موسوعة قرى ومدن لبنان - ج ٦

طوني مفرّج

المعاملتين شمالا حتّى نهر الدامور جنوبا ، وتتّصل من الشرق بقمم لبنان. وكانت مناطق قضاء المتن والشوف الشماليّ خاضعة لإمارة بيروت ويسكنها" مسلمون منشقّون ، تابعو الشيع ذات النظام السرّي ، وكان هؤلاء يتمتّعون بشبه استقلال تام". ويذكر الأب لامنس أنّ فرسان التامبليّة ، أي فرسان الهيكل TEMPLIERS والأسبتاليّة أي فرسان الضيافةHOSPITALIERS كان لهم في لبنان عدد من القرى والمزارع أقطعهم إيّاها سادة" باروت" أي بيروت ، فكانوا يستغلّونها. وإنّ الشهادات والفرمانات الحافظة أسماء هذه الأماكن لمن أثمن الأسانيد لتاريخ لبنان وجغرافيّته في القرون الوسطى. وقد استمرّت هذه الإمارة التي كانت تعتبر" الدرّة الفانية في تاج أورشليم اللاتيني" ١٧٠ سنة وكانت الأسر التي حكمتها فرنسيّة ومن أشهرها ، MONTFORD.BRISEBARRE ,DE GUINES وكانت قريبة أو مصاهرة لأشهر الأسر الفرنسيّة من ذوي الإقطاع كآل LUSIGNAN DE LAROCHE ، وكانت هذه الأسر معروفة بسادة بيروت SIRES DE BARUTH. كما عرف من أمراء بيروت JEAN DIBELIN الذي كان من أشرف ممثّلي فرسان النصارى في الأراضي المقدّسة ، وكان" سيّد إيبلين وآصوف" و" كونت يافا والرامة" ومن قوّاد المملكة اللاتينيّة وحاكم قبرص ، على أنّه عرف بشكل خاص بإسم" أمير باروت الشيخ" إذ كان يفضّل بيروت على سائر إقطاعاته. وكان قد تابع العمل التنظيميّ الذي بدأه أمير بيروت الأوّل FOULQUES DE GUINES الذي ساهم بتصنيف قانون المحكمة اللاتينيّة المعروف ب" قواعد أورشليم"LES ASSISES DE JERUSALEM. ويذكر" راي" أنّ أوّل سيّد على سينيوريّة بيروت كان GAUTI DE BRISEBARE الذي خلفه أخوه GUI. كما يذكرBRAWER أنّ العائلة التي حكمت بيروت في البدء ، كانت عائلةDE GUINES الفلامنديّة التي كانت من أقرباء الملك" بودوان الأوّل" (١١٠٠ ـ ١١١٨). وقد

٢١

أثارت بيروت اهتمام المؤرّخين إذ إنّها كانت من أثرى وأغنى المدن في العهد الصليبيّ. وكانت جاليات من بنادقة وجنويّة قد استقرّت فيها وجعلتها مركزا لعقد الصفقات. وفي مسح قام به الرحّالة اليهودي الأندلسيّ بنيامين التيطلي للسكّان اليهود الموجودين في المناطق في الحقبة الصليبيّة ، أشار إلى وجود حوالي خمسين يهوديّا في بيروت. أمّا سبب وجود اليهود في صيدا وجبيل وبيروت وصور ، فيعود إلى أنّ الصليبيّين ، حسب PRAWER ، قد غيّروا سياستهم تجاه السكّان المحليّين ومنهم اليهود إبتداء من عام ١١١٠ وهو عام سقوط صيدا في أيديهم إذ أحسّوا بحاجة إلى بقاء السكّان المحلّيّين في مدنهم واستمرارهم في نشاطاتهم الإقتصاديّة التي كانوا بأمسّ الحاجة إليها.

وكان الصليبيّون قد أعادوا بناء قلعة بيروت وأبراجها وسورها على النمط الغربيّ بعد السيطرة عليها ، وذلك بهدف تأمين طريق أورشليم ، إذ إنّ بيروت تقع وسط الطريق بين بيزنطية والقدس. وكانت بيروت في أيّام الصليبيّين حصنا وسيعا منيعا يضمّ في قلبه شيئا كثيرا من مدينتي الشرق والغرب ، وقد بلغت أوج عزّها سنة ١١٤٤ ، واتّسع نطاق تجارتها مع الغرب وانتشرت فيها العلوم والصناعات والآداب. وقد تعرّضت بيروت في خلال الحقبة الصليبيّة للزلازل من جديد ، وممّا رواه المؤرّخّون أنّه كان قبالة الشاطئ البيروتيّ جملة جزر صغيرة منتشرة على مقربة من المدينة ، وقد زعزعتها الزلازل التي حدثت مرارا في عهد الصليبيّين ولا سيّما في سنة ١١٥٧ وسنة ١٢٠٣ ، فدكّت صروح المدينة ، وخرّبت جانبا كبيرا من أحيائها ، وغارت جزائرها الجميلة في اليمّ. وقد أورد ذلك أحد مؤرّخي العرب قائلا : إنّ سبع جزر من جزائر الإفرنج غارت بالزلزال. كما روى مؤرّخو

٢٢

الفرنجة أنّه كان لهم دير مبنيّ على جزيرة بقرب المدينة. وفي نعت قديم ذكره" نونس" في العهد الروماني سمّى بيروت المدينة الجميلة الجزائر.

بيروت بيد المماليك

سنة ٦٩٠ ه‍ / ١٢٩١ م. تمكّن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي من الاستيلاء على بيروت في أيّام الملك المملوكي الأشرف خليل إبن الملك منصور قلاون ، فهدّم سورها وقلعتها التي كانت محكمة البناء. ويقول مؤرّخ بيروت التنّوخي صالح بن يحيى : لمّا كان الفرنج مستولين على بيروت كانت جماعة المسلمين قليلة ولا جامع لهم فلمّا قدّر الله بنزعها من يد الفرنج استقرّت كنيستهم جامعا وكانت تعرف عندهم بكنيسة مار يحنا وكان بها صور فطلاها المسلمون بالطين وبقي الطين إلى أيّام الجدّ (أي جدّ صالح) فبيّضه وأزال عنه تلك الصور. وقد علّق الأب شيخو على قوله هذا حاشية جاء فيها : لا يزال مكتوبا عند مدخل الباب الشرقي باليونانيّة ما ترجمته :صوت الربّ على المياه (سفر المزامير ٢٨ : ٣). ويشير المؤرّخون إلى أنّ الأمير سنجر المملوكي ، عند ما سقطت بيروت بيده ، قد استبدّ بأهاليها الذين سلموا من غدره ، ونفى قسما كبيرا منهم ، فهلك معظمهم في المنفى ، كما هدّم الأسوار والقلعة التي كانت محكمة البناء ، وقيل إنّ المدينة قد قلبت بكاملها ظهرا على بطن. وفي العهد المملوكي كانت بيروت تابعة لسنجق دمشق. وبعد جلاء الفرنجة عن المدينة رمّم أمراؤها التنّوخيّون بعض حصونها التي أصابها الخراب ، وكان هؤلاء الأمراء مكلّفين من قبل المماليك المحافظة على ثغرها وسواحلها حتّى نهر الدامور ، فكانوا يصدّون غارات الفرنجة عنها. وكانوا يلجأون إلى حكّام الشام لمعاونتهم على صدّ تلك الهجمات عند الحاجة ، ويستعملون البريد للمراسلات العاديّة ، وقد عزّزوا آليّة الدفاع عن المدينة

٢٣

بأبراج بنوها على طول البقعة الممتدّة من رأس بيروت إلى رؤوس الجبال حتى الشام ، وكانوا يوقدون فيها النيران للإخطار عن الهجمات في الليل ، ويطلقون الحمام الزاجل للغاية نفسها في النهار. أمّا التجارة في هذه الحقبة فكانت زاهرة في المدينة التي أصبحت بعد خراب صور وعكّا وطرابلس أوّل مرفا في بلاد الشام ، ذلك أنّ المماليك عند استيلائهم على السواحل قد خرّبوا مدائنها ليأمنوا شرّ الفرنجة ، ولكنّهم أبقوا على بيروت ، وهي ميناء الشام الحصين ، فعظم بذلك شأنها وأخذت في القرن الخامس عشر المقام الذي كان للإسكندريّة في مصر ، فاصبحت مرفا دمشق والصلة بين تجّار الفرنجة في قبرص ، وتجّار الشرق في الشام. وقد أعاد أمراء الغرب التنّوخيّون بناء أسوارها مرارا. ولمّا استقرّت أقدام المماليك في السواحل عادت العلاقات التجاريّة مع الغرب ، فاستعادت بيروت حيويّتها إذ نشات فيها القنصليّات والمحال التجارية الأجنبيّة ، وانتعشت فيها روح الثقة المتبادلة بين الشرق والغرب ، وازدهرت تجارتها إلى حين ، وعادت حركة الملاحة التجاريّة إلى مينائها العريق ، وكانت أمم الغرب تتسابق لخطب ودّها ، وكان لها جميعها علاقات تجاريّة في الشرق ، فكانت أسواق المدينة رائجة كمعرض جامع لتجارة شرق البحر الأبيض المتوسّط ، وفيها من شعوبه المتنوّعة الخلق الكثير. إلّا أن الميدنة قد تعرّضت للتخريب على يد ملك البندقية في أوائل القرن الثالث عشر ، آخذا بثأر ابنه الذي قتل فيها ، فبعث بقوّة بحريّة حطّت مراكبها قبالة الشاطئ ونزل منها الجنود وأحرقوا المدينة وهدّموا مبانيها وأوقعوا الويل باهاليها على حين غفلة قبل أن ينسحبوا. ثمّ جدّد نائب دمشق الأمير بيدمر بناء سور بيروت حوالي سنة ١٣٩٣. واستمرّ نوّاب الشام يقيمون عليها أمراء جبال الغرب لحماية ثغرها ، يساعدهم في ذلك جنود بعلبك وطرابلس وتركمان كسروان وغيرهم. إلّا أنّه في مستهلّ القرن

٢٤

السادس عشر ، كانت حالة من الفوضى قد دبّت بالبلاد قاطبة في ظلّ ميل نجم دولة المماليك للأفول. فقلّ الأمان ، وزادت رسوم التصدير والاستيراد كما سائر الضرائب ، فقلّت واردات التجارة ، وانحطّت أحوال المدنية.

بيروت في ظلّ الحكم العثماني

لمّا تغلّب السلطان سليم العثماني الأوّل على المماليك في معركة مرج دابق سنة ١٥١٦ ، دالت دولتهم المماليك ، كانت بيروت لا تزال في عهدة أمراء الغرب التنّوخيين ، وإذ دخلت بيروت وسائر مدن الساحل في نطاق الفاتحين الجدد ، أصبح التنّوخيّون عمّالا للباب العالي ، وبقيت بيروت تابعة لنيابة دمشق. وفي بداية العهد العثماني بقيت بيروت على انحطاطها ، وقد تحوّل الإفرنج بتجارتهم عنها ، فتحولت بيروت إلى قرية صغيرة تسودها الفوضى في ظلّ تجاذب حكمها من قبل الأمراء والمشائخ أصحاب الإقطاع ، فكانت بيروت تميل تارة إلى اليمين وطورا إلى اليسار ، فتضمّها إليها المقاطعة الرابحة. وكان الأمير فخر الدين المعني الأوّل ، أحد أمراء الجبل ، قد اكتسب ثقة السلطان سليم عند دخوله الشام ، فجعل له المقام الأوّل بين أترابه ، وبعد وفاته خلفه إبنه الأمير قرقماز فتسلّم بيروت مدّة ، إلى أن سخطت عليه الدولة فطاردته ، وعادت ولاية المدينة إلى التنوخيّين. وكان للأمراء للعسّافيّين حكّام كسروان مقامهم الرفيع في البلاد ، فأقاموا لهم المباني الفاخرة في عاصمتهم غزير ، وفي بيروت وغيرها. وولّي منهم على بيروت الأمير منصور العسّافي سنة ١٥٧٢ ، فبقي نجمه ساطعا إلى أن إرتفع شأن بني سيفا حكّام طرابلس ، فكان لمدينتهم المقام الأوّل ، وبطشوا بالعسّافيّين وسقطت بيروت في حكمهم إلى أن تألّق في لبنان نجم الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي كانت حياته سلسلة انتصارات وجهاد في سبيل إمارته ،

٢٥

فانتزع بيروت من بني سيفا سنة ١٥٩٨ ، إلّا أنّه أعادها لهم في السنة التالية ، وبقيت في يدهم إلى أن حوّل مراد باشا والي الشام العثماني حكمها إلى الأمير علي بن فخر الدين سنة ١٦٠٧ ، ثمّ انتزعها منه" الحافظ" لمّا كان فخر الدين في توسكانا وولّى عليها حسن إبن سيفا ، فبقيت بيده إلى أن عاد فخر الدين من هجرته فاستولى عليها ، واعاد لها شيئا من نضارتها ، وابتنى فيها الأبنية الجميلة ، ووسّع نطاق تجارتها ، وحافظ على سفن الإفرنج فيها ، وسهّل السبل لتجارتهم ، واتخذ من بيروت مع صيدا ودير القمر قاعدة لكرسي إمارته. واتّسع نطاق ملكه ، وخفقت بنوده الظافرة في سماء البقاع ، وفي الجنوب والشمال. فكان لبنان الكبير ، بحدوده ، وأميره ، وقلوب بنيه ، وآمالهم ، وتفانيهم في سبيل وحدتهم القومية ، وكانت بيروت الجميلة ، عاصمة لتلك البلاد المستقلّة يومذاك. وممّا زاد في تقدّم المدينة في تلك الحقبة وازدهار تجارتها ، الأمان الذي خيّم في عهد الأمير ، والمعاهدات التي عقدتها الدول الغربية مع العثمانيّين ، واختراع البخار. كلّ ذلك مهّد السبل للبواخر الأجنبيّة وأباح لها التنقّل في مرافيء الشرق ، والتردّد إلى ميناء بيروت الأمين. ورصّع فخر الدين المدينة بشيء من نور مجده اللامع ، وجدّد بناء البرج الكشّاف بقربها سنة ١٦٢٠ ، ورفع كامل حصونها بمعاونة المهندسين الإفرنج الذين أرسلهم إليه دوق توسكانا. ومن مآثر فخر الدين في بيروت ، تجديده الغابة الجميلة في ظاهرها. وكان عهد هذا الأمير عهد خير وعزّ وفخر لبيروت وسائر أنحاء لبنان. ومع سقوط هذا الأمير الفذّ في يد الدولة العثمانيّة سنة ١٦٣٣ ، سقطت بيروت إلى ما كانت عليع من قبل ، فضمّت إلى صيدا ، وشكلّت معها أيالة واحدة يديرها حاكم من قبل الدولة العثمانيّة ، ثمّ أصبحت الأيالة في طرابلس والمتسلميّة في بيروت وصيدا ، إلى أن جعلت صيدا باشويّة عهد إليها بمراقبة الجبل سنة ١٦٦٠ وسلخت بيروت عنها ، واصبحت في عهدة ولاة عثمانيّين.

٢٦

وفي عهد الإمارة الشهابيّة بدءا من العام ١٦٩٧ ، كان الشهابيّون يتولّون حكم المدينة ، ويدفعون عنها الخراج إلى عمّال الدولة في صيدا. فقد تولّى الأمير بشير الأوّل على المدينة ١٧٠٠ ـ ١٧٠٧ وكانت كقرية مهملة حينذاك ، ثمّ الأمير حيدر الشهابي ١٧٠٧ ـ ١٧٣٠ ، فالأمير ملحم سنة ١٧٤٩ ، وتوطّن أمراء شهابيون بيروت منذ ذلك الحين حتّى عهد الجزار. وقد حكم الأمير يوسف الشهابي من سنة ١٧٧٠ إلى سنة ١٧٨٨ من ظاهر طرابلس إلى ظاهر صيدا ، وكانت بيروت داخلة في حكمه ، وشدّت الدولة أزر هذا الأمير واستنصرته على ظاهر العمر الذي خرج عليها في عكّا ، فانتصر لها الأمير. واستعان العمر بمراكب الروس الذين كانوا في حالة حرب مع الدولة العثمانيّة ، فحاصرت المراكب المدينة وضربتها ، وهدّمت قسما منها ، ثمّ رجعت عنها بجزية. ثمّ اضطرّ الإمير إلى تسليم المدينة للجزار مع حامية من قبل نائب الشام تعاونه على صدّ غارات العدوّ. وكان الجزّار رجلا بشناقيّا هرب من وجه سيّده في مصر فأجاره الأمير سنة ١٧٧١ وكانت له عليه اليد البيضاء ، ولكنّه غدر بالأمير يوم اشتدّ ساعده وسلبه حكم بيروت بعد أن سوّرها وهيّأ آلات الحرب للحصار فيها ، ثم خرج على وليّه الأمير يوسف مستأثرا بالحكم في المدينة ، فاستعان عليه الأمير بظاهر العمر ، وبمراكب الروس التي عاودت حصار المدينة مدة أربعة أشهر ، وضيّقت عليها وقذفتها بستة آلاف قنبلة دفعة واحدة ، هدمت قسما من حصونها ، واصابتها بضرر جسيم. وعادت المدينة لحكم الأمير بعد أن خرج منها الجزّار مرغما. ولكن سرعان ما اشتهر أمر الجزار هذا في الولايات المجاورة ، وصار له شأنه ، فتولّى الحكم على عكّا وصيدا ودمشق ، واستلم مدينة بيروت من جديد سنة ١٧٧١ فحصّنها واخرج الأجانب منها ، وهدّم دور الشهابيّين فيها ، وابتنى بحجارتها الأسوار ، ونصب فيها حامية ، وأقام عليها متسلّما من قبله. وإذ كان

٢٧

الجزّار قد اتّخذ من مدينة عكّا قاعدة لحكمه ، ضحّى بثغر بيروت في سبيلها ، فغدت المدينة في أيّامه بلدة صغيرة لا يتجاوز عدد سكّانها الستّة آلاف نسمة بعد أن تحوّلت التجارة عنها. لمّا تسلّم كرسي إمارة الأمير الشهابي الكبير سنة ١٧٨٨ كانت له مع الجزّار أيّام جفاء وأيّام صفاء ، إلى أن تمكّن الأمير من بسط سلطانه على المدينة ، فانتعشت تجارتها من جديد بعد رجوع ثقة الغرب وتجارته إليها. وبعد موت الجزّار أعاد الأمير توطيد أركان الإمارة وأعاد للبنان الكبير حدوده فساد الأمن في المدينة وحقّقت خطوة واسعة في سبيل الرقي والعمران. وفي سنة ١٨٠٥ هاجمت المدينة مراكب القرصان وأطلقت عليها مدافعها ، فانحدر إليها الأمير برجاله من رؤوس الجبال وأجلى القرصان عنها. ولمّا فتح ابراهيم باشا المصري بلاد الشام ودخل المدن الساحليّة ، أصبحت بيروت في حكمه منذ سنة ١٨٣١ فجعلها باستلام الأمراء الشهابيّين ، ثمّ اقام عليها متسلّما من قبله. وقد عمل المصريّون على توسيع بيروت فهدموا أسوارها وفتحوا فيها الشوارع العديدة. وبهدف توسيع مرفئها ، هدموا قسما من بقايا المواقع الحربية القديمة ، ومنها القصر الكبير الذي بناه فخر الدين ، وقد بلغ عدد سكّانها يومئذ نحو خمسة عشر ألف نسمة. وقد ساد الأمن فيها وانتعشت إلى حين ، حتّى كانت الحركات الثوريّة ضدّ الأمير بشير والحكم المصري التي عرفت بالعاميّات. وفي سنة ١٨٤٠ تحالف معظم الدول مع العثمانيّين ضدّ المصريّين الذين تعصّب الأمير بشير في استمرار ولائه لهم. وقد هاجم الثوّار المدينة وحاصروها ، واخترقوا أسوارها رغم من أنّ مدافع المصريّين كانت تمطرهم القنابل برّا وبحرا. ثمّ اجتمعت مراكب الدول المتّحدة في ميناء المدينة ، وضربت حصونها ثلاثة أيام متوالية ، فهرب المصريّون منها ، ولجأ سكّانها إلى الجبال القريبة ، فانهار حصن بيروت وسقطت أبراج المدينة وتحصيناتها بالكامل ، وانهار معها حكم الأمير بشير ،

٢٨

وبالتالي حكم الإمارة إذ تحوّل نظام لبنان إلى نظام القائمقيّتين بعد فشل بشير الثالث في حكم البلاد.

في نهاية الحقبة العثمانيّة

لمّا استعادت الدولة العثمانيّة بيروت من أيدي المصريّين سنة ١٨٤٠ ، أمرت بنقل مركز الأيالة من صيدا إليها في السنة نفسها. وكانت غاية العثمانيّين من هذا الإجراء تشديد المراقبة على الجبل ، وتحريك الفتن فيه ، تأكيدا على عدم قدرته على إدارة شؤون نفسه. وألحق العثمانيّون ببيروت ما كان من ملحقات صيدا ، فامتدّت أيالتها من فلسطين إلى حدود أيالة حلب من جهة اللاذقية. بنتيجة هذه المكانة الجديدة واتّسع نطاق بيروت ، عظم شأن المدينة التاريخيّة العريقة ، وانتعشت تجارتها من جديد. وبقي الجنود الإنكليز حلفاء العثمانيّين في البلاد زمنا طويلا ، فازدادت بوجودهم الحركة وامتدّت الأبنية إلى خارج السور بسرعة زائدة. وفي تلك الحقبة جعل العثمانيّون سوريا ولاية واحدة قاعدتها دمشق ، فكانت بيروت قائمقاميّة تابعة لها ، ففقدت بذلك شيئا من مكانتها ، ثمّ سمّيت متصرفية ، وألحقت بها صيدا وصور ومرجعيون حتّى سنة ١٨٨٨ حين رقّيت إلى مقام الولاية ، واستقلّت بإدارة شؤونها عن ولاية الشام. وبقيت في هذه المرتبة حتّى نهاية الحقبة العثمانيّة ، فحقّقت في هذه المرحلة منزلة رفيعة في السياسة والإدارة ، إضيفت إلى منزلتها التجاريّة التي كانت تنمو مع ازدياد عدد سكّانها وأسباب الرقيّ والعمران فيها. ولمّا حلّ الفرنسيّون فيها سنة ١٨٦٠ ، جعلوا لهم مركز القيادة فيها ، فتحوّلت إلى محور الحركة العامة في لبنان. ويوم عقد فيها المؤتمر الدولي لتسوية شؤون الجبل سنة ١٨٦٠ ، بدأت بيروت تتحوّل إلى عاصمة البلاد السياسيّة ، إضافة إلى موقعها الموصل بين الشرق والغرب. وسرعان

٢٩

ما وصلتها طرق العربات بالجبل اللبنانيّ في عهد المتصرفيّة ، ومدّ الخطّ الحديديّ سنة ١٨٩٥ فعزّز اتّصالها بالداخل اللبنانيّ. وفي هذه الحقبة وسّع مرفأ بيروت فامّته المراكب الكبرى. وأسّست في المدينة الشركات الأجنبية برؤوس أموالها. وفي سنة ١٨٧٥ جرّت إليها شركة خاصّة مياه الشفة من مغارة جعيتا ، وأنيرت بالكهرباء ، فاكتملت فيها أسباب النموّ كافّة خاصّة بعد أن طلع فيها عدد ملحوظ من الخانات والفنادق والأسواق ، فغدت مستودعا للتمدّن الشرقيّ والغربيّ في آن. وبدأ يتجدّد عهد" بيروت السعيدة" كما في العصر الرومانيّ. فانصرفت عن السيف إلى القلم. وكانت النهضة العلمية الأدبيّة ، إذ انتقلت إليها المطابع من البلدات الجبليّة والمدن الساحليّة الأخرى ، وانتشرت فيها الصحافة ، واشتهرت فيها المعاهد العلميّة الكبرى التي نبغ فيها العلماء والأعلام الذين نفحوا الشرق والغرب بمؤلّفاتهم فكانوا أهل النهضة العربيّة من دون منازع ، وجلّ هؤلاء الأعلام من أبناء الجبل الذين إحتضنتهم بيروت ، ومن أبرزهم : الشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم ، والمعلّم بطرس البستاني وابنه سليم ، والفقيه العلامة الشيخ مصطفى محمّد الأسير ، وسواهم كثير. ولم تقتصر هذه النهضة على الفرد ، بل تجاوزته إلى المجموع ، حتى أصبحت بيروت في أواخر القرن التاسع عشر مدرسة جامعة لشتات العلوم والآداب ، وانتشرت شهرة معاهدها العلميّة في البلاد ، ونقلت الإرساليّات صروحها من القرى والبلدات الجبليّة إلى قلب بيروت ، واجتمع إليها الطلّاب من كل حدب وصوب. ومن المعاهد العالية التي إشتهرت فيها خلال تلك الحقبة : المدرسة الكبرى للمعلّم بطرس البستاني ، والمدرسة البطريركيّة ، ومدرسة الحكمة ، والكليّة الأميركيّة ، وكليّة الآباء اليسوعيّين التي جدّد فرع الحقوق فيها عهد مدرسة الفقه الشهيرة في العهد الرومانيّ. وهكذا فقد ازدهرت بيروت بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بشكل

٣٠

لم يسبق له مثيل ، فغدت ليس فقط بوّابة لبنان الحضاريّة ، بل بوّابة الشرق الأوسط برمّته. وغدت تجارتها في هذه الحقبة من أوسع تجارات حوض البحر الأبيض المتوسّط. وقد بهرت محاسن بيروت العاهل الألمانيّ غليوم عند مروره فيها ، فلقّبها بالدرّة اللّامعة في تاج عثمان ، وقال فيها بعض الرحّالة الأجانب : " إنّها من المدن الخالدة التي لا تموت". على أن بيروت قد عانت وتألّمت كثيرا بما أصابها من سهام الحرب الكونية الأولى بدءا من العام ١٩١٤ ، ومآسيها التي أذلّت أبناء الجبل كما أبناءها ، وأوصدت في وجوههم أبواب البرّ والبحر ، فكانت أسواقها معرضا لجثث ضحايا الجوع والوباء ، ونصبت فيها أعواد المشانق لشهداء الوطن ، وهدمت جملة من مبانيها وأسواقها ، وتوقفت حركة التجارة فيها. وزحف الجراد على مزروعات البلاد فاتلفها ، وارتفعت أثمان المأكولات وأخذ الجوع يفتك بالفقراء. وختمت ويلات تلك الحرب في أيلول سنة ١٩١٨ بزلزال خفيف هزّ المدينة والبلاد. ثم جاءها صنّين بحلّة من ثلجه الناصع ، فاكتسته المدينة ، إيذانا بحلول الفرج.

بيروت عاصمة لبنان

في أوّل أيلول سنة ١٩٢٠ أعلن الجنرال غورو المفوض السامي في لبنان وسوريا ، باسم دولته فرنسا والحلفاء ، إستقلال لبنان الكبير ، تحت الإنتداب الفرنسي ، وسمّيت بيروت عاصمة له ، فعادت إلى المرتبة التي كانت لها في عهد فخر الدين ، وأصبحت بدوائرها واشغالها محور الحركة اللبنانيّة. وبعد إنتهاء الإنتداب واستقلال لبنان ، ثبّتت بيروت عاصمة أبديّة للدولة اللبنانيّة. ومنذ ذلك التاريخ ، راحت بيروت تستقطب لبنان ، وقد غدا النزوح إليها طريقا لا بدّ لكلّ طالب علم وعمل وتحقيق طموح من أن يسلكه ، في ظلّ

٣١

حكم إداريّ مركزيّ ، لا حياة ترجى فيه خارج بيروت. وأخذت بيروت تتّسع انطلاقا من وسطها في كلّ الاتّجاهات ، ويلاقيها توسّع ضواحيها باتّجاهها حتّى تلاقيا ، فغدت بيروت أكبر مدن لبنان من دون منازع.

ألقاب بيروت

لم نجد في تواريخ المدن اللبنانيّة أيّة مدينة أخرى ضاهت بيروت في تعدّد الألقاب التي أطلقت عليها منذ أقدم الأزمنة حتّى العصور الحديثة. فقد أطلق الفينيقيّون على بيروت لقب" المدينة الإلهة" وأحاطوها بكلّ مظاهر العبادة التي كانت شائعة في زمانهم وجعلوا لها معبدا باسم" بعلة بيريت" ، ويذكر الأب موترد اليسوعيّ في مقال له بمجلّة المشرق أنّ هذا المعبد كان يقع حيث تقوم اليوم كاتدرائيّة الأرمن المقابلة للسراي الكبير من الناحية الجنوبيّة ، وقد عثر في أرض المكان على قطع نقديّة فيها صورة الهيكل البيروتي ، وهي ترجع إلى الأمبراطور السوريّ" أليغابال" أي" إله الجبل" الذي عاش حاكما من سنة ٢١٧ إلى سنة ٢٢٢ م. ؛ وتروي الأساطير القديمة أنّ بيروت عرفت بلقب" بيروت الأبيّة والمجيدة" لأنّها ، كما يقول الأب لويس شيخو : لم تكن تستكين مطلقا لعدوّتها صيدا ، وكان أهلها ذوي شجاعة فائقة وإنفة ، لذلك يسمّيها كتّاب السجلّات بيروت المجيدة والأبيّة. أمّا ننّوس الذي بهرته بيروت فقد أغدق عليها بالألقاب فسمّاها" جذر الحياة" ، و" مرضعة المدن" ، و" كوكب لبنان" ، و" ميناء النعيم" ، و" ذات الجزر الجميلة والخضرة الغنيّة". كما عرفت بفضل معهدها الرومانيّ وأساتذة القانون فيه بلقب" أمّ الشرائع ومرضعتها" و" مرضعة الفقه". كما أرقنا لها ألقابا" مدينة الفقه" ، و" كرسي النّعم" و" مرضع الحياة". أمّا أبرز الألقاب التي أطلقت على بيروت في غضون القرن التاسع عشر فهو لقب" بيروت المربّعة" ، وهو اللقب الذي

٣٢

أطلقه عليها الرحّالة الأجانب الذين كانوا يرتادونها وهم في طريق الحج إلى الديار المقدّسة في فلسطين ، وقد أطلقوا عليها هذا اللقب بسب وجودها داخل سور شبه مربّع الأضلع. وفي سنة ١٩٠٢ صدر عدد" الهلال" وفي صفحاته اسم" بيروت" يزدان بلقبين هما : " زهرة سورية" و" زهرة الشرق". وفي كتاب" كولينيه" عن تاريخ معهد الفقه الرومانيّ ، حظيت بيروت على صفحات هذا الكتاب العلميّ بلقب" مفتاح الشرق" ، وقد رأى هذا الكاتب الفرنسيّ أن الرومان لم يختاروا بيروت لإقامة معهدهم لدراسة قوانينهم إلّا لأهليّتها وأهمّيّتها الجغرافيّة ، هذه الأهمّيّة التي جعلتها جديرة بأن تكون ، في ذلك الحين ، " مدخلا إلى بلاد الشرق كلّه". أمّا أمبراطور ألمانيا غليوم الثاني الذي قدمها زائرا بدعوة من السلطان عبد الحميد الثاني في القرن التاسع عشر فقد أطلق عليها لقب" الدرّة الغالية". كما أطلق عليها في العهد العثماني المتأخّر لقب" درّة تاج آل عثمان".

الآثار القديمة المكتشفة

بات معلوما أنّ وسط بيروت يقوم فوق العديد من الطبقات الأثريّة لأزمنة قديمة متعدّدة ، ليس بدءا من العصور الفينيقيّة وحسب ، بل حتّى منذ العصور الحجريّة وإنسان شرقي البحر الأبيض المتوسّط القديم ، وقد كشفت الدراسات عن معامل أدوات حجريّة ظرّانيّة عند مصبّ نهر بيروت ، والكثير من تلك الأدوات في الطبقات العميقة في وسط بيروت. أمّا بالنسبة للأزمنة اللاحقة.

فيعتبر موقع الكنائس الأثري في وسط بيروت ، الممتد بين كاتدرائيتي القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس ومار جرجس المارونيّة ، الأكبر بين

٣٣

مواقع الحفريات. فإنّ هذا الموقع يتميز باحتوائه على طبقات أثرية عديدة تمثل حقبات تاريخيّة مختلفة ، وهو بمثابة جزء من مدينة كانت مأهولة بكل عناصرها مثل : شبكة طرق ، وشبكة مياه ، ومحال حرفيّة وتجاريّة ومساكن وغيرها. ومن مكتشفات هذا الموقع في خلال الحفريّات التي جرت في نطاق إعادة إعمار العاصمة بعد الحرب الداخليّة ، المنطقة الحرفيّة : وهي تقع جنوب محور دوكومانوس الثانوي ، وتتكوّن من مجموعة غرف يعتقد أنّها كانت معامل حرفيّة ، ولكلّ منها باب أو مدخل خاص يحوي فرنا صناعيّا ، ويتّصل من الأسفل بأنبوب فخارTUERE ، ومن الطرف الآخر بمنفخ للاشعال واستخراج مواد ما. وقد أرسلت نماذج من هذه المواد ، التي وجدت في قلب الأفران إلى المعهد البيئي في جامعة لندن لتحليلها. هذا الأمر سيسدّ نقصا في المعلومات عن الصناعات التي كانت قائمة في بيروت في الحقبة الرومانيّة خصوصا ، والقديمة عموما ، وتمكّن من دراسة إقتصاد بيروت القديمة وعلاقاتها التجارية بالمدن المجاورة. أمّا في الجانب الشمالي فظهرت مجموعة من المحالّ التجاريّة لكلّ منها مدخله الخاص ، ووراءها بيوت ومنازل كانت تتألّف من أكثر من طبقة واحدة ، بدليل وجود قطع الموزاييك فوق أكوام الردم. وفي القسم الجنوبي من طريق دوكومانوس ، عثر على غرفة كبيرة لها مدخل خاصّ وتبلغ مساحتها نحو ٢٢ م ٢ ، وهي تعود إلى القرن السادس ميلادي ، أي الحقبة البيزنطيّة. والغريب أنّ كل ما فيها بقي في مكانه ، فكأنّ شيئا ما أصابها وأطبق عليها وعلى من فيها ، وهذا يذكّر بزلزال بيروت الشهير. جرار الفخّار الكبيرة في جوانب الغرفة وقرب الجدران لا تزال في مكانها ، إضافة إلى هيكلين عظيميين : الأوّل لفتى يبلغ نحو الثانية عشرة ووجهه صوب الأرض محطم. والثاني لرجل أكبر سنّا ، يطوي رجله في صورة غير طبيعيّة. وفي الغرفة أيضا قطع زجاج وبرونز عديدة ، وكمّية

٣٤

من الأسرجة والصحون الفخّاريّة وأجران رخام بعضها مستورد من قبرص وتركيا ، إضافة إلى بعض المكتشفات الكنسيّة ، كذلك ، وجدت في إحدى الجرار الكبيرةAMPHORES بعض العملات والنقود البيزنطيّة. كما اكتشفت شبكة مياه مهمّة من العهد الروماني ، وقد أصبح هناك خريطة لإمتداد الأقنية ، تظهر أنّ المياه كانت تصل إلى كلّ بيت في المدينة. هذه الشبكة أعيد استعمالها في المرحلة البيزنطيّة والعصور الوسطى. وعثر أيضا على ثلاث خزّانات كبيرة للمياه مصنوعة ومحفوظة في شكل جيد ، وجدرانها ضخمة وملساء ، وتفصل أمتار عدّة بين الواحد والآخر ، وكلها تعود إلى الحقبة الهلنستيّة. كذلك وجدت طبقة يعتقد أنّها تعود إلى القرن الثاني عشر ، وتتمثّل في صحون ملوّنة. ومن جهة ثانية ظهرت جدران ضخمة قد تكون عائدة إلى مبان مهمّة وفخمة ، على طول الجانب الشرقي من الستوا (كلمة يونانيّة تعني الرواق المسقوف ومنها كلمة ، STOICISME أي الفلسفة الرواقية). هذه الجدران تقع على خطّ مواز لمحور الكاردو ، وكانت مخصّصة للمشاة فقط. وتضاف إلى هذه المكتشفات قطع نقديّة من الحقبات الهلنستية والرومانيّة والبيزنطيّة ، وصولا إلى العباسيّة ، كلّها من الذهب الخالص ، وتحمل شعار النسر. ووجد سبعمئة قطعة كسر من تماثيل صغيرة لآلهة الخصب عشتروت ، تعود إلى المرحلة الهلنستية". وتختصر صاغية أهمية هذا الموقع باحتوائه على حقبات تاريخية مختلفة ، تدل عليها المكتشفات وتعدّد أساليب العمارة. وتعطي موجوداته أيضا معلومات وشروحا عن الحياة اليوميّة والإقتصاد القديم وشبكات المياه وكل ما يمكن معرفته عن المدن القديمة. وقد توصّل المشرفون على التنقيب إلى أدلّة كافية لترميم خط الكاردو ، ليس تماما كما كان ، بل في شكل تقريبيّ ـ إجمالي عنه. وفي كلّ أعمال الترميم ، يستعين العاملون بمهندسين لبنانيّين ، أمّا في بعض القضايا العلميّة فيتعاونون مع

٣٥

بعض الخبراء الأجانب ذوي الشهرة العالميّة مثل الدكتور جون هايز ، الخبير الأوّل في العالم في شؤون الفخار. وفي الجهة المقابلة من ساحة الشهداء ، قرب مبنى الأوبرا ، عثر الخبير الهولندي هانز كورتر ، الذي يواكب أعمل البنى التحتية ، على فيلّا تعود إلى العهد الروماني ـ البيزنطي ، تتألّف من غرفتين تغطّي أرضهما موزاييك عليها كتابات ، وباحة داخليّة. ووجد فيها أيضا ثلاث حمّامات خاصّة ، إضافة إلى عدد من أفران الفخّار تعود إلى القرن الثالث عشر. وفي منطقة القنطاري اكتشف كورتر ثلاث مدافن محفورة في الصخر تحتوي على نواويس فخّاريّة. وتدرس الاختصاصيّة بربارة ستيوارت العظام الموجودة فيها ، لتحديد تاريخها وهويتها. وكان في منتصف تمّوز ١٩٩٤ قد هدم مبنى" بنكا دي روما" في ساحة النجمة لإنشاء مبنى آخر جديد مكانه يخصّص للجان النيابيّة ومكاتب النوّاب ، وقد أدّت أعمال الهدم وحفر الأساسات إلى ظهور معالم أثريّة ضخمة وبالغة الأهميّة ، فتمّ الإتّفاق إثر ذلك بين الدولة اللبنانيّة والأونيسكو على تفكيكها وإعادة تركيبها في المكان عينه بعد الإنتهاء من تشييد المبنى. وبما أنّ قوام المبنى الجديد سبع طبقات فوق الأرض وست طبقات تحتها ، فقد تقرّر تخصيص الطبقة الثالثة تحت الأرض لتكون الصالة التي سيعاد تركيب قناطر" بنكا دي روما" الأثريّة والآثار الأخرى المكتشفة فيها. أمّا هذه الآثار فهي كناية عن جدار طوله ثلاثون مترا بارتفاع ثلاثة أمتار ، تزيّن واجهته ثماني قناطر ، أربع من الحجر الملبّس بالرخام تحوطها اثنتان رخاميّتان من كلّ جانب ، وفي الوسط مشكاةNICHE. كلّ هذه الآثار وجدت محفوظة في حالة جيّدة ، وهي مزخرفة بنقوش هندسيّة زهريّة. وتدلّ الفخامة الهندسيّة وغنى المواد الرخاميّة المستعملة وجمال الزخرفة على أهميّة هذا المعلم ، الذي يعتقد الخبراء أنّه يشكّل الحائط الجنوبي لفوروم" بيريت" الروماني ، علما أنّه

٣٦

يعتبر ، إضافة إلى المعالم الأثريّة الأخرى ، لا سيّما حجر الأمغولوس من الغارانيت الأحمر الذي كان بمثابة المذبح في دور العبادة ، من أجمل المكتشفات وأبرزها التي ظهرت نتيجة الحفريّات في بيروت سنة ١٩٩٣. وتمكن أهميّة هذه المعالم في وجودها ضمن منطقة أثريّة حسّاسة وغنيّة جدّا بالآثار ، نظرا إلى موقعها بين الحمّامات الرومانيّة غرب ساحة النجمة ومعبد" أبولو" عند مبنى اللعازاريّة. على صعيد آخر كشفت حفريّات الورشة الأثريّة تحت سوق سرسق قديما ، ضمن مثلّث سينما" أوبرا" ـ الجامع العمري الكبير ـ كنيسة مار جرجس ، مبنيين ضخمين يعتقد أنّ أحدهما كان معبدا فخما فيكون بالتالي المعبد الأثري الأوّل الذي يظهر في بيروت. ويتميّز المعبدان بالعناصر المعماريّة الفريدة التي تجعل هندستهما مختلفة عن هندسة البيوت العاديّة. ولو حظ وجود صالة كبيرة في أحد المبنيين كشف قسم من أرضها المكسوّة بالرخام بطول ١٦ م. وعرض ١٠ أمتار جنوب شرق الموقع. وظهرت في الجهة الشرقيّة من الصالة ثلاث غرف متتالية أرضها مكسوّة بالرخام أيضا. لهذه المكتشفات أهميّة تاريخيّة كبرى إذ تشكّل الوسط الروماني الممتد من الحمّامات الرومانيّة قرب السرايا حتّى ساحة البرج ، وكانت تقوم على جانبيه هياكل ومبان ضخمة. لذا توقّع الخبراء الحصول على معلومات وحقائق جديدة عن المنطقة بدليل ظهور أقنية لجرّ المياه تحوط الغرف المكتشفة. وثمّة اعتقاد أنّ المبنيين كانا يستخدمان لممارسة طقوس دينيّة. ويقول خبير الآثار الهولّندي المشرف على أعمال التنقيب إنّه لم يعثر بعد على مذبح أو أعمدة تؤكّد وجود معبد في المكان المذكور. وقد علمنا من مصادر مباشرة أنّه في خلال أعمال الحفر في منطقة القنطاري قرب برج المرّ لإجراء إمدادات بنيويّة تحتيّة ظهر عدد هائل من النواويس الرومانيّة المرصّعة البالغة الأهميّة. ولمّا بوشرت أعمال التنقيب بين مبنى الماليّة

٣٧

والريفولي سابقا ، لإقامة مبنى" التعاونيّة الصحفيّة" لجريدتي" النهار" و" الأوريان لو جور" ، كان من غريب المصادفات أن تكون أولى المكتشفات في هذا العقار الذي تملّكته" النهار" ديكا من البرونز على رأس دبّوس صغير يعود إلى الحقبة البيزنطيّة. ومعلوم أنّ الديك هو شعار" النهّار". وأوردت رئيسة البعثة المنقّبة د. ليلى بدر أنه قام في هذا الموقع مبنى بيزنطي يعود إلى القرنين السادس والسابع ، كان يقطع الموقع من الشرق إلى الغرب ، ويتألّف من ثماني غرف ، تغطّي أرضيّته مجموعة من ١١ قطعة فسيفساء ذات رسوم مختلفة وأشكال هندسيّة عديدة وألوان متنوّعة ، مصنوعة من حصى كبيرة وصغيرة. ومن بين الفسيفساءات ما يمثّل رسوما مسيحيّة تشير إليها مربّعات تحوي دوائر وصلبان. وعثر أيضا على بئر بعمق عشرة أمتار لا تزال توجد فيها مياه ، مصنوعة من حجر رملي مقصوص ليشكّل دوائر ، قيل إنّها تعود إلى الحقبة عينها ، ويحتمل أن تكون موجودة قبل الفسيفساءات. إلى جانب هذا عثر على مبنى آخر بمثابة مركز صناعي تغطّي أرضه طبقة من الكلس والجصّ البحري ، ويحوي ثمانية أفران ضخمة تولّد حرارة عالية جدّا ، ولها أنابيب للتهوئة ، وأرضيّات من أسطوانات فخّاريّة شبيهة بالإيبوكوست التي كانت تستعمل في الحمّامات الرومانيّة. وفي المكان عينه أيضا وجدت أربع مطاحن للقمح من حجر البازالت. وخلف هذا المركز الصناعي ظهر نظام مديني متكامل يضمّ أقنية لجرّ المياه تمرّ تحت الموزاييك ، ومجاري فرعيّة تصبّ في مجرى أساسيّ كبير ، يمرّ تحت طريق مرصوفة بالبلاط الكبير ، ويعتبر هذا النظام بمثابة البنى التحتيّة في الحقبة البيزنطيّة. كما وجدت ، وعلى امتداد الحفريّة ، كميّة من القطع النقديّة ، منها قطعة من الذهب في حال جيّدة تمثّل الأمبراطور أنستازيوس الأوّل الذي حكم من ١١ نيسان ٤٩١ إلى أوّل تمّوز ٥١٨ ، إضافة إلى قطع أثريّة مختلفة

٣٨

منها أسرجة فخّاريّة وأوان برونزيّة تعود في معظمها إلى العهود البيزنطيّة ، إضافة إلى خاتم من الذّهب عليه حجر محفور ورأس تمثال يعتقد أنّه لفيلسوف يوناني. ووجدت في حفرة تعود إلى العصر الوسيط قطعة من الرخام عليها كتابة هير وغليفيّة فرعونيّة ، وأشارت رئيسة البعثة إلى أنّ مساحة الموقع تبلغ ١٩٧٥ م ٢ ، وكان قد تمّ التنقيب في ٨٣٣ م ٢ من أصلها. من جهة أخرى رفعت" اللجنة العلميّة الدوليّة" ثلاثة تقارير إلى الحكومة اللبنانيّة ضمّنتها توصيات في شأن المواقع الأثريّة في وسط بيروت التجاري ، أكّدت فيها ضرورة الحفاظ على موقع" التلّ القديم" الممتدّ من الصيفي إلى الريفولي ، في مكانه. وفي أحد التقارير اقترحت اللجنة تصوّرا واضحا لطريقة دمج آثار هذا الموقع في إطار المخطّط التوجيهي لمدينة بيروت ، وإنشاء طريق للمشاة محاذية لقاعدة السور الفينيقي ، وإيجاد معدّات ثقافيّة وتجاريّة. وبالفعل تجاوبت الحكومة اللبنانيّة مع التوصيات وأصدرت وزارة الثقافة القرار رقم ١٠ تاريخ ١١ نيسان ١٩٩٦ قضى بإدخال الموقع الأثري المكتشف في وسط العاصمة ، والمعروف بمنطقة التلّ القديم ، في لائحة الجرد العام للأبنية الأثريّة. وعلى أثر ذلك تقدّمت" المديريّة العامّة للآثار" بمشروع إقامة جسر يرتكز على دعائم ، وإنشاء طريق مشاة تحتها ضمن مشروع سياحي أثري متكامل ، يمكّن السيّاح والزائرين من النظر إلى السور الفينيقي من أسفل إلى أعلى. أمّا سوليدير فتنوي إقامة حائط دعم للطريق بعلو عشرة أمتار ، الأمر الذي سبّب خلافا بين المديريّة وشركة سوليدير ، علما بأنّ الأمر لم يحسم بعد ، وأعمال إنشاء الحائط مستمرة من دون انتظار صدور القرار. وفي شباط ١٩٩٧ تمّ العثور على حجر الزاوية الجنوبيّة ـ الشرقيّة لمبنى البازيليك الروماني في العقار ١١٤٥ ، في شارع الأحدب الفريب من ساحة النجمة. وفي آب ١٩٩٨ تمّ العثور على حجر الجهة الشماليّة ـ الشرقيّة منه ،

٣٩

إضافة إلى مكتشفات أخرى هي : ١) كشف مساحة ٢٠٠ م ٢ من البازيليك ، وهو مبنى روماني عام وضخم لحظه خبير الآثار الفرنسي" جان لوفريه" في المخطّط الذي وضعه في منتصف الأربعينات ل" بيريت" الرومانيّة. وقد ظهر حجر الزاوية الشماليّة ـ الشرقيّة من المبنى ، وهو قاعدة كبيرة من الرخام على شكل قلب مع عمودها ، ويفصل هذه الحجر الجزأين الداخلي والخارجي من البازيليك. وتغطّي قسما من أرض الداخل فسيفساء بطول عشرة أمتار وعرض حوالى متر ، ذات رسوم هندسيّة وورديّة. أمّا القسم الخارجي فلا تزال اجزاء منه مكسوّة بالرخام. كما عثر على أساس قاعدة عمود ثانية باقية من صف أعمدة كانت تحوط البازيليك. ٢) مبنى ضخم لم تحدّد هويّته ، ظهر في الجهة الشماليّة من الموقع ، في فنائه بهو مغطّى بالرخام ، وعند المدخل عتبة ضخمة من الحجر يبلغ عرضها ستّة أمتار ونصف المتر ، تتّجه نحو خطّ" كاردو مكسيموس". وهذا دليل على أنّ المبنى من المباني الأساسيّة والمهمّة لأنّ مدخله يقوم من ناحية طريق رئيسيّة ، وله امتدادات تحت الطريق في اتّجاه الشمال. ٣) جزء من طريق" كاردو مكسيموس" بطول ٢٢ مترا ونصف المتر ظهر في الناحية الشرقيّة من الموقع ، وهو يعبره من الشمال إلى الجنوب. هذه الطريق تشكّل أحد المحورين الرئيسيّين اللذين كانت تقوم عليهما هندسة المدن الرومانيّة آنذاك وتشاد على جانبيهما المباني الرئيسيّة والعامّة المهمّة : " كاردو مكسيموس" المتّجهة من الشمال إلى الجنوب ، و" دوكو مانوس" المتّجه من الشرق إلى الغرب. وظهرت في الموقع عينه معالم أثريّة أخرى ، وجد بعضها تحت المباني الرومانيّة ، ويعود إلى عصور أقدم ، أي إلى الحقبتين الهلّنستيّة والفينيقيّة الفارسيّة ، فيما يعود بعضها الآخر إلى حقب أحدث مثل العصر البيزنطي والعصور الوسطى ، إضافة إلى مجاري وخزّان مياه من العهد العثماني. خبراء الآثار أكّدوا على أهميّة هذه

٤٠