القرآن في الاسلام

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي

القرآن في الاسلام

المؤلف:

آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي


المترجم: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: سازمان تبليغات اسلامى
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٢٨

القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) توجه الخطاب الى الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانهم لم يسلموا لاقواله لو لم يكن هناك شاهد قرآني صريح.

ومن جهة اخرى نرى ان القرآن نفسه يثبت حجية اقوال النبي وتفسيره ، كما ان النبي يثبت حجية اقوال اهل بيته وتفسيرهم.

ونستنتج من هاتين المقدمتين ان في القرآن آيات تفسر الآيات الاخرى ، ومكانة الرسول واهل بيته من القرآن كمرشد معصوم لا يخطأ في تعاليمه وارشاداته ، فما يفسرونه يطابق التفسير الذي يستنتج من ضم الآيات بعضها الى بعض ولا يخالفها في شيء

نتيجة البحث :

النتيجة التي توصلنا اليها في الفصل الماضي هي ان التفسير الواقعي للقرآن هو التفسير الذي ينبع من التدبر في الآيات الكريمة وضم بعضها الى بعض.

وبعبارة اوضح : يمكن ان نسلك في التفسير احدى طرق ثلاث :

٨١

١ ـ تفسير الآية لوحدها بالمقدمات العلمية وغير العلمية التي نملكها.

٢ ـ تفسير الآية بمعونة الاحاديث المأثورة عن المعصومين عليهم‌السلام.

٣ ـ تفسير الآية بالتدبر والدقة فيها وفي غيرها والاستفادة من الاحاديث.

الطريقة الثالثة هي المنهج الذي توصلنا اليه في الفصل الماضي ، وهو المنهج الذي حث عليه النبي واهل بيته عليهم‌السلام فيما اثر عنهم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وانما نزل ليصدق بعضه بعضاً » ، وقال علي عليه‌السلام « ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ».

ومما ذكرنا يتوضح ان هذه الطريقة غير الطريقة المنهية في الحديث النبوي المشهور « من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار » ، لان الطريقة المذكورة تفسير للقرآن بالقرآن لا بالرأي.

والطريقة الأولى من الطرق الثلاث لا يمكن الاعتماد عليها ، وهي في الحقيقة من قبيل التفسير بالراي الذي لا يجوز الا ما وافق منه مع الطريقة الثالثة.

واما الطريقة الثانية فهي التي كان يتبعها علماء التفسير في الصدر الاول وكان العمل عليها عدة قرون ، وهي الطريقة

٨٢

المعمولة حتى الان عند الاخباريين من الشيعة والسنة.

وهذه الطريقة محدودة لا تفي بالحاجات غير المحدودة ، لان ستة الاف وعدة مئات من الآيات التي نقرأها في القرآن الكريم تقابلها مئات الالوف من الاسئلة العلمية وغير العلمية ، فمن اين نجد الاجابة على هذه الاسئلة وكيف التخلص منها؟

هل نرجع فيها الى الرويات والاحاديث؟

ان ما يمكن تسميته بالحديث النبوي في التفسير ، المروي من طريق السنة لا يزيد على مائتين وخمسين حديثاً ، مع العلم ان كثيراً من هذه الاحاديث ضعيفة الاسانيد وبعضها منكرة.

نعم الاحاديث المروية عن اهل البيت عليهم‌السلام من طريق الشيعة تبلغ عدة الاف حديث ، وفيها مقدار كثير من الاحاديث التي يمكن الاعتماد عليها ، الا انها مع هذا لا تكفي للاجابة على الاسئلة غير المحدودة التي نواجهها تجاه الآيات القرآنية الكريمة.

هذا ، بالاضافة الى ان هناك آيات لم يرد فيها حديث اصلاً لا من طريق السنة ولا من طريق الشيعة ، فكيف نصنع بها؟

ففي هذه المشاكل : اما ان نرجع الى الآيات المناسبة لما

٨٣

نروم تفسيره ، وهذا ما تمنع عنه هذه الطريقة الحديثية. واما ان نمتنع عن البحث في الآية بتاتاً ونغض الطرف عن حاجاتنا العلمية التي تدعونا الى البحث.

اذاً ماذا نصنع مع ما تدل عليه الآيات الكريمة التالية الحاثة على البحث والتدبر والتبيين؟

قال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) (١).

وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) (٢).

وقال : ( كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر اولوا الالباب ) (٣).

وقال : ( أفلم يدبروا القول ام جاءهم ما لم يأت آباءهم الاولين ) (٤).

وقد ورد في احاديث صحيحة عن النبي وائمة اهل البيت عليهم‌السلام انهم حثوا على الرجوع الى القرآن

ــــــــــــــــــ

(١) سورة النحل : ٨٩.

(٢) سورة النساء : ٨٢.

(٣) سورة ص : ٣٩.

(٤) سورة المؤمنون : ٦٨.

٨٤

الكريم عند حدوث الفتن وظهور المشاكل (١) ، فماذا نصنع بهذه الاحاديث؟

وقد ثبت ايضا عن طريق العامة في احاديث نبوية وعن طريق الخاصة في روايات متواترة عن النبي وائمة اهل البيت عليهم‌السلام ضرورة عرض الاخبار على كتاب الله تعالى (٢) ، وبموجبها يجب عرضها على القرآن الكريم فما وافقه يؤخذ به وما خالفه يطرح.

من البديهي ان مضمون هذه الاحاديث يصح لو كانت الآيات تدل على مرادها ويكون لمدلولها ـ وهو التفسير ـ اعتبار ، فلو رجعنا لمعرفة محصل مدلول الآية ـ وهو التفسير ـ الى الحديث لم يبق موضع لعرض الحديث على القرآن.

ان هذه الاحاديث التي اشرنا اليها احسن شاهد على ان الآيات القرآنية كبقية ما يتكلم به المتكلمون لها مداليلها ، وهي في نفسها حجة مع غض النظر عن الاحاديث الواردة في التفسير.

قد تبين من البحوث السابقة ان واجب المفسر هو ملاحظة الاحاديث الواردة في التفسير عن النبي وائمة اهل البيت عليهم‌السلام والغور فيها ليعرف طريقتهم ، ثم يفسر

ــــــــــــــــــ

(١) انظر اوائل تفسير العياشي والصافي والبرهان وبحار الانوار.

(٢) بحار الانوار ١ / ١٣٧ ، باب اختلاف الاخبار.

٨٥

القرآن الكريم بالمنهج الذي يستفاد من الكتاب والسنة ويأخذ بالاحاديث التي توافق الكتاب ويطرح ما عداها.

نموذج من تفسير القرآن بالقرآن :

قال الله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) (١).

تكرر مضمون هذه الآية الكريمة في اربعة مواضع من القرآن ، وبحسب هذا المضمون جميع المخلوقات الموجودة في الكون هي من خلق الله تعالى وصنعه.

ويجب ان لا تغرب عنا هذه النكتة ان في مئات من الآيات صدق موضوع العلية والمعلولية ، ونسب فيها فعل كل فاعل اليه ، واعتبرت الافعال الاختيارية من افعال الإنسان نفسه ، وخصت الاثار بالمؤثرات كالاحراق بالنار والنبات الى الارض والمطر الى السماء وغيرها.

والنتيجة ان صانع كل شيء وفاعله ينسب فعله وصنعه اليه ، الا ان مفيض الوجود والموجد الحقيقي للفعل هو الله تعالى ليس غيره.

ومن هنا نعرف التعميم الذي نجده في قوله تعالى ( الذي

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الزمر : ٦٢.

٨٦

أحسن كل شيء خلقه ) (١) ، فلو انضمت هذه الآية الى الآية السابقة لرأينا الجمال والخلقة قرينين ، فكل ما وجد في عالم المخلوقات من خلق كان موصوفاً بالجمال.

ويجب ايضا ان لا تغرب عنا هذه النكتة ان الآيات القرآنية تعترف بالخير مقابل الشر والنفع مقابل الضرر والحسن مقابل السيء والجمال مقابل القبح ، وتعتبر كثيرا من الافعال والاقوال والافكار حسنة او سيئة ، ولكن هذه المساوىء والقبائح والشرور تبدو واضحة اذا ما قيست بما يقابلها ، فوجدوها نسبي وليس بنفسي.

مثلاً الحية والعقرب مؤذيان ، لكن بالنسبة الى الإنسان والحيوانات التي تتألم من سمهما لا بالنسبة الى الحجر والتراب والشيء المر والرائحة الكريهة منفوران ، لكن بالنسبة الى ذائقة الإنسان وشامته لا بالنسبة الى كل الحيوانات. وبعض الاعمال والاقوال تبدو شاذة ، لكن بالنسبة الى البيئة التي يعيش فيها الإنسان لا بالنسبة الى كل البيئات.

نعم لو لم نلاحظ النسبة والقياس وننظر الى الاشياء بنظرة مطلقة نراها في منتهى الجمال ونرى الوجود اخاذا يلفت النظر ولا يمكن وصف حسنه وجماله ، لان الوصف نفسه من الخلق الجميل الذي يحتاج بدوره الى وصف.

ــــــــــــــــــ

(١) سورة السجدة : ٧.

٨٧

والآية المذكورة اعلاه تريد صرف الانظار عن وجوه الجمال والقبح النسبية والقياسية والاعتبارية لتوجهها الى الجمال المطلق وتجهز الافهام لادراك الكلي والعموم الذي هو الاهم.

اذا ما ادركنا النقاط المشروحة في مئات من الآيات القرآنية التي تصف عالم الوجود ـ بكل جزء جزء منه وبمجموعة مجموعة منه وبمختلف انظمته الكلية والجزئية ـ لنرى انه احسن دليل على التوحيد واعظم مرشد الى معرفة الله تعالى وكمال قدرته.

لو تأملنا في الايتين المذكورتين سابقاً وامعنا النظر فيما سبق من الكلام ، نعلم ان هذا الجمال المحير الذي ملأ عالم الوجود كله انما هو لمعة من الجمال الالهي ندركه نحن بواسطة الآيات السماوية والارضية ، وكل جزء من العالم كوة ننظر منها الى القدرة اللامتناهية لنعرف ان ليس لهذه الاجزاء شيء من القدرة الا ما افيض عليها.

ولهذا نرى في آيات قرآنية كثيرة نسبة انواع الجمال والكمال الى الله تعالى ، فتقول : ( هو الحي لا اله الا هو ) (١).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة غافر : ٦٥.

٨٨

و ( ان القوة لله جميعاً ) (١).

و ( فان العزة لله جميعاً ) (٢).

و ( هو العليم القدير ) (٣).

و ( هو السميع البصير ) (٤).

و ( الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى ) (٥).

فبمقتضى هذه الآيات كل جمال وكمال نراه في عالم الوجود هو في الحقيقة من الله تعالى وليس لغيره الا المجاز والعارية.

وتأكيداً لما مضى ذكره يوضح القرآن الكريم بأسلوب آخر ان الجمال والكمال المودع في مخلوقات العالم انما هو محدود متناهي ، وهو عند الله تعالى غير محدود وليس له نهاية ، قال عز من قائل : ( انا كل شيء خلقناه بقدر ) (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة البقرة : ١٦٥.

(٢) سورة النساء : ١٣٩.

(٣) سورة الروم : ٥٤.

(٤) سور الاسراء : ١.

(٥) سورة طه : ٨.

(٦) سورة القمر : ٤٩.

٨٩

وقال : ( وان من شيء الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم ) (١).

عندما يتقبل الإنسان هذه الحقيقة القرآنية يرى نفسه امام الجمال والكمال اللامتناهي ، يحيط به من كل جانب وليس فيه خللاً اصلاً ، ينسى كل جمال وكمال في العالم ، وحتى نفسه التي هي من تلك الآيات ينساها وينجذب الى خالق الجمال والكمال قال تعالى : ( والذين آمنوا اشد حباً لله ) (٢)

عند هذا يسلم العبد ارادته واستقلاله الى الله تعالى كما هو من شؤون الحب والعبودية الخالصة ، فينضوي تحت لواء الحق ويدخل في ولايته ، كما يقول عز وجل ( والله ولي المؤمنين ) (٣) ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور ) (٤).

فيجد حينئذ روحاً اخرى ويحيا حياة جديدة ويشرق في قلبه نور الحقيقة ، فتتفتح له طرق السعادة ليشق مسيرته الكريمة بين المجتمع قال تعالى ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ) (٥) ، وقال : ( اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه ) (٦).

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الحجر : ٢١.

(٢) سورة البقرة : ١٦٥.

(٣) سورة آل عمران : ٦٨.

(٤) سورة البقرة : ٢٥٧.

(٥) سورة الانعام : ١٢٢.

(٦) سورة المجادلة : ٢٢.

٩٠

وفي آية اخرى يزمع تعالى الى كيفية حصول هذا النور فيقول ( يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وأمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ) (١).

وقد فسر الايمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آية اخرى بالتسليم له واتباعه ، فقال ( قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٢).

ووضح الاتباع في آية اخرى ، فقال ( الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم ) (٣).

واوضح من هذا نجد معنى الاتباع في آية اخرى ايضا حيث يقول : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (٤).

فبمقتضى هذه الآية الكريمة البرنامج الكامل الإسلامي هو المتطلبات التي يحتاج اليها من يعيش في الكون ، ونعني

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : ٢٨.

(٢) سورة آل عمران : ٣١.

(٣) سورة الاعراف : ١٥٧.

(٤) سورة الروم : ٣٠.

٩١

بها القوانين والشرائع التي تدل عليها الفطرة الإنسانية ، الحياة غير المعقدة التي يحياها الإنسان المستقيم ، كما يقول تعالى في موضع اخر ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد افلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (١).

القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة الإنسانية السعيدة والحياة الفطرية النزيهة ، وهو بعكس جميع الكتب والمناهج الاخرى يجمع بين البرامج الدينية والبرامج الحياتية ، فله رأيه الخاص في الفرد والمجتمع وله كلمته في كل الشؤون ، ودستوره ينظر الى الحقائق الثابتة ( معرفة الله تعالى ـ النظرة الشاملة الى الكون ) بأعمق النظرات.

ان القرآن يصف اولياء الله تعالى وعباده المخلصين بكثير من النعوت والخواص الصورية والمعنوية التي يتحلون بها نتيجة لايمانهم الخالص ويقينهم الثابت ، ويؤسفنا ان هذا الفصل القصير لا يسع لسردها بصورة مفصلة.

معنى حجية اقوال النبي والائمة :

قد ذكرنا فيما سبق ان القرآن نفسه يثبت حجية

ــــــــــــــــــ

(١) سورة الشمس : ٧ ـ ١٠.

٩٢

اقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة عليهم‌السلام في التفسير.

هذه الحجية واضحة في اقوال النبي والائمة الصريحة والاحاديث قطعية الصدور ، اما الاحاديث غير قطعية الصدور ( المسماة بأخبار الاحاد والتي اختلف المسلمون في حجيتها وعدم حجيتها ) فأمرها يرجع الى المفسر نفسه.

ان السنة يعملون مطلقا بالخبر الواحد الصحيح ، واما الشيعة فالذي ثبت تقريبا عندهم في علم اصول الفقه حجية الخبر الواحد الموثوق الصدور في الاحكام الشرعية ولا يعتبر في غيرها.

ولمزيد التحقيق في الموضوع لا بد من الرجوع الى اصول الفقه.

تنبيه :

على فرض ان يكون « التفسير » بيان محصل مدلول الآية ، تدخل في علم التفسير البحوث التي له تأثير في تفسير الآية. اما البحوث التي لا يكون لها تأثير في معرفة محصل مدلول الآية ـ كبعض البحوث اللغوية والقراءة والبديع وما اشبهها ـ لا تكون هذه البحوث من تفسير القرآن في شيء.

٩٣
٩٤

الفصل الثالث

وحي القرآن الكريم

* المسلمون ووحي القرآن

* كتاب العصر والوحي والنبوة

* رأي القرآن في الوحي والنبوة

* حول الملائكة والشيطان والجن

* الإنسان في مسالك الحياة

* ضرورة القانون لرفع الخلافات

* كيفية وحي القرآن

٩٥
٩٦

المسلمون ووحي القرآن :

تحدث القرآن الكريم عن الوحي ومنزل الوحي اكثر من غيره من الكتب السماوية المقدسة كالتوراة والانجيل ، وحتى نجد فيه آيات تتحدث عن كيفية الوحي نفسه.

ويعتقد عامة المسلمين (١) في وحي القرآن : ان القرآن بلفظه كلام الله تعالى انزله على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة احد الملائكة المقربين.

هذا الملك الوسيط يسمى بـ « جبرائيل » و « الروح الامين » جاء بكلام الله تعالى الى الرسول في فترات مختلفة بلغت ثلاثاً وعشرين سنة. وكان على الرسول ان يتلو الآيات على الناس ويوقفهم على معانيها ويدعوهم الى ما فيها من المعارف الاعتقادية والآداب الاجتماعية والقوانين المدنية والوظائف الفردية.

وقام الرسول بأداء ما كان عليه نصاً بدون ان يتصرف في مواد الدعوة الالهية او يضيف عليها او ينقص منها او يقدم او يؤخر شيئاً من موضعه الذي وضعه الله تعالى فيه.

ــــــــــــــــــ

(١) هذه العقيدة ناشئة مما يفهم من ظواهر الفاظ القرآن الكريم.

٩٧

كتاب العصر والوحي والنبوة :

أما الباحثون وكتاب العصر الذين لهم بحوث حديثة في الاديان والمذاهب ، فيعتقدون في وحي القرآن والنبوة انه :

كان نبي الإسلام نابغة عارفاً بالاوضاع الاجتماعية ، وسعى في خلاص البشرية من مهوى الوحشية والانحطاط الخلقي ورفعها الى اوج المدنية والحرية ، فدعا الناس الى اعتناق آرائه الطاهرة التي تجلت بشكل دين جامع كامل.

يقولون : كان النبي يحمل روحاً نزيهة وهمة عالية ، عاش في بيئة يسودها الظلام وتتحكم فيها القوة والاراجيف والهرج الاجتماعي ، وتتسم بحب الذات والسيطرة غير المشروع على الاموال ، وتتجلى فيها كل مظاهر الوحشية المقيتة.

كان النبي في ألم نفسي دائم من هذه البيئة الفاسدة ، فكان كلما بلغت الالام في نفسه الكريمة مبلغها يأوي الى غار في احدى جبال تهامة ، فيبقى فيه اياماً يخلو الى نفسه ، وكان يتوجه بكل حواسه الى السماء والارض والجبال والبحار والاودية والآجام وما وضعته الطبيعة تحت تصرف البشرية من سائر النعم ، وكان يأسف على الإنسان المنهمك في الغفلة

٩٨

والجهل ، الذي قد ابدل حياته السعيدة الهانئة بحياة نكدة تضاهي حياة الحيوانات الوحشية.

كان النبي الى حوالي اربعين سنة من عمره يدرك تلك المفاسد الاجتماعية ويتألم من جرائها بالالام النفسية ، فلما بلغ الاربعين من عمره وفق الى كشف طريق للاصلاح يمكن بواسطته ابدال تلك الحياة الفاسدة بحياة سعيدة فيها كل معاني الخير ، وذلك الطريق هو « الإسلام » الذي كان يتضمن ارقى الدساتير التي كانت تناسب مزاج ذلك العصر.

كان النبي يفرض ان افكاره الطاهرة هي كلام الهي ووحي سماوي يلقيها الله تعالى في روعه ويتكلم بها معه. كما كان يفرض روحه الخيرة التي تترشح منها هذه الافكار لتستقر في قلبه هي « الروح الامين » و « جبرائيل » والملك الذي ينزل الوحي بواسطته.

وسمى النبي بشكل عام القوى التي تسوق الى الخير وتدل على السعادة بـ « الملائكة » ، كما سمى القوى التي تسوق الى الشر بـ « الشياطين » و « الجن ». وقد سمى ايضا واجبه الذي املاه عليه وجدانه بـ « النبوة » و « الرسالة ».

* * *

الرأي الذي ذكرناه باختصار هو للباحثين المعتقدين بالله تعالى وينظرون الى الدين الإسلامي بنظرة فيها شيء من

٩٩

الانصاف والتقييم. اما الملحدون الذين لا يعتقدون بالله تعالى فانهم يعتبرون النبوة والوحي والتكاليف الالهية والثواب والعقاب والجنة والنار سياسات دينية بحتة ، وهم يذهبون الى ان هذه كلها اكاذيب قيلت لمصالح خاصة ضرورية في حينها.

يقولون : ان الانبياء كانوا مصلحين جاؤا ببرامج اصلاحية في اطار ديني. ونظرا الى ان الناس كانوا في العصور السالفة منهمكين في الجهل والظلمة والخرافات ، وضع لهم الانبياء النظم الدينية في ظل سلسلة من العقائد الخرافية تتمثل في مسائل المبدأ والمعاد.

ماذا يقول القرآن في الموضوع :

تفسير الوحي والنبوة بالشكل الذي بيناه انما هو لاولئك الباحثين الذين اشتغلوا بالعلوم المادية الطبيعية ، فهم يرون ان ما يوجد في الكون لا بد ان يفسر بالتفسير المادي الطبيعي ، وتنتهي جميع الحوادث والاحداث عندهم الى الاسباب الطبيعية البحتة. ومن هنا فسروا التعاليم السماوية بتفاسير اجتماعية تتفق واتجاههم الطبيعي ، ونظروا الى تلك التعاليم كأحداث ظهرت لتفاعلات اجتماعية خاصة.

فهي أذا تشبه الاحداث التي ظهرت على ايدي بعض

١٠٠