القرآن في الاسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

القرآن في الاسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المترجم: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: سازمان تبليغات اسلامى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٨

مثل بقية ما في الكون ، له هدف خاص يضمن سعادته وقد توفرت فيه الوسائل للوصول اليه.

وعليه فخلقة الإنسان ـ بل خلقة الكون الذي ليس الإنسان الا جزءاً منه ـ تسوقه الى السعادة الحقيقية ، وهي توحي اليه اهم واحسن واثبت القوانين التي تضمن سعادته.

يقول الله تعالى : ( ربنا الذي اعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) (١).

ويقول : ( الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ) (٢).

ويقول : ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (٣).

ويقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (٤).

ويقول : ( ان الدين عند الله الإسلام ) (٥).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة طه : ٥٠.

(٢) سورة الاعلى : ٢ ـ ٣.

(٣) سورة الشمس : ٧ ـ ١٠.

(٤) سورة الروم : ٣٠.

(٥) سورة آل عمران : ١٩.

٢١

ويقول : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) (١).

ومحصل هذه الآيات وآيات اخرى بهذا المضمون لم نذكرها ـ اختصاراً ـ ان الله تعالى يسوق كل واحد من مخلوقاته ـ بما فيهم الإنسان ـ الى الهدف والسعادة الاسمى التي خلقهم لاجلها ، والطريقة الصحيحة للانسان هي التي تدعوه اليه خلقته الخاصة. فيجب ان يتقيد في اعماله بقوانين فردية واجتماعية نابعة من فطرته السليمة ، ولا يتبع مكتوف اليد هواه وعواطفه وما تمليه عليه ميوله وشهواته. ومقتضى الدين الفطري ( الطبيعي ) ان لا يهمل الإنسان الاجهزة المودعة في وجوده ، بل يستعمل كل واحد منها في حدوده وفيما وضع له لتتعادل القوى الكامنة في ذاته ولا تغلب قوة على قوة.

وبالتالي يجب ان يحكم على الإنسان العقل السليم البعيد عن الشوائب ، لا مطاليب النفس النابعة من العواطف المخالفة للعقل ، كما يجب ان يكون الحاكم على المجتمع هو الحق وما هو الصالح له حقيقة ، لا انسان قوي مستبد يتبع هواه وشهواته ، ولا الاكثرية التي تخالف الحق والمصالح العامة.

ونستخلص من البحث الذي مضى نتيجة اخرى ،

ــــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : ٨٥.

٢٢

هي : ان تشريع الاحكام ووضع القوانين راجع الى الله تعالى وحده ، وليس يحق لاحد ان يشرع القوانين ويضع المقررات ويتحكم في الشؤون ، لاننا عرفنا من البحث السابق ان الآداب والقوانين التي تفيد الإنسان في حياته العملية هي المستوحاة من خلقته الطبيعية ، ونعني بها القوانين والآداب التي تدعو اليها العلل والعوامل الداخلية والخارجية الكامنة في خلقته. وهذا يعني ان الله تعالى يريدها ، ومعنى « يريدها » انه عز شأنه اودع في الإنسان العلل والعوامل التي تقتضي تلك القوانين والآداب.

نعم ، الارادة تنقسم الى قسمين : منها ما يجبر على ايجاد الشيء كالحوادث الطبيعية التي تقع كل يوم ، وهي المسماة بـ « الارادة التكوينية » ، ومنها ما يقتضي ايجاد الشيء من طريق الاختيار لا الجبر كالاكل والشرب وامثالهما ، وهي التي تعارفوا على تسميتها بـ « الارادة التشريعية ».

يقول تعالى : ( ان الحكم الا لله ) (١).

القرآن وضع مناهج الحياة للانسان

وبعد وضوح هذه المقدمات يجب ان يعلم : ان القرآن الكريم مع رعايته للمقدمات الثلاث المذكورة ـ وهي ان للانسان هدفاً يجب ان يصل اليه في مسيرة حياته بجهوده

ــــــــــــــــــ

(١) سورة يوسف : ٤٠ ، ٦٧.

٢٣

واعماله ، ولا يمكن الوصول الى هدفه المنشود الا باتباع قوانين وآداب خاصة ، ولا بد من تعلم تلك القوانين والآداب من كتاب الفطرة والخليقة الذي نعني به التعليم الالهي ـ مع رعاية القرآن الكريم هذه المقدمات الثلاث وضع مناهج الحياة للانسان كما يلي :

جعل اساس المنهج على معرفة الله تعالى ، كما جعل الاعتقاد بوحدانيته أول الأصول الدينية ومن طريق معرفة الله دله على الميعاد والاعتقاد بيوم القيامة ، اليوم الذي يجازي فيه المحسن باحسانه والمسيء باساءته ، وجعل المعاد اصلاً ثانياً ثم من طريق الاعتقاد بالمعاد دله على معرفة النبي ، لان الجزاء على الاعمال لا يمكن الا بعد معرفة الطاعة والمعصية وما هو حسن وما هو سيء ، ولا تتأتى هذه المعرفة الا من طريق الوحي والنبوة ـ كما سنفصله فيما بعد ـ وجعل هذا اصلا ثالثاً.

واعتبر القرآن الكريم هذه الاصول الثلاثة ـ الاعتقاد بالتوحيد والنبوة والمعاد ـ اصول الدين الإسلامي.

وبعد هذا بين اصول الاخلاق المرضية والصفات الحسنة التي تناسب الاصول الثلاثة والتي لا بد ان يتحلى بها كل انسان مؤمن ، ثم شرع له القوانين العملية التي تضمن سعادته الحقيقية وتنمي فيه الاخلاق الفاضلة والعوامل التي توصله الى العقائد الحقة والاصول الاولية.

٢٤

وهذا لاننا لا يمكن ان نصدق ان انسانا يتصف بعفة النفس ثم ينهمك في المسائل الجنسية المحرمة ويسرق ويخون الامانة ويختلس في معاملاته ، كما اننا لا يمكن ان نعترف بسخاء شخص يفرط في حب المال وجمعه وادخاره ويمنع حقوق الاخرين او يبخسهم فيها ، وكذلك لا نعتبر رجلا مؤمناً بالله تعالى واليوم الاخر وهو لا يعبد الله ولا يذكره في ايامه ولياليه. فالاخلاق الفاضلة لا تبقى حية في الإنسان الا اذا قورنت بأعمال تناسبها.

ومثل هذه النسبة التي ذكرناها بين الاعمال والاخلاق توجد ايضا بين الاخلاق والعقائد ، فان اي انسان مغمور بالكبر والغرور وحب الذات لا يمكن ان يعتقد بالله تعالى ويخضع لعظمته ، ومن لم يعلم طول حياته معنى الانصاف والمروءة والعطف على الضعفاء لا يدخل في قلبه الايمان بيوم القيامة والحساب والجزاء.

يقول تعالى بصدد ربط العقائد الحقة بالاخلاق المرضية : ( اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) (١).

ويقول تعالى في ربط الاعتقاد بالعمل : ( ثم كان عاقبة الذين اساؤا السوأى ان كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ) (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة فاطر : ١٠.

(٢) سورة الروم : ١٠.

٢٥

ونتيجة القول : ان القرآن الكريم يحتوي على منابع اصول الإسلام الثلاثة التي هي :

١ ـ اصول العقائد. وهي تنقسم الى اصول الدين الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد ، وعقائد متفرعة عنها كاللوح والقلم والقضاء والقدر والملائكة والعرض والكرسي وخلق السماوات والارضين واشباهها.

٢ ـ الاخلاق المرضية.

٣ ـ الاحكام الشرعية والقوانين العملية التي بين القرآن اسسها واوكل بيان تفاصيلها الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل النبي بيان اهل بيته عليهم‌السلام بمنزلة بيانه ، كما يعرف ذلك من حديث الثقلين المتواتر نقله عن السنة والشيعة (١).

القرآن سند النبوة :

يصرح القرآن الكريم في عدة مواضع انه كلام الله المجيد ، اي انه موحى من الله تعالى بعين هذه الالفاظ التي نقرأها ، وقد تلقاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه

ــــــــــــــــــ

(١) راجع كتاب « عبقات الانوار » مجلد حديث الثقلين ، فقد ذكر فيه مئات اسانيد وطرق للعامة والخاصة الى الحديث المذكور.

٢٦

الالفاظ بواسطة الوحي الذي كان يتلقاه من الله عز شأنه.

ولا ثبات انه كلام الله تعالى وليس من صنع الإنسان تحدى القرآن في آيات منه كافة الناس في ان يأتوا ولو بآية من مثله ، وهذا يدل على انه معجز لا يمكن ان يأتي بمثله اي واحد من الناس.

قال تعالى : ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون * فليأتوا بحديث مثله ان كانوا صادقين ) (١).

وقال : ( قل لئن اجتمعت الانس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ) (٢).

وقال : ( ام يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) (٣).

وقال : ( ام يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ) (٤).

وقال : ( وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) (٥).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الطور : ٣٣ ، ٣٤.

(٢) سورة الاسراء : ٨٨.

(٣) سورة هود : ١٣.

(٤) سورة يونس : ٣٨.

(٥) سورة البقرة : ٢٣.

٢٧

وتحدياً لهم بخلو القرآن من الاختلاف قال : ( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (١).

القرآن الكريم الذي يثبت بهذه التحديات انه كلام الله تعالى ، يصرح في كثير من آياته بأن محمداً رسول مرسل ونبي من الله ، بهذا يكون القرآن سنداً للنبوة يدعمها في دعواها.

ومن هنا امر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عض الآيات بأن يستند لاثبات نبوته بشهادة الله عز شأنه له بذلك ، ويعني بها تصريح القرآن بنبوته ، فيقول : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ) (٢).

وفي موضع آخر يزيد على شهادة الله شهادة الملائكة له بذلك ، فيقول : ( لكن الله يشهد بما انزل اليك انزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ) (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٨٢.

(٢) سورة الرعد : ٤٣.

(٣) سورة النساء : ١٦٦.

٢٨

الفصل الثاني

كيف يُعلّم القرآن الكريم

* القرآن كتاب عالمي دائم

* القرآن مستقل في دلالته

* ظاهر القرآن وباطنه

* محكم القرآن ومتشابهه

* التأويل والتنزيل في القرآن

* القرآن والناسخ والمنسوخ

* الجري والانطباق في القرآن

* التفسير وظهوره وتطوره

* نموذج من التفسير بالقرآن

٢٩
٣٠

القرآن كتاب عالمي :

لا يختص القرآن الكريم في موضوعاته بأمة من الامم كالامة العربية مثلاً ، كما لا يختص بطائفة من الطوائف كالمسلمين ، بل يوجه خطابه الى غير المسلمين كما يتكلم مع المسلمين. ودليلنا على هذا ، الخطابات (١) الكثيرة الموجهة في القرآن الى الكفار والمشركين واهل الكتاب واليهود وبني اسرائيل والنصارى .. احتج مع كل طائفة من هذه الطوائف ودعاهم الى معارفه الحقة والتدبر في آياته الكريمة.

القرآن احتج مع كل هذه الطوائف ودعاهم الى الدين من دون ان يخصص الخطاب بالعرب وحدهم ، فقال لعباد الاصنام : ( فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فاخوانكم في الدين ) (٢).

وقال لاهل الكتاب : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا الى

ــــــــــــــــــ

(١) وردت هذه الخطابات والاحتجاجات في آيات كثيرة جداً لا نرانا بحاجة الى سردها هنا.

(٢) سورة التوبة : ١١.

٣١

كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله ) (١).

فاننا نرى ان الله تعالى لم يوجه الخطاب في هذه الآيات الكريمة وما اشبهها بقوله « فان تاب مشركو العرب » او « يا اهل الكتاب من العرب » وامثال ذلك مما يختص بفئة معينة.

نعم في بدء الإسلام ـ حيث لم تنتشر بعد الدعوة الإسلامية ولم تخرج من اطار الجزيرة العربية ـ كانت الخطابات موجهة الى العرب ، اما من السنة السادسة للهجرة حيث انتشرت الدعوة وتجاوزت الجزيرة العربية فلم يبق مجال لتوجيه الخطاب الى أمة خاصة.

بالاضافة الى الآيات السابقة ، فهناك آيات اخرى تدل على عموم الدعوة ، كقوله تعالى : ( واوحي الي هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ ) (٢).

وقوله : ( وما هو الا ذكر للعالمين ) (٣).

وقوله : ( ان هو الا ذكر للعالمين ) (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : ٦٤.

(٢) سورة الانعام : ١٩.

(٣) سورة القلم : ٥٢.

(٤) سورة ص : ٨٧.

٣٢

وقوله : ( انها لاحدى الكبر * نذيراً للبشر ) (١).

ومن الوجهة التاريخية نرى ان كثيراً من عبدة الاصنام واليهود والنصارى لبى دعوة الإسلام كما اسلم ايضا جماعة من قوميات غير عربية كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي واضرابهم.

القرآن كتاب كامل :

القرآن الكريم يحتوي على الغاية الاسمى التي تهدفها الإنسانية ، وهو يدل على تلك الغاية بأتم الدلائل واحسن الشواهد ، وذلك لان الوصول اليها لا يمكن الا بالنظرات الواقعية للكون والعمل بالاصول الاخلاقية والقوانين العملية ، وهذا ما يتولى شرحه القرآن بصورة كاملة حيث يقول : ( يهدي الى الحق والى طريق مستقيم ) (٢).

ويقول في موضع اخر بعد ذكر التوراة والانجيل : ( وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً ) (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة المدثر : ٣٥ ، ٣٦.

(٢) سورة الاحقاف : ٣٠.

(٣) سورة المائدة : ٤٨.

٣٣

وبياناً لاشتماله على حقيقة شرائع الانبياء يقول : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى ) (١).

وفي احتوائه على سائر الاشياء يقول : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (٢).

ومختصر ما في الآيات السابقة : ان القرآن يحتوي على الحقائق المبينة في الكتب السماوية وزيادة ، وفيه كل ما يحتاج اليه الناس في سيرهم التكاملي نحو السعادة المطلوبة ، كانت من الاسس العقائدية او الاصول العملية.

القرآن كتاب دائم :

الفصل السابق يثبت ان القرآن الكريم كتاب دائم ابدي مع مر العصور والازمان ، وذلك لان اي كلام لو كان صحيحا تاماً بصورة مطلقة لا يمكن تحديده بوقت من الاوقات او زمان من الازمنة. والقرآن ينص على تمامية كلامه وكماله ، فيقول : ( انه لقول فصل وما هو بالهزل ) (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الشورى : ١٣.

(٢) سورة النحل : ٨٩.

(٣) سورة الطارق : ١٣ ـ ١٤.

٣٤

وهكذا تكون المعارف الحقة ، حقيقة خالصة وواقع محض ، والاصول الاخلاقية والقوانين العملية التي بينها القرآن العظيم هي نتيجة تلك الحقائق الثابتة ، ولا يتطرق اليها البطلان ولا تزول بمضي الاعوام والقرون ، يقول تعالى : ( وبالحق انزلناه وبالحق نزل ) (١).

ويقول : ( فماذا بعدَ الحقّ إلا الضّلال )(٢).

ويقول : ( وانه لكتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) (٣).

ولا يخفى ان ابحاثا كثيرة كتبت حول احكام القرآن وانها ثابتة دائمة لا تختص بوقت من الاوقات ، الا انها خارجة عن موضوع بحثنا الذي نحاول فيه معرفة مكانة القرآن عند المسلمين كما يدل عليها القرآن نفسه.

القرآن مستقل في دلالته :

القرآن الكريم كلام كسائر ما يتكلم به الناس ، ويدل دلالة واضحة على معانيه المقصودة وما يرومه من بيان المفاهيم

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : ١٠٥.

(٢) سورة يونس : ٣٢.

(٣) سورة فصلت : ٤١ ـ ٤٢.

٣٥

والمعطيات ، وليس فيه خفاء على المستمعين لآياته.

ولم نجد دليلاً على انه يقصد من كلماته غير المعاني التي ندركها من الفاظه وجملة.

اما وضوحه في دلالته على معانيه فلأن اي انسان عارف باللغة العربية بامكانه ان يدرك معنى الآيات الكريمة كما يدرك معنى كل قول عربي.

وبالاضافة الى هذا نجد في كثير من الآيات خطابات الى طوائف خاصة كبني اسرائيل او المؤمنين او الكفار ، وفي آيات منه يخاطب عامة الناس (١) ويحاجهم ويتحداهم ليأتوا بمثله لو كانوا في شك انه من عند الله تعالى. وبديهي انه لا يصح التكلم مع الناس بما لا مفهوم واضح عندهم ، كما لا يصح التحدي بما لا يفهم معناه.

وزيادة على هذا يقول تعالى : ( افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها ) (٢).

ويقول : ( افلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً ) (٣).

ــــــــــــــــــ

(١) أمثال « يا ايها الذين كفروا » و « يا اهل الكتاب » و « يا بني اسرائيل » و « يا ايها الناس ».

(٢) سورة محمد : ٢٤.

(٣) سورة النساء : ٨٢.

٣٦

تدل الآيتان على ضرورة التدبر في القرآن الذي هو بمعنى التفهم ، والتدبر فيه يرفع ما يترائى بالنظرة الاولى من الاختلاف بين الآيات ومن البديهي الواضح ان الآيات لو لم تكن لها دلالة ظاهرة على معانيها لما كان معنى للأمر بالتدبير والتأمل فيها ، كما لم يبق مجال لحل الاختلافات الصورية بين الآيات بواسطة التدبر والتأمل.

* * *

واما ما ذكرنا من انه لا دليل خارجي على نفي حجية ظواهر القرآن ، فلأننا لم نجد هكذا دليل لذلك الا ما ادعاه بعض من اننا ـ في فهم مرادات القرآن ـ يجب ان نرجع الى ما اثر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم او ما روي عن اهل بيته المعصومين عليهم‌السلام.

ولكن هذا ادعاء فارغ لايمكن قبوله لان حجية قول الرسول والائمة عليهم‌السلام يجب ان تفهم من القرآن الكريم ، فكيف يتصور توقف حجية ظواهره على اقوالهم عليهم‌السلام. بل نزيد على هذا ونقول : ان اثبات اصل النبوة يجب ان نتشبث فيه بذيل القرآن الذي هو سند النبوة كما ذكرنا سابقا.

وهذا الذي ذكرناه لا ينافي كون واجب الرسول والائمة عليهم‌السلام بيان جزيئات القوانين وتفاصيل احكام الشريعة

٣٧

التي لم نجدها في ظواهر القرآن ، وان يكونوا مرشدين الى معارف الكتاب الكريم كما يظهر من الآيات التالية :

( وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ) (١).

( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (٢).

( وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله ) (٣).

( هو الذي بعث في الاميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) (٤).

ان الذي يفهم من هذه الآيات هو ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يبين جزئيات وتفاصيل الشريعة وهو المعلم الالهي للقرآن المجيد. ويفهم ايضا مما جاء في حديث الثقلين ان الائمة عليهم‌السلام هم خلفاء الرسول في ذلك.

وهذا لا ينافي ان يدرك مراد القرآن من ظواهر آياته بعض من تتلمذ على المعلمين الحقيقيين وكان له ذوق سليم في فهمه.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة النساء : ٦٤.

(٤) سورة الجمعة : ٢.

٣٨

للقرآن ظاهر وباطن :

يقول الله تعالى في كلامه المجيد : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ) (١).

ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على انها تنهى عن عبادة الاصنام كما جاء في قوله تعالى ( فاجتنبوا الرجس من الاوثان ) (٢) ، ولكن بعد التأمل والتحليل يظهر ان العلة في المنع من عبادة الاصنام هي كونها خضوعا لغير الله تعالى. وهذا لا يختص بعبادة الاصنام ، بل عبر عز شأنه عن اطاعة الشيطان ايضا بالعبادة حيث قال : ( الم اعهد اليكم يا بني آدم ان لا تعبدوا الشيطان ) (٣).

ومن جهة اخرى يتبين انه لا فرق في الطاعة الممقوتة بين ان تكون للغير او للانسان نفسه ، فان إطاعة شهوات النفس ايضا عبادة من دون الله تعالى كما يشير اليه في قوله : ( أفرأيت من اتخذ الهه هواه ) (٤).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٣٦.

(٢) سورة الحج : ٣٠.

(٣) سورة يس : ٦٠.

(٤) سورة الجاثية : ٢٣.

٣٩

وبتحليل ادق نرى انه لا بد من عدم التوجه الى غير الله جل وعلا ، لان التوجه الى غيره معناه الاعتراف باستقلاله والخضوع له ، وهذا هو العبادة والطاعة بعينها ، يقول تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والانس ) الى قوله ( اولئك هم الغافلون ) (١).

عند التدبر في هذه الآيات الكريمة نرى بالنظرة البدائية في قوله ( ولا تشركوا به شيئاً ) انه تعالى ينهي عن عبادة الاصنام ، وعندما نتوسع بعض التوسع نرى النهي عن عبادة غير الله من دون اذنه ، ولو توسعنا اكثر من هذا لنرى النهي عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها ، اما لو ذهبنا الى توسع اكثر فنرى النهي عن الغفلة عن الله والتوجه الى غير اياً ما كان ذلك الغير.

ان هذا التدرج ـ ونعني به ظهور معنى بدائي من الآية ثم ظهور معنى اوسع من الاول وهكذا ـ جار في جميع الآيات الكريمة بلا استثناء.

وبالتأمل في هذا الموضوع يظهر معنى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتب الحديث والتفسير من قوله : « ان للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً الى سبعة ابطن » (٢).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الاعراف : ١٧٩.

(٢) الصافي المقدمة الثامنة ، وسفينة البحار « بطن ».

٤٠