النّحو الوافي - ج ١

عبّاس حسن

النّحو الوافي - ج ١

المؤلف:

عبّاس حسن


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار المعارف
المطبعة: مطبعة أحمدي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٧

مقدمة الكتاب ، ودستور تأليفه.

بيان هامّ.

١

الحمد لله على ما أنعم ، والشكر على ما أولى ، والصلاة على أنبيائه ورسله ؛ دعاة الهدى ، ومصابيح الرشاد. وبعد.

فهذا كتاب جديد فى النحو. والنحو ـ كما وصفته من قبل ـ (١) دعامة العلوم العربية ، وقانونها الأعلى ؛ منه تستمد العون ، وتستلهم القصد ، وترجع إليه فى جليل مسائلها ، وفروع تشريعها ؛ ولن تجد علما منها يستقل بنفسه عن النحو. أو يستغنى عن معونته ، أو يسير بغير نوره وهداه.

وهذه العلوم النقلية ـ على عظيم شأنها ـ لا سبيل إلى استخلاص حقائقها ، والنفاذ إلى أسرارها ، بغير هذا العلم الخطير ؛ فهل ندرك كلام الله تعالى ، ونفهم دقائق التفسير ، وأحاديث الرسول عليه السّلام ، وأصول العقائد ، وأدلة الأحكام ، وما يتبع ذلك من مسائل فقهية ، وبحوث شرعية مختلفة قد ترقى بصاحبها إلى مراتب الإمامة ، وتسمو به إلى منازل المجتهدين ـ إلا بإلهام النحو وإرشاده؟ ولأمر ما قالوا : (إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرط فى رتبة الاجتهاد ، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو ، فيعرف به المعانى التى لا سبيل لمعرفتها بغيره. فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه ، لا تتم إلا به (٢) ...) وهذه اللغة التى نتخذها ـ معاشر المستعربين ـ أداة طيّعة للتفاهم ، ونسخرها مركبا ذلولا للإبانة عن أغراضنا ، والكشف عما فى نفوسنا ، ما الذى هيأها لنا ، وأقدرنا على استخدامها قدرة الأولين من العرب عليها. ومكّن لنا من نظمها ونثرها تمكنهم منها ، وأطلق لساننا فى العصور المختلفة صحيحا فصيحا كما أطلق لسانهم ، وأجرى كلامنا فى حدود مضبوطة سليمة كالتى يجرى فيها كلامهم ، وإن كان ذلك منهم طبيعة ، ومنا تطبعا؟

__________________

(١) فى كتابى المسمى : «رأى فى بعض الأصول اللغوية والنحوية».

(٢) الفصل الحادى عشر من كتاب : «لمع الأدلة فى أصول النحو» لأبى البركات كمال الدين محمد الأنبارى ، المتوفى سنة ٥٧٧ ه‍.

١

إنه النحو ؛ وسيلة المستعرب ، وسلاح اللغوى ، وعماد البلاغىّ ، وأداة المشرّع والمجتهد ، والمدخل إلى العلوم العربية والإسلامية جميعا.

فليس عجيبا أن يصفه الأعلام السابقون بأنه : خ خ ميزان العربية ، والقانون الذى تحكم به فى كل صورة من صورها (١) وأن يفرغ له العباقرة من أسلافنا ؛ يجمعون أصوله ، ويثبتون قواعده ، ويرفعون بنيانه شامخا ، ركينا ، فى إخلاص نادر ، وصبر لا ينفد. ولقد كان الزمان يجرى عليهم بما يجرى على غيرهم ؛ من مرض ، وضعف ، وفقر ؛ فلا يقدر على انتزاعهم مما هم فيه ، كما كان يقدر على سواهم ، ولا ينجح فى إغرائهم بمباهج الحياة كما كان ينجح فى إغراء ضعاف العزائم ، ومرضى النفوس ، من طلاب المغانم ، ورواد المطامع. ولقد يترقبهم أولياؤهم وأهلوهم الساعات الطوال ، بل قد يترصدهم الموت ؛ فلا يقع عليهم إلا فى حلقة درس ، أو قاعة بحث ، أو جلسة تأليف ، أو ميدان مناظرة ، أو رحلة مخطرة فى طلب النحو. وهو حين يظفر بهم لا ينتزع علمهم معهم ؛ ولا يذهب بآثارهم بذهاب أرواحهم ؛ إذ كانوا يعدون لهذا اليوم عدته من قبل ؛ فيدونون بحوثهم ، ويسجلون قواعدهم ، ويختارون خلفاء من تلاميذهم ؛ يهيئونهم لهذا الأمر العظيم. ويشرفون على تنشئتهم ، وتعهد مواهبهم ؛ إشراف الأستاذ البارع القدير على التلميذ الوفىّ الأمين. حتى إذا جاء أجلهم ودّعوا الدنيا بنفس مطمئنة ، واثقة أن ميدان الإنشاء والتعمير النحوى لم يخل من فرسانه ، وأنهم خلّفوا وراءهم خلفا صالحا يسير على الدرب ، ويحتذى المثال. وربما كان أسعد حظّا وأوفر نجحا من سابقيه ، وأسرع إدراكا لما لم يدركه الأوائل.

على هذا النهج الرفيع تعاقبت طوائف النحاة ، وتوالت زمرهم فى ميدانه ، وتلقى الراية نابغ عن نابغ ، وألمعىّ فى إثر ألمعىّ ، وتسابقوا مخلصين دائبين. فرادى وزرافات ، فى إقامة صرحه ، وتشييد أركانه ، فأقاموه سامق البناء ، وطيد الدعامة ، مكين الأساس. حتى وصل إلى أهل العصور الحديثة التى يسمونها : عصور النهضة ، راسخا ، قويّا ؛ من فرط ما اعتنى به الأسلاف ، ووجهوا إليه من بالغ الرعاية ؛ فاستحقوا منا عظيم التقدير ، وخالد الثناء. وحملوا كثيرا من علماء

__________________

(١) صبح الأعشى.

٢

اللغة الأجانب على الاعتراف بفضلهم ، والإشادة ببراعتهم (١) ...

هذه كلمة حق يقتضينا الإنصاف أن نسجلها ؛ لننسب الفضل لروّاده ، وإلا كنّا من عصبة الجاحدين ، الجاهلين ، أو المغرورين.

٢

وليس من شك أن التراث النحوى الذى تركه أسلافنا نفيس غاية النفاسة ، وأن الجهد الناجح الذى بذلوه فيه خلال الأزمان المتعاقبة جهد لم يهيأ للكثير من العلوم المختلفة فى عصورها القديمة والحديثة ، ولا يقدر على احتمال بعضه حشود من الثرثارين العاجزين ، الذين يوارون عجزهم وقصورهم ـ علم الله ـ بغمز النحو بغير حق ، وطعن أئمته الأفذاذ.

بيد أن النحو ـ كسائر العلوم ـ تنشأ ضعيفة. ثم تأخذ طريقها إلى النمو ، والقوة والاستكمال بخطا وئيدة أو سريعة ؛ على حسب ما يحيط بها من صروف وشئون. ثم يتناولها الزمان بأحداثه ؛ فيدفعها إلى التقدم ، والنمو ، والتشكل بما يلائم البيئة ، فتظل الحاجة إليها شديدة ، والرغبة فيها قوية. وقد يعوّقها ويحول بينها وبين التطور ، فيضعف الميل إليها ، وتفتر الرغبة فيها. وقد يشتط فى مقاومتها ؛ فيرمى بها إلى الوراء ، فتصبح فى عداد المهملات ، أو تكاد.

وقد خضع النحو العربى لهذا الناموس الطبيعى (٢) ؛ فولد فى القرن الأول الهجرى ضعيفا ، وحسبا وئيدا أول القرن الثانى ، وشب ـ بالرغم من شوائب خالطته ـ وبلغ الفتاء آخر ذلك القرن ، وسنوات من الثالث ، فلمع من أئمته نجوم زاهرة ؛ كعبد الله بن أبى إسحاق ، والخليل ، وأبى زيد ، وسيبويه ، والكسائى ، والفراء ، ونظرائهم من الأعلام ، ثم توالت أخلافهم ، على تفاوت فى المنهج ، وتخالف فى المادة ، إلى عصر النهضة الحديثة التى يجرى اسمها على الألسنة اليوم ، ويتخذون

__________________

(١) من ذلك ما قالة العلامة الكبير : «دى بور» فى كتابه : تاريخ الفلسفة فى الإسلام ، ونصه ـ كما جاء فى ترجمة الدكتور محمد أبو ريدة ص ٤ ـ :

«علم النحو أثر رائع من آثار العقل العربى. بما له من دقة فى الملاحظة ، ومن نشاط فى جمع ما تفرق. وهو أثر عظيم يرغم الناظر فيه على تقديره ، ويحق للعرب أن يفخروا به.»

(٢) هذا النسب صحيح.

٣

مطلع القرن التاسع عشر مبدأ لها. فمن هذا المبدأ ألح الوهن والضعف ، على النحو ، وتمالأت عليه الأحداث ؛ فأظهرت من عيبه ما كان مستورا ، وأثقلت من حمله ما كان خفّا ، وزاحمته العلوم العصرية فقهرته ، وخلفته وراءها مبهورا. ونظر الناس إليه فإذا هو فى الساقة من علوم الحياة ، وإذا أوقاتهم لا تتسع للكثير بل للقليل مما حواه ، وإذا شوائبه التى برزت بعد كمون ، ووضحت بعد خفاء ـ تزهدهم فيه ، وتزيدهم نفارا منه ، وإذا النفار والزهد يكران على العيوب ؛ فيحيلان الضئيل منها ضخما ، والقليل كثيرا ، والموهوم واقعا. وإذا معاهد العلم الحديث تزورّ عنه ، وتجهر بعجزها عن استيعابه ، واستغنائها عن أكثره ، وتقنع منه باليسير أو ما دون اليسير ؛ فيستكين ويخنع.

والحق أن النحو منذ نشأته داخلته ـ كما قلنا ـ شوائب ؛ نمت على مر الليالى ، وتغلغلت برعاية الصروف ، وغفلة الحراس ؛ فشوهت جماله ، وأضعفت شأنه ، وانتهت به إلى ما نرى.

فلم يبق بد أن تمتد إليه الأيدى البارّة القوية ، متمالئة فى تخليصه مما شابه ، متعاونة على إنقاذه مما أصابه. وأن تبادر إليه النفوس الوفية للغتها وتراثها ؛ المعتزة بحاضرها وماضيها ؛ فتبذل فى سبيل إنهاضه ، وحياطته ، وإعلاء شأنه ـ ما لا غاية بعده لمستزيد.

ومن كريم الاستجابة أن رأينا فى عصرنا هذا ـ طوائف من تلك النفوس البارّة الوفية سارعت إلى النجدة ؛ كلّ بما استطاع ، وبما هو ميسر له ؛ فمنهم من ذلل للناشئة لغته ، أو اختصر قاعدته ، أو أوضح طريقة تدريسه ، أو أراحهم من مصنوع العلل ، وضارّ الخلاف ، أو جمع بين مزيتين أو أكثر من هذه المزايا الجليلة الشأن. لكنا ـ على الرغم من ذلك ـ لم نر من تصدى للشوائب كلها أو أكثرها ؛ ينتزعها من مكانها ، ويجهز عليها ما وسعته القدرة ، ومكنته الوسيلة ؛ فيريح المعلمين والمتعلمين من أوزارها. وهذا ما حاولته جاهدا مخلصا قدر استطاعتى ، فقد مددت يدى لهذه المهمة الجليلة ، وتقدمت لها رابط الجأش ، وجمعت لها أشهر مراجعها الأصيلة ، ومظانها الوافية الوثيقة ، وضممت إليها ما ظهر فى عصرنا من كتب ، وأطلت الوقوف عند هذه وتلك ؛ أديم النظر ، وأجيل

٤

الفكر ، وأعتصر أطيب ما فيهما حتى انتهيت إلى خطة جديدة ؛ تجمع مزاياهما ، وتسلم من شوائبهما ، وقمت على تحقيقها فى هذا الكتاب متأنيا صبورا. ولا أدرى مبلغ توفيقى. ولكن الذى أدريه أنى لم أدخر جهدا ، ولا إخلاصا.

إن تلك الشوائب كثيرة ، ومن حق النحو علينا ـ ونحن بصدد إخراج كتاب جديد فيه ـ أن نعرضها هنا ، ونسجل سماتها ، ونفصل ما اتخذناه لتدارك أمرها. وهذا كله ـ وأكثر منه ـ قد عرضنا له فى رسالة سابقة نشرناها منذ سنوات بعنوان : «رأى فى بعض الأصول اللغوية والنحوية» ، ثم أتممناها بمقالات عشر ؛ نشرت تباعا فى مجلة رسالة الإسلام ، خلال سنتى ١٩٥٧ و ١٩٥٨ م وجاوزت صفحاتها المائة. وقد جعلت من هذه وتلك ، ولمحات غيرهما ، مقدمة لهذا الكتاب ستنشر مستقلة ؛ بسبب طولها ، وكثرة ما اشتملت عليه ـ فى رسالة عنوانها : «مقدمة كتاب النحو الوافى» وهى اليوم فى طريقها للنشر (١)

على أن هذا لا يعفينى من الإشارة العابرة إلى الدستور الذى قام عليه الكتاب ، والغرض الذى رميت من تأليفه ، مستعينا بخبرة طويلة ناجعة ، وتجربة صادقة فى تعلم النحو ؛ طالبا مستوعبا ، ثم تعليمه فى مختلف المعاهد الحكومية مدرسا ، فأستاذا ورئيسا لقسم النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم ، بجامعة القاهرة ، سنوات طوالا.

٣

وأظهر مواد ذلك الدستور ما يأتى :

١ ـ تجميع مادة النحو كله فى كتاب واحد ذى أجزاء أربعة كبار ، تحوى صفحاتها وما تضمنته من مسائل كل ما تفرق فى أمهات الكتب ، وتغنى عنها. على أن يقسم كل جزء قسمين ، تقسيما فنيّا بارعا. أحدهما موجز دقيق يناسب طلاب الدراسات النحوية ، بالجامعات ـ دون غيرهم ـ غاية المناسبة ، ويوفيهم ما يحتاجون إليه غاية التوفية الحكيمة التى تساير مناهجهم الرسمية ، ومكانه أول المسائل ، وصدرها. ويليه الآخر (٢) ـ بعد نهاية كل مسألة ـ بعنوان مستقل هو :

__________________

(١) ما كدت أعلن هذا فى الطبعة الأولى حتى أخرجت دور الطباعة والنشر كتابان يضربان فى منحى واحد ؛ هو : أصول النحو وأشهر مذاهبه ومدارسه ... فاقتضانى ظهورهما أن أتريث إلى حين.

(٢) فى صفحة جديدة ، تبدأ بسطر أو سطرين من النقط الأفقية المتقاربة ؛ لتكون رمزا يميز صحف الزيادة من غيرها.

٥

«زيادة وتفصيل» ؛ ويلائم الأساتذة والمتخصصين أكمل الملاءمة وأتمها ، فتبتدئ «المسألة» ـ وبجانبها رقم خاص بها ـ بتقديم المادة النحوية الصالحة للطالب الجامعىّ ، الموائمة لقدرته ومقرّره الرسمىّ ، ودرجته فى التحصيل والفهم ، مع توخّى الدقة والإحكام فيما يقدم له ، نوعا ومقدارا. فإذا استوفى نصيبه المحمود انتقلت إلى بسط يتطلع إليه المتخصص ، وزيادة يتطلبها المستكمل. كل ذلك فى إحكام وحسن تقدير ، بغير تكرار ، ولا تداخل بين القسمين ، أو اضطراب. وبهذا التقسم والتنسيق يجد هؤلاء وهؤلاء حاجتهم ميسرة ، موائمة ، قريبة التناول ؛ لا يكدّون فى استخلاصها ولا يجهدون فى السعى وراءها فى متاهات الكتب القديمة ؛ وقد يبلغون أو لا يبلغون.

٢ ـ العناية أكمل العناية بلغة الكتاب وضوحا ، وإشراقا ، وإحكاما ، واسترسالا ؛ فلا تعقيد ، ولا غموض ، ولا حشو ، ولا فضول ، ولا توقف لمناقشة لفظ ، أو إرسال اعتراض ، أو الإجابة عنه ؛ ولا حرص على أساليب القدامى وتعبيراتهم. إلا حين تسايرنا فى البيان الأوفى ، والجلاء الأكمل.

أما الاصطلاحات العلمية المأثورة فلم أفكر فى تغييرها ، إيمانا واقتناعا بما سجله العلماء قديما وحديثا من ضرر هذا التغيير الفردىّ ، ووفاء بما اشترطوه فى تغيير «المصطلاحات» ، أن يكون بإجماع المختصين ، المشتغلين بالعلم الذى يحويها.

٣ ـ اختيار الأمثلة ناصعة ، بارعة فى أداء مهمتها ؛ من توضيح القاعدة ، وكشف غامضها فى سهولة ويسر ، واقتراب ، لهذا تركت كثيرا من الشواهد القديمة ، المترددة بين أغلب المراجع النحوية ؛ لأنها مليئة بالألفاظ اللغوية الصعبة ، وبالمعانى البعيدة التى تتطلب اليوم من المتعلم عناء وجهدا لا يطيقهما ، ولا يتسع وقته لشىء منهما ، فإن خلت من هذا العيب ، وتجملت بالوضوح والطرافة فقد نستبقيها.

والحق أن كثيرا من تلك الشواهد يحتل المكانة العليا من سمو التعبير ، وجمال الأداء ، وروعة الأسلوب. وفتنة المعنى. لكنها اختيرت فى عصور تباين عصرنا ، ولدواع تخالف ما نحن فيه ؛ فقد كانت وسائل العيش حينذاك ميسرة ، والمطالب

٦

قليلة ، والقصد استنباط قاعدة ، أو تأييد مذهب. وكان طالب العلم حافظا القرآن. مستظهرا الكثير من الأحاديث والنصوص الأدبية ، متفرغا للعلوم العربية والشرعية أو كالمتفرغ. أما اليوم فالحال غير الحال ، ووسائل العيش صعبة ، والمطالب كثيرة ؛ فطالب العلم (١) يمر بهذه العلوم مرّا سريعا عابرا قبل الدراسة الجامعية ، فإن قدّر له الدخول فى الجامعة ، انقطعت صلته بتلك العلوم ، ولم يجد بينها وبين مناهجه الدراسية سببا ، إلا إن كان متفرغا للدراسات اللغوية ؛ فيزاولها وحصيلته منها ضئيلة ، لا تمكنه من فهم دقائقها ، ولا ترغبه فى مزيد ، وغايته المستقبلة لا ترتبط ـ فى الغالب ـ ارتباطا وثيقا بالضلاعة فى هذه العلوم ، والتمكن منها ؛ فمن الإساءة إليه وإلى اللغة أن نستمسك بالشواهد الموروثة ، ونقيمها حجازا يصعب التغلب عليه ، وإدراك ما وراءه من كريم الغايات. نعم إنها نماذج من الأدب الرائع ؛ ولكن يجب ألا ننسى الغاية إزاء الروعة ، أو نغفل القصد أمام المظهر ، وإلا فقدنا الاثنين معا ، وفى دروس النصوص الأدبية ، وفى القراءة الحرة ، والاطلاع على مناهل الأدب الصفو ـ متسع للأدباء والمتأدبين ؛ يشبع رغبتهم ، من غير أن يضيع عليهم ما يبغون من دراسة النحو دراسة نافعة ، لا تطغى على وقت رصدته النظم التعليمية الحديثة لغيرها ، ولا تنتهب جهدا وقفته الحياة المعاصرة على سواها.

وإن بعض معلمى اليوم ممّن يقومون بالتدريس لكبار المتعلمين ـ ليسرف فى اتخاذ تلك الشواهد مجالا لما يسميه : «التطبيق النحوى» ، ومادة مهيأة لدروسه. وليس هذا من وكدى. ولا وكد من احتشد للمهمة الكبرى ، مهمة : «النحو الأصيل» التى تتلخص فى إعداد مادته إعدادا وافيا شاملا ، وعرضها عرضا حديثا شائقا ، وكتابتها كتابة مشرقة بهية ، مع استصفاء أصولها النافعة. واستخلاص قواعدها وفروعها مما ران عليها ، وارتفعت بسببه صيحات الشكوى. ودعوات الإصلاح ، وتهيئتها لتلائم طبقات كثيرة ، وأجيالا متعاقبة فى بلدان متباينة. كل هذا بل بعض هذا ـ لا يساير ذلك خ خ التطبيق التعليمى ؛ فإنه مدرسىّ موضعى متغير لا يتسم بسمة العموم. أو ما يشبه العموم ، ولا يثبت على حال.

__________________

(١) وهو اليوم من حملة الشهادة الثانوية العامة ـ غالبا ـ أو ما فى مستواها.

٧

على أن هذا الفريق الذى اختار تلك الشواهد ميدانا لتطبيقه قد فاته ما أشرنا إليه من حاجتها إلى طويل الوقت ، وكبير الجهد فى تيسير صعوباتها اللغوية التى أوضحناها. وطلاب اليوم ـ خاصة ـ أشد احتياجا لذلك الوقت والجهد ، كى يبذلوهما فى تحصيل ما يتطلبه مستقبلهم الغامض. كما فاته أن خير التطبيق لكبار الطلاب ما ليس محدد المجال ، مصنوع الغرض ، متكلف الأداء ، كالشواهد التى نحن بصددها. وإن مناقشة لنص أدبى كامل ، أو صفحة من كتاب مستقيم الأسلوب ، أو مقال أدبى ـ لهى أجدى فى التطبيق ، وأوسع إفادة فى النواحى اللغوية المتعددة ، وأعمق أثرا فى علومها وآدابها ـ من أكثر تلك الشواهد المبتورة المعقدة. فليتنا نلتفت لهذا ، وندرك قيمته العملية ، فنحرص على مراعاته ، ونستمسك باتباعه مع كبار المتعلمين ، ولعل هؤلاء الكبار أنفسهم يدركونه ويعملون به ، فيحقق لهم ما يبتغون.

على أن لتلك الشواهد خطرا آخر ؛ هى أنها ـ فى كثير من اتجاهاتها ـ قد تمثل لهجات عربية متعارضة ، وتقوم دليلا على لغات قديمة متباينة ، وتساق لتأييد آراء متناقضة ؛ فهى معوان على البلبلة اللغوية ، ووسيلة للحيرة والشك فى ضبط قواعدها ، وباب للفوضى فى التعبير. وتلك أمور يشكو منها أنصار اللغة ، والمخلصون لها.

وعلى الرغم من هذا قد نسجل ـ أحيانا مع الحيطة والحذر ـ بعض الشواهد الغريبة ، أو الشاذة ، وبعض الآراء الضعيفة ، لا لمحاكاتها ، ولا للأخذ بها ـ ولكن ليتنبه لها المتخصصون ، فيستطيعوا فهم النصوص القديمة الواردة بها حين تصادفهم ، ولا تصيبهم أمامها حيرة ، أو توقف فى فهمها.

٤ ـ الفرار من العلل الزائفة (١) ، وتعدد الآراء الضارة فى المسألة الواحدة ، فلهما من سوء الأثر وقبيح المغبة ما لا يخفى. وحسبنا من التعليل : أن يقال : المطابقة للكلام العربى الناصع ، ومن الآراء أن يقال : مسايرة فصيح اللغة وأفصحها. والقرآن الكريم ـ بقراءاته الثابتة الواردة عن الثقات ـ فى

__________________

(١) وفى مقدمتها ما كان تعليلا لأمر واقع ، ولا سبب له إلا نطق العربى ، كالتعليل لرفع الفاعل ، والمبتدأ والخبر ، ولنصب المفعولات ـ انظر رقم ٣ من هامش ص ٨٤ ـ فإن التعليل لهذه الأمور الوضعية عيب وفساد ؛ إذ الوضعيات لا تعلل ؛ كما قال أبو حيان وغيره ، ونقله الهمع ح ١ ص ٥٦.

٨

مكان الصدارة من هذا ؛ لا نقبل فى أسلوبه تأولا ولا تمحلا ، ثم الكلام العربى الذائع. والأفصح والفصيح هما الباعثان لنا على أن نردف بعض الأحكام النحوية بأن الخير فى اتباع رأى دون آخر ، وأن الأفضل إيثاره على سواه ... أو غير هذا من العبارات الدالة على الترجيح. وإنما كان الخير وتمام الفضل فى إيثاره ؛ لأنه يجمع الناطقين بلغة العرب على أنصع الأساليب وأسماها ، ويوحد بيانهم ، ويريحهم من خلف المذاهب ، وبلبلة اللهجات ، فى وقت نتلقى فيه اللغة تعلما وكسبا ، لا فطرة ومحاكاة أصيلة ، ونقتطع لها من حياتنا التعليمية المزدحمة المرهقة ـ الأيّام القليلة ، والساعات المحدودة ؛ فمن الحكمة والسداد أن نقصر تلك الأيام والساعات على ما هو أحسن وأسمى. ولن نلجأ إلى تعليل آخر ، أو ترديد خلاف فى الآراء إلا حيث يكون من وراء ذلك نفع محقق ، وفائدة وثيقة ، وتوسعة محمودة ، دون تعصب لبصرىّ أو لكوفىّ ، أو بغدادى ، أو أندلسى ... أو غير هؤلاء ... ودون فتح باب الفوضى فى التعبير ، أو الاضطراب فى الفهم ، أو البلبلة فى الأداء والاستنباط.

ومن مظاهر النفع الاستعانة «بالتعليل» ، وبتعدد المذاهب فى تيسير مفيد ، أو فى تشريع لغوىّ مأمون ، أو تبصير المتخصصين ـ وحدهم ـ ببعض اللغات واللهجات التى تعينهم على فهم النصوص القديمة الواردة بها ، لا لمحاكاتها ـ فأكثرها لا يوائمنا اليوم كما سبق ـ ولكن ليدركوها ، ويفسروا بعض الظواهر اللغوية الغامضة ، ولا يقفوا أمام تفسيرها حائرين مضطربين. وقد بسطنا القول فى هذا كله ، وفى أسبابه ، ونتائجه ـ فى المقدمة التى أشرنا إليها.

٥ ـ تدوين أسماء المراجع أحيانا فى بعض مسائل قد تتطلب الرجوع إليها ؛ استجلاء لحقيقة ، أو إزالة لوهم. وفى ذلك التدوين نفع آخر ؛ هو : تعريف الطلاب بتلك المراجع ، وترديد أسمائها عليهم ، وتوجيههم إلى الانتفاع بها ، والإيحاء بأن الرجوع إلى مثلها قد يقتضيه تحصيل العلم ، وتحقيق مسائله.

٦ ـ عدم التزام طريقة تربوية معينة فى التأليف ، فقد تكون الطريقة استنباطية ، وقد تكون إلقائية ، وقد تكون حوارا ، أو غير ذلك مما يقتضيه صادق الخبرة ، وملاءمة الموضوع. وإذا عرفنا أن الكتاب لكبار الطلاب ، وللأساتذة المتخصصين ، وأن موضوعاته كثيرة متباينة ـ أدركنا الحكمة فى اختلاف الطرائق

٩

باختلاف تلك الموضوعات وقرّائها. على أن تكون الطريقة محكومة بحسن الاختيار ، وصدق التقدير ، وضمان النجح من أيسر السبل وأقربها. ومهما اختلفت فلن تكون من طرائق القدماء التى أساسها : المتن ، فالشرح ، فالحاشية ، فالتقرير ... فما يصاحب هذا من جدل ، ونقاش ، وكثرة خلاف ، وتباين تعليل ... وما إلى ذلك مما دعت إليه حاجات عصور خلت ، ودواعى حقب انقضت ، ولم يبق من تلك الحاجات والدواعى ما يغرينا بالتمسك به ، أو بتجديد عهده.

على أن بحوثهم وطرائقهم تنطوى ـ والحق يقال ـ على ذخائر غالية ، وتضم فى ثناياها كنوزا نفيسة. إلا أن استخلاص تلك الذخائر والكنوز مما يغشيها اليوم عسير أى عسير على جمهرة الراغبين ـ كما أسلفنا.

٧ ـ تسجيل أبيات : «ابن مالك» كما تضمنتها «ألفيته» ، المشهورة ، وتدوين كل بيت فى أنسب مكان من الهامش ، بعد القاعدة وشرحها ، مع الدقة التامة فى نقله ، وإيضاح المراد منه ؛ فى إيجاز مناسب ، وحرص على ترتيب الأبيات ، إلا إن خالفت فى ترتيبها تسلسل المسائل وتماسكها المنطقى النحوى الذى ارتضيناه. فعندئذ نوفق بين الأمرين ؛ ترتيب الناظم : وما يقتضيه التسلسل المنطقى التعليمى ؛ فننقل البيت من مكانه فى «الألفية» ، ونضعه فى المكان الذى نراه مناسبا ، ونضع على يساره الرقم الدال على ترتيبه بين أبيات الباب كما رتبها الناظم ، ولا نكتفى بهذا ؛ فحين نصل إلى شرح المسألة المتصلة بالبيت الذى قبله ، ونفرغ منها ومن ذكر البيت الخاص بها ؛ تأييدا لها ـ نعود فنذكر البيت الذى نقلناه من مكانه ، ونضعه فى مكانه الأصلى الذى ارتضاه الناظم ، ونشير إلى أن هذا البيت قد سبق ذكره وشرحه فى مكانه الأنسب من صفحة كذا ...

وقد دعانا إلى تسجيل أبيات : «ابن مالك» ـ فى الهامش ـ ما نعلمه من تمسك بعض المعاهد والكليات الجامعية بها ، وإقبال طوائف من الطلاب على تفهمها ، والتشدد فى دراستها واستظهارهم كثيرا منها للانتفاع بها حين يريدون. وقد تخيرنا لها مكانا فى ذيل الصفحات ، يقربها من راغبيها ، ويبعدها من الزاهدين فيها. ٨ ـ الإشارة إلى صفحة سابقة أو لاحقة ، وتدوين رقمها إذا اشتملت على ماله صلة وثيقة بالمسألة المعروضة ؛ كى يتيسر لمن شاء أن يجمع شتاتها فى

١٠

سهولة ويسر ، ويضم ـ بغير عناء ـ فروعها وما تفرق منها فى مناسبات وموضوعات مختلفة.

ولا نكتفى بذكر الرقم الخاص بالصفحة ، وإنما نذكره ونذكر بعده رقم المسألة. ونرمز للمسألة بالحرف الهجائى الأول من حروفها ، وهو : «م» اختصارا.

والسبب فى الجمع بينهما أن رقم الصفحة عرضة للتغيير بتغير طبعات الكتاب أما رقم المسألة فثابت لا يتغير وإن تعددت الطبعات ، فالإحالة عليه إحالة على شىء موجود دائما ؛ فيتحقق الغرض من الرجوع إليه.

٩ ـ ترتيب أبواب الكتاب على النسق الذى ارتضاه ابن مالك فى : «ألفيته» وارتضاه كثيرون ممن جاءوا بعده ، لأنه الترتيب الشائع اليوم ، وهو فوق شيوعه ـ أكثر ملاءمة فى طريقته ، وأوفر إفادة فى التحصيل والتعليم ، ويشيع بعده الترتيب القائم على جمع الأبواب الخاصة بالأسماء متعاقبة ، يليها الخاصة بالأفعال ثم الحروف ... كما فعل الزمخشرى فى مفصله. وتبعه عليه شراحه. وهذه طريقة حميدة أيضا. ولكنها تفيد المتخصصين دون سواهم من الراغبين فى المعرفة العامة أوّلا فأولا ؛ فالمبتدأ يلازمه الخبر أو ما يقوم مقامه ، وقد يكون الخبر جملة فعلية ، أو شبه جملة ، والفاعل لا بد له من فعل أو ما يقوم مقامه. والمفعول لا بد له من الاثنين ... فكيف يتعلم الراغب أحكام المبتدأ وحده ، أو الخبر وحده ، أو الفعل أو الفاعل كذلك؟

وهناك أنواع أخرى من الترتيب لكل منها مزاياه التى نراها لا تعدل مزية الترتيب الذى اخترناه. ولا تناسب عصرنا القائم.

والله أرجو مخلصا أن يجعل الكتاب نافعا لغة القرآن ، عونا لطلابها ، محققا الغاية النبيلة التى دعت لتأليفه ، والقصد الكريم من إعداده.

المؤلف

١١
١٢

المسألة الأولى :

الكلام ، وما يتألف منه.

الكلمة ـ الكلام (أو : الجملة) ـ الكلم ـ القول.

ما المراد من هذه الألفاظ الاصطلاحية فى عرف النحويين؟

الكلمة :

حروف الهجاء تسعة وعشرون حرفا ، (وهى : أ(١) ـ ب ـ ت ـ ث ـ ج ...) وكل واحد منها رمز مجرد ؛ لا يدل إلا على نفسه ، ما دام مستقلا لا يتصل بحرف آخر. فإذا اتصل بحرف أو أكثر ، نشأ من هذا الاتصال ما يسمى : «الكلمة». فاتصال الفاء بالميم ـ مثلا ـ يوجد كلمة : «فم» ، واتصال العين بالياء فالنون ، يوجد كلمة : «عين» ، واتصال الميم بالنون فالزاى فاللام ، يحدث كلمة : «منزل» ... وهكذا تنشأ الكلمات الثنائية ، والثلاثية ، والرباعية ـ وغيرها (٢) ـ من انضمام بعض حروف الهجاء إلى بعض(٣).

وكل كلمة من هذه الكلمات التى نشأت بالطريقة السالفة تدل على معنى ؛ لكنه معنى جزئى ؛ (أى : مفرد) ؛ فكلمة : «فم» حين نسمعها ، لا نفهم منها أكثر من أنها اسم شىء معين. أما حصول أمر من هذا الشىء ، أو عدم حصوله ... ، أما تكوينه ، أو وصفه ، أو دلالته على زمان أو مكان ، أو معنى آخر ـ فلا نفهمه من كلمة : «فم» وحدها. وكذلك الشأن فى كلمة : «عين» ، و «منزل» وغيرهما من باقى الكلمات المفردة.

__________________

(١) الأرجح أن الحرف الأول من حروف الهجاء هو : «الهمزة» وليس الألف التى تحملها فوقها ، لتظهرها بارزة لا تختفى ، ولا تختلط بغيرها ، فشأن الألف فى هذا كشأن الواو والياء اللتين تستقر فوقهما الهمزة فى كتابة بعض الكلمات. أما الألف الأصلية ، فمكانها فى الترتيب الأبجد ى بعد اللام مباشرة ، حتى لقد اندمجت فى اللام ، وصارتا : «لا» مع أنهما حرفان ، لا حرف واحد.

(٢) لا تزيد أحرف الاسم على سبعة : نحو : «استغفار». ولا أحرف الفعل على ستة ؛ نحو : «استغفر» ، ولا أحرف الحرف على خمسة ؛ نحو : «لكن» ، باعتبارها كلمة واحدة ـ على الأصح ـ ، مشددة النون ، ثابتة الألف بعد اللام نطقا. ومن النحاة من يجعل : «حيثما» كلمة واحدة ، ويعدها من الحروف. ورأيه ضعيف مردود. ـ انظر ص ٦٦ ـ

(٣) لهذا تسمى الحروف الهجائية : «حروف المبانى» ؛ لأنها أساس بنية الكلمة. وهى غير «حروف الربط» التى ستجىء فى ص ٦٢.

١٣

ولكن الأمر يتغير حين نقول : «الفم مفيد» ـ «العين نافعة» ـ «المنزل واسع النواحى» ، فإن المعنى هنا يصير غير جزئى ؛ (أى : غير مفرد) ؛ لأن السامع يفهم منه فائدة وافية إلى حدّ كبير ، بسبب تعدد الكلمات ، وما يتبعه من تعدد المعانى الجزئية ، وتماسكها ، واتصال بعضها ببعض اتصالا ينشأ عنه معنى مركب. فلا سبيل للوصول إلى المعنى المركب إلا من طريق واحد ؛ هو : اجتماع المعانى الجزئية بعضها إلى بعض ، بسبب اجتماع الألفاظ المفردة.

ومن المعنى المركب تحدث تلك الفائدة التى : «يستطيع المتكلم أن يسكت بعدها ، ويستطيع السامع أن يكتفى بها». وهذه الفائدة ـ وأشباهها ـ وإن شئت فقل : هذا المعنى المركب ، هو الذى يهتم به النحاة ، ويسمونه بأسماء مختلفة ، المراد منها واحد ؛ فهو : «المعنى المركب» ، أو : «المعنى التام» ، أو : «المعنى المفيد» أو : «المعنى الذى يحسن السكوت عليه» ...

يريدون : أن المتكلم يرى المعنى قد أدى الغرض المقصود فيستحسن الصمت ، أو : أن السامع يكتفى به ؛ فلا يستزيد من الكلام. بخلاف المعنى الجزئى ، فإن المتكلم لا يقتصر عليه فى كلامه ؛ لعلمه أنه لا يعطى السامع الفائدة التى ينتظرها من الكلام. أو : لا يكتفى السامع بما فهمه من المعنى الجزئى ، وإنما يطلب المزيد. فكلاهما إذا سمع كلمة منفردة مثل : باب ، أو : ريحان ، أو : سماء ، أو : سواها ... لا يقنع بها.

لذلك لا يقال عن الكلمة الواحدة إنها تامة الفائدة ، برغم أن لها معنى جزئيّا لا تسمى «كلمة» بدونه ؛ لأن الفائدة التامة لا تكون بمعنى جزئى واحد.

مما تقدم نعلم أن الكلمة هى : (اللفظة الواحدة التى تتركب من بعض الحروف الهجائية ، وتدل على معنى جزئى ؛ أى : «مفرد»). فإن لم تدل على معنى عربى وضعت لأدائه فليست كلمة ، وإنما هى مجرد صوت.

١٤

الكلام (أو : الجملة):

هو : «ما تركب من كلمتين أو أكثر ، وله معنى مفيد مستقل» (١). مثل : أقبل ضيف. فاز طالب نبيه. لن يهمل عاقل واجبا ...

فلا بد فى الكلام من أمرين معا ؛ هما : «التركيب» ، و «الإفادة المستقلة» فلو قلنا : «أقبل» فقط ، أو : «فاز» فقط ، لم يكن هذا كلاما ؛ لأنه غير مركب. ولو قلنا : أقبل صباحا ... أو : فاز فى يوم الخميس ... أو : لن يهمل واجبه ... ، لم يكن هذا كلاما أيضا ؛ لأنه ـ على رغم تركيبه ـ غير مفيد فائدة يكتفى بها المتكلم أو السامع ...

وليس من اللازم فى التركيب المفيد أن تكون الكلمتان ظاهرتين فى النطق ؛ بل يكفى أن تكون إحداهما ظاهرة ، والأخرى مستترة ؛ كأن تقول للضيف : تفضل. فهذا كلام مركب من كلمتين ؛ إحداهما ظاهرة ، وهى : تفضل (٢) ، والأخرى مستترة ، وهى : أنت (٣). ومثل : «تفضل» : «أسافر» ... أو :

__________________

(١) (ا) إذا وقعت الجملة الخبرية صلة الموصول ، أو نعتا ، أو حالا ، أو تابعة لشىء آخر ـ فإنها لا تسمى جملة ؛ لأنها تسمّى خبرية بحسب أصلها الأول الذى كانت مستقلة فيه. فإذا صارت صلة ، أو تابعة لغيرها لم يصح تسميتها : «خبرية» ؛ إذ لا يكون فيها حكم مستقل بالسلب أو الإيجاب ، تنفرد به ، ويقتصر عليها وحدها. بل هى لذلك لا تسمى : «كلاما» ولا «جملة» ؛ فعدم تسميتها جملة خبرية من باب أولى .. ومثلها الجملة الواقعة خبرا ، ... فلا تسمّى واحدة من كل ما سبق كلاما ولا جملة ، إذ ليس لها كيان معنوى مستقل. ـ كما سيجئ عند الكلام على صلة الموصول رقم ٣ من هامش ص ٣٣٦ م ٢٧. ـ

(ب) وكذلك إذا خرجت الجملة عن أصلها الذى شرحناه فصارت علما على مسمى معين ؛ فإنها فى حالتها الجديدة لا تسمى جملة. ومن هذا بعض الأعلام الشائعة اليوم ؛ مثل : فتح الله ـ زاد المجد ـ بهر النور ـ الحسن كامل ـ ... فكل واحدة من هذه الألفاظ كانت فى أصلها جملة خبرية ثم صارت بعد التسمية بها نوعا من اللفظ المفرد لا يدل جزء اللفظ منها على جزء من المعنى الأول فتحولت مفردة بالوضع ـ راجع شرح المفصل ج ١ ص ١٨ معنى الكلم. ـ

(٢) فعل الأمر.

(٣) فاعله. ولما كان الكلام هنا مفيدا ولا يظهر منه فى النطق إلا الفعل ، والفعل لا بد له من فاعل ـ وجب التسليم بأن الكلمة الثانية مستترة.

١٥

«نشكر» أو : «تخرج» ... وكثير غيرها مما يعد فى الواقع كلاما ، وإن كان ظاهره أنه مفرد.

الكلم :

هو : ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر ؛ سواء أكان لها معنى مفيد ، أم لم يكن لها معنى مفيد. فالكلم المفيد مثل : النيل ثروة مصر ـ القطن محصول أساسى فى بلادنا. وغير المفيد مثل : إن تكثر الصناعات ...

القول :

هو كل لفظ نطق به الإنسان ؛ سواء أكان لفظا مفردا أم مركبا ، وسواء أكان تركيبه مفيدا أم غير مفيد. فهو ينطبق على : «الكلمة» كما ينطبق على : «الكلام» وعلى : «الكلم». فكل نوع من هذه الثلاثة يدخل فى نطاق : «القول» ويصح أن يسمى : «قولا» على الصحيح ، وقد سبقت الأمثلة. كما ينطبق أيضا على كل تركيب آخر يشتمل على كلمتين لا تتم بهما الفائدة ؛ مثل : إن مصر ... ـ أو : قد حضر ... أو : هل أنت. أو : كتاب علىّ (١) ... فكل تركيب من هذه التراكيب لا يصح أن يسمى : «كلمة» ؛ لأنه ليس لفظا مفردا ، ولا يصح أن يسمى : «كلاما» ؛ لأنه ليس مفيدا. ولا : «كلما» ؛ لأنه ليس مؤلفا من ثلاث كلمات ؛ وإنما يسمى : «قولا».

ويقول أهل اللغة : إن «الكلمة» واحد : «الكلم». ولكنها قد تستعمل أحيانا (٢) بمعنى : «الكلام» ؛ فتقول : حضرت حفل تكريم الأوائل ؛ فسمعت «كلمة» رائعة لرئيس الحفل ، و «كلمة» أخرى لأحد الحاضرين ، و «كلمة» ثالثة من أحد الأوائل يشكر المحتفلين. ومثل : اسمع منى «كلمة» غالية ؛ وهى :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

__________________

(١) وهذا هو : المركب الإضافى. ومثله المركب الوصفى ، نحو : رجل شجاع ، والمزجىّ ، نحو : سيبويه ... ويلحق به العددى نحو : خمسة عشر.

(٢) مجازا.

١٦

فالمراد بالكلمة فى كل ما سبق هو : «الكلام» ، وهو استعمال فصيح ، يشيع على ألسنة الأدباء وغيرهم.

وللكلمة ثلاثة أقسام ، اسم. وفعل ، وحرف (١).

__________________

(١) أما اسم الفعل الذى اعتبره بعض النحاة قسما رابعا ، فالتحقيق أنه داخل فى قسم : «الاسم» ـ كما سيجىء فى بابه الخاص ج ٤ م ١٤١ ـ

وقد لخص ابن مالك فى ألفيته ما سبق بقوله :

كلامنا لفظ مفيد كاستقم

و (اسم) ، و (فعل) ثم (حرف) : الكلم

واحده : «كلمة.» و «القول» عم

وكلمة بها كلام قد يؤم

يريد : أن «الكلام» عند النحاة هو : اللفظ المفيد (ولا يكون مفيدا إلا إذا كان مركبا ؛ كاستقم) «والكلم» ثلاثة أقسام ، اسم ، وفعل ، وحرف ،. وواحده : «كلمة». و «القول» يشمل بمعناه كل الأقسام ؛ (فكلمة : عم) فعل ماض. والكلمة قد يؤم بها الكلام ، أى : يقصد إطلاقها على الكلام بمعناه الذى سبق.

١٧

زيادة وتفصيل :

تعود النحاة ـ بعد الكلام على الأنواع الأربعة السابقة ـ أن يوازنوا بينها موازنة أساسها : «علم المنطق» ويطيلوا فيها الجدل المرهق ، مع أن الموضوع فى غنى عن الموازنة ؛ لبعد صلتها «بالنحو». وبالرغم من هذا سنلخص كلامهم ... (وقد يكون الخير فى الاستغناء عنه).

(ا) يقولون : إن موازنة الأنواع السابقة بعضها ببعض ؛ لمعرفة أوسعها شمولا ، وأكثرها أفرادا ـ تدل على أن : «القول» هو الأوسع والأكثر ؛ لأنه ينطبق عليها جميعا ، وعلى كل فرد من أفرادها. أما غيره فلا ينطبق إلا على أفراده الخاصة به ، دون أفراد نوع آخر ؛ فكل ما يصدق عليه أنه : «كلمة» أو : «كلام» أو : «كلم» ـ يصدق عليه أنه : «قول» ، ويعدّ من أفراد : «القول» ، ولا عكس.

هذا إلى أن القول يشمل نوعا آخر غير تلك الأنواع ، وينطبق وحده على أفراد ذلك النوع ؛ وهو : كل تركيب اشتمل على كلمتين من غير إفادة تامة منهما ؛ مثل : «إن حضر» ... «ليس حامد» ـ «ليت مصر» ... ـ «سيارة رجل» ... فمثل هذا لا يصح أن يسمى : «كلمة» ، ولا «كلاما» ، ولا «كلما» ومن هنا يقول النحاة : إن القول أعم من كل نوع من الأنواع الثلاثة عموما مطلقا ، وأن كل نوع أخص منه خصوصا مطلقا ... يريدون بالعموم : أن «القول» يشمل من الأنواع أكثر من غيره. ويريدون «بالإطلاق» : أن ذلك الشمول عام فى كل الأحوال ، بغير تقييد بحالة معينة ؛ فكلما وجد نوع وجد أن «القول» ؛ يشمله وينطبق على كل فرد من أفراده ـ دائما ـ

وأما أن كل نوع أخص ـ وأن ذاك الخصوص مطلق ـ فلأن كل نوع من الثلاثة لا يشمل عددا من الأفراد المختلفة بقدر ما يشمله «القول» ولا ما يزيد عليه. وأن هذا شأنه فى كل الأحوال بغير تقييد ، كما يتضح مما يأتى :

كتب : كلمة ، ويصح أن تسمى : «قولا.» وكذلك كل كلمة أخرى. كتب على : كلام ، ويصح أن يسمى : «قولا.» وكذلك كل جملة مفيدة مستقلة بمعناها ، مكونة من كلمتين. ـ أو أكثر كما سيجىء ـ قد كتب صباحا : كلم ، ويصح أن يسمى : «قولا.» وكذلك كل تركيب يشتمل على ثلاث كلمات فأكثر ، من غير أن يفيد.

١٨

كتب على صباحا : كلم أيضا. ويصح أن يسمى : خ خ كلاما ، أو : قولا. وكذلك كل تركيب يشتمل على ثلاث كلمات فأكثر مع الإفادة المستقلة. كتاب على : يسمى : «قولا.» فقط .. وكذلك كل تركيب يشتمل على كلمتين فقط من غير إفادة.

فالقول منطبق على كل نوع ، وصادق على كل فرد من أفراد ذلك النوع ومن غيره. وقد يوضح هذا كلمة أخرى مثل : ؛ «معدن» ؛ فإن «المعدن» أنواع كثيرة ؛ منها الذهب ، والفضة ، والنحاس ... فكلمة ؛ «معدن» أعم من كل كلمة من تلك الكلمات عموما مطلقا ، وكل نوع أخص منه خصوصا مطلقا ؛ لأن كلمة «معدن» بالنسبة للذهب ـ مثلا ـ تشمله. وتشمل نوعا أو أكثر غيره ـ كالفضة ـ. أما الذهب فمقصور على نوعه الخاص. فالمعدن عام ؛ لأنه يشمل نوعين أو أكثر. والذهب خاص ؛ لأنه لا يشمل إلا نوعا واحدا. و «المعدن» عام عموما مطلقا ؛ لأنه ينطبق دائما على كل فرد من أفراد نوعيه أو أنواعه وذلك فى كل الحالات.

* * *

(ب) ثم تأتى الموازنة بين «الكلم» و «الكلام» فتدل على أمرين :

أحدهما : أن «الكلم» و «الكلام» يشتركان معا فى بعض الأنواع التى يصدق على كل منها أنه : «كلم» وأنه : «كلام» ـ ؛ فيصح أن نسميه بهذا أو ذاك ؛ كالعبارات التى تتكون من ثلاث كلمات مفيدة ؛ فإنها نوع صالح لأن يسمى : «كلاما» أو : «كلما». وكالعبارات التى تتكون من أربع كلمات مفيدة ؛ فإنها نوع صالح لأن يسمى : «كلاما» أو : «كلما» وهكذا كل جملة اشتملت على أكثر من ذلك مع الإفادة المستقلة.

ثانيهما : أن كلا منهما قد يشتمل على أنواع لا يشتمل عليها الآخر فيصير أعم من نظيره أنواعا ، وأوسع أفرادا ؛ مثال ذلك : أن «الكلم» وحده يصدق على كل تركيب يحوى ثلاث كلمات أو أكثر ، سواء أكانت مفيدة ، مثل : (أنت خير مرشد) أم غير مفيدة ، مثل : (لما حضر فى يوم الخميس) فهو من هذه الناحية أعم وأشمل من الكلام ؛ لأن الكلام لا ينطبق إلا على المفيد ، فيكون ـ بسبب هذا ـ أقل أنواعا وأفرادا ؛ فهو أخص.

لكن «الكلام» ـ من جهة أخرى ـ ينطبق على نوع لا ينطبق عليه «الكلم» كالنوع الذى يتركب من كلمتين مفيدتين ؛ مثل : «أنت عالم» وهذا يجعل

١٩

الكلام أعم. وأشمل من نظيره ، ويجعل الكلم أخص.

فخلاصة الموازنة بين الاثنين : أنهما يشتركان حينا فى نوع (أى : فى عدد من الأفراد) ، ثم يختص كل واحد منهما بعد ذلك بنوع آخر ينفرد به دون نظيره ؛ فيصير به أعم وأشمل. فكل منهما أعم وأشمل حينا ، وأخص وأضيق حينا آخر. ويعبر العلماء عن هذا بقولهم : «إن بينهما العموم من وجه ، والخصوص من وجه.» أو : «بينهما العموم والخصوص الوجهى».

يريدون من هذا : أنهما يجتمعان حينا فى بعض الحالات ، وينفرد كل منهما فى الوقت نفسه ببعض حالات أخرى يكون فيها أعم من نظيره ، ونظيره أعم منه أيضا ؛ فكلاهما أعم وأخص معا. وإن شئت فقل : إن بينهما العموم من وجه والخصوص من وجه (أى ؛ الوجهى) فيجتمعان فى مثل قد غاب على ... وينفرد الكلام بمثل : حضر محمود ... وينفرد الكلم بمثل : إن جاء رجل ... فالكلم أعم من جهة المعنى ؛ لأنه يشمل المفيد وغير المفيد ، وأخص من جهة اللفظ ؛ لعدم اشتماله على اللفظ المركب من كلمتين.

والكلام أعم من جهة اللفظ ؛ لأنه يشمل المركب من كلمتين فأكثر. وأخص من جهة المعنى ؛ لانه لا يطلق على غير المفيد.

* * *

(ح) أما موازنة الكلمة بغيرها فتدل على أنها أخص الأنواع جميعا.

* * *

شىء آخر يعرض له النحاة بمناسبة : «كلم». يقولون :

إننا حين نسمع كلمة : رجال ، أو : كتب ، أو : أقلام ، أو : غيرها من جموع التكسير نفهم أمرين :

أولهما : أن هذه الكلمة تدل على جماعة لا تقل عن ثلاثة ، وقد تزيد. ثانيهما : أن لهذا الجمع مفردا نعرفه من اللغة ؛ هو : رجل ، كتاب ، قلم ... وكذلك حين نسمع لفظ : «كلم» نفهم أمرين :

أولهما : أنه يدل على جماعة من الكلمات ، لا تقل عن ثلاث ، وقد تزيد ؛ (لأن «الكلم» فى الأصل يتركب من ثلاث كلمات أو أكثر ؛ فهو من هذه الجهة يشبه الجمع فى الدلالة العددية ؛ فكلاهما يدل على ثلاث أو أكثر).

ثانيهما : أن «للكلم» مفردا نعرفه ونصل إليه بزيادة تاء للتأنيث فى آخره ؛

٢٠