرائيّة القديس جاورجيوس الأرثذوكسيّة في ساحة النجمة. وأمّا مكان المعركة التاريخيّة فقيل إنّه حوّل إلى مدرسة حديثة كان القسم الشمالي من بنائها يحوي بعض الآثار التي يعود عهدها إلى العصر البيزنطي.

جامع الأمير منذر أو جامع النوفرة : أطلق عليه إسم النوفرة لوجود" نوفرة" مياه كانت قديما في صحنه. تولّى بناءه الأمير منذر بن سليمان التنوخي على أنقاض أبنية رومانيّة سنة ١٦٢٠ في عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني ، وكان هذا الأمير من أمراء عبيه التنوخيين ، عيّنه الأمير علي إبن الأمير فخر الدين حاكما على مدينة بيروت حوالي ١٦١٦ في خلال وجود أبيه في توسكانا. ويتّصل نسب الأمير منذر إلى الأمير عون إن الملك المنذر ، سكنت أسرته في أوائل العهد العربي بين المعرّة وحلب ثمّ انتقلت إلى لبنان في العهد العبّاسي سنة ٧٢٠ ه‍ / ١٣٢٠ م. وتولّى التنوخيّون إمارة قسم كبير من الغرب ثمّ تولّوا بيروت في عهد صلاح الدين الأيوبي وبرز منهم المؤرّخ البيروتي صالح بن يحيى صاحب كتاب" تاريخ بيروت". وهذا المسجد بديع الوضع وله

٥١

قباب تعلو الأروقة المحيطة بصحنه ، وقد قشطت جدرانه فبانت نقوش رائعة وحجارة جميلة مختلفة الألوان ناعمة النقش.

جامع السرايا : وعرف بجامع الأمير عساف نسبة إلى بانيه الأمير منصور عساف التركماني ١٥٧٢ ـ ١٥٨٠ على أنقاض كنيسة بيزنطيّة كانت تعرف باسم" كنيسة المخلّص" ، وأطلق عليه إسم" جامع دار الولاية" ثم" جامع السرايا" لقربه من السرايا التي شيّدها بجواره لناحية الشرق الأمير فخر الدين المعني ، وقد أنجزت مديريّة الأوقاف الإسلاميّة ترميمه في سنة ١٩٥١ قبل أن يتعرّض للتخريب في خلال الحرب الأهليّة.

جامع شمس الدين والجامع المعلّق : اندثرا بفعل الزمن. كان الأوّل إزاء مدخل دار الكتب الوطنيّة التي تشغل قسما من بناية البرلمان ، والثاني في سوق الخضار ، وقد سمّي بالمعلّق لأنّه يصعد إليه عبر درج خلافا لسائر مساجد بيروت.

جامع الدباغة : كان موقعه عند باب الدباغة في منطقة ميناء بيروت ، أقيم بدله سنة ١٩٣٢ جامع الصدّيق تيمّنا بأبي بكر الصدّيق في آخر شارع فوش ، على العقار ١١٥٢ مرفأ ، على مساحة ٣٧٦ م ٢ ، ويتألّف البناء الجديد من طبقتين مبنيّتين بالحجر الأصفر ، تعلوهما مئذنة مسدّسة الأضلاع. ونوافذه مقنطرة زجاجها ملوّن.

دير الراهب الرهاوي : ورد في تاريخ الرهاويّ أنّ ناسكا سريانيّا قدم في فجر القرن الخامس من مدينة الرها إلى بيروت ، يبثّ بين أهاليها مبادئ دينه ، وبنى له ديرا سمّي دير الراهب الرهاويّ ، هو باكورة الأديرة السريانيّة في جبل لبنان. غير أنّ موقع هذا الدير لم يحدّد.

٥٢

دير بيروت السريانيّ : كان يقوم في مكان مجاور لبيروت القديمة لم يتمّ تحديد موقعه بشكل دقيق ، ذكره الطرازي ، وقال إنّ بانيه هو أحد الرهبان السريان وإنّه كان مشهورا بأعمال الزهد.

دير القديسة مطرونا : مطرونة لفظة سريانيّة بحتة معناها" محروسة". وبهذا الإسم عرفت إحدى القدّيسات التي اتفّقت مع ابنتها ثئدوطا على الإنقطاع إلى الله تعالى ، فأسّستا للراهبات ديرين : أحدهما في حمص ، والآخر في بيروت. وانضمّ إلى هذين الديرين عدد غفير من العذارى الصالحات مارسن النسك والتقشّف حتّى أصبحن في عداد القدّيسات. ويقيم السريان تذكارا للقديسة مطرونا في ٢٨ آذار.

دير الراهب الأسطوني : نهج فريق من السريان النسّاك نهج سمعان العموديّ في زهده وسيرته ، فنصبوا ضمن الأديار أو في جوارها عمودا قضوا عليه حياتهم التقشّفيّة. ومن هذا القبيل دير ذكره الطرازي على أنّه كان في بيروت ، انضوى إليه راهب في القرن الخامس عشر.

أمّا الكنائس القديمة التي ما زالت إلى اليوم في وسط بيروت فأبرزها :

كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للروم الأرثذوكس : موقعها في" ساحة النجمة" قرب مجلس النوّاب ، شيّدت في عهد المطران مكاريوس صدقة سنة ١٧٦٧ على أنقاض عدد من الأبنية الدينيّة الأقدم عهدا ، وزيد على بنائها القديم لاحقا بناء جديد ، وكانت جدران الكنيسة القديمة مزدانة بالشارات المسيحيّة وصور القدّيسين ، وعدت يومئذ من أبدع كنائس السلطنة العثمانيّة. وهي مكرّمة عند الروم الأرثذوكس غاية التكريم يقصدون إليها من بلاد كثيرة ، كانت حتّى عشيّة اندلاع الحرب اللبنانيّة التي أتت على رسومها الجدرانيّة أقدم كنائس بيروت على الإطلاق.

٥٣

كاتدرائيّة مارجرجس المارونيّة : كانت قديما عند باب الدركاه ، على يمين درج الأربعين شهيدا الذي عرف لاحقا باسم" درج رجال الأربعين ، ثمّ ردمت وأقيمت في الناحية المقابلة الكاتدرائيّة الجديدة التي شيّدها سنة ١٨٨٨ المطران يوسف الدبس ، وتمّ ترميمها أوّل مرّة ١٩٥٣ ، ثمّ شهدت عمليّة ترميم واسعة بعد الدمار والحرائق التّي لحقت بها في خلال الحرب الأهليّة انتهت الأعمال منها في خلال سنة ٢٠٠١. وقد روعي في أعمال الترميم ما قاله عنها بانيها المطران يوسف الدبس في مذكّراته : شبيهة قدر الإمكان بكنيسة مريم الكبرى في روما. وكانت العمليّة الأهمّ إعادة بناء السقف على طرازه القديم أي بشكل الصليب. وفي الخارج تركّز العمل على ترميم حجارة الكنيسة وهي ثلاثة انواع : رمليّة ، وصبّ ، ورخاميّة.

كاتدرائيّة مار الياس للروم الكاثوليك : موقعها قرب كاتدرائيّة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في ساحة النجمة لناحية الشرق ، بنيت على مراحل : كنيسة صغيرة شيّدت ١٧٢٤ ، كنيسة أكبر شيّدت قربها ١٧٣٦ ، الكاتدرائيّة الحاليّة شيّدها المطران أغابيوس الرياشي ١٨٤٩ على أنقاض الثانية في عهد البطريرك مكسيموس مظلوم ، وهي تتميّز بزخارفها الرخاميّة الدقيقة. وقد تعرّضت للتدمير في خلال الحرب الداخليّة في الربع الأخير من القرن العشرين. أعيد ترميمها.

الكنيسة الإنجيليّة : أسّس المرسلون الإنجيليّون الأميركيّون الرعيّة الإنجيليّة الوطنيّة ١٨٤٨ ، وبنوا الكنيسة الأولى الناطقة بالعربيّة في الشرق الأوسط ١٨٦٩ قرب باب يعقوب في وسط بيروت على الطراز القوطي السكتلندي ولكن بأسلوب لبناني ، فاستبدل القرميد الرمادي بالأحمر ، وأعطى المزج بين الطرازين المعماريّين بناء الكنيسة جماليّة خاصّة. وقبل البدء بمشروع البناء

٥٤

سنة ١٨٦٧ قررت الرعيّتان الإنجيليّتان الأجنبيّة واللبنانيّة وضع صندوق حديديّ في الحجر الأساس يحوي مجموعة من الأشياء تعكس هويّة الكنيسة الإنجيليّة كالكتاب المقدّس باللغة العربيّة ، نسخة عن نظام الكنيسة الإنجيليّة المحليّة ، لوائح بأسماء أعضائها ، والمؤسّسات الإنجيليّة في بيروت ، والمطبوعات الصادرة عن المطبعة الأميركيّة ودستور الكليّة السوريّة الإنجيليّة (الجامعة الأميركيّة اليوم) ، وصور لبعض المرسلين المساهمين في البناء ، وقرش عثماني. ووضع الحجر الأساس تحت البرج الذي كان مدخل الكنيسة الأساسي على الجهة الشرقيّة الشماليّة. وبقي البرج رمزا للمبنى القديم. وعلى مدى مئة عام تقريبا ، صلّت الرعيّتان اللبنانيّة والأنغلو ـ أميركيّة في الكنيسة التي ظلّت مركزا حيويّا للطائفة ، ومع بدء الحرب اللبنانيّة ١٩٧٥ ، ومغادرة الرعيّة الأجنبيّة لبنان ، اقتصر استخدام الكنيسة على الرعيّة اللبنانيّة التي انتقلت لاحقا للصلاة في أماكن متفرّقة عند احتراق الكنيسة وتدميرها ١٩٧٦. وفي ١٩٩٣ وضع الحجر الأساس للبناء الجديد ، وافتتحت الكنيسة بقدّاس في الذكرى المئة والخمسين لتأسيس الرعيّة الإنجيليّة. وغرست أمام الكنيسة ثلاث شجرات سرو ، وشجرتا رمّان وزيتون نموذجا للحديقة اللبنانيّة ، كما تضمّن المبنى مرآبا تحته ، يتّسع لست وخمسين سيّارة. وقد بلغت تكاليف البناء مليوني دولار ونصف المليون ، تبرّعت الكنيسة وأبناؤها ب ٧٥% منها ، والباقي من كنائس شقيقة في ألمانيا.

كاتدرائيّة القديس لويس للكبّوشيّين : لاتينيّة أنشئت ١٨٦٣ في محلّة باب ادريس لخدمة أبناء الجاليّات الأجنبيّة من أتباع الطقس اللاتيني.

معابد مار أنطونيوس ، ومار يوسف ، والتجليّ للسريان : في العصر الحديث كان السريان يمارسون فروضهم الدينيّة في كنائس الكبّوشيّين حتّى العام

٥٥

١٨١٧ حين أصبح لهم مطران يرعاهم ، هو أنطوان ديار بكرلي ، فاستأجر في حي الكراويا بيتا واسعا خصّص أكبر غرفة فيه للمصلّى على اسم شفيعه مار أنطونيوس الكبير. وأفرز بقيّة الغرف لمدرسة يتعلّم فيها الطلبة اللغتين السريانيّة والعربيّة. وتولّى المطران أنطوان ديار بكرلي إدارة المصلى والمدرسة ، وبعد وفاته عام ١٨٤١ شيّد المطران يوسف سمنة دارا في حيّ المقسم وجعل فيها مصلى على اسم مار يوسف شفيعه ، وعام ١٨٦٥ تخلّى السيّد نصر الله طرازي عن دار ملاصقة لداره في الشارع الذي يحمل اسمه ويقع بين شارعي سوريا والبسطة ، فخصصت الغرفة الكبرى بالمصلى وسمي" مصلى التجلّي" ، وحوّلت الغرف الباقية إلى مدرسة ومطبعة وإدارة مجلّتي" النحلة" و" النجاح".

كنيسة مار جرجس السريانيّة : وضع البطريرك جرجس الخامس (١٨٧٤ ـ ١٨٩١) حجر الأساس لكنيسة حملت اسم شفيعه في بيروت ١٨٧٨ ، طولها أربع وثلاثون ذراعا ، عرضها سبع عشرة ذراعا ، علوّها سبع عشرة أذرع ، يكتنفها سبعة أبواب. إكتمل بناء جدرانها ١٨٧٩. وعام ١٨٨٣ أقيم فيها أوّل قداس. قدّس هذه الكنيسة بالميرون البطريرك جرجس ١٨٨٥. جمّلها أبناء الرعيّة ، بهباتهم الدائمة ، بالصور والثريّات والقناديل الفضيّة والنذور الثمينة ، حتّى أصبحت من أفخر الكنائس.

المزارات الأثريّة

كان من عادة أبناء بيروت أن يزوروا أضرحة بعض الأتقياء الزهّاد والصالحين ويسمّونها المزارات ، ويغدقون عليها النذور كالزيت والشموع والبخور ، ويأتون إليها بالحلى أو النقود فتنفق في مصالح المزار وعلى خدّامه ، كما كان الزوّار يعلّقون النذور على الأشجار أو في بطونها وفي

٥٦

أعمدة نوافذ المزارات ويوقدون فيها السرج ليلا ونهارا. ومزارات بيروت القديمة عديدة أهمّها :

مزار سيّدة النوريّة : كان يقع في محلّة سوق النوريّة التي استمدّت اسمها من هذا المزار. ويروي التقليد أنّ أعجوبة حدثت على يد بعض المتعبّدين الذين يخدمون هذا المزار أدّت إلى شهرته ، فصار المؤمنون يتوافدون إليه من بيروت والمناطق للإيفاء بنذورهم.

مزار الخضر : ذكره" الكونت دي منيل" وقال إنّه رأى عند ما زاره في سنة ١٩٢٧ عمودا قيل إنّ القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين أقامته هناك ، وإنّ المصابين بداء الروماتيزم كانوا يأتون إليه ويحتكون به ليشفوا شفاء عجائبيا من آلام هذا المرض العضال.

مزار الأوزاعي : يقوم في محلة الأوزاعي جنوبي غربي بيروت ، وعليه مسجد صغير وبقربه مسجد حديث كبير ، وقد ذكره صالح بن يحيى في" تاريخ بيروت" بقوله : وقبر الأوزاعي على ما أفاد أبو الفداء ، في تاريخ سنة وفاته ، في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس ويروى حنوش ، وهي في عهدنا مزار خارج المدينة في جنوبها الغربي. وكان من عادة الأمهات في القرن الماضي أن يحملن أطفالهن إلى هذا المزار للشفاء من مرض الشهقة.

زوايا بيروت الأثريّة

إنّ الزاوية ، وتسمّى أيضا" تكيّة" ، هي عرفا غير المسجد وغير المزار ، فهي بناء متواضع تحت قبّته مسجد يجتمع فيه طوائف من" المريدين" ، وهم أتباع شيخ الزاوية ، من أجل الصلاة وتلاوة الأوراد وإقامة الأذكار. والذكر هو إعادة دائمة لاسم الله تعالى بأوضاع وأشكال منوّعة. والزوايا ملجأ لأصحاب العاهات ومأوى لأبناء السبيل ، قد يجدون فيه من الطعام واللباس

٥٧

ممّا يساق إلى الزاوية من صدقات المحسنين ، وكانت الزاوية" مدرسة" يتلقّى الصبيان فيها الدروس عن المريدين يقرأون القرآن ، ويتعلّمون التجويد والنحو والصرف والفقه والفرائض والحديث والتفسير والحساب. وأمّا زوايا بيروت فكانت تعدّ بالعشرات ، وكانت متواضعة ومتشابهة في قيامها على قبّة واحدة ، وفي ما يلي أشهرها نقلا عن شفيق طبارة ، في" أوراق لبنانيّة" ١ : ٤٩٣.

زاوية المغاربة : وكانت جنوبي جامع السرايا ، عمّرها أحد أتقياء المغاربة وقد هدمتها بلدية بيروت في الحرب العالمية الأولى لتوسيع الطريق ، وكان مشايخ أسر بيروت المتحدّرة من المغرب ، وهي عائلات : المجذوب ، الهبري ، طبّارة ، فتح الله الغندور ، القصّار ، شاكر ، الداعوق ، التنّير ، البربير ، منيمنة ، جلّول ، الصغير ، العريسي ، ادريس ، الأنسي ، الكوش ، فتّوح ، زنتوت ، خرما ، ديّه ، العريس ، سوبره ، عيتاني ، أبو النصر اليافي ، سنّو ، حمّود ، كانوا يواظبون على عقد اجتماعاتهم فيها لتلاوة الأوراد وإقامة الأذكار ، ومنهم الحاج علي الهبري والد الحاج محمد الهبري ، وهو الجد الأوّل لأسرة الهبري المعروفة في بيروت ، وكان من الأئمّة الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، اهتمّ في عصره بنشر محاسن الأخلاق وظفر بالسمعة الطيبة وبعد الصيت. شفيق طباره ، أوراق لبنانيّة ١ : ٤٩٣.

زاوية الأوزاعي : كانت في مدخل سوق الطويلة وقد تهدّمت ، وقام مكانها مخزن خصّص ريعه للأوقاف الإسلامية ، وفي أعلاه حجرة أعدّت للصلاة ، عرفت بزاوية الأوزاعي ، وكان لها أوقاف كثيرة لعبت بها أيدي العابثين على تطاول الزمن ... وذكر صالح بن يحيى في" تاريخ بيروت" أنّه كان بجوارها سبيل أنشئ سنة ٩٣٥ ه‍ / ١٥٢٩ م. تذكارا للإمام. وهي تنسب للإمام عبد الرحمن بن عمرو المكنّى بالأوزاعي نسبة إلى الأوزاع وهو بطن من

٥٨

همدان ، والمعروف بإمام أهل الشام ، والمولود في بعلبك سنة ٨٨ ه‍ / ٧٠٧ م. وكان في زمانه مفتي أهل هذه الديار ومحدّثهم وراية ذوي العقل فيهم. توفّي في بيروت سنة ١٥٧ ه‍ / ٧٧٤ م. في آخر خلافة أبي جعفر المنصور وهو ابن سبعين سنة ، ودفن في جنوب بيروت الغربي في المحلّة التي تعرف اليوم بمحلة الأوزاعي ، وكان اسمها قديما قرية" حنتوس" ، وله هناك قبر يزار ويتبرّك به. أمّا الزاوية فقد هدمت مع الأسواق.

زاوية الدركه أو الدركاه : كانت قرب باب الدركه أو الدركاه ، في الطرف الشرقي من شارع المعرض تجاه التياتر والكبير ، وقد اندثرت معالمها باندثار باب المدينة.

زاوية القصّار : كانت قائمة في سوق البزركان ، تجاه الباب الغربي للجامع العمري الكبير. زارها الشيخ عبد الغني النابلسي (١٦٤٠ ـ ١٧٣٠) الذي زار بيروت في القرن الثامن عشر ، وقال عن هذه الزاوية في مخطوطة كتبها إنّها كانت نيّرة مرتفعة البنيان ، يجتمع فيها الحفّاظ ما بين العشاءين يتدارسون بها القرآن ، وكان شيخها يومئذ الحاج مصطفى القصّار الذي أضفى عليه النابلسي في كتاباته حلّل الثناء ، وهو أحد جدود آل القصّار المعروفين في بيروت.

زاوية المجذوب : كانت قائمة في مكان دار الكتب الوطنية. أنشأها في أواخر القرن العاشر للهجرة الشيخ محمّد المجذوب ، وهو الجد الأعلى لآل المجذوب في بيروت. وكان كثير العبادة والزهد ، وعالما تقيّا وصوفيّا كبيرا. وقد هدّمتها البلدية في ما هدّمته من المدينة القديمة سنة ١٩٢٠. وتوارث آل المجذوب إمامة هذه الزاوية في القرن العاشر للهجرة كابرا عن كابر ، مدة ثلاثماية سنة إلى أن تولّى إمامتها مشايخ آل الرفاعي مدة خمسين سنة ، وكان

٥٩

هؤلاء يقيمون فيها الأذكار على الطريقة الرفاعيّة ، ثمّ عادت لآل المجذوب إلى زمن الإحتلال سنة ١٩٢٠.

زاوية الراعي : كانت في شارع فخر الدين ، وفيها درس الشيخ حسن الراعي المغربي وتنسب إليه. وقد تهدّمت في الحرب العالمية الأولى. وكان رتاج الباب بلاطة كتب عليها : زاوية الراعي.

زاوية الحمراء أو زاوية إبن الحمراء : كانت قائمة غربي الجامع العمري الكبير. وفيها ضريح الشيخ محمد الحمراء وهو أحد أمراء بني الحمراء الذين درّسوا فيها. وبنو الحمراء قوم من عرب البقاع كانوا يسكنون بيروت قبل سنة ٥٣٩ م. ومنهم المؤرّخ صالح بن يحيى صاحب كتاب" تاريخ بيروت". وقد ذكر النابلسي هذه الزاوية بقوله إنّ فيها حفّاظ وهي متسعة ، وبها إيوان فيه محراب كبير ، وفيها بركة ماء بجانبها بئر.

زاوية الشهداء : كانت بجوار محلّات نجّار التي في أوّل شارع المعرض.

جلس فيها الشيخ محيي الدين عفرة ثمّ أحالها إلى مدرسة للبنين.

زاوية أبي النصر : كانت لا تزال قائمة قبل هدم الأسواق خلف مقهى القزاز قرب ساحة الشهداء ، عمّرها العالم المرشد الأكبر أبو الوفاء الشيخ عمر أبي النصر اليافي ، وكان من كبار العلماء والمتصوّفين ، وقد حظي باحترام الولاة ، ووهب له السلطان عبد المجيد العثماني قطعة الأرض التي قام عليها سوق أبي النصر الحالي. وبنى فيها صاحبها دارا جميلة من طبقتين ، كان أهل العلم يعقدون حلقات الدراسة والأذكار في الطبقة الأولى منها. وأقام الشيخ عمر في الطبقة الثانية. وقد نزل فيها الأمير عبد القادر الجزائري عند مروره ببيروت في طريقه إلى دمشق سنة ١٨٥٣ م. وكان الشيخ عمر اليافي في

٦٠