عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي
المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧
ما زيد إلّا قائم ، فتكون إن للنفي واللام للإيجاب يجوز الجمع بينهما كما جاز الجمع بين (إلا) و (ما).
قيل : ذلك غير جائز ، والفرق بينهما أنّ (إلّا) فيها نقض ما قبلها ، فإن دخلت بعد كلام موجب نقضته فجعلته منفيا كقولك : قام القوم إلّا زيدا ، فقد نفيت القيام عن زيد بإلا. وإن دخلت على منفيّ نقضت النفي فجعلته موجبا كقولك : ما قام القوم إلا زيد ، فقد أوجبت القيام لزيد بإلّا ، وليس في اللّام (١) معنى نقض ما قبلها ، وإنّما فيها تحقيق ما بعدها ، فإذا أدخلتها في خبر (ما) فقلت : ما زيد لقائم ؛ جمعت بين النفي والإيجاب في الخبر وهذا محال ، فقد بان لك الفرق بين إلّا واللّام ، ومن ذلك قول الشاعر :
هبلتك أمّك إن قتلت لمسلما |
|
حلّت عليك عقوبة المتعمّد (٢) |
معناه : أنك قتلت مسلما ، فلمّا خفّضت إنّ بطل عملها ووقع بعدها
__________________
(١) في الأصل : وليس في الكلام ...
(٢) هبلته أمه : ثكلته. والبيت لعاتكة بنت زيد في رثاء زوجها الزبير بن العوام ، وقيل إنه لزوجته صفيّة ، وقد نبه السيوطي على أن الأسانيد الصحيحة تؤيد نسبته إلى عاتكة وتدفعه عن صفية ، وذكره في جملة أبيات قالتها عاتكة في شرح الشواهد ١ : ٧١. وانظر أيضا الخزانة ٤ : ٣٥٠. والبيت من شواهد المغني ١ : ٢١. والإنصاف (المسألة : ٩٠) وروايته فيهما : شلّت يمينك.
الفعل / ولزمت اللّام في خبرها لئلّا تشبه النافية. قال الكوفيون معناه : ما قتلت إلّا مسلما ، وقد مضى القول في هذا.
واعلم أنّ قوما من العرب يخفّفون (إنّ) وينصبون بها فيقولون : إن زيدا لقائم (١). ولا بدّ في الخبر من اللّام ؛ لأنّ الأصل ما ذكرت لك من إبطال عملها مع التخفيف وحجّة من نصب بها مخفّفة أنه قال : إنّما نصبت (إنّ) لمضارعتها الفعل معنى ولفظا ؛ فإنّها إذا خفّفت فمعناها قائم لم يزل ، وتخفيف لفظها لا يزيل عملها ، كما أنّ من الأفعال ما يحذف بعضه ولا يزول عمله كقولك : لم يكن زيد قائما ، ولم يك زيد قائما ، ويدعو زيد ربّه ، ثم تقول : لم يدع زيد أحدا ، كما قال تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ)(٢) ،
__________________
(١) انظر المغني ١ : ٢٠.
(٢) في الأصل : ويدعو. وكتابة المصحف بحذف الواو ، والآية من سورة الإسراء ١٧ : ١١ وجاء في الجامع لأحكام القرآن قوله : «وحذفت الواو من (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) في اللفظ والخط ، ولم تحذف في المعنى ؛ لأن موضعها رفع ، فحذفت لاستقبالها اللام الساكنة ، كقوله تعالى : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) العلق ٩٦ : ١٨ (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) الشورى ٤٢ : ٢٤ (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ) النساء ٤ : ١٤٦ و (يُنادِ الْمُنادِ) ق ٥٠ : ٤١ و (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) القمر ٥٤ : ٥» الجامع لأحكام القرآن ١٠ : ٢٢٦.
على ما ذكرنا ، قرأ أكثر القرّاء : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ)(١) ووجهه
__________________
(١) الآية : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ.) هود ١١ : ١١١ وفي تفسير القرطبي أنه «اختلف القراء في قراءة (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) ،) فقراء أهل الحرمين ـ نافع وابن كثير ، وأبو بكر معهم ـ (وَإِنَّ كُلًّا) بالتخفيف على أنها (إِنَّ) المخففة من الثقيلة معملة ، وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه ... والبصريون يجوّزون تخفيف (إِنَّ) المشدّدة مع إعمالها ، وأنكر ذلك الكسائي ، وقال : ما أدري على أي شيء قرئ (وَإِنَّ كُلًّا).) وزعم الفراء أنه نصب (كُلًّا) في قراءة من خفف بقوله (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) أي : وإن ليوفينهم كلا. وأنكر ذلك جميع النحويين ...
وشدّد الباقون (إِنَّ) ونصبوا بها (كُلًّا) على أصلها. وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر (لما) بالتشديد ، وخففها الباقون على معنى : وإن كلا ليوفينهم ؛ جعلوا (ما) صلة. وقيل : دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم ، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بما. وقال الزجاج : لام (لما) لام (إن) و (ما) زائدة مؤكدة ... واللام في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) هي التي يتلقى بها القسم ، وتدخل على الفعل ، ويلزمها النون المشدّدة أو المخففة ، ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بما ، و (ما) زائدة مؤكدة. وقال الفراء :
(ما) بمعنى (من) كقوله : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) أي : وإن كلا لمن ليوفينهم ، واللام في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) للقسم. وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج ، غير أن (ما) عند الزجاج زائدة ، وعند الفراء اسم بمعنى (من) .. وقرأ (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا) بالتشديد فيهما ـ وهو حمزة ومن وافقه ـ فقيل إنه لحن.» واستشكل ذلك الكسائي والفارسي ... وانظر الجامع لأحكام القرآن ٩ : ١٠٤ ـ ١٠٦ وسيبويه ١ : ٤٥٦ والمغني ١ : ٢٠ و ٣٦ و ٣١٢ و ٢ : ٤٥٣. وملخص ذلك ما ذكره ابن هشام في شرح الشذور إذ قال : إذا خففت نون إن المكسورة ، جاز الإهمال والإعمال ، والأكثر الإهمال نحو : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) فيمن خفّف ميم (لما). وأما من شدّدها فإن نافية ، ولمّا بمعنى
ما ذكرت لك. قال سيبويه : اللّام الأولى في لمّا لام إنّ و (ما) للتوكيد ، واللام التي في (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لام قسم مقدّر في الكلام. واستدلّ على ذلك بلزوم النون الثقيلة في الفعل.
__________________
لّا. ومن إعمال المخفّف قراءة بعض السبعة : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ).) شرح الشذور : ٢٨١.
باب لام العاقبة
وهي التي يسمّيها الكوفيون لام الصّيرورة (١) ، هذه اللام هي ناصبة لما تدخل عليه من الأفعال بإضمار أن ، والمنصوب بعدها بتقدير اسم مخفوض ، وهي ملتبسة بلام المفعول من أجله ، وليست بها ، وذلك قولك : أعددت هذه الخشبة ليميل الحائط فأدعمه بها ، وأنت لم ترد ميل الحائط ولا أعددتها للميل ؛ لأنه ليس من بغيتك وإرادتك ، ولكن أعددتها خوفا من أن يميل فتدعمه بها ، واللّام دالّة على العاقبة ، وكذلك قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً)(٢) وهم لم يلتقطوه لذلك ، إنما التقطوه ليكون لهم فرحا وسرورا ، فلّما كان عاقبة أمره إلى أن صار لهم عدوّا وحزنا جاز أن يقال ذلك ، فدّلت اللّام على عاقبة الأمر ، والعرب قد تسمّي الشيء باسم عاقبته (٣) كما قال تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً)(٤)
__________________
(١) وتسمّى أيضا لام المآل.
(٢) سورة القصص ٢٨ : ٨ واستشهد ابن هشام بهذه الآية في المغني ١ : ٢٣٥.
(٣) أي باعتبار ماسيكونه أو ما سيؤول إليه على ما هو معروف في المجاز المرسل.
(٤) سورة يوسف ١٢ : ٣٦.
إنّما كان يعصر عنبا تؤول عاقبته إلى أن يكون خمرا فسّماها بذلك ، وحكى الأصمعيّ (١) عن المعتمر بن سليمان (٢) أنّه قال : لقيني أعرابيّ ومعه عنب ، فقلت له : ما معك؟ فقال : خمر. وهذا هكذا مجازه عند أهل العربيّة أنّ العرب قد تسمّي الشيء باسم الشيء / إذا جاوره ، أو ناسبه ، أو اتّصل به ، أو آلت إليه عاقبته (٣) ، فقد زعم من لا علم له بالعربيّة ومعرفة أساليبها واتّساع العرب فيها أنّ الخمر هاهنا هو العنب نفسه ، ضعفا منه عن تخريج وجهه من كلام الفصحاء منهم وإلحاقه بما يعرفون الخطاب به ، ولو كان هذا جائزا في اللغة لكان من أكل العنب قد أتى ما حظره الله عليه من تحريم الخمر ، وقد خاطب الله تعالى ذكره العرب وأصحاب النبيّ صلّى الله عليه بذلك فعقلوا المراد به ، ولم يحمل عن أحد منهم أنّ المراد بالتحريم العنب ،
__________________
(١) هو عبد الملك بن قريب ، كان راوية لغويا عالما بالشعر ، روى أبو الطيب اللغوي عن الفراء أنه قال عنه : كان أتقن القوم اللّغة وأعلمهم بالشعر وأحضرهم حفظا.
مات سنة ٢١٦ ه. وترجمته مفصّلة في مراتب النحويين : ٤٦ وإنباه الرواة ٢ : ١٩٧ ، وفي كتاب (الأصمعي ، حياته وآثاره) للدكتور عبد الجبار الجومرد.
(٢) برع في الحديث ، وروى عنه ابن حنبل ، عاش في البصرة ومات سنة ١٨٧ ه.
(٣) وقد تسمي الشيء باسم جزء منه ، وتسمي الجزء باسم الشيء كله ، وقد تسمي الشيء باسم سببه ، وتسمي السبب باسم المسبّب ، ... وانظر علاقات المجاز المرسل في كتب البيان.
والإجماع على هذا يدلّ على فساد ما ذهب إليه هذا القائل بهذه المقالة.
ومن لام العاقبة قول الشاعر ، وهو سابق البربريّ (١) :
أموالنا لذوي الميراث نجمعها |
|
ودورنا لخراب الدّهر نبنيها |
وهم لا يجمعون المال للوارث ، ولا يبنون الدور للخراب ؛ ولكن لمّا كانت عاقبة أمرهم إلى ذلك جاز أن يقال فيه ما ذكرنا (٢) ، ومن ذلك قول الآخر :
لا يبعد الله ربّ الأنا |
|
م والملح ما ولدت خالده |
هم يطعمون سديف العشا |
|
ر والشّحم في الليلة البارده |
هم يطعنون صدور الكما |
|
ة والخيل تطرد أو طارده |
يذكّرني حسن آلائهم |
|
تأوّه معولة فاقده |
فأمّ سماك فلا تجزعي |
|
فللموت ما تلد الوالده (٣) |
__________________
(١) سابق بن عبد الله البربري ، شاعر عاش في العصر الأموي ، واتصل بعمر ابن عبد العزيز ، وقد روى الحديث وروي عنه ، وكان من الزهاد. وانظر ترجمته في الخزانة ٤ : ١٦٤ وتهذيب ابن عساكر ٦ : ٣٨.
(٢) وفي خزانة الأدب ٤ : ١٦٤ أن سابقا البربري هو القائل أيضا :
فللموت تغذو الوالدات سخالها |
|
كما لخراب الدور تبنى المساكن. |
وهو في المعنى نفسه.
(٣) الملح : اللبن ، ويراد به الرّضاع. وانظر الكامل ٢ : ٤٣٦.
والبيت الأول من شواهد اللسان (مادة : ملح) وفسّر الملح بالرضاع ، وقال :
والوالدة لا تلد للموت ، ولكن ذلك للعاقبة كما ذكرنا. ومعنى الصّيرورة والعاقبة في هذا سواء وإن اختلف اللّفظان.
__________________
إنه روي بكسر الحاء ، عطفه على قوله : لا يبعد الله وجعل الواو واو القسم. والرواية فيه : ربّ العباد. والسّديف : لحم السنام. والعشار من الإبل التي أتى عليها عشرة أشهر. وفي نسبة هذه الأبيات وروايتها اختلاف ؛ ففي مغني اللبيب (١ : ٢٣٥) :
فإن يكن الموت أفناهم |
|
فللموت ما تلد الوالده |
وهو فيه غير منسوب ، وفي شرح الشواهد للسيوطي (٢ : ٥٧٢) أبيات عن ابن الأعرابي قال : إنها لرجل من عاملة اسمه سماك قتلته غسّان وفيها قوله :
فأمّ سماك فلا تجزعي |
|
فللموت ما تلد الوالده |
وفيه أيضا أن المبرد روى في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه أبياتا لابن الزبعرى منها البيتان الأول والثالث من الأبيات ثم قوله :
فإن يكن الموت أفناهم |
|
فللموت ما تلد الوالده |
وفي الخزانة (٤ : ١٦٤) عن ابن الأعرابي أيضا أن نهيكة بن الحارث المازني الفزاري هو القائل :
لا يبعد الله رب العبا |
|
د والملح ما ولدت خالده |
هم المطعمو الضيف شحم السنا |
|
م والقاتلو الليلة البارده |
هم يكسرون صدور الرما |
|
ح في الخيل تطرد أو طارده |
يذكرني حسن آلائهم |
|
تفجع ثكلانة فاقده |
فإن يكن القتل أفناهم |
|
فللموت ما تلد الوالده |
وأن المفضل بن سلمة نسبه في الفاخر لشتيم بن خويلد الفزاري. قال : والملح هنا البركة.
وروايات البيت الأول كلها بالخرم في أوله. ووقع البيت الأخير من أبياتنا في شعر سماك بن عمرو الباهلي كما في الخزانة ٤ : ١٦٥.
باب لام التبيين
لام التّبيين تلحق بعد المصادر المنصوبة بأفعال مخزولة مضمرة لتبيّن من المدعوّ له بها (١) ، وذلك قولك : سقيا ، ورعيا ، ورحبا ، ونعمة ، ومسرّة ، وخيبة ، ودفرا (٢) ، وسحقا ، وبعدا. قال
__________________
(١) فصّل ابن هشام القول في لام التبيين ، وقال إنهم م يوفوها حقّها ، وهي ثلاثة أقسام : أحدها ما تبين المفعول من الفاعل ، وهذه تتعلق بمذكور. والثاني والثالث ما يبيّن فاعلية غير ملتبسة بمفعولية ، وما يبيّن مفعولية غير ملتبسة بفاعلية ، ومصحوب كل منهما إما غير معلوم مما قبلها ، أو معلوم ، لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان وتوكيدا له. واللام في ذلك كله متعلقة بمحذوف. وقال : «مثال المبيّنة للمفعولية : سقيا لزيد ، وجدعا له. فهذه اللام ليست متعلقة بالمصدرين ، ولا بفعليهما المقدّرين ، لأنهما متعديان ، ولا هي مقوية للعامل لضعفه بالفرعية إن قدّر أنه المصدر ، أو بالتزام الحذف إن قدّر أنه الفعل ؛ لأن لام التقوية صالحة للسقوط ، وهذه لا تسقط ، لا يقال : سقيا زيدا ، ولا جدعا إياه. خلافا لابن الحاجب ... ، ولا هي ومخفوضها صفة للمصدر فتتعلّق بالاستقرار ، لأن الفعل لا يوصف ، فكذا ما أقيم مقامه ، وإنما هي لام مبيّنة للمدعوّ له أو عليه ، إن لم يكن معلوما من سياق أو غيره ، أو مؤكدة للبيان إن كان معلوما ... ومثال المبيّنة للفاعلية : تبا لزيد ، وويحا له ؛ فانهما في معنى خسر وهلك. فإن رفعتهما بالابتداء فاللام ومجرورها خبر ، ومحلهما الرفع ، ولا تبيين ، لعدم تمام الكلام.» المغني ١ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.
(٢) في الأصل : (دقرا). والدفر : النتن ، ويقال للرجل إذا قبّح أمره : دفرا له ، أي نتنا.
سيبويه : كلّ هذا منصوب على إضمار الفعل المختزل استغناء عنه بها (١). ثمّ نقول في تفسير ذلك : تأويله : سقاك الله سقيا ، ورعاك الله رعيا ، وخيّبة خيبة ، وما أشبه ذلك ، وإنّما اختزل / الفعل لأنّهم جعلوا المصدر بدلا منه ، ثم تلحق لام التبيين فيقال : سقيا لزيد ، ورعيا له ، وتبّا لعمرو ، ونكرا له ، وجوعا له ونوعا (٢) ، لأنه لو لا هذه اللام لم يعلم من المدعوّ له بشيء من هذا أو المدعوّ
__________________
(١) قال سيبويه : «هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره ، وذلك قولك : سقيا ورعيا ، ونحو قولك : خيبة ودفرا وجدعا وعقرا وبؤسا وأفّة وتفّة وبعدا وسحقا ، ومن ذلك قولك : تعسا وتبّا وجوعا ، ونحو قول ابن ميادة :
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي |
|
بجارية ، بهرا لهم بعدها بهرا |
وقال :
ثم قالوا : تحبّها؟ قلت : بهرا |
|
عدد النجم والحصى والتراب |
كأنه قال : جهدا ، أي : جهدي ذلك.
وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل ؛ كأنك قلت : سقاك الله سقيا ، ورعاك الله رعيا ، وخيّبك الله خيبة. فكل هذا وما أشبهه على هذا ينتصب ؛ وإنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل كما جعل الحذر بدلا من احذر. وكذلك هذا كأنه بدل من : سقاك الله ووعاك الله ...» الكتاب ١ : ١٥٧.
(٢) النوع : الجوع. يقال : ناع ينوع نوعا فهو نائع. وقيل : النوع إتباع للجوع.
وقيل : النوع : العطش. وانظر اللسان (مادة : نوع).
عليه ، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(١).
وربّما جاءت مصادر لا تكاد تستعمل أفعالها إلّا أنّ تأويلها هذا التأويل كما قال ابن ميّادة (٢) :
تفاقد قومي إذ يبيعون مهجتي |
|
بجارية ، بهرا لهم بعدها بهرا (٣) |
فإنما أدخل اللّام في قوله بهرا لهم للتبيين ، ومعنى بهرا : تعسا لهم ، كذلك يقول بعض أهل اللغة. وقال بعضهم : معنى بهرا لهم : غلبة لهم وقهرا لهم ، كأنه دعا عليهم بالغلبة. قالوا : ومن ذلك قولهم : بهر القمر الكواكب ، إذا قوي ضوءه فغلب ضوء الكواكب ، وقد تستعمل بهرا لفلان ، بمعنى التعجّب ، كما قال الشاعر :
__________________
(١) سورة الملك ٦٧ : ١١.
(٢) هو الرمّاح بن أبرد ، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية (١٤٩ ه).
وانظر ترجمته في الأغاني ٢ : ٢٦١ ومعجم الأدباء ٤ : ٢١٢ والخزانة ١ : ٧٧.
(٣) قاله ابن ميادة داعيا على قومه لأنهم لم يعينوه على الزواج من أم جحدر بنت حسّان المريّة التي كان يحبها وينسب بها. وانظر القصة في الأغاني ٢ : ٢٧٠. والبيت من شواهد الكتاب ١ : ١٥٧ وانظر الحاشية ١ من الصفحة السابقة. والرواية في الأغاني :
فبهرا لقومي إذ يبيعون مهجتي |
|
بغانية ... |
وقد نسبه المبرد في الكامل (٢ : ٦١٢) إلى ابن مفرّغ.
ثمّ قالوا : تحبّها؟ قلت : بهرا |
|
عدد النجم والحصى والتراب (١) |
إنّما معناه عجبا لهم.
وربّما تركت العرب إظهار هذه اللّام إذا علم الدّاعي أنه قد علم المعنيّ بدعائه ، وعلى ذلك جاء هذا البيت.
وربما جيء بها توكيدا وإن كان العلم محيطا بأن المخاطب قد عرف المقصود بالدّعاء. قال سيبويه : ومجرى هذه اللام في التبيين هاهنا مجرى بك التي تقع بعد قولك : مرحبا بك ، لأنها تكون للبيان هناك بمنزلة اللّام هاهنا ؛ فهما تجريان في التبيين مجرى واحدا (٢).
وقد تستعمل أسماء في الدعاء ليست بمصادر فتجري هذا المجرى في النصب وإلزام اللّام لها تبيينا كقولهم : ويلا لزيد ، وتربا له ،
__________________
(١) لعمر بن أبي ربيعة ، وهو في ديوانه : ٤٢٣. وفي الكتاب ١ : ١٥٧. وانظر الحاشية ١ من الصفحة ١٣٠ والكامل ٢ : ٦٠٧ و ٦١٢. والبيت من شواهد المغني ١ : ٧ والرواية فيه : عدد الرمل والحصى ... وانظر شرح الشواهد ١ : ٣٩ ـ ٤٢.
(٢) قال سيبويه : «وأما ذكرهم (لك) بعد (سقيا) فإنما هو ليبيّنوا المعنيّ بالدعاء ، وربما تركوه استغناء إذا عرف الداعي أنه قد عرف من يعني. وربما جاء به ، على العلم ، توكيدا ؛ فهذا بمنزلة قولك : بك ، بعد قولك : مرحبا. يجريان مجرى واحدا فيما وصفت لك.» الكتاب ١ : ١٥٧.
وجندلا ، وما أشبه ذلك ، فاللّام للتبيين لا بدّ منها إلّا أن تترك لعلم المخاطب. قال جرير (١) :
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها |
|
فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (٢) |
وأما قول الشاعر :
واها لريّا ثمّ واها واها |
|
هي المنى لو أننا نلقاها (٣) |
فإنّ اللّام للتبيين ، ومعنى هذا الكلام التعجب والتمني إلّا أنه ليس بمصدر صحيح / لأنه لو كان على لفظ الفعل لكان ينطق بفعله. وما
__________________
(١) تقدمت ترجمته في ص ١٠١.
(٢) ديوان جرير ١ : ٢١٢ والرواية فيه :
كسا اللؤم تيما خضرة في وجوهها |
|
فيا خزي تيم من سرابيلها الخضر |
والبيت من شواهد سيبويه ١ : ١٦٧. وقال الأعلم : الشاهد قوله فويلا بالنصب ، والأكثر في كلامهم رفعه بالابتداء. وهو في هجاء تيم عدي رهط عمرو بن لجأ الخارجي ، جعل لها سرابيل سودا من اللؤم بادية عليهم ، فالخضرة هنا السواد ، والسربال القميص.
(٣) في المغني (١ : ٤٠٩) : واها لسلمى ...
وفي شرح شواهده (١ : ١٢٨ و ٢ : ٧٨٦) أنه رجز لرؤبة ، وعزاه الجوهري لأبي النجم ، والرواية المشهورة :
واها لريا ثم واها واها |
|
هي المنى لو أننا نلناها |
وبعده :
يا ليت عيناها لنا وفاها |
|
بثمن نرضي به أباها |
إن أباها وأبا أباها |
|
فد بلغا في المجد غايتاها |
كان من هذه الأسماء سوى المصادر فالرفع فيها جائز ، وتصير اللام لام الخبر التي تقع للاستحقاق ، وقد شرحنا وجوهها فيما مضى (١) ، وذلك قولك : ويح لزيد ، وويل له ، يرفع بالابتداء والخبر ، والمعنى فيه معنى الدّعاء ، معناه : ثبت هذا لهم واستحقوه ، قال الله جلّ وعزّ : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)(٢) و (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٣).
وقد روي بيت جرير بالرفع :
... |
|
فويل لتيم ... (٤) |
وقال حسّان (٥) :
أهاجيتم حسّان عند ذكائه |
|
فعيّ لأولاد الحماس طويل (٦) |
__________________
(١) انظر ما سبق في ص ٤٩.
(٢) سورة المطففين ٨٣ : ١ واستشهد ابن هشام بهذه الآية في المغني ١ : ٢٢٩ و ٢ : ٥٢٢.
(٣) في الأصل : ويل للمكذبين. والآية مكررة في سورة المرسلات الآية ١٥ وما بعدها ، وهي أيضا في سورة المطففين ٨٣ : ١٠.
(٤) انظر الحاشية ٢ من الصفحة السابقة.
(٥) هو حسّان بن ثابت شاعر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ، عاش ستين سنة في الجاهلية ومثلها في الإسلام. وكان فخم المديح مرّ الهجاء. وديوانه مطبوع.
(٦) البيت في ديوان حسّان ص : ٢١١ والرواية فيه :
وقد تقع لام التبيين في غير هذا الموضع ، وهي التي تجيء بمعنى كي ، وقد ذكرناها فيما مضى (١). والفرق بين هذه وتلك أنّ تلك تدخل على الأفعال المستقبلة ، وهذه على الأسماء ، وقد مضى شرحها.
__________________
هاجيتم حسّان عند ذكائه |
|
غيّ لمن ولد الحماس طويل |
والحماس حي من بني الحارث بن كعب كان حسّان يهجوهم.
(١) انظر ما تقدم في باب لام كي ص : ٥٣.
باب لام لو
اعلم أنّ (لو) تليها الأفعال ، ومعناها أنّ الشيء ممتنع لامتناع غيره (١) ، وتستقبل باللّام جوابا لها ، وربّما أضمرت اللّام لأنه قد عرف موقعها ، وهي ضدّ لولا ، فلذلك فرّقنا بين لاميهما ، وذلك قولك : لو جاء زيد لأكرمتك ، والمعنى : إنّ إكرامي إياك إنما امتنع لامتناع زيد عن المجيء ، فهذا معنى امتناع الشيء لامتناع غيره. واللّام هي الجواب.
وإذا وقع بعد (لو) اسم فإنما يقع على إضمار فعل رافع له أو ناصب ؛ لأنها بالفعل أولى إذ كانت موضوعة له ، وذلك قولك : لو زيدا لقيته لأكرمتك. تنصبه بفعل مضمر هذا تفسيره. والرفع فيه ضعيف. وكذلك تقول : لو زيد قدم لأكرمته ، ترفعه بفعل مضمر ، كما قال الله تعالى ذكره : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي
__________________
(١) وانظر ما يقول ابن هشام من بطلان قول المعربين إنها حرف الشرط لامتناع الجواب في مغني اللبيب ١ : ٢٨٤ و ٢٨٧.
إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ)(١) ترفع أنتم بفعل مضمر يفسّره الظّاهر. وقد يجوز في غير مذهب سيبويه رفعه بالابتداء.
ومن أمثال العرب : «لو ذات سوار لطمتني» (٢). قال المبرّد فيما فسّره من مسائل سيبويه : إنه مرفوع بفعل مضمر ، وأنشد المبرّد :
لو غيركم علق الزبير بحبله |
|
أدّى الجوار إلى بني العوّام (٣) |
قال : الاختيار نصب غير كما ذكرت لك ، واللّام مضمرة ، تقديره : لأدّى الجوار ، ولا بدّ من ذلك ، وجاز إضمارها لمّا عرف موقعها وكثر استعمالها ، وأنشد أبو العباس أيضا (٤) للمتلمّس (٥) :
__________________
(١) تتمة الآية : (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) الإسراء ١٧ : ١٠٠ وانظر الكامل ١ : ٢٣٩ والمغني ١ : ٢٨٧ و ٢٩٧ و ٢ : ٧٠٢.
(٢) يعنون أنه لو ظلمني كفء لي لهان الأمر. وانظر مجمع الأمثال للميداني ٢ : ١٠٣ والكامل ١ : ٢٤٠ والمغني ١ : ٢٩٦ و ٢ : ٢٠٧.
(٣) هو بيت لجرير يخاطب به الفرزدق (ديوان جرير : ٥٥٣) والرواية في الديوان : علق الزبير ورحله ... وانظر الكامل ١ : ٢٤٠ والمغني ١ : ٢٩٦ وشرح الشواهد ٢ : ٦٥٧.
(٤) في كتاب الكامل ١ : ٢٤٠.
(٥) هو جرير بن عبد العزّى ، جاهلي من ربيعة ، خال طرفة بن العبد. اتصل بعمرو بن هند ملك العراق ثم ساءت صلته به ففرّ إلى الشام. ويقال إنه مات في حوران حوالي سنة ٥٠ ق. ه.
/ ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي |
|
جعلت لهم فوق العرانين ميسما |
قال : يرفع غير بفعل مضمر. وأنشد لعديّ (١) :
لو بغير الماء حلقي شرق |
|
كنت كالغصّان بالماء اعتصاري (٢) |
قال : لو للحلق ، وبغير ظرف متصل بشرق ، وتقديره : لو حلقي شرق بغير الماء لكنت كالغصّان ، ورفعه على ما مضى من التقدير.
__________________
(١) هو عدي بن زيد العبادي التميمي ، كان شاعرا ذكيا ، استكتبه كسرى واتخذه ترجمانا ، وتزوج هندا بنت النعمان بن المنذر ، وعلى يد أبيها النعمان كان مقتله حوالي سنة ٣٥ ق ه. وأخباره مبسوطة في كتاب (عدي بن زيد العبادي) لمحمد علي الهاشمي.
(٢) من شواهد سيبويه ١ : ٤٦٢ وانظر البيان والتبيين ٢ : ٣٥٩ والأغاني ٢ : ٩٥ ففيه قصة عديّ مع النعمان وأبيات في جملتها هذا الشاهد. وانظر أيضا المغني ١ : ٢٩٧ وشرح الشواهد ٢ : ٦٥٨ والخزانة ٣ : ٥٩٤.
باب لام لولا
اعلم أنّ (لولا) نقيضة (لو) ؛ وذلك أنّ الشيء ممتنع بها لوجود غيره ، وتلزمها اللّام في الخبر ، وتقع بعدها الأسماء ، ولا تقع بعدها الأفعال ، ضدّا لما كان في باب لو ، فالمرتفع بعدها يرتفع بالابتداء ، والخبر مضمر ، واللّام داخلة على الجواب ، وذلك قولك : لولا زيد لأكرمتك ، والمعنى : إنّ الإكرام إنّما امتنع لحضور زيد ، فترفع زيدا بالابتداء ، والخبر مضمر ، واللام جواب لولا ، وذلك قولك : لولا زيد أهابه أو أكرمه وما أشبه ذلك لأكرمتك. قال الله عزّ وجلّ : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)(١). قال الشاعر :
لولا الحياء وأنّ رأسي قد عسا |
|
فيه المشيب لزرت أمّ القاسم (٢) |
__________________
(١) سورة سبأ ٣٤ : ٣١. قال سيبويه : «هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم متحوّلا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم. وذلك قولك : لولاك ولولاي ؛ إذا أضمرت الاسم فيه جرّ ، وإذا أظهرت رفع. ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت : لولا أنت ، كما قال سبحانه : لولا أنتم لكنا مؤمنين.» الكتاب ١ : ٣٨٨.
(٢) هو لعديّ بن الرقاع العاملي. نسبه إليه المبرد في الكامل ١ : ١٢٧ وابن هشام في المغني ١ : ١٨٧ وقال : «عسا هنا بمعنى اشتدّ ... وانظر شرح الشواهد ١ : ٤٩٢. وعديّ بن الرقاع شاعر فحل ، عاصر جريرا ، وعاش في دمشق ، ومات سنة ٩٥ ه.
وقال نصيب (١) :
ولو لا أن يقال صبا نصيب |
|
لقلت : بنفسي النشأ الصغار (٢) |
وقال آخر :
لولا الحياء لهاجني استعبار |
|
ولزرت قبرك والحبيب يزار (٣) |
__________________
(١) نصيب بن رباح ، كان مولى لعبد العزيز بن مروان ، وفحلا من فحول الشعراء. توفي سنة ١٠٨ ه وقيل بعيد ذلك. انظر ترجمته مفصّلة في الأغاني ١ : ٣٢٤ ـ ٣٧٧ ومعجم الأدباء ٧ : ٢١٢.
(٢) الناشىء : الشاب في أول نشأته ، والجمع : نشء ، مثل : صاحب وصحب.
وفي التاج أنه يحرّك نادرا مثل : طالب وطلب ، واستشهد ببيت نصيب (مادة : نشأ).
(٣) البيت لجرير في رثاء زوجه (شرح ديوان جرير : ١٩٩) والرواية فيه : لعادني استعبار .. وبالرواية الأولى ذكره المبرد في الكامل ٣ : ١١٩٧.