كتاب اللّامات

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي

كتاب اللّامات

المؤلف:

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي


المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧

باب لام التكثير

لام التكثير هي المزيدة في (ذلك) ، والاسم منه (١) عند البصريين (ذا) ، واللّام للتكثير (٢) ، والكاف للخطاب ، ولا موضع لها من الإعراب ، قال سيبويه : الدّليل على أنه لا موضع لها من الإعراب أنه لو كان لها موضع من الإعراب لوجب أن تكون في موضع خفض أو نصب ، لأنها لا تكون ضميرا لمرفوع. فإن زعم زاعم أنها في موضع نصب وجب أن يقول : ذاك نفسك زيد ، وأن يقول : ذاك نفسك زيد ، إذا قدّرها في موضع خفض ، وذا لا يقوله أحد ، وكان يستحيل من جهة أخرى ، وهو أنه إذا قدّرها مخفوضة فإنما يخفضها بتقدير إضافة ذا إليها ، والمبهم لا يضاف / واللام زائدة بالإجماع. وإن قدّرها مخفوضة باللّام وجب أن تكون (ذا) مضافة

__________________

(١) أي من اسم الإشارة (ذلك).

(٢) ذكرها ابن هشام في النوع السادس من أنواع اللام المفردة غير العاملة فقال : «اللام اللاحقة لأسماء الإشارة للدلالة على البعد أو على توكيده ، على خلاف في ذلك ، وأصلها السكون كما في (تلك) وإنما كسرت في (ذلك) لالتقاء الساكنين.» المغني ١ : ٢٦١ وانظر شرح المفصل ٣ : ١٣٥.

١٤١

إلى الكاف أيضا باللام كما يقول : هذا لزيد ، إضافة ملك واستحقاق ، فكان يستحيل الكلام ، لأنّ الغرض في قولك : ذاك ، وذلك ، إنما هو إشارة إلى المخاطب ، ليخبر عنه بعد ذلك ، وعلى هذا التقدير يكون مخبرا عنه ، فالكلام يتمّ بالخبر ، وذاك كلام غير تامّ ، ألا ترى أنك لو قلت : ذاك ، وسكتّ لم يكن كلاما تاما. قال سيبويه : اللّام في ذلك لتأكيد الإشارة ، ولا يجمع بينها وبين الهاء التي للإشارة ؛ فأنت تقول : ذاك زيد ، وذلك زيد ، وهذا زيد ولا يجوز أن تقول : هذا لك زيد ، فتجمع بين اللّام وها ، لأنهما يتعاقبان. وقال الفرّاء وجميع الكوفيين : هذه اللام للتّكثير ، وهي وإن كانت تكثيرا ، فقد أفادت فائدة ولم تزد هدرا ، وهي التي ذكرناها.

والاسم من (ذلك) عند الكوفيين الذال وحدها ، والألف صلة ، واللّام تكثير ، والكاف للخطاب.

وقد تزاد لام التكثير في أولئك فيقال : أولالك كما قال الشاعر :

أولالك قومي لم يكونوا أشابة

وهل يعظ الضلّيل إلّا أولالكا (١)

وقد تشدّد ألالك فيقال : الّالك.

__________________

(١) الأشابة : الأخلاط من الناس.

١٤٢

باب اللام المزيدة في عبدل

اعلم أنّ النحويين أجمعوا على أنّ حروف الزوائد عشرة وهي : الواو ، والياء ، والألف ، والهمزة ، والتاء ، والنون ، والسين ، والهاء ، والميم ، واللّام. وذكروا مواقع هذه الحروف في الزيادة ؛ كالواو في : كوثر ، وعجوز. والياء في : سعيد. والألف في : غزال ، وحمار. والهمزة في : أحمر ، وأصفر. والتاء في : الهندات. والسين في : استخرج. والنون في : نذهب. والهاء في الوقف في قولك : ارمه ، وعه ، وشنه ، ونحو قوله تعالى : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ)(١) مع ما بيّن من شروطها وأحكامها في الزيادة في كتب التصريف. وذكروا أن اللّام لم تزد على هذا المعنى إلا في قولهم. عبدل (٢) ، وهم يريدون به العبد ، كما قالوا في الأزرق زرقم (٣) ،

__________________

(١) سورة الحاقة ٦٩ : ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) في لسان العرب (مادة : عبد) : العبدل : العبد ، ولامه زائدة.

(٣) الزرقم : الشديد الزرق ، والمرأة زرقم أيضا ؛ فالذكر والأنثى في ذلك سواء.

١٤٣

وفي الأسته : ستهم (١) ، فهذا الحرف متّفق على زيادة اللّام فيه. وذكر ابن الأعرابيّ (٢) / أنه يقال للقراد : حسدل (٣) ، وأصله عنده حسد ، واللام زائدة ، والحسد : القشر (٤) ، ومنه اشتقاق الحسد ؛ كأنّ الحسد يلصق بقلب الإنسان فيقشره كما يلصق القراد بجلد البعير ، قال : ويقال هو القراد ، والطّلح ، والعلّ ، والجحن ، والحجن ، والحمنة ، والحمنانة ، والقرشام (٥) ، والحسدل ، والبرام ، بمعنى واحد (٦).

__________________

(١) السته : عظم الاست. والأسته : الضخم الاست ، والستهم مثله. والمرأة ستهاء وستهم ، والميم زائدة. وانظر اللسان (مادة : سته).

(٢) هو أبو عبد الله محمد بن زياد الرواية اللغوي ، وكان واسع الحفظ كثير المعرفة بالشعر ، مات سنة ٢٣١ ه‍. قال ثعلب : «شاهدت مجلس ابن الأعرابي ، وكان يحضره زهاء مائة إنسان ، كان يسأل ويقرأ عليه فيجيب من غير كتاب. ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط. ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه.».

(٣) وكذلك هو في لسان العرب.

(٤) وروى صاحب اللسان عن ابن الأعرابي أيضا أن أصل الحسد القشر.

(٥) وكذلك القرشوم والقراشم ، وهو القراد العظيم.

(٦) كل ذلك مذكور في مواضعه من اللسان ، ونقل عن التهذيب أن القراد أول ما يكون وهو صغير لا يكاد يرى من صغره ، يقال له : ، قمقامة ثم يصير حمنانة ثم قرادا ثم حلمة. قال : وزاد الجوهري : ثم علّا وطلحا.

١٤٤

وزعم بعض أهل اللغة أنه يقال لولد النّعام الهيقل والهيق (١) ، قال : فاللام في الهيقل زائدة وقال غيره : بل يقال للذّكر من النّعام الهقل ، والأنثى الهقلة (٢) ، فمن قال الهيقل فإنه زاد الياء ، واللام أصلية ، وتقديره فيعل بمنزلة البيطر والحيدر.

__________________

(١) الهيق : الرجل المفرط الطول ، والظليم لطوله كالهيقل. والياء في هيق أصلية ، وفي هيقل زائدة ، والجمع : أهياق وهيوق ، والأنثى : هيقة. (اللسان ، مادة : هيق).

(٢) الهقل : الفتيّ من النعام. وقال بعضهم : الهقل : الظليم ، والأنثى : هقلة. والهيقل كالهقل. (اللسان ، مادة : هقل).

١٤٥

باب اللام المزيدة في لعلّ

أجمع النحويون على أنّ أصل لعلّ علّ ، وأنّ اللام في أوله مزيدة (١) ، واستدلّوا على ذلك بقول الشاعر :

يا أبتا علّك أو عساكا (٢)

وقال آخر :

علّ صروف الدّهر أو دولاتها

يدلننا اللمّة من لمّاتها (٣)

__________________

(١) القول بأن اللام الأولى في (لعلّ) مزيدة قول البصريين. أما الكوفيون فذهبوا إلى أنها أصلية ، واحتجّوا بأن (لعلّ) حرف ، وحروف الحروف كلها أصلية ، ولا يحكم لشيء منها بالزيادة. وانظر تفصيل المذهبين في الإنصاف ، المسألة : ٢٦.

(٢) هو لرؤبة ، وقبله : تقول بنتي قد أنى أناكا.

أي : قد آن وقت رحيلك ، لعلك تظفر لنا برزق. وهو من شواهد سيبويه ١ : ٣٨٨ والمغني ١ : ١٦٢ و ١٦٥ و ٢ : ٧٨٠ وانظر شرح الشواهد ١ : ٤٤٣ والإنصاف ، المسألة : ٢٦ والخزانة ٢ : ٤٤١.

(٣) رجز لم يعرف قائله ، وبعده : فتستريح النفس من زفراتها.

والدولات ، بضم الدال ، جمع دولة ، وهو الشيء الذي يتداول ، ويدلننا من أدال أي نصر ، يقال أدلني على فلان ، ومن فلان. واللمة : الشدّة.

والرجز في التاج (مادة : لمم) وفي الإنصاف ، المسألة : ٢٦ والمغني ١ : ١٦٧ وشرح الشواهد ١ : ٤٥٤ والأشموني : ٥٧٠.

١٤٦

قالوا : فلو كانت اللام أصلية في أوله لم يجز حذفها ؛ لأنّ المعنى بها كان يكمل.

وفيها خمس لغات : علّ ، ولعلّ ، ولعنّ ، وعنّ ، وأنّ بهمزة مفتوحة ونون مشدّدة (١). فأمّا لعلّ فالشاهد عليها أكثر من أن يحصى ، قال الله جلّ وعزّ : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)(٢).

وقال الشاعر :

لعلّك إن مالت بك الريح ميلة

على ابن أبي ذبيان أن تتندّما

وقال الفرزدق (٣) في لعنّ :

ألستم عائجين بنا لعنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام (٤)

وللعرب فيها لغتان ، المجمع عليها منها هي التي تنصب الاسم وترفع الخبر ، وقد روي أن بعضهم يخفض بها وأنشدوا :

__________________

(١) وانظر في لغاتها أيضا الإنصاف ، المسألة : ٢٦.

(٢) سورة الطلاق ٦٥ : ١ وانظر المغني ١ : ٣١٩.

(٣) تقدمت ترجمته في ص ٥٤.

(٤) شرح ديوان الفرزدق ٢ : ٨٣٥. وفي الإنصاف أن (لغنّ) بالغين المعجمة لغة في لعل ، وأنشدوا :

ألا يا صاحبيّ قفا لغنّا

نرى العرصات أو أثر الخيام

وانظر الإنصاف ، المسألة : ٢٦.

١٤٧

وداع دعا هل من مجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

فقلت ادع أخرى ، وارفع الصوت داعيا

لعلّ أبي المغوار منك قريب (١)

فخفض بها كما ترى ، وهذا شعر قديم ، ومثل هذا يروى على شذوذه ولا يقاس عليه.

وأما مجيء أنّ مفتوحة مشدّدة بمعنى لعلّ ، فلغة مشهورة معروفة / قد جاءت في كتاب الله تعالى وكلام الفصحاء من العرب. قال سيبويه : قلت للخليل : ما تأويل من قرأ : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ.)(٢) بالفتح؟ قال : تأويله لعلّها إذا جاءت لا يؤمنون ، ولا يجوز أن تكون منصوبة بإيقاع يشعركم عليها لأنه يصير عذرا للقوم في طلبهم الآيات. قال :

__________________

(١) من مرثية مشهورة قالها كعب بن سعد الغنوي في أخ له يكنى أبا المغوار ، قيل إنه قتل في ذي قار. (انظر الأعلام ٦ : ٨٢). ومن القدماء من عدّه في الإسلاميين! (انظر سمط اللآلي ١ : ٧٧١ و ٧٧٢ والخزانة ٣ : ٦٢١).

وانظر الشاهد في الخزانة ٤ : ٣٧٠ ـ ٣٧٥ والرواية فيها : وارفع الصوت جهرة. ولأبي علي الفارسي رأي في تخريج هذا البيت انظره مع ردّ ابن هشام عليه في المغني ١ : ٣١٧ و ٢ : ٤٩٢. وانظر شرح الشواهد ٢ : ٦٩١.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٠٩.

١٤٨

والعرب تقول : امض إلى السوق أنّا نشتري غلاما ، يريدون : لعلّنا نشتري غلاما (١). وأنشد الخليل وسيبويه :

قلت لشيبان ادن من لقائه

أنّا نغدّي القوم من شوائه (٢)

يريد لعلّنا. وزاد الفرّاء في معنى فتح أنّ في هذه الآية وجها آخر ، قال : يجوز أن يكون تأويله : وما يشعركم أنّها إذا جاءت يؤمنون أولا يؤمنون ، فيكون في الكلام حذف يدلّ عليه ما قبله ، وتكون أن منصوبة بما قبلها ، وأكثر القرّاء على كسر إنّ على الابتداء والقطع ممّا قبله ، وهو الوجه المختار.

__________________

(١) قال سيبويه : «وسألته عن قوله عز وجل : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) ما منعها أن تكون كقولك : ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال : لا يحسن ذلك في هذا الموضع ، إنما قال : (وَما يُشْعِرُكُمْ.) ثم ابتدأ فأوجب فقال : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ.) ولو قال : وما يشعركم أنها ، كان ذلك عذرا لهم. وأهل المدينة يقولون : أنها ، فقال الخليل : هي بمنزلة قول العرب : ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي : لعلّك ، فكأنه قال : لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.» الكتاب ١ : ٤٦٢ ـ ٤٦٣ وانظر معاني القرآن للفراء ١ : ٣٥٠ والمغني ١ : ٤٠ و ٢٧٨.

(٢) لأبي النجم. وهو في الكتاب (١ : ٤٦٠) : كما نغدّي ... وكذلك هو في الإنصاف ، المسألة : ٨١.

١٤٩

باب لام ايضاح المفعول من أجله

هذه اللّام تجيء مبيّنة علّة إيقاع الفعل ؛ وذلك قولك : إنّما أكرمت زيدا لعمرو ، أي من أجل عمرو ، وإنّما بررت أخاك لك ، أي من أجلك ، وكذلك ما أشبهه.

وربّما دخلت على الفعل المستقبل فكانت بمنزلة لام كي في نصب ما بعدها ، لأنهما متضارعان يجيئان مبيّنين علّة إيقاع الفعل. وبعض الناس يقول : إذا دخلت على الفعل المستقبل فهي لام كي بعينها ، وإذا دخلت على الأسماء فهي الّتي تبيّن المفعول ، والقول فيهما واحد ، وقد شرحناه في باب لام كي (١) ، ومنه قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٢)(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ)(٣) ، ومنه

__________________

(١) وهو الباب الذي تقدم في ص : ٥٣.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ٧١ وانظر خلافهم حول اللام في هذه الآية في المغني ١ : ٢٣٧.

(٣) تتمة الآية : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ ، وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.) البيّنة ٩٨ : ٥.

١٥٠

ومنه قول الشاعر (١) :

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل (٢)

تقديره : أريد ، وإرادتي لهذا ، أي لنسيان ذكرها. قال أبو العباس المبرّد : تقول : أمرتك أن تفعل ، وأمرتك أن تفعل ، بالجزم ، وأمرتك بأن تفعل ، وأمرتك لتفعل. من قال : أمرتك بأن تفعل ، كأنه قال : أمرتك بالفعل ، ومن قال : أمرتك أن تفعل ، فهو قبيح بالجزم لأنه وصل (أن) بفعل الأمر وكان سبيله أن ينقله / إلى لفظ الأمر للغائب فيقول : أمرتك أن افعل ، كما تقول : أمرتك أن قم ، وكتبت إليك أن اخرج. ومن قال : أمرتك أن تفعل ، بالنصب ، فهو وجه جيّد ، وإنما أراد : أمرتك بأن تفعل ، فلمّا حذف الخافض تعدّى الفعل فنصب كما قال الشاعر :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٣)

__________________

(١) وهو كثيّر بن عبد الرحمن ، شاعر مشهور عرف بحبه لعزّة. عاش في العصر الأموي واتصل بعبد الملك بن مروان.

(٢) ديوان كثيّر ٢ : ٢٤٨. والبيت من شواهد المغني ١ : ٢٣٧. وانظر شرح الشواهد ٢ : ٥٨٠.

(٣) من شواهد الكتاب ١ : ١٧ وفيه أنه لعمرو بن معديكرب ، وكذلك هو في المغني ١ : ٣٥٠ وقيل إنه لأعشى طرود ، إياس بن عامر (الكامل ١ : ٣٢). وانظر شرح الشذور : ٣٦٩ وشرح شواهد المغني ٢ : ٧٢٧ والخزانة ١ : ١٦٤.

١٥١

ومن قال : أمرتك لتفعل ، فقد أخبر بالعلّة التي من أجلها أمر ، فهذه اللّام تبيّن علّة وقوع الفعل ، وهي لام كي مع الأفعال. ومن هذا الباب قوله عزّ وجلّ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) ، لأنّ بعض العلماء يذهب إلى أنّ التقدير : إنّما قولنا من أجل شيء إذا أردناه ، لأنّ القول عنده غير واقع بالشيء ؛ لأنّ الشيء إن كان معدوما فخطابه غير جائز ، وإن كان موجودا فهو مستغن عن التكوّن بوجوده ، ولكنّه تمثيل ، كأنه قال : إذا أردنا شيئا قلنا من أجله : كن ، فيكون. وأكثر أهل النظر يذهب إلى أنه لا قول هناك ، وأنه تمثيل للفعل ، كأنه قال : إذا أردنا تكوين شيء تكوّن ، ليدلّ على تيسير كون الأشياء عليه ، وهذا مشهور في اللّغة معروف أن يكون القول صلة للفعل ، كقولك : قلت بيدي فحرّكتها ، إنّما تريد : حرّكت يدي ، وقلت بمتاعي فرفعته ، وقال الحائط فسقط. وشبيه بهذا ما لا قول فيه على الحقيقة قول الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني

سلّا رويدا قد ملأت بطني (٢)

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ٤٠.

(٢) رجز لم يعرف قائله. وهو بهذه الرواية في اللسان والتاج (مادة : قطط).

١٥٢

تقديره : لو كان ممّن يتأتّى له القول لقال مثل هذا لما في حاله ومشاهدته من الدّليل عليه ، كما قال :

يشكو إليّ جملي طول السّرى

يا جملي ليس إليّ المشتكى (١)

ولا قول هناك ولا شكوى على الحقيقة ، وإنّما يراد به ما تدلّ عليه مشاهدة الحال ، وقد كشف هذا المعنى عنترة في وصف فرسه فقال :

فازورّ من وقع القنا بلبانه

وشكا إليّ بعبرة وتحمحم

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان ، لو علم الكلام ، مكلّمي. (٢)

__________________

وفي الكامل (٢ : ٤٣٤) : قد خنّق الحوض ... ، وروي في الخصائص ١ : ٢٣ وفي العيني ١ : ٣٦١ وفي الإنصاف ، المسألة : ١٥ : مهلا رويدا ، وكذلك هو في الصحاح (مادة : قطط).

(١) وهو من شواهد الكتاب (١ : ١٦٢) والرواية فيه :

«صبر جميل فكلانا مبتلى»

وفي التاج (مادة : شكا) :

شكا إليّ جملي طول السّرى

صبرا جميلا فكلانا مبتلى

وكذلك رواه ابن خالويه بالنصب في إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم ص : ١٩.

(٢) اللبّان : الصدر أو وسطه ، يكون للانسان وغيره ، وقيل : هو لذي الحافر خاصة. والبيتان من معلّقة عنترة (شرح المعلقات السبع للزوزني : ٢٨٤) والثاني منهما في الخصائص ١ : ٢٤. والرواية في جمهرة أشعار العرب :

فازورّ من وقع القنا فزجرته

.

١٥٣

/ باب اللام التي تعاقب حروفا وتعاقبها

اعلم أنّ العرب قد تبدل الحروف بعضها من بعض إذا تقاربت مخارجها ، ولا تكاد تبدل ما بعد مخرجه ، وذلك نحو قولهم : سمّد رأسه ، وسبّده (١) ؛ إذا استأصل أخذ شعره ، والأصل الباء ، والميم بدل منها ، وكما قالوا : أرقت الماء ، وهرقته ، وإيّاك وهيّاك ، وإبرية وهبرية ؛ لحزاز الرأس (٢) ، والأصل الهمز في هذه الأحرف ، والهاء معاقبة لها. وكما قالوا : جدف وجدث ؛ للقبر (٣) ، وغير ذلك ممّا يكثر تعداده ممّا هو معروف عند أهل اللغة من القلب والإبدال.

وكذلك أيضا فعلوا باللّام وما قاربها من الحروف فقالوا : هتنت

__________________

(١) سبّد شعره : استأصله أو أعفاه جميعا ، فهو ضدّ. وتسميد الرأس : استئصال الشعر ، لغة في التسبيد. وسمّد شعره : استأصله وأخذه كلّه. وكثيرا ما تتعاقب الباء والميم لتقاربهما مخرجا وصفة ، ومن ذلك : أربى وأرمى. أربد وأرمد. وانظر الإبدال لأبي الطيب ١ : ٣٧ ـ ٧٧.

(٢) الحزاز : ما يقع في الرأس من هبرية دقيقة كأنها النخالة. والهبرية والإبرية والهبارية : ما طار من زغب القطن أو الريش ، وما تعلّق بأسفل شعر الرأس من ذرات صغيرة كالنخالة.

(٣) انظر الإبدال لأبي الطيب ١ : ١٩٢.

١٥٤

السّماء ، وهتلت. ولعمري ، ورعملي ؛ فقدّموا وأخّروا. وقالوا : بعير رفلّ ، ورفنّ ؛ إذا كان سابغ الذنب. والأصل اللام ، والنون بدل منها. قال عديّ :

 ... يسمو

إلى أوصال ذيّال رفنّ (١)

أراد رفلّا فقلب اللّام نونا ، وقالوا لضرب من الطيور : الرّهادن والرّهادل ، واحدها رهدل ورهدن. قال ابن السكّيت (٢) : هو

__________________

(١) جاء في تاج العروس (مادة : رفن): «الرفنّ : الطويل الذنب من الخيل.

قال الأزهري : والأصل رفلّ. قال النابغة :

بكلّ مجرّب كالليث يسمو

إلى أوصال ذيّال رفنّ

أراد رفلا فحوّل اللام نونا.» وكذلك هو في مادة (ذيل). والذيّال من الخيل : الطويل القدّ ، أو الطويل الذيل. وقيل : هو المتبختر في مشيته. والبيت للنابغة الذبياني ، وهو في ديوانه (ص : ٢٠٠) والرواية فيه : على أوصال ، وإليه نسبه ابن قتيبة في المعاني الكبير (ص : ١٥٠ ط الهند) والرواية فيه : بكل مدجج في البأس يسمو.

وهو في لسان العرب (مادة : رفن) منسوب إلى النابغة الجعدي! على أن لعديّ ابن زيد قصيدة معروفة في وصف فرسه أيضا ، تلتقي مع قصيدة النابغة في الموضوع وحرف القافية وتخالفها في الوزن ، وهي التي يقول فيها :

ولقد أغدو بطرف زانه

وجه منزوف وخدّ كالمسن

فلعل الأمر التبس على الزجاجي فنسب بيت النابغة الذبياني إلى عديّ لالتقائهما في الموضوع والبناء على حرف النون ، مع أن قصيدة النابغة مطلقة القافية ، وأبيات عدي ذات قافية مقيّدة.

(٢) هو يعقوب بن إسحاق ، من أئمة اللغة والأدب ، اتصل بالخليفة المتوكل ،

١٥٥

شبيه بالقبّر. ويقال لما بقي من الماء في الحوض : الغريل ، والغرين ، إلى نظائر لذلك كثيرة.

فأمّا قولهم : أصيلان وأصيلان ، فكذلك أيضا ، إلا أنّ أصيلانا جمع أصيل كأنه قيل : أصيل وأصل ، وجمع أصل فقيل : أصلان ، كما قيل في جمع كثب : كثبان ، فأصلان جمع الجمع ، ثم صغّر أصلان فقيل أصيلان ، ثم أبدلت اللّام من النون فقيل أصيلان.

__________________

وأدب أولاده. ومن كتبه : إصلاح المنطق ، والأضداد ، والقلب والإبدال ، وله شروح على كثير من دواوين الشعر.

١٥٦

باب اللام التي بمعنى الى

وذلك (١) في قول الله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ)(٢) قال بعضهم : معناه ينادي إلى الإيمان (٣). وقال بعضهم : تقديره : إنّنا سمعنا مناديا للإيمان ينادي. فأمّا قوله تعالى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا)(٤) فلا خلاف فيه أنّ تقديره : هدانا إلى هذا ، فهذه لام إلى. وفي هدانا ثلاث لغات ؛ يقال : هديته الطّريق ، كما قال الله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٥). وهديته إلى الطّريق ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٦). وهديته للطّريق ، كما قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا)(٧)

__________________

(١) وهو المعنى الثامن من معاني اللام المفردة العاملة للجرّ عند ابن هشام. وانظر المغني ١ : ٢٣٣.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٩٣.

(٣) قال الفراء : وقوله : (يُنادِي لِلْإِيمانِ ،) كما قال : (الَّذِي هَدانا لِهذا) و (أَوْحى لَها ،) يريد : اليها ، وهدانا إلى هذا.» معاني القرآن ١ : ٢٥٠.

(٤) (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ...) الأعراف ٧ : ٤٣.

(٥) سورة الفاتحة ١ : ٦.

(٦) سورة الشورى ٤٢ : ٥٢.

(٤) (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ...) الأعراف ٧ : ٤٣.

١٥٧

و (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(١) أي إلى التي هي أقوم. فأمّا قوله تعالى : (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ)(٢) فجائز / أن تكون اللام لبيان المفعول من أجله ، فيكون المعنى : سقناه من أجل بلد ميّت. وجائز أن تكون بمعنى إلى ، فيكون التقدير : سقناه إلى بلد ميّت.

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ : ٩.

(٢) في الأصل : (فَسُقْناهُ).) والآية من سورة الأعراف وهي : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). الأعراف ٧ : ٥٧. وأما قوله تعالى (فَسُقْناهُ) ففي آية من سورة فاطر ، وهي : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.) فاطر ٣٥ : ٩.

١٥٨

باب لام الشرط

لام الشرط على ضربين : تكون مع فعل الأمر معطوفا على فعل مثله ، فيكون الكلام بمعنى الجزاء ، وتكون داخلة على حرف الشرط ، فتستقبل بلام التوكيد ، لا بدّ من ذلك ؛ فالمثال الأول قول الله جلّ وعزّ : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ)(١) ، فهذا شرط وجزاء ، والدليل على ذلك تكذيب الله تعالى إيّاهم بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) يريد أنهم إنما يغرونهم بهذا الشرط الذي شرطوا لهم والجزاء ، فإنّ خطاياهم غير محمولة عنهم ولا موضوعة. وظاهر هذا الكلام الأمر ، ومعناه الجزاء ، وتلخيصه باللّام كما ذكرت لك. وأمّا قوله تعالى متّصلا بهذا : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)(٢) فتأويله والله أعلم : ليحملنّ أثقال أنفسهم ، يعني أوزار خطاياهم ، ردّا على هؤلاء الذين شرطوا هذا الشرط

__________________

(١) من قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ). العنكبوت ٢٩ : ١٢ ـ ١٣ وانظر المغني ١ : ٢٤٦ و ٢٤٧.

(١) من قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ). العنكبوت ٢٩ : ١٢ ـ ١٣ وانظر المغني ١ : ٢٤٦ و ٢٤٧.

١٥٩

الذي ذكرناه ، وأثقالا مع أثقالهم ، يعني أوزارا مضافة إلى أوزار خطاياهم ، لأنّ من أغووهم فعليهم أوزار إغوائهم ، كما يروى أنّ من سنّ سنّة خير فله أجرها وأجر العاملين بها ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، وكذلك من سنّ سنّة سوء فإنه يأثم لأجل من استنّ بفعله ، من غير أن ينقص من إثم من استنّ بها.

وأمّا مثال دخول لام الشرط على حرف الجزاء فمثل قوله تعالى : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ)(١) و (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ)(٢) فهذه اللّام يسمّيها بعضهم لام الشرط للزومها حرف الشرط واستقبالها بالجزاء مؤكّدا. وهي في الحقيقة لام القسم ؛ كأنّ قبلها قسما مقدّرا هذا جوابه.

وأكثر هذه اللّامات ترجع إلى أصل واحد منه تشعّبها وننوّعها ؛ وسنذكر هذا في باب مفرد مشروحا إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في الأصل : (لَئِنْ لَمْ ..) والآية كما أثبتناها من سورة يوسف ١٢ : ٣٢.

(٢) سورة العلق ٩٦ : ١٥.

١٦٠