كتاب اللّامات

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي

كتاب اللّامات

المؤلف:

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي


المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧

القائم والضارب يدلّ على أنّ الألف واللام فيهما ليستا (١) بمعنى الذي.

والوجه الثالث ينفرد به الكوفيون خاصة ، ويذكر بعقب هذا الباب مفردا بمسائله إن شاء الله.

ومن هذا الوجه الثاني قول الله عزّ وجلّ : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٢) (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٣) قال المبرّد والمازنيّ وغيرهما من البصريين : ليست الألف واللام بمعنى الّذي ؛ لأنه لو كان التقدير : وأنا من الشاهدين على ذلك ، بمعنى : من الذين شهدوا على ذلك ، لم تقدّم صلة الّذي عليه. وكذلك لو كان التقدير : وكانوا من الذين زهدوا فيه ، لم يجز / تقديم صلة الذي عليه (٤). ولكنّ الألف واللام للتعريف لا بمعنى الّذي. قالوا : وفي الآيتين وجه آخر ؛ أن تكون الألف واللام بمعنى الذي ويكون قوله (مِنَ الشَّاهِدِينَ)

__________________

(١) في الأصل : الألف واللا فيهما ليس ..

(٢) الآية : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ...) الأنبياء ٢١ : ٥٦.

(٣) الآية : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ ...) يوسف ١٢ : ٢٠.

(٤) لا حظ أنه إذا قدرت (ال) في (الزاهدين) موصولة امتنع تعليق (فيه) ب (زاهدين) لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول ، وفي المغني (٢ : ٥٩٨) أنه يجب حينئذ تعلّقها بأعني محذوفة ، أو بزاهدين محذوفا مدلولا عليه بالمذكور ، أو بالكون المحذوف الذي تعلق به من الزاهدين.

٤١

و (مِنَ الزَّاهِدِينَ) تبيينا لا صلة للّذي ، وإذا كان تبيينا جاز تقديمه لأنه ليس في الصلة (١) ، وعلى هذين التأويلين تأوّلوا قول الشاعر :

تقول ، وصكّت صدرها بيمينها :

أبعلي هذا بالرّحى المتقاعس (٢)

أحدهما أن تكون الألف واللّام في المتقاعس للتعريف ، لا بمعنى الذي كما ذكرنا ، فجاز تقديم بالرّحى عليه. والآخر أن يكونا بتأويل الذي ، ويكون بالرّحى تبيينا كأنه قال : أبعلي هذا المتقاعس ، وتمّت صلة الذي ، جعل بالرّحى تبيينا فجاز تقديمه لذلك.

__________________

(١) وانظر تفصيل رأي المبرد هذا في الكامل ١ : ٣٥.

(٢) من أبيات استحسنها المبرد ورواها في الكامل (١ : ٣٥) وقال إنها لأعرابي من بني سعد بن زيد مناة ، وفي لسان العرب (مادة : ردع) بيت منها منسوب إلى نعيم ابن الحارث السعدي. وانظر الخصائص ١ : ٢٤٥ ، ورغبة الآمل ١ : ١٤٢. قال أبو العباس : «قوله : المتقاعس ، إنما هو الذي يخرج صدره ويدخل ظهره ... وقوله : بالرّحى المتقاعس ، لو أراد : الذي يتقاعس بالرحى ، لم يجز ؛ لأن قوله بالرحى من صلة الذي ، والصلة من تمام الموصول ، فلو قدّمها قبله لكان لحنا وخطأ فاحشا ، وكان كمن جعل آخر الاسم قبل أوله ، ولكنه جعل المتقاعس اسما على وجهه ، وجعل قوله بالرحى تبيينا بمنزلة لك التي تقع بعد قولك سقيا ، وبمنزلة بك التي تقع بعد مرحبا ، فان قدّمتها قبل سقيا ومرحبا فذلك جيد بالغ ، تقول : بك مرحبا وأهلا ، وتقول : لك حمدا ، ولزيد سقيا.» الكامل ١ : ٣٥.

٤٢

قال أبو إسحاق الزجّاج (١) في قول الشاعر :

ربّيته حتّى إذا تمعددا

كان جزائي بالعصا أن أجلدا (٢)

فيه وجهان : أحدهما : أن يكون الجزاء اسم كان ، وبالعصا خبرها ، ويكون أن أجلد غير متّصل بالعصا ، ولكن يكون الكلام قد تمّ دونه ، وأن أجلد في موضع رفع خبر ابتداء مضمر ، كأنه قال : هو أن أجلد. ويجوز أن يكون نصبا بدلا من قوله بالعصا ، فيكون التقدير : كان جزائي أن أجلد. والوجه الثاني : أن يكون بالعصا تبيينا ، ويكون أن أجلد خبر كان ، ولا يجوز أن يكون بالعصا في صلة أن أجلد لأنه قد قدّمه عليه.

وقال المبرّد في قول الله عزّ وجلّ (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ

__________________

(١) هو إبراهيم بن السريّ الزجاج ، وإليه نسب تلميذه أبو القاسم الزجّاجي.

أخذ الزجاج النحو عن ثعلب ثم تركه ولزم المبرد. ومات سنة ٣١١ ه‍. ترجمته في إنباه الرواة ١ : ١٥٩ ، وطبقات الزبيدي : ١٢١ ، وتاريخ بغداد ٦ : ٨٩ ، وبغية الوعاة : ١٧٩.

(٢) تمعدد : غلظ وسمن. وانظر التاج (مادة : معد). وفي أساس البلاغة : تمعدد : غلظ وصلب وذهبت عنه رطوبة الصبّا. قال :

ربيته حتى إذا تمعددا

وآض نهدا كالحصان أجردا

والبيت في إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم ص ٢١. وانظره مع التعليق عليه في المنصف ١ : ١٣٠ وشرح المفصل ٩ : ١٥١ والأشموني : ٥٥٢.

٤٣

هُمُ الْأَخْسَرُونَ.)(١) : في الآخرة ظرف لقوله الأخسرون ؛ لأنّ الألف واللام فيه ليستا بتأويل الّذي. قال : فأمّا قوله عزّ وجلّ : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(٢) : فإن في الآخرة ليس بظرف للخاسرين ؛ لأن الألف واللام بتأويل الّذي ، ولكن تكون تبيينا على ما مضى من الشرح ، أو تكون الألف واللام للتعريف على مذهب أبي عثمان كما ذكرنا فيما مضى ، فيجوز تقديم الظّرف عليه.

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٢٢.

(٢) سورة النحل ١٦ : ١٠٩.

٤٤

باب ذكر المذهب الذي ينفرد به الكوفيّون

من دخول الألف واللام بمعنى الذي على

الأسماء المشتقّة.

اعلم أنّ الأسماء المشتقّة من الأفعال نحو : ضارب وقائم وذاهب وما أشبه ذلك / يدخل عليها الكوفيون الألف واللّام ، ويجعلونها مع الألف واللّام بمنزلة الّذي ، ويصلونها بما توصل به الّذي ، فيقولون : القائم أكرمت عمرو ؛ فيرفعون القائم بالابتداء ، وعمرو خبره ، وأكرمت صلته ، كأنّهم قالوا : الّذي أكرمت عمرو ، قالوا : فإن جعلنا القائم بمعنى الّذي قام ، قلنا : القائم أكرمت عمرا ، فينصب القائم بوقوع الفعل عليه ، وعمرو بدل منه ؛ لأنّ أكرمت لا تكون صلة الألف واللّام وقد جعلت القيام صلتها. وهذا الوجه الثاني يوافقهم عليه البصريون. والوجه الأول ينفرد به الكوفيّون.

ونذكر مسائل هذا الباب على مذهب الكوفيّين لتعرفه ، نقول : من ذلك : الراكب ضربت زيد ؛ إذا جعلت الراكب بمعنى الّذي. وإن جعلته بمعنى الّذي ركب ، قلت : الرّاكب ضربت زيدا. وكذلك تقول : القاعد أكرمت أخوك ، والقاعد أكرمت أخاك. فإن

٤٥

جئت بتوكيد أو معطوف أو منصوب حتّى تصرّح بمعنى الّذي فعل لم يجز أن تجريه مجرى الّذي وتصله بصلة فتقول : القائم وعمرو ضربت زيدا ، في النصب. ولا يجوز رفعه. وكذلك : القاعد نفسه أكرمت أخاك ، والضارب زيدا رأيت أباك. فقس على هذا ما يرد منه إن شاء الله تعالى.

٤٦

باب لام الملك

لام الملك موصلة لمعنى الملك إلى المالك ، وهي متّصلة بالمالك لا المملوك ، كقولك : هذه الدار لزيد ، وهذا المال لعمرو ، وهذا ثوب لأخيك. وقد تتقدّم مع المالك قبل المملوك إلّا أنه لا بدّ من تقدير فعل تكون من صلته كقولك : لزيد مال ، ولعبد الله ثوب ؛ لأنّ التقدير معنى الملك ، قال الشاعر :

لليلى بأعلى ذي معارك منزل

خلاء تنادى أهله فتحمّلوا

فإن قال قائل : فما الفرق بين قولك : هذا غلام زيد ، وهذا غلام لزيد ، إذا كنت قد أضفته في الوجهين إلى زيد؟ قيل له : الفرق بينهما أنك إذا قلت : هذا غلام زيد ، فقد عرّفته بزيد ، وإنّما تخاطب بهذا من قد عرف ملك زيد إيّاه وشهر به عنده. وإذا قلت : هذا غلام لزيد ، فإنّما تشير إلى غلام / منكور ثمّ عرّفت مخاطبك أنّ زيدا يملكه في عدّة غلمان أو وحده ، فأفدته من معنى الملك ما لم يعلمه ، فهذه مخاطبة من لم يعلم ملك زيد إيّاه حتى أفدته. وغلام في هذا الوجه نكرة وإن كانت اللّام قد أدّت عن معنى إضافته إلى

٤٧

زيد ، لأنّها تفصل بين المضاف والمضاف إليه من أن يتعرّف المضاف به أو يكون المضاف إليه تماما له. وقد تدخل لام الملك في الاستفهام إذا كان المملوك غير معروف مالكه كقولك : لمن هذا الثوب؟

ولمن هذه الدار؟ كما قال امرؤ القيس (١) :

لمن طلل أبصرته فشجاني

كخطّ زبور في عسيب يمان (٢)

فجواب مثل هذا أن ترد اللام في الجواب لزيد ولعمرو ، لتدلّ بها على معنى الملك واتّصاله بالمخفوض بها واستحقاقه إيّاه. فأمّا قول الله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٣) فإنّما هو على جهة التّوبيخ لهم والتنبيه ، لا على أنّ مالكهما غير معلوم إلّا من جهتهم ، تعالى الله عن ذلك ، ألا تراه قال : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فكأنّه قيل لهم : فإذا كنتم مقرّين بهذا عالمين به فلم تعبدون غيره؟

__________________

(١) امرؤ القيس بن حجر ، كبير شعراء العربية ، وسيّد شعراء الجاهلية ، من أصحاب المعلّقات. كان أبوه ملك أسد وغطفان. مات مسموما حوالي سنة ٨٠ ق ه.

وديوانه مطبوع.

(٢) ديوان امرئ القيس : ٨٥ وفيه : كخطّ زبور ، أي أن الطلل قد درس وخفيت آثاره ، فلا يرى منه إلا مثل الكتاب في الخفاء. وقوله : في عسيب يمان ، كان أهل اليمن يكتبون في عسيب النخلة عهودهم وصكاكهم. ويروى : في عسيب يمان ، على الإضافة ، أي أراد في عسيب رجل يمان.

(٣) وبعدها (سيقولون : لله ، قل : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ.) المؤمنون ٢٣ : ٨٤ ـ ٨٥.

٤٨

وربّما أضرب المسؤول عن مثل هذا فلم يأت بالجواب على اللفظ وعدل إلى المعنى كقول الشاعر :

وقال القائلون : لمن حفرتم؟

فقال المخبرون لهم : وزير (١)

فرفع وكان سبيله أن يقول : لوزير ، ولكنّه حمل الكلام على المعنى فكأنّه قال : المحفور له وزير. قال يونس بن حبيب (٢) : ومثله قول الله عزّ وجلّ : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ.)(٣) لأنهم لم يقرّوا أنّ الله أنزله ، فعدلوا عن الجواب عنه فقالوا : أساطير الأولين ، تقديره : هذه أساطير الأوّلين. ألا ترى أنّ المقرّين نصبوا الجواب فقالوا : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا : ما ذا

__________________

(١) في الجامع لأحكام القرآن أن من الحذف الذي يدلّ ظاهر الكلام عليه قول الشاعر :

وأعلم أنني سأكون رمسا

إذا سار النواعج لا يسير

فقال السائلون لمن حفرتم

فقال القائلون لهم وزير

قال : المعنى : المحفور لهم وزير ، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، وهذا كثير.

والنواعج من الإبل السريعة.». الجامع لأحكام القرآن ١ : ١٣٦.

(٢) كان يونس عالما بالعربية ، أخذ عنه سيبويه والكسائي ، وروى عنه سيبويه في الكتاب. ومات سنة ١٨٢ ه‍ وترجمته مفصلة في مراتب النحويين : ٢١ وطبقات الزبيدي : ٤٨ ومعجم الأدباء ٧ : ٣١٠ وأعلام العرب (العدد : ٧٥) للدكتور حسين نصار.

(٣) سورة النحل ١٦ : ٢٤ واستشهد سيبويه بهذه الآية في (باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي ... وإجرائهم إياه مع ما بمنزلة اسم واحد.) الكتاب : ١ : ٤٠٥.

٤٩

أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : خَيْراً)(١) حملوا الجواب على اللفظ كأنّهم قالوا : أنزل خيرا. وقد يجوز رفع مثل هذا في الكلام ، وإن ثبتت به قراءة كان وجها جيّدا ، فجعل ذا بتأويل الذي ، كأنه قيل : ما الذي أنزل ربّكم؟ فجوابه : خير. ومثله قول الشاعر :

ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل (٢)

__________________

(١) في الأصل : وإذا قيل ... ، وهي الآية ٣٠ من سورة النحل. وقد استشهد بها سيبويه على إجرائهم. ذا مع ما بمنزلة اسم واحد. انظر الكتاب ١ : ٤٠٥ وانظر المغني ٢ : ٦٦٨ و ٦٧٣ حيث قال ابن هشام : ولا خلاف في جواز حذف الفاعل مع فعله نحو : (قالوا : خيرا) وكذلك استشهد بها على حذف الفعل في جواب الاستفهام (المغني ٢ : ٧٠٢).

(٢) البيت للبيد ، وهو في ديوانه : ٢٥٤ واستشهد به سيبويه على إجرائهم ذا بمنزلة الذي (الكتاب ١ : ٤٠٥) واستشهد به ابن هشام على أن (ما) استفهامية و (ذا) موصولة (المغني ١ : ٣٣٢). وانظر الأشموني : ٧٢ والخزانة ٢ : ٥٥٦.

٥٠

/ باب لام الاستحقاق

لام الاستحقاق (١) خافضة لما يتصل بها كما تخفض لام الملك. ومعنياهما متقاربان ، إلّا أنّا فصلنا بينهما لأنّ من الأشياء ما لا تستحق ، ولا يقع عليها الملك. ولام الاستحقاق كقوله عزّ وجلّ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٢) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا)(٣) وكقولك : المنّة في هذا لزيد ، والفضل فيما تسديه إليّ لزيد. ألا ترى أنّ المنّة والفضل ليس مما يملك ، وإن كان المملوك والمستحق حاصلين للمستحقّ والمالك. ولام الملك والاستحقاق جميعا من صلة فعل أو معناه ، لا بدّ من ذلك. وكذلك سائر حروف الخفض ، كلّها صلات لأفعال تتقدّمها وتتأخّر عنها ، كقولك : الحمد لله ربّ العالمين ، والمال لزيد. يقدّر سيبويه فيهما معنى الاستقرار ؛ تقديره عنده : المال مستقر لزيد ، والحمد مستقرّ لله تعالى ، وكذلك يقدّر في الظروف

__________________

(١) عرّفها ابن هشام بقوله : هي الواقعة بين معنى وذات (المغني ١ : ٢٢٨).

(٢) سورة الفاتحة : ١ : ١.

(٣) الآية : (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) الأعراف ٧ : ٤٣.

٥١

كلّها معنى الاستقرار. والفرّاء يقدّر معنى الحلول ، كقولك : زيد في الدار ، تقديره عنده : زيد حلّ في الدار. وأمّا الكسائيّ فلم يحفظ عنه في ذلك تقدير ، ولكن يسمّي الحروف الخافضة والظروف كلّها الصفات ، وينصبها لمخالفتها الأسماء.

٥٢

باب لام كي

اعلم أنّ لام كي تتصل بالأفعال المستقبلة ، وينتصب الفعل بعدها عند البصريين بإضمار (أن) ، وعند الكوفيين اللام بنفسها ناصبة للفعل (١) ، وهي في كلا المذهبين متضمّنة معنى كي ، وذلك قولك : زرتك لتحسن إليّ ، المعنى : كي تحسن إليّ ، وتقديره : لأن تحسن إليّ. فالناصب للفعل (أن) المقدّرة بعد اللّام (٢). وهذه اللّام عند البصريين هي الخافضة للأسماء ، فتكون أن والفعل بتقدير مصدر مخفوض باللّام كقولك : جئتك لتحسن إليّ ، أي للإحسان إليّ ، هكذا تقديره عندهم ، واستدلّوا على صحّة هذا المذهب بأنّ حرفا واحدا لا يكون خافضا للاسم ناصبا للفعل ؛ فجميع الحروف سوى التي تنصب الأفعال المستقبلة ، سوى أن ولن وإذن ،

__________________

(١) انظر تفصيل الخلاف في ذلك وحجج كل من البصريين والكوفيين في المسألة ٧٩ من كتاب الإنصاف.

(٢) واعلم أنه يجوز عند الكوفيين إظهار أن بعد كي ، ويكون النصب بكي ، و (أن) توكيد لها ولا تعمل. وأما البصريون فلا يجيزون إظهار أن بعد كي. وانظر المسألة ٨٠ من كتاب الإنصاف.

٥٣

إنما تنصبها بإضمار أن. والكوفيون يرون أنّ هذه الحروف أنفسها ناصبة للأفعال (١). ولام كي نحو قول الله عزّ وجلّ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ / لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً)(٢) ، ونحو قول الفرزدق (٣) :

دعوت الذي سوّى السموات أيده

ولله أدنى من وريدي وألطف

ليشغل عني بعلها بزمانة

فتذهله عني وعنها فنسعف (٤)

يريد : دعوت ربّي لكي يشغل بعلها بزمانة. وإنما تجيء هذه اللّام مبيّنة سبب الفعل الّذي قبلها (٥).

__________________

(١) يرى الكوفيون أن لام كي تقوم مقام كي ، وتشتمل على معناها ، وكما أن (كي) تنصب الفعل فكذلك اللام التي تقوم مقامها. وأما البصريون فلا يسلّمون بذلك.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٧.

(٣) هو أبو فراس ، همّام بن صعصعة التميمي الدارمي ، من فحول الشعراء في العصر الأموي ، وصاحب النقائض المشهورة مع جرير. مات سنة ١١٠ ه‍.

(٤) ديوان الفرزدق ٢ : ٥٥٤ والرواية فيه : تدلّهه عني وعنها ...

(٥) انظر مغني اللبيب ١ : ١٩٩ ـ ٢٠٠ و ٢٣١.

٥٤

باب لام الجحود

لام الجحود (١) سبيلها في نصب الأفعال بعدها بإضمار (أن) سبيل لام كي عند البصريين ، إلّا أنّ الفرق بينهما هو أنّ لام الجحود لا يجوز إظهار (أن) بعدها ، كقولك : ما كان زيد ليخرج ، تقديره : لأن يخرج ، وإظهار (أن) غير جائز ، ويجوز إظهار (أن) بعد لام كي ، كقولك : جئتك لتحسن إليّ ، ولو أظهرت (أن) فقلت : جئتك لأن تحسن إليّ ، كان ذلك جائزا ، ولا يجوز في لام الجحود (٢). وكذلك لا يجوز إظهار (أن) بعد الفاء ، والواو ، وأو ، وكي ، وحتى (٣) ، إذا نصبت بعدها الأفعال في قولك : متى تخرج فأخرج معك. وسألزمك أو تقضي حقّي ، كما قال امرؤ القيس (٤) :

__________________

(١) وهي عند بعض النحويين لام توكيد النفي.

(٢) وأما عند الكوفيين فهي لام زائدة أدخلت لتقوية النفي ، وهي عندهم غير جارّة ولكنها ناصبة. ويرى البصريون أنها حرف جرّ معدّ للفعل متعلق بخبر كان المحذوف ، وأن النصب بعدها بأن مضمرة وجوبا (انظر المغني ١ : ٢٣٢ والإنصاف ، المسألة : ٨٢).

(٣) وذلك لأن النصب بعد هذه الحروف إنما يكون عند البصريين بأن المضمرة ، خلافا للكوفيين.

(٤) تقدّمت ترجمته في ص ٤٨.

٥٥

فقلت له : لا تبك عينك ، إنّما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (١)

وفي قولك : لا تقصد زيدا فأغضب عليك ، كما قال الله تعالى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ)(٢) وفي قولك : سرت حتى أدخل المدينة ، وفي قول الله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ)(٣) لا يجوز إظهار (أن) في شيء من هذه المواضع.

ولام الجحود إنّما تعرف من لام كي بأن يسبقها جحد (٤) كقولك : ما كان زيد ليخرج ، ولست لأقصد زيدا ، ونحو قول الله تعالى :

__________________

(١) ديوان امرئ القيس : ٦٦ والبيت من شواهد الكتاب ١ : ٤٢٧.

(٢) الآية : (قالَ لَهُمْ مُوسى : وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) طه ٢٠ : ٦١.

(٣) تتمة الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) البقرة ٢ : ٢١٤ وهي من الشواهد التي ذكرها ابن هشام على جواز النصب والرفع. انظر المغني ١ : ١٣٤ و ١٣٥ و ٢ : ٧٧١.

(٤) قال ابن هشام في ذكر معاني اللام الجارّة : «توكيد النفي وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقة ب (ما كان) أو ب (لم يكن) ناقصتين مسندتين لما أسند إليه الفعل المقرون باللام ، نحو (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ.) .. ويسميها أكثرهم لام الجحود لملازمتها للجحد أي للنفي. قال النحاس : والصواب تسميتها لام النفي ، لأن الجحد في اللغة إنكار ما تعرفه لا مطلق الإنكار.» المغني ١ : ٢٣٢.

٥٦

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ)(١) و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ)(٢)(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)(٣) وما [أشبه](٤) ذلك.

فإن قال قائل : فقد زعمتم أنّ إظهارها غير جائز (٥) ، فكيف يضمر ما لا يجوز إظهاره؟ وكيف نعرف حقيقة هذه الدّعوى؟ فالجواب في ذلك أنّ إعراب الأفعال محمول على إعراب الأسماء ؛ لأنّ الأسماء هي الأولى ، وأشدّ تمكّنا ، وإنما أعربت / الأفعال لمضارعتها الأسماء (٦) ، فلمّا كانت الأسماء قد تنصب بمضمرات لا يجوز إظهارها

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٤٣.

(٢) الآية : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ..) آل عمران ٣ : ١٧٩ وقد استشهد ببعضها ابن هشام كما رأيت في الحاشية ٤ من الصفحة السابقة.

(٢) الآية : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ..) آل عمران ٣ : ١٧٩ وقد استشهد ببعضها ابن هشام كما رأيت في الحاشية ٤ من الصفحة السابقة.

(٣) زيادة ليست في الأصل.

(٤) انظر الحاشية ٣ في ص ٥٥.

(٥) قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين : المستحق للاعراب من الكلام الأسماء ، والمستحق للبناء الأفعال والحروف. هذا هو الأصل ، ثم عرض لبعض الأسماء علة تمنعها من الإعراب فبنيت ، وتلك العلة مشابهة الحرف. وعرض لبعض الأفعال ما أوجب لها الإعراب فأعربت ، وتلك العلة مشابهة الأسماء. وبقيت الحروف كلها على أصولها مبنية. وانظر تفصيل ذلك في كتاب الإيضاح في علل النحو للزجاجي : ٧٧.

٥٧

كقولك : إيّاك والشرّ ، لا يجوز إظهار ما نصب إيّاك بإجماع من النحويين ، وكقول الشاعر :

إيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشرّ دعّاء وللشرّ جالب (١)

وكقولهم في التحذير : الأسد الأسد ، ولا يجوز إظهار الفعل الناصب هاهنا مع تكرير الأسد ، فإن أظهرته وحّدت فقلت : احذر الأسد. ولا يجوز أن تقول : احذر الأسد الأسد. ومثل ذلك قولهم : اللّيل اللّيل. ومن ذلك قولهم : أزيدا ضربته؟ وقام القوم إلّا زيدا. ويا عبد الله أقبل. لا يجوز إظهار الناصب هاهنا ، فأمّا في الاستثناء والنداء فقد ناب الحرفان عن الفعل فنصبا ، وليس معهما إضمار غيرهما. وأما سوى ذلك فمعه مضمر لا يجوز إظهاره. وقد يضمر ما يجوز إظهاره كرجل رأيته يضرب آخر فقلت : الرأس يا هذا ، لو أظهرت الفعل فقلت : اضرب الرأس ، لجاز ، وكقوم رأيتهم يتوقّعون الهلال فكبّروا فقلت : الهلال ، تخبر أنّهم رأوه ،

__________________

(١) هو للفضل بن عبد الرحمن القرشي. وانظر الكتاب ١ : ١٤١. وطبقات الزبيدي : ٥٠ ، والخصائص ٣ : ١٠٢ ، وشرح المفصّل ٢ : ٢٥ ، والمغني ٢ : ٧٥٦ والأشموني : ٤٨٠ ، والخزانة ١ : ٤٦٥. ورواية الخصائص : وإياك ، والمغني والخزانة : فاياك. وأما رواية سيبويه والزبيدي فهي كرواية الزجاجي على خرم فعولن الأولى.

٥٨

ولو قلت : أبصروا الهلال ، لجاز. وكذلك هذه الحروف الناصبة للأفعال بإضمار أن لا يجوز إظهار (أن) بعدها كما لم يجز إظهار الأفعال الناصبة للأسماء التي تقدّم ذكرها. وجاز بعد لام كي كما جاز إظهار المضمر في قولهم : الرأس والهلال وما أشبه ذلك ، لتجري الأفعال في إضمار عواملها مجرى الأسماء إذ كانت هي الأصول (١).

__________________

(١) واعلم أن الكوفيين لا ينصبون الفعل بعد الواو والفاء وأو وكي وحتى ولام كي ولام الجحود بأن مضمرة ، ولا يقولون بوجود (أن) مضمرة أصلا بعدها ، وإنما يذهب بعضهم إلى أن الفعل ينصب بعدها على الخلاف : وفي الموفي في النحو الكوفي : «وينصب بحتّى ولام كي ولام الجحود وفاء السببية وواو الجمع وثم ، ـ أي من غير إضمار أن بعدها ـ إذا كنّ بعد أمر أو نهي أو تمنّ أو ترجّ أو استفهام أو عرض أو دعاء بلفظ الخبرية ، وبأو بمعنى إلى ، وعاطف للفعل على الاسم ، ويجوز ذكر أن بعده وبعد حتى ولام الجحود للتقوية. وقال الفراء : إن الفعل بعد الفاء والواو وأو منصوب على الخلاف. وقال ثعلب : إن لام كي ولام الجحود تنصبان لقيامهما مقام أن.» الموفي ١١٦ و ١١٧ وانظر أيضا الكتاب ١ : ٤١٨ و ٤٢٥ و ٧٤٧ والإنصاف المسائل : ٧٥ و ٧٦ و ٨٠ و ٨٢ و ٨٣ والرماني النحوي ٣٢٤ والمغني ١ : ٧٠ و ٧١ و ١٣٣ و ١٧٣ و ١٩٩ و ٢٠٠ و ٣٩٩.

٥٩

باب لام إنّ

اعلم أنّ (لام إنّ) تدخل مؤكّدة للخبر ، كما تدخل إنّ مؤكّدة للجملة في قولك : إنّ زيدا قائم ، وإنّ زيدا لقائم ؛ دخلت اللّام في الخبر مؤكّدة له ، كما دخلت إنّ مؤكّدة للجملة ، كما قال الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)(١) و (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ. وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ)(٢). هذا مذهب سيبويه. وقال الفرّاء : هذا كلام يقع جوابا تحقيقا بعد نفي ، كأنّ قائلا قال : ما زيد قائم ، فقلت : إنّ زيدا قائم ؛ فأدخلت إنّ في كلامك تحقيقا بإزاء ما النافية في كلامه. فإن قال : ما زيد بقائم ، قلت : إنّ زيدا لقائم ؛ فجعلت إنّ بإزاء ما ، واللام بإزاء الباء (٣). وقد اعترض

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ : ٨. وفي الأصل : إن الله ...

(٢) سورة الشعراء ٢٦ : ٥٤ ـ ٥٦.

(٣) ونقل الإمام الجرجاني أن ابن الأنباري قال : «ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس ، وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا ، فقال له أبو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : عبد الله قائم ، ثم يقولون : إن عبد الله قائم ، ثم يقولون : إن عبد الله لقائم. فالألفاظ متكررة والمعنى واحد. فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ ؛ فقولهم : عبد الله قائم ، إخبار عن قيامه ، وقولهم :

٦٠