كتاب اللّامات

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي

كتاب اللّامات

المؤلف:

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي


المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧

/ باب اللام التى تكون موصلة لبعض الأفعال

الى مفعوليها وقد يجوز حذفها

وذلك قولك : نصحت زيدا ، ونصحت لزيد ، والمعنى واحد. وكذلك تقول : شكرت لزيد ، وشكرته ، قال الله عزّ وجلّ : (اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ)(١) وقال : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢). وكذلك تقول : كلت لزيد الطعام ، وكلته الطعام. ووزنته ، ووزنت له ، قال الله تبارك وتعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). (٣) ومن ذلك قوله تعالى : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ)(٤) تقديره : ردفكم ، والمعنى واحد ، وأهل

__________________

(١) من قوله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ). لقمان ٣١ : ١٤ وكذلك جاءت (شكر) في القرآن متعدية إلى مفعولها مباشرة كما في قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). النحل ١٦ : ١١٤.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٦٢.

(٣) قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ ...) المطففين ٨٣ : ١ ـ ٣.

(٤) تتمة الآية : (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ). النمل ٢٧ : ٧٢.

١٦١

التفسير يقولون : معناه : دنا لكم ، وهذا ليس بمقيس ، أعني إدخال هذه اللّام بين المفعول والفعل ، وإنّما هو مسموع في أفعال تحفظ ولا يقاس عليها. ألا ترى أنه غير جائز أن يقال : ضربت لزيد ، وأكرمت لعمرو. وأنت تريد : ضربت زيدا ، وأكرمت عمرا. ومهما ثبتت به رواية صحيحة ألحق به.

هذا منتهى القول في اللّامات وأنواعها ومواقعها. وإن ورد منها ما لم نذكره فلن يخرج عن أصل من هذه الأصول البتة ، فتدبّر ما يرد عليك منها ، فإنه راجع إلى بعض ما ذكرناه إن شاء الله.

١٦٢

باب معرفة أصول هذه اللامات

وبيان تشعّبها منها

اعلم أنّ هذه اللّامات كلّها ، على اختلاف مواقعها ، وتباين تصرّفها ، متشعّبة من عشر لامات ، وهي الأصول لها كلّها ، وهي : الأصليّة ، ولام الإضافة ، ولام التوكيد ، ولام الأمر ، ولام الجحود ، ولام البدل ، ولام الجواب ، واللّام المزيدة ، ولام الفصل (١) ، ولام العاقبة.

وقد مضى شرحها مع سائر اللّامات فيما مضى مستقصى ، إلّا أنّ تلخيص ذلك أن تعلم :

أنّ لام الإضافة تجمع : لام الملك ، ولام الاستحقاق ، ولام المقسم به ، ولام المضمر ، ولام النفي ، ولام المنادى ، ولام التعجّب ، ولام التبيين ، ولام المستغاث ، والمستغاث به ، ولام المفعول من أجله ، واللّام التي تكون وصلة لبعض الأفعال / إلى

__________________

(١) لم يسبق للزجاجي أن عقد بابا بهذا العنوان ، وواضح أنه يعني بلام الفصل : اللام التي تدخل بعد إن المخففة فصلا بينها وبين النافية ، واللام التي تدخل مع الفعل المستقبل الموجب في القسم فصلا بينه وبين المنفي ، وقد أفرد لكل منهما بابا خاصا بها.

١٦٣

مفعوليها. كلّ هذه اللامات متشعّبة من لام الإضافة.

وأمّا لام التوكيد فإنّها تجمع : لام القسم ، ولام إنّ ، ولام الابتداء ، واللّام اللازمة للفعل المستقبل في الموجب في القسم.

وأمّا لام الأمر فإنّها تجمع : لام الأمر ، ولام الجزاء.

ولام الفصل تجمع لامين : اللّام التي تلزم إن المكسورة المخفّفة من الثقيلة ، ولام الإيجاب في القسم.

وأمّا اللّام الزائدة فإنّه يدخل تحتها : لام التكثير ، ولام لعلّ ، ولام عبدل.

شرح ذلك أن تعلم أنّ لام الإضافة تضيف الملك إلى المالك كقولك : هذه الدار لزيد ، وهذا المال لعمرو ، وكذلك تضيف ما استحقّ من الأشياء إلى مستحقّه كقولك : الشكر لك ، والحمد لله. وكذلك تضيف معنى القسم إلى المقسم به كقولك : لله لأخرجنّ ؛ لأنها صلة فعل مقدّر قبلها تقديره : أقسم بالله. وحروف الخفض كلّها صلات للأفعال ، ألا ترى أنك إذا قلت : مررت بزيد ، فإنّما أوصلت مرورك إلى زيد بالباء ، ولذلك قال سيبويه : إذا قلت : كتبت بالقلم ، فالمعنى أنّ الكتابة ملصقة بالقلم. فأمّا لام المضمر فحكمها في إضافة الملك والاستحقاق والعمل حكم اللّام التي

١٦٤

مع الظاهر الخافضة ، إلّا أنّا فرقنا بينهما لندلّ على العلّة التي من أجلها كسرت مع الظاهر ، وفتحت مع المضمر. وكذلك لام النفي و [لام](١) المنادى إنّما يضيفان النفي والنداء إلى ما يتصلان به في قولك : لا غلامي لك ، ويا بؤس للحرب. ولام التعجب كذلك في قوله : اعجبوا لزيد ولزيد ما أعلمه ، إنما هي موصلة لمعنى الشيء الذي من أجله وقع التعجب إلى المتعجّب منه. وكذلك لام التبيين والمستغاث والمستغاث به وسائر هذه اللامات على هذا التقدير.

وأمّا لام التوكيد فإنها مؤكّدة لما دخلت عليه. وكذلك لام الابتداء للتوكيد ، ولام إنّ للتوكيد ، ولام الشرط للتوكيد ، ولام القسم للتوكيد ، وكذلك سائر ما يتعلّق بها. وإنما فصلنا بينها فيما مضى لندلّ على مواقعها وأحكامها. ولام الجواب تجمع لام لو ، و [لام](٢) لولا ، ولام جواب القسم ، وكذلك لام الفصل لأنها / تزاد بعد إن المخفّفة من الثقيلة ليفصل بينها وبين النافية ، ومع الفعل المستقبل الموجب في القسم ليفصل بينه وبين المنفي.

وأمّا شرح اللّامات الزوائد في عبدل ، وحسدل ، ولعلّ ،

__________________

(١) زيادة ليست في الأصل.

١٦٥

وذلك ، وما اتّصل بها ، ففيما مضى من الشرح غنى عن إعادته ، وفيه دليل واضح على اجتماعها في معنى الزيادة وافتراقها في أحكامها ومواقعها ، ففصلنا بينها حيث وجب الفصل ، وجمعنا حيث وجب الجمع ، ولولا اختلاف مواقع هذه اللّامات ، وتباين أحكامها وعللها وشروطها ، لكان لقائل أن يقول اللّامات كلّها متشعّبة من لامين : لام أصليّة ، ولام زائدة. وهي لعمري كلّها ترجع إلى هاتين اللّامين ، إلّا أنا لو اقتصرنا لمتطلّب اللامات على هذه الحكاية تعسّر عليه جمعها ، وتفصيلها ، ومواقعها من كتاب الله تعالى ، وكلام العرب ، وأشعارها.

١٦٦

باب أحكام اللامات في الادغام

إنّما نذكر هذا ليكون هذا الكتاب جامعا لمعاني اللّامات وأحكامها ، ومعنى الإدغام إنّما هو إدخال حرف في حرف. واشتقاقه من قول العرب : أدغمت اللجام في في (١) الفرس ، إذا أدخلته فيه ، قال ساعدة بن جؤيّة : (٢)

بمقربات بأيديهم أعنّتها

خوص إذا فزعوا أدغمن في اللّجم (٣)

يقول : أدخلت رؤوسهنّ في اللجم والإدغام في كلام العرب على ضربين : أحدهما أن يلتقي حرفان مثلان متحرّكان ، وما قبل الأول منهما متحرّك ، فتسكّن الأول وتدغمه في الثاني ، وإظهار ذلك غير

__________________

(١) (في) الثانية بمعنى الفم.

(٢) وهو شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام. ترجمته في الخزانة ١ : ٤٧٦.

(٣) من قصيدة لساعدة مطلعها :

يا ليت شعري ألا منجى من الهرم

أم هل على العيش بعد الشيب من ندم

وهي في ديوان الهذليين ١ : ١٩١. والشاهد في تاج العروس أيضا (مادة : دغم).

والمقربات من الخيل : العتاق التي لا تترك في المرعى ولكن تحبس معدّة قرب البيوت.

وانظر التاج (مادة : قرب) وديوان الهذليين ١ : ٢٠٣.

١٦٧

جائز نحو : صلّ ، وملّ ، وشدّ ، ومدّ ، وأشباه ذلك. والآخر أن يلتقي حرفان مختلفان ، إلّا أن أحدهما مقارب للآخر في المجانسة أو المخرج ، فتبدل الأول من جنس الثاني ، وتدغمه فيه ، فيصير من لفظ الثاني ، كقولك : الرّحمن ، الرّحيم ، والسّميع ، والذّاهب (١) ، وما أشبه ذلك.

نقول على هذه المقدمة : الإدغام وصلك حرفا ساكنا بحرف مثله من موضع واحد أو موضعين ، من غير حركة تفصل بينهما ، ولا وقفة ، فيصيران بتداخلهما كحرف واحد ، ينبو اللسان عنهما نبوة واحدة ، ويشتدّ الحرف (٢).

وليس غرضنا / شرح الإدغام فنأتي على وجوهه وأحكامه ، وإنّما ذكرنا منه أصلا يدلّ على وجوهه لتعلّقه بمقصدنا ، ثمّ نرجع إلى ذكر اللّام. واعلم أنه لا بدّ من أن تعرف مخرج الحرف الذي تريد أن تعرف حكمه في الإدغام ، والحروف المجانسة له.

فمخرج اللام من طرف اللسان. وتقاربه في مخرجه الراء والنون. قال سيبويه : مخرج اللّام من حافّة اللسان [من] أدناها إلى منتهى طرف اللسان ، [ما] بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى

__________________

(١) يعني إدغام اللام بالراء ، والسين ، والذال ، في هذه الكلمات.

(٢) فالإدغام لغة إدخال الشيء في الشيء ، وأما في الاصطلاح فهو التقاء حرف بحرف متحرك ـ من حروف الإدغام ـ بحيث يصيران حرفا واحدا مشدّدا.

١٦٨

[وما] فويق الضاحك والناب والرباعيّة والثّنية. ومخرج النون من طرف اللسان ، بينه وبين ما فويق الثّنايا. ومخرج الراء أدخل من مخرج النون واللام ، في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى اللّام (١).

وفي الراء تكرير ليس في اللام ولا النون. والراء من مخرج اللّام كما ترى ، وإن تباعدا عنه أدنى تباعد فالمخرج واحد. وتقارب اللّام في مخرجها الطاء ، والدال ، والتاء ، والظاء ، والذال ، والثاء ، والسين ، والشين ، والصاد ، والضاد ، والزاي ؛ فلذلك صارت اللّام تدغم في هذه الحروف على ما أذكره. واعلم أنّ النون تدغم في اللّام كقولك : من لك ، فإن شئت بغنّة (٢) وإن شئت بغير غنّة ، ولا يكون ذلك إلّا من كلمتين. قال سيبويه : ليس في كلام العرب نون ساكنة قبل راء ولا لام في كلمة واحدة ؛ ليس فيه مثل : قنل ، ولا قنر ، ولا عنر ، ولا عنل ، وما أشبه ذلك. قال : لأنه لو بيّن لثقل عليهم لقرب المخرجين ، كما ثقل بيان التاء مع الدال في : ودّ (٣) وعدّان (٤) ،

__________________

(١) هنا ينتهي كلام سيبويه. وما وضعناه بين معقوفتين ليس في الأصل ولكنا زدناه من نصّ الكتاب ٢ : ٤٠٥.

(٢) الغنّة : صوت أغنّ يخرج من الأنف دون أن يشارك فيه اللسان.

(٣) أصله وتد ، قلبت التاء دالا وأدغمت في الدال الثانية ، وقيل هي لغة لنجد في الوتد (انظر التاج : وتد : والصحاح : وتد ، ودد).

(٤) أصله عتدان ، وهو جمع عتود كأعتدة. والعتود من أولاد المعز ما قوي ورعى وأتى عليه حول. (انظر التاج والصحاح : عتد).

١٦٩

ولو أدغم التبس بالمضاعف. وجاز الإدغام في : ود وعدّان ، لأن صوتهما من الفم ، والنون ليست كذلك لأنها تصير غنّة في الخياشيم ، فتلتبس بما ليس فيه غنّة (١). واللام تدغم في الراء نحو قولك : الرّاكب ، والرّاهب ، والرّحمن والرّحيم. ولا يجوز إدغام الراء في اللّام نحو قولك : مر لبيدا ، لا يكون في هذا إلا الإظهار ؛ وذلك أنّ في الراء تكريرا ، فلو أدغمت في اللّام ذهب التكرير ، فلا يجوز إدغام حرف فيه مزيّة وفضل / على مقاربه فيه في هذا الموضع وفي جميع العربيّة ؛ لأنه لو أدغم فيه ذهب الفضل الذي له (٢). وكذلك النون تدغم في الرّاء كقولك : مرّاشد؟ وأنت تريد : من راشد (٣)؟

__________________

(١) قال سيبويه : «ولا نعلم النون وقعت ساكنة في الكلام قبل راء ولا لام ؛ لأنهم إذا بيّنوا ثقل عليهم لقرب المخرجين ، كما ثقلت التاء مع الدال في ودّ وعدّان ، وإن أدغموا التبس بالمضاعف. ولم يجز فيه ما جاز في ودّ فيدغم ؛ لأن هذين حرفان كل واحد منهما يدغم في صاحبه ، وصوتهما من الفم ، والنون ليست كذلك ، لأن فيها غنة فتلتبس بما ليس فيه الغنة ، إذ كان ذلك الموضع قد تضاعف فيه الراء وذلك أنه ليس في الكلام مثل قنر وعنل ...» الكتاب ٢ : ٤١٦.

(٢) وقال سيبويه : «الراء لا تدغم في اللام ولا في النون ؛ لأنها مكررة ، وهي تفشّى إذا كان معها غيرها ، فكرهوا أن يجحفوا بها فتدغم مع ما ليس يتفشّى في الفم ولا يكرّر.» الكتاب ٢ : ٤١٢.

(٣) وقال سيبويه : «النون تدغم مع الراء ؛ لقرب المخرجين على طرف اللسان ، وهي مثلها في الشدّة ، وذلك قولك : من راشد ، ومن رأيت؟ وتدغم بغنّة وبلا غنّة.» الكتاب ٢ : ٤١٤.

١٧٠

والإظهار جائز. ولا يجوز إدغام الراء فيها كما لم يجز إدغامها في اللام ، والعلّة واحدة (١).

ولام المعرفة تدغم في أربعة عشر حرفا ؛ لا يجوز إظهارها معها لكثرة دور لام المعرفة في الكلام ، وتكرارها فيه ، وكثرة موافقتها لهذه الحروف. قال سيبويه (٢) : وذلك لأنّ اللّام من طرف اللسان كما ذكرت لك ، واثنا عشر حرفا (٣) من هذه الحروف من طرف اللسان ، وحرفان منها يخالطان طرف اللسان ، فلما اجتمع فيها هذا وكثرتها في الكلام لم يجز إلّا الإدغام. والاثنا عشر حرفا : النون ، والراء ، والدال ، والتاء ، والصاد ، والطاء ، والظاء ، والزاي ، والسين ، والثاء ، والذال ، ولام مثلها تكون لغير التعريف ، والحرفان اللّذان خالطاها : الضاد والشين ؛ لأنّ الضاد استطالت لرخاوتها حتى اتصلت بمخرج اللّام. والشين كذلك اتصلت بمخرج

__________________

(١) وروى ابن خالويه أن الفراء كان يجيز إدغام الراء في اللام كما يجيز إدغام اللام في الراء. انظر إعراب ثلاثين سورة ، ص : ١٣.

(٢) انظر نصّ كلام سيبويه هذا في الكتاب ٢ : ٤١٦.

(٣) الذي في الكتاب أن هذه الحروف أحد عشر حرفا ، وذلك أن سيبويه لم يعدّ معها حرف اللام التي تكون لغير التعريف. وانظر كذلك ص ٦ و ٧ من إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم.

١٧١

الطاء. ولا يجوز إظهار لام المعرفة مع شيء من هذه الأربعة عشر حرفا وذلك قولك : التّائب والتّائبون السّائحون الرّاكعون السّاجدون (١) ، والصّلاة ، والسّاحب ، والذّاهب ، واللّاعب وما أشبه ذلك ، وهي معروفة المواقع في كتاب الله عزّ وجلّ وكلام العرب. فإذا كانت اللام لغير التعريف نحو : لام (مثل) و (بل) فدخلت على بعض هذه الحروف ، جاز الإظهار والإدغام ، وكان الإظهار في بعضها أحسن ، والإدغام في بعضها أحسن. فممّا يكون الإدغام فيه أحسن قولك : هل رأيت ، لقرب الراء من اللّام ، والإظهار أقبح والله أعلم. وهي فيما حكى سيبويه لغة لأهل الحجاز (٢). وكذلك مع الطاء ، والدال ، والصاد ، والزاي ، والشين ، والإظهار أجود ، والإدغام أقبح. وينشد لطريف العنبريّ (٣) :

__________________

(١) قال تعالى : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.) التوبة ٩ : ١١٢.

(٢) قال سيبويه : «وإن لم تدغم فقلت : هل رأيت؟ فهي لغة لأهل الحجاز.

وهي عربية جائزة» الكتاب ٢ : ٤١٦.

(٣) في الأصل : الغنوي. وطريف هو ابن تميم العنبري ، جاهلي مقلّ من فرسان بني تميم.

١٧٢

تقول إذا استهلكت مالا للذّة

فطيمة هشّيء بكفّيك لائق (١)

/ يريد : هل شيء ، فأدغم اللام في الشين. وقد قرأ أبو عمرو بن العلاء : (هثوب الكفار ما كانوا يفعلون) (٢) بالإدغام ، وقد قرئ : (هَلْ ثُوِّبَ) بالإظهار ، والإظهار أحسن. وأنشد سيبويه (٣) لمزاحم العقيلي (٤) :

فدع ذا ولكن هتّعين متيّما

على ضوء برق آخر الليل ناصب

يريد : هل تعين ، فأدغم اللام في التاء. وأنشد غيره :

ألا ليت شعري هتّغيّرت الرّحا

رحا المثل أم أضحت بفلج كماهيا (٥)

والإظهار أحسن.

__________________

(١) من شواهد سيبويه. الكتاب ٢ : ٤١٧ والرواية فيه (فكيهة) بدل (فطيمة).

(٢) (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ). المطففين ٨٣ : ٣٦ والآية من شواهد الكتاب أيضا ٢ : ٤١٧.

(٣) في الكتاب ٢ : ٤١٧.

(٤) هو شاعر غزل من بني عقيل ، عاصر جريرا والفرزدق وشهدا له بجودة الشعر ، ومات سنة ١٢٠ ه‍.

(٥) من قصيدة مشهورة لمالك بن الريب المازني تجدها في الخزانة ١ : ٣١٧ والرواية فيها :

فيا ليت شعري ...

رحا المثل أو أمست بفلج كما هيا.

والشاهد في الكتاب ١ : ٤٨٧ والرواية فيه :

ألا ليت شعري هل ...

رحا الحزن أو أضحت ...

والمثل ، والحزن ، والفلج أسماء مواضع.

١٧٣

باب من مسائل اللام

نختم به الكتاب

اعلم أنك إذا قلت : زيد لينطلقنّ ، وعبد الله لأبوه أفضل منك ، وما أشبه ذلك ، فإنّ البصريين يرفعونه بالابتداء ويجعلون اللّام وما بعده خبره. وإنما جاز عندهم لمّا كان المبتدأ قد سبق الابتداء إليه فرفعه ، وكان ما بعده خبرا عنه ، واللام مؤكّدة له. وأما الكوفيون فإنّ هذا عندهم غير جائز إلّا من كلامين (١) ، كأنه يرتفع زيد باسم مثله في نيّة المتكلّم ، ولم يجز أن يكون كلاما واحدا عندهم ؛ لأنّ اللام تقطع ما قبلها ممّا بعدها ، ولا يتصل بعضه ببعض ، فلذلك لم يكن ما بعدها خبرا عمّا قبلها. وكذلك : زيد إنه قائم ، وعبد الله هل قام؟ لا يكون عندهم إلّا على كلامين ، وهو عند البصريين جائز.

فإن قلت : زيد حلفت لأضربنّه ، أو : زيد أشهد إنه لعالم ، أو : زيد قلت لك : اضربه ، أو : زيد قلت له : ليقم ، كان هذا

__________________

(١) يعني أن الكلام عندهم مؤلف من جملتين لا من جملة واحدة.

١٧٤

كله عند الكوفيين من كلام واحد ؛ وذلك أنّ هذه الحروف صارت صلة للفعل الذي قبلها ، واتّصل الفعل بالاسم الذي قبله ، فصار في موضع خبر ، وارتفع الاسم بما عاد عليه من ذكره ، وهو كلّه عند البصريين على الابتداء والخبر جائز. فإن قلت : لزيد أكل طعامك ، لم يجز تقديم شيء مما بعد اللّام عليها ؛ لأنها حاجزة فاصلة. ولو قلت : طعامك لزيد أكل ، لم يجز أن تقدّم مفعول الخبر على اللّام ، ولا يتقدّم مفعول ما بعد اللّام عليها إلّا في خبر إنّ في قولك : إنّ زيدا لآكل طعامك ، فإن قدّمت الطعام / فقلت : إنّ زيدا طعامك لآكل ، كان ذلك جائزا عند البصريين والكوفيين معا ، قالوا : لأنّ دخول اللّام وخروجها سواء ، ألا ترى أن قولك : إنّ زيدا آكل طعامك ، وإن زيدا لآكل طعامك ، سواء. هذا احتجاجهم جميعا في إجازة هذا (١). وعندي أنّ الأمر على خلاف ما ذهبوا إليه ، ولو كان كذلك لوجب إجازة تقديم المنصوب بخبر الابتداء على لام الابتداء في قولك : لزيد آكل طعامك ، فكان يلزم أن يقال : طعامك لزيد آكل ؛ لأنّ دخول هذه اللام وخروجها سواء ، كدخولها في خبر إنّ وخروجها ، فجاريت في ذلك أبا إسحاق الزّجاج (٢) فقال : لام

__________________

(١) وانظر الإنصاف ، المسألة : ٥٨ والمغني ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥.

(٢) هو شيخ الزجاجي ، وقد تقدمت ترجمته في ص ٤٣.

١٧٥

الابتداء مقدّرة قبلها يمين فهي جواب القسم. فألزمته مثل ما ذكرت لك في لام الابتداء في هذا الكتاب (١) ، والفرق بينها وبين لام القسم من أن يكون الرجل إذا قال : لزيد قائم ، وزيد غير قائم ، إنه حانث وتلزمه كفّارة اليمين. فقال : ذلك غير واجب ، لأنّ هذه اللّام تؤكّد تأكيد لام القسم ، والقول في ذلك أنّه إنّما امتنع من تقديم هذه اللام عليها ، لأنها لام الابتداء ، ولها صدر الكلام ، ولا يسبق الابتداء شيء ، وجاز تقديم ما بعد لام إنّ عليها من المنصوب بخبرها ، لأنّها في الحقيقة مقدّرة قبل إنّ ، فكأنّ المقدّم قبلها وقع بينها وبين اسم إنّ مؤخّر بعدها في الترتيب فجاز لذلك ، فإذا خفّفت إنّ فقلت : إن زيد لقائم ، لزمتها اللّام كما ذكرت لك لتفصل بينها وبين التي تكون نافية بمعنى ما. ولا يجوز تقديم المنصوب بالخبر على اللّام هاهنا لأنها فاصلة بين الموجبة والنافية ، فقد وقعت لازمة في موضع لا يجوز أن تقدّر في غيره. فلو قلت : إن زيد طعامك لآكل ، لم يجز كما جاز فيها حين شدّدت.

ولا يجوز إدخال اللّام على شيء من أخوات إنّ غيرها للعلّة التي قد مضى ذكرها في بابها (٢) ، ولا تدخل على لكنّ وإن كانت مؤكّدة كما

__________________

(١) يعني ما سبق أن شرحه في ص ٧٠.

(٢) انظر ما تقدّم في ص : ٦٤.

١٧٦

تؤكّد إنّ لأنها تقع جوابا لقولك : ما جاءني عمرو لكنّ زيدا جاءني ، والجواب لا يتقدّمه شيء لئلا يفصل / بينه وبين ما هو جوابه ، فلو أدخلت اللّام في خبر لكنّ لقدّرت قبل لكنّ ، فكانت تنقطع مما قبلها ، وذلك غير جائز. وأمّا قول الشاعر :

 ...

ولكنّني من حبّها لكميد (١)

فإنّما أراد : ولكنّ إنني من حبّها لكميد ، فأدخل اللام في خبر إنّ.

وهذا مثل قول الله تعالى : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي)(٢) على قراءة من قرأ بإثبات الألف ، وأصله عند العلماء أجمعين على هذه القراءة : لكن أنا هو الله ربّي ، فألقيت الهمزة تخفيفا ، وأدغمت النون الأولى في الثانية (٣) ، وكذلك الشاعر لمّا قال : لكنّ إنني ، فحذف الهمزة ،

__________________

(١) هذا شطر بيت ، صدره : يلومونني في حب ليلى عواذلي.

وهو مما يستشهد به الكوفيون على جواز دخول اللام في خبر لكنّ ، مدّعين أن النقل يؤيدهم ، ويرى البصريون أن هذا الشاهد شاذ ، لا يؤخذ به لشذوذه وقلّته ، وأنه لو كان دخول اللام في خبر لكنّ قياسا مطردا لكثر في كلامهم. والبيت ، إلى ذلك ، مجهول القائل ، ولا يعرف له نظير ، وفي صدره مخالفة ثانية. والكميد : الحزين. ويروى : لعميد ، وهو الذي أضناه العشق. وانظر معاني القرآن ١ : ٤٦٥ والإنصاف ، المسألة : ٢٥ والمغني ١ : ٢٥٧ وشرح الشواهد ٢ : ٦٠٥ وابن عقيل ١ : ١٤١ والأشموني ١٤١.

(٢) سورة الكهف ١٨ : ٣٨.

(٣) وكذلك قال ابن خالويه في هذه الآية. انظر إعراب ثلاثين سورة ص : ٥.

١٧٧

بقيت نون لكن ساكنة خفيفة ، وبعدها ساكن ، فحذف نون لكن لالتقاء الساكنين ، وكان سبيله أن يكسرها ، ولكن حذفها في الشعر جائز. وقال الآخر :

فلست بآتيه ولا أستطيعه

ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل (١)

واعلم أنّ اللام تدخل في خبر إنّ على الخبر ، وعلى صلة الخبر ، إذا كانت مقدّمة قبل الخبر ، فإن أخّرتها بعد الخبر لم تدخل إلّا على الخبر ؛ لأنه موضعها كقولك : إنّ زيدا لبالجارية كفيل ، وإنّ زيدا بالجارية لكفيل. وإن قلت : إنّ زيدا كفيل لبالجارية لم يجز ، وإنّما جاز دخولها على صلة الخبر حين تقدّمت لأنك توقعها على جملة الكلام الذي بعدها.

__________________

(١) هو للنجاشي ، قيس بن عمرو ، وضعه على لسان ذئب زعم أنه لقيه في إحدى سفراته. وانظر قصة النجاشي والذئب في الخزانة ٤ : ٣٦٧. وهو من شواهد سيبويه في باب : ما يحتمل الشعر. قال الأعلم : حذف النون من لكن لاجتماع الساكنين ، ضرورة لإقامة الوزن ، وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين ، شبهها بحروف المدّ واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها ... (الكتاب ١ : ٩). ومن شواهد ابن هشام في المغني ١ : ٣٢٣.

١٧٨

مسألة من القرآن

قول الله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)(١) قرئ بكسر اللّام ونصب الفعل على أن تكون (إن) على مذهب البصريين مخفّفة من الثقيلة وتكون اللام بمعنى كي (٢). وقال بعضهم يجوز أن تكون (إن) نافية بمعنى (ما) التي تكون جحدا ، كأنه ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، استحقارا بمكرهم من أن تزول منه الجبال ، وهذا جيّد في المعنى ، إلّا أنه ضعيف في العربيّة ؛ لأنّ اللام لا تدخل على (إن) إذا كانت نافية ، وقد قرئ : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) على أن نجعل (إن) هي المخفّفة

__________________

(١) الآية : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). إبراهيم ١٤ : ٤٦.

(٢) وقال ابن هشام : «وزعم كثير من الناس في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ،) في قراءة غير الكسائي بكسر اللام الأولى وفتح الثانية أنها لام الجحود. وفيه نظر ؛ لأن النافي على هذا غير (ما) و (لم) ، ولاختلاف فاعلي كان وتزول. والذي يظهر لي أنها لام كي ، وأن (إن) شرطية ، أي : وعند الله جزاء مكرهم ، وهو مكر أعظم منه ، وإن كان مكرهم لشدّته معدّا لأجل زوال الأمور العظام المشبهة في عظمها بالجبال ، كما تقول : أنا أشجع من فلان وإن كان معدّا للنوازل.» المغني ١ : ٢٣٣.

١٧٩

من الثقيلة ، واللّام للتوكيد التي تلزم في خبر إنّ ؛ تفصل بينها وبين النافية فيكون / على هذا التقدير كأنه قال : وإن مكرهم لتزول منه الجبال ، فدخلت اللّام كما ذكرت لك ، ويكون هذا على التعظيم لمكرهم ، كما قال في موضع آخر : (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)(١) ولكلا القراءتين مذهب على ما فسّرت لك ، وأكثر القرّاء على كسر اللّام ونصب الفعل إلّا الكسائيّ فإنه قرأ بفتح اللّام ورفع الفعل.

__________________

(١) الآية : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.) الأعراف ٧ : ١١٦.

١٨٠