كتاب اللّامات

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي

كتاب اللّامات

المؤلف:

عبد الرحمن بن إسحاق الزّجّاجي


المحقق: الدكتور مازن المبارك
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٠٧

إضافة الأول إلى ما بعد المكرّر (١) ، كقول العرب : يا زيد زيد عمرو ، فإنما أقحمت الثاني توكيدا ، وقد رووا إضافة الأول إلى ما بعد المقحم كما قال جرير (٢) :

يا تيم تيم عديّ لا أبالكم

لا يلقيّنكم في سوءة عمر (٣)

وقال آخر :

يا زيد زيد اليعملات الذبّل

تطاول اللّيل عليك فانزل (٤)

__________________

(١) قال سيبويه : «وصارت اللام بمنزلة الاسم الذي ثنّيي به في النداء ، ولم يغيّروا الأول عن حاله قبل أن تجيء به ، وذلك قولك : يا تيم تيم عديّ ، وبمنزلة الهاء إذا لحقت طلحة في النداء لم يغيّروا آخر طلحة عمّا كان عليه قبل أن تلحق ، وذلك قولهم : كليني لهم يا أميمة ناصب.» الكتاب ١ : ٣٤٦.

(٢) هو أبو حزرة ، جرير بن عطية الكلبي التميمي. من فحول الشعراء. برع في الغزل والهجاء والمديح. عاش في العصر الأموي يهاجي الشعراء ، ونقائضه مشهورة مع الفرزدق والأخطل.

(٣) ديوان جرير : ٢٨٥ والرواية فيه : لا يوقعنّكم. وهو من قصيدة في هجاء عمر بن لجأ التميمي ، استشهد به سيبويه غير مرة (الكتاب ١ : ٢٦ و ٣١٤ و ٣٤٦ و ٣٤٩) والمبرد (الكامل ٣ : ٩٥٢) وابن هشام (المغني ٢ : ٥١٠). وانظر الخزانة ١ : ٣٥٩ وشرح شواهد المغني ٢ : ٨٥٥ وشرح المفصّل ٢ : ١٠ وابن عقيل ٢ : ٨٤ والأشموني : ٤٥٤.

(٤) اليعملات : ج يعملة وهي الناقة القوية. والذبّل : ج ذابل وهو الضامر.

والبيت في الكتاب منسوب لبعض ولد جرير (الكتاب ١ : ٣١٥) ونسبه المبرد لعمر بن لجأ (الكامل ٣ : ٩٥٢) وفي الخزانة أنه لعبد الله بن رواحة خلافا لمن زعم أنه لبعض

١٠١

قال : وهذا نظير قولهم : يا طلحة أقبل ، بالفتح ، لأنهم قدّروا فتح آخر الاسم للتّرخيم ، ثمّ ردّوا الهاء ولم يعتدّوا بها ، كما قال النابغة (١) :

كليني لهمّ يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب (٢)

ومن العرب من يقول : يا تيم تيم عديّ ، ويا زيد زيد اليعملات ، فيجعل الأول منادى مفردا ، وينصب الثاني لأنه مضاف ، ومن كان هذا من لغته فإنه يقول : يا طلحة أقبل ، وكليني لهمّ يا أميمة ،

__________________

ولد جرير ، والرواية فيها : تطاول الليل هديت فانزل (الخزانة ١ : ٣٦٢) وشرح المفصل ٢ : ١٠ والأشموني : ٤٥٤ وهو من شواهد ابن هشام في المغني (٢ : ٥٠٩ و ٦٨٦). وانظر التفصيل في نسبته وروايته في شرح الشواهد للسيوطي ٢ : ٨٥٥.

وقد خالف المبرد رأي سيبويه ؛ فلم يقل : إن زيدا الأول مضاف إلى اليعملات ، وإن الثاني توكيد للأول ـ كما قال سيبويه ـ وإنما زعم أن زيدا الأول مضاف إلى محذوف ، وأن الثاني مضاف إلى مذكور ، وإنما استغنوا بالثاني عن الأول. وقال السيرافي : ويجوز أن نجعل الثاني نعتا للأول ، مثل : يا زيد بن عمرو ، ثم نتبع حركة الأول المبني حركة الثاني المعرب. (شرح السيرافي على سيبويه. الكتاب ١ : ٣١٥).

(١) هو زياد بن معاوية الذبياني ، من أصحاب المعلّقات ، قدّمه شعراء الجاهلية وحكّموه بينهم. اتصل بالنعمان بن المنذر وخصّه بمديحه ثم باعتذاريّاته ، ومات حوالي سنة ١٨ ق ه.

(٢) ديوان النابغة : ٩٠. وقال سيبويه : «وزعم الخليل أن قولهم : يا طلحة أقبل ، يشبه يا تيم تيم عدي ، من قبل أنهم علموا أنهم لو لم يجيئوا بالهاء لكان آخر الاسم مفتوحا فلما ألحقوا الهاء تركوا الاسم على حاله التي كان عليها قبل أن يلحقوا الهاء» ثم استشهد سيبويه ببيت النابغة أيضا. (الكتاب ١ : ٣١٥ و ٣٤٦) وانظر الأشموني : ٤٦٩. والخزانة ١ : ٣٧٠.

١٠٢

بالضمّ (١). وكذلك من قال : لا أبالك ، فإنما زاد اللّام بين المضاف والمضاف إليه مقحمة للتوكيد على ما ذكرنا في قوله : يا تيم تيم عديّ ، قال الأسود بن يعفر :

ومن البليّة لا أبالك أنّني

ضربت عليّ الأرض بالأسداد (٢)

فإن قال قائل : فإن كانت هذه اللّام مزيدة فإنما التقدير : لا أباك.

قيل : هو كذلك ، وقد قال الشاعر فحذف اللّام وأضاف فقال :

أبالموت الّذي لا بدّ أني

ملاق لا أباك تخوّفيني (٣)

وقال آخر :

وقد مات شماخ ومات مزرّد

وأيّ عزيز لا أباك يخلّد (٤)

__________________

(١) قال سيبويه : «والرفع في طلحة ، ويا تيم تيم عدي ، القياس.» الكتاب ١ : ٣١٦.

(٢) الأسود بن يعفر شاعر جاهلي من تميم ، نادم النعمان بن المنذر. وانظر الخزانة ١ : ١٩٥ وشرح شواهد المغني ١ : ١٣٨ و ٢ : ٥٥٣.

(٣) هو لأبي حيّة النميري. استشهد به المبرد في الكامل ٢ : ٤٨٧ و ٣ : ٩٥٣.

وابن هشام في شرح الشذور : ٣٢٨. وفي الخزانة أن ابن السراج قال في الأصول : إن حذف اللام ضرورة. (الخزانة ٢ : ١١٦).

(٤) البيت لمسكين الدارمي ، واسمه ربيعة بن عامر (وانظر ترجمته في الخزانة ١ : ٤٦٧ ومعجم الأدباء ٤ : ٢٠٤). وقد استشهد بهذا البيت سيبويه (الكتاب ١ : ٣٤٦) ورواه : وأيّ كريم لا أباك يمتّع. قال : ويروى مخلّد. وانظر الكامل ٢ : ٤٨٧ و ٣ : ٩٥٣. والبيت من قصيدة عينية ذكر فيها مسكين عددا من الشعراء المتقدمين وذكر

١٠٣

فإن قال : فإنّ اجتماع النحويّين على أنّ (لا) في النفي لا تعمل في المعارف ولا تنصبها ، فخطأ عند الجميع أن تقول : لا زيد في الدار ، ولا بكر عندك ، ولا / غلامك في الدار. وإنّما تنصب النكرات كقولك : لا رجل في الدار ، ولا غلام لك ، وكقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ)(١) وما أشبه ذلك. وأنت إذا قلت : لا أباك ، فقد نصبت بها المعرفة ؛ لأنّ الأب مضاف إلى الكاف وهي معرفة ، والمضاف إلى المعرفة معرفة ، وهذا نقض لما أصّلتموه ، وضدّ لما أجمعتم عليه. قيل له : ليس كما ذهبت إليه ، وذلك أنه قد تكون أسماء بألفاظ المعارف وهي نكرات ، نحو : مثلك ، وشبهك ، وغيرك ، وضربك ، ونحوك ، وهدّك (٢) ، وكفيك ،

__________________

أنهم ماتوا ولم يبق منهم أحد تصغيرا منه لأمر الدنيا وإيمانا بعدم خلودها ، ومنها قوله :

ولست بأحيا من رجال رأيتهم

لكل امرئ يوما حمام ومصرع

ورواية البيت الشاهد كما في الخزانة لا ضرورة فيها ، وهي : وأي كريم لا أبا لك يمنع.

والشمّاخ : اسمه معقل بن ضرار ، شاعر جاهلي أدرك الإسلام وأسلم ، وكانت له صحبة.

وحضر القادسية. ومزرّد أخوه ، واسمه يزيد بن ضرار. وانظر الخزانة ٢ : ١١٦.

(١) كثيرا ما ورد هذا التعبير في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.) ٢ : ١.

(٢) قال الجوهري : «تقول : مررت برجل هدّك من رجل ، معناه أثقلك وصف محاسنه وفيه لغتان : منهم من يجريه مجرى المصدر ؛ فلا يؤنثه ولا يثنيه ولا يجمعه ، ومنهم من يجعله فعلا فيثني ويجمع.» الصحاح (مادة : هدد) وفي اللسان :

١٠٤

وشرعك (١) ، وضاربك إذا أردت به الحال أو الاستقبال (٢) ، وكذلك قولهم : لا أباك ولا أبا لك ، بلفظ المعرفة وهو نكرة ؛ لأنّ أصله أن يقال : لا أب لك ، وليس يراد بقولهم : لا أب لك ، ولا أبا لك : ولا أباك ، أنه ليس له أب في الحقيقة ، هذا محال وجود إنسان بغير أب ، إلّا ما صحّ وجوده من خلق الله ذلك ، مثل عيسى وآدم عليهما السّلام ، فأمّا سائر الناس فليس بدّ لكل واحد من أب ، وإنما يراد بقولهم : لا أبا لك ، أنه لا أب لك من الآباء الأشراف أو من الآباء المذكورين ، فإنّما هو كلام مجراه مجرى السبّ ، وربّما وضع

__________________

مررت برجل هدّك من رجل ، أي : حسبك ، وهو مدح.

(١) وفي اللسان عن أبي زيد : هذا رجل كافيك من رجل ، وناهيك من رجل ، وجازيك من رجل ، وشرعك من رجل ، كلّه بمعنى واحد. (اللسان ، مادة : كفي) وانظر سيبويه ١ : ٢١٠.

(٢) وقال الزجاجي في كتابه (الجمل): «ومما جاء بلفظ المعرفة وهو نكرة : مثلك وشبهك وغيرك ونحوك وضربك وهديك وكفيك واسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال نحو قولك : هذا ضاربك غدا ، ومكرمك الساعة ، والدليل على تنكيرها وقوعها نعوتا للنكرات كقولك : مررت برجل مثلك وشبهك ، قال الله عز وجلّ : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) فلولا أن (مُمْطِرُنا) نكرة لم ينعت به (عارِضٌ) وهو نكرة.

ودخول ربّ أيضا يدل على تنكيرها ... قال جرير :

يا رب غابطنا لو كان يطلبكم

لاقى مباعدة منكم وحرمانا.

الجمل : ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٠٥

موضع المدح كقولك للرئيس الفاضل : لا أبا لك ، إنّما تريد : لا أبا لك من الآباء الخاملين النّاقصين ، فإنّما هو كلام مختصر يعرف معناه بمقصده ، وجرى كالمثل ، فلذاك جاز فيه ما ذكرنا.

وفيه لغات :

أولها أن يقال : لا أب لك ، فينصب الأب ب (لا) ، ويكون (لك) الخبر ، كما قال الشاعر :

فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (١)

نصب الأب بلا ، ولم يلحق به ألفا لأنه غير مضاف ، وأضمر الخبر كأنه قال : لا أب في زمان أو مكان (٢).

والثانية أن يقال : لا أب لك ، بالرفع ؛ يرفع بالابتداء وتلغى لا ، والخبر لك وإن شئت جعلتها بمعنى ليس فرفعت بها ، وهو أضعف الوجهين ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) البيت في مدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك. وفي الخزانة أنه جعل الخبر عن أحدهما وهو يعنيهما اختصارا لعلم السامع. والبيت من شواهد سيبويه ١ : ٣٤٩ والخزانة ٢ : ١٠٢.

(٢) وعطف ابنا بالنصب والتنوين على المنصوب بلا. وكان يجوز أن يرفع المعطوف مراعاة لمحل لا واسمها فإنهما معا في محل رفع على الابتداء.

١٠٦

/ من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لابراح (١)

ونظير رفع الأب بالتنوين في النفي قول الشاعر :

وإذا تكون كريهة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

هذا وجدّكم الصّغار بعينه

لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب (٢)

والثالثة أن تقول : لا أبا لك ، فتنصب الأب بلا وتقدّر إضافته

__________________

(١) البيت لسعد بن مالك ، من قصيدته التي يقول فيها :

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

قال ابن هشام بعد أن استشهد بالبيت على أن (لا) تعمل عمل ليس : «وإنما لم يقدّروها مهملة والرفع بالابتداء ، لأنها حينئذ واجبة التكرار ، وفيه نظر ؛ لجواز تركه في الشعر. المغني ١ : ٢٦٤ واستشهد بالبيت ثانية على جواز حذف خبر (لا) في المغني ٢ : ٧٠١. وانظر شرح الشواهد ٢ : ٥٨٢ ـ ٥٨٣. والخزانة ١ : ٢٢٣ و ٢ : ٩٠.

(٢) الحيس : طعام كانوا يتخذونه من سمن وتمر وأقط. وجندب : شقيق الشاعر.

ويبدو أنهم كانوا يؤثرونه عليه ، فقال أبياتا يلومهم فيها على تمييز أخيه وإيثارهم إياه. وأما قائل الأبيات فمختلف عليه ، وانظر ما قالوه في نسبتها مفصلا في شرح الشواهد للسيوطي ٢ : ٩٢١. والبيت من شواهد الكتاب ١ : ٣٥٢ والرواية فيه : هذا لعمركم ... والمغني ٢ : ٦٥٦ وشرح الشذور : ٨٦ وابن عقيل ١ : ١٥٢. وهم يستشهدون بهذا البيت على رفع كلمة (أب) إما على أنها معطوفة على محل لا واسمها في قوله : لا أمّ ؛ ومحلهما الرفع على الابتداء. وإما على أنها اسم لا الثانية ، وهي عاملة عمل ليس. وإما على أنها مبتدأ ، و (لا) قبلها مهملة غير عاملة.

١٠٧

إلى الكاف فتلحق فيه الألف علامة للنصب ، وتجعل اللام مؤكّدة ، وتضمر الخبر ، لأن اللام ليست بخبر على هذا التقدير ، كأنك قلت : لا أبا لك في زمان أو مكان. قال سيبويه : وعلى هذا تقول : لا غلامي لك ، إذا قدّرت الإضافة وتضمر الخبر ، وإن لم تقدّر الإضافة قلت : لا غلامين لك ، فأثبتّ النون وجعلت اللّام الخبر ، وكذلك تقول : لا يدي لك ، على الإضافة ، ولا يدين لك ، إذا جعلت اللام الخبر ، قال : فإن قلت : لا يدي يوم الجمعة لك ، لم يجز إلا إثبات النون (١) ، فتقول : لا يدين يوم الجمعة لك ، لأنك قد فصلت بين المضاف والمضاف إليه بشيء سوى اللام وهو الظرف ، ومثل هذا جائز في الشعر ؛ لأنّ العرب قد تفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر كما قال :

لمّا رأت ساتيدما استعبرت

لله درّ اليوم من لامها (٢)

وقال آخر :

__________________

(١) على أن سيبويه نقل عن يونس ترك النون في مثل : لا يدي بها لك. وأما إثبات النون فمذهب الخليل. وانظر التفصيل في (باب المنفي المضاف بلام الإضافة) في الكتاب ١ : ٣٤٥ ـ ٣٥٠.

(٢) قائله عمرو بن قميئة. وساتيدما : اسم جبل. والشاهد أنه فصل بين المتضايفين (درّ من) بالظرف (اليوم).

١٠٨

كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا

أواخر الميس أنقاض الفراريج (١)

واللغة الرابعة أن تقول : لا أباك ، فتضيفه إضافة صحيحة وتحذف اللّام ، وتضمر الخبر على ما ذكرنا من التقدير.

__________________

(١) البيت لذي الرمة ، وهو في ديوانه : ٧٦. والإيغال : سرعة السير. والميس : شجر يعملون منه الرحال. والأنقاض الأصوات. يريد : كأن أصوات أواخر الميس لشدّة السير واضطراب الرحال أصوات الفراريج. ولكنه فصل بين المتضايفين بالمجرور.

والبيت من شواهد سيبويه ، والرواية فيه : أصوات الفراريج. وقد علّق عليه سيبويه بأنه قبيح (الكتاب ١ : ٩٢) وجعله ضرورة (الكتاب ١ : ٣٤٧). وانظر الإنصاف (المسألة : ٦٠).

١٠٩

باب اللام الداخلة في النداء

بين المضاف والمضاف اليه

اعلم أنّ موقع هذه اللّام في النداء كموقع اللّام التي ذكرناها في الباب المتقدّم في النفي ، بل هي تلك بعينها ، تدخل بين المضاف والمضاف إليه ؛ فتبقي الإضافة على حالها ولا تفصلها ، وإنّما فرّقنا بينهما وإن كان مجراهما ومعناهما واحدا للفرق بين الموضعين ، ومخالفة معنى النداء للنفي. وأكثر هذه اللّامات ترجع إلى معنى واحد ، وإنّما كثرت واختلفت باختلاف مواقعها ، وسنذكر / أصول هذه اللّامات ورجوعها إلى أصول تضمّها في باب مفرد من هذا الكتاب إن شاء الله. وذلك قولك : يا بؤس لزيد ، والتقدير : يا بؤس زيد ، فأدخلت اللّام مقحمة مزيدة ، ولم تفصل بين المضاف والمضاف إليه ، ومثل ذلك قول الشاعر :

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا (١)

__________________

(١) الرهط : الجمع من الناس ، ولا واحد له من لفظه : وهو للرجال دون النساء. ويجمع على أرهط وأراهط وقيل : أراهط : جمع أرهط.

والبيت لسعد بن مالك يعرّض فيه بالحارث بن عبّاد الذي آثر الراحة على الحرب

١١٠

أنشده سيبويه والخليل وغيرهما ، وأنشدت الجماعة أيضا :

قالت بنو عامر خالوا بني أسد

يا بؤس للجهل ضرّارا لأقوام (١)

والدليل على أنّ حرف النداء واقع عليه ، وأنه ليس بمقدّر لمنادى في النيّة ، أنه منصوب ، ولو كان حرف النداء غير واقع عليه لم يجز نصبه. وليس في العربيّة موضع تدخل فيه اللّام بين المضاف والمضاف إليه غير فاصلة بينهما إلّا في النفي والنداء للعلّة التي ذكرناها في الباب الأول من كثرة النفي والنداء في كلامهم ، وهم ممّا يغيّرون الأكثر في كلامهم ، وعلى أنّ النداء في كلامهم أكثر من النفي ، قال سيبويه : أول كلّ كلام النداء ، وإنّما يترك في بعضه تخفيفا ، وذلك أنّ سبيل المتكلّم أن ينادي من يخاطبه ليقبل عليه ، ثمّ يخاطبه مخبرا له أو مستفهما أو آمرا أو ناهيا وما أشبه ذلك ، فإنّما يترك النداء إذا علم

__________________

وانظره في جملة أبيات حائية في شرح الشواهد للسيوطي ٢ : ٥٨٢. وهو من شواهد ابن هشام في المغني (١ : ٢٣٨) حيث ذكر من أنواع اللام الزائدة اللام المقحمة بين المتضايفين تقوية للاختصاص واستشهد ببيت سعد بن مالك. وقد تقدم ذكر القصيدة في ص ١٠٧.

(١) خالوا بني أسد : أي اتركوهم واخلوا من خلفهم. والبيت للنابغة (الديوان : ٩٨) وهو من شواهد سيبويه (١ : ٣٤٦) والإنصاف (المسألة : ٤٥).

١١١

إقبال المخاطب على المتكلّم استغناء بذلك. قال : وربّما أقبل المتكلّم على مخاطبه وهو منصت له ، مقبل عليه ، مصغ إليه ، فيقول له : يا فلان ، توكيدا ثم يخاطبه ، فلمّا كثر النداء في كلامهم هذه الكثرة أجازوا تغييره وبناءه على الضمّ إذا كان مفردا ، وحذف التنوين منه ، وترخيمه ، وزيادة اللّام فيه بين المضاف والمضاف إليه.

١١٢

باب اللام الداخلة على الفعل المستقبل

في القسم لازمة

اعلم أنّ الفعل المستقبل إذا وقع في القسم موجبا لزمته اللّام في أوله / والنون في آخره ثقيلة أو خفيفة ، ولم يكن بدّ منهما جميعا ، وذلك قولك : والله لأخرجنّ ، وتالله لأركبنّ ، قال الله عزّ وجلّ : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ)(١) وقال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً).)(٢)

فإن قال قائل : فلم لزمت اللّام والنون معا؟ وما الفائدة في الجمع بينهما؟ وهلّا جاز الاقتصار على إحداهما إذ كانتا جميعا للتوكيد؟ فالجواب في ذلك أنّ الخليل وسيبويه والفراء والكسائيّ أجمعوا على أنّه

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٥٧ وقد سبق الكلام عليها مفصّلا في الحاشية : ٢ ص : ٧٨.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٨٦ وقد تقدمت في ص : ٧٠.

١١٣

إنّما جمع بين اللّام والنون هاهنا لأنّ اللّام تدخل لتحقيق المحلوف عليه ، كما دخلت (لا) في النفي في قولك : والله لا يقوم زيد ، ولزمت النون في آخر الفعل ؛ ليفصل بها بين فعل الحال والاستقبال ، فهي دليل الاستقبال ؛ فإذا قلت : والله ليخرجنّ زيد ، دلّت اللام على الإيجاب ، والنون على الاستقبال وتخليص الفعل من الحال ؛ فقد دلّ كلّ واحد منهما على معنى مفرد ، فإن لم ترد الاستقبال جاز أن تقول : والله ليقوم ويصلّي ، لمن هو في تلك الحال ، وربّما أضمرت هذه اللّام في الشعر مع النون ضرورة كما قال الشاعر :

فهم الرجال وكلّ ذلك منهم

تجدنّ في رحب وفي متضيّق

وأنشده الكسائيّ وزعم أنه أضمر اللّام ، وقال الفرّاء : اللام لا يجوز إضمارها مع النون الثقيلة والخفيفة إلّا بأن تتقدّمها لام مثلها تدلّ عليها ، ولكنّ هذا الشاعر أدخل النون في الواجب ضرورة ، قال الفراء : فمها تضمر فيه اللّام قول الشاعر :

فليأزلنّ وتبكؤنّ لقاحه

ويعلّلنّ صبيّه بسمار (١)

__________________

(١) أزل فلان يأزل : صار في ضيق وجدب. وبكؤت الناقة : قلّ لبنها.

والسّمار : اللبن الذي رقق بالماء. والبيت في الصحاح واللسان (مادة : بكأ).

١١٤

أضمر اللّام في الفعلين الأخيرين لمّا ذكرها في أول الكلام ، فكأنّه قال : فليأزلنّ ولتبكؤنّ لقاحه وليعلّلنّ صبيّه بسمار. وقد يجوز عند البصريين أن يكون أدخل النون في الفعلين الأخيرين ضرورة ، لأنّ الشعراء قد يدخلون هذه النون ضرورة في الواجب ، وإنّما حكمها أن تدخل فيما ليس بواجب ، فأمّا إدخالها في الواجب ضرورة فنحو قول الشاعر :

ربّما أوفيت في علم (١)

ترفعن ثوبي شمالات

في فتوّ أنا رابئهم

من كلال غزوة ماتوا

__________________

وجاء في تاج العروس (مادة : بكأ) : قال أبو مكعب الأسدي :

فليضربنّ المرء مفرق ماله

ضرب الفقار بمعول الجزّار

وليأزلنّ وتبكؤن لقاحه

ويعلّلن صبيّه بسمار

ونسبه في (مادة : أزل) إلى أبي مكعت الأسدي ، وكان قد ذكر في (مادة : كعب) أن أبا مكعب الأسدي ، بتشديد العين ، من شعرائهم ، وقيل إنه أبو مكعت ، بتخفيف العين وبالتاء. وقال في مادة (كعت) : أبو مكعت كمحسن شاعر معروف من بني أسد ، واسمه منقذ بن حنيس ، وقيل الحارث بن عمرو ، قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنشده.

(١) العلم : الجبل. وشمالات : ج الشمال من الرياح. وفتوّ ، على وزن فعول ، جمع فتى ، كفتيّ ، على وزن عصيّ. وربأ : ارتفع. وربأ للقوم : صار رابئا وربيئا وربيئة لهم أي طليعة لهم يعتلي شرفا أو جبلا ينظر لهم منه. والكلال : التعب.

١١٥

ليت شعري ما أماتهم

نحن أدلجنا وهم باتوا (١)

/ وهو في الشعر كثير جدا.

__________________

(١) الأبيات لجذيمة الأبرش. والبيت الأول منها من شواهد سيبويه (الكتاب ٢ : ١٣٢) وابن هشام (المغني ١ : ١٤٣ و ١٤٦ و ٣٤٣). وانظر شرح الشواهد ١ : ٣٩٣ وشرح المفصّل ٩ : ٤٠ والأشموني : ٤٩٨. والأبيات مع شرح معانيها في خزانة الأدب ٤ : ٥٦٧ والرواية فيها :

١ ـ ربما أوفيت ...

٢ ـ في فتوّ أنا كالئهم

في بلايا عورة باتوا

٣ ـ ثم أبنا غانمين معا

وأناس بعدنا ماتوا

٤ ـ ليت شعري ...

وكذلك هي في الأغاني على اختلاف في الرواية (١٥ : ٢٥٧).

١١٦

باب اللام التي تلزم (إن)

المكسورة الخفيفة من الثقيلة

اعلم أنّ ل (إن) المكسورة المخففة أربعة مواضع :

تكون جزاء كقولك : إن تكرمني أكرمك ، وإن تزرني أحسن إليك ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ)(١).

وتكون جحدا بمنزلة (ما) فتقول : إن زيد قائما ، كما تقول : ما زيد قائما. وتقول : إن زيد إلّا قائم ، كما تقول : ما زيد إلّا قائم. قال الله تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)(٢).

وتكون زائدة كما تقول : لمّا إن جاء زيد أحسنت إليه ، والمعنى : لمّا جاء زيد ، و (إن) زائدة.

فهي في هذه الوجوه الثلاثة قائمة بنفسها لا يلزمها شيء. ولها وجه رابع ، وهو الذي قصدناه في هذا الباب ، وذلك أن تكون

__________________

(١) في الأصل : إن تبدوا. والآية من سورة البقرة ٢ : ٢٨٤.

(٢) سورة الملك ٦٧ : ٢٠ واستشهد ابن هشام بهذه الآية على دخول إن الخفيفة النافية على الجملة الاسمية (المغني ١ : ١٨).

١١٧

مخفّفة من الثقيلة ، فتلزمها اللّام في خبرها ، ويبطل عملها في أكثر اللغات ، كقولك : إن زيد لقائم ، والمعنى : إنّ زيدا لقائم ، فلمّا خفّفت إنّ رفعت زيدا بالابتداء ، وجعلت قائما خبر الابتداء ، وبطل عمل إن ؛ لأنّها كانت تعمل بلفظها ولمضارعتها الفعل ، فلمّا نقص بناؤها زال عملها ، ولزمتها اللّام في الخبر ، ولم يجز حذف اللّام في الخبر لئلّا تشبه النافية (١) ؛ ألا ترى أنك لو قلت : إن زيد قائم ، وأنت تريد الإيجاب ، لم يكن بينها وبين النافية فرق ، فألزمت اللّام في الخبر لذلك ، فإذا ثقلت إنّ كنت مخيّرا في الإتيان باللّام في الخبر وحذفها ، كقولك : إنّ زيدا لقائم ، وإنّ زيدا قائم ، لأنّ اللّبس قد زال ، وذلك أنّها إذا ثقلت لم يكن لها معنى في النفي ، فافهم ذلك ، ومن ذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٢) هي مخفّفة من الثقيلة ، وجاز وقوع الفعل بعدها لأنها إذا خفّفت بطل عملها ووقع بعدها الابتداء والخبر والأفعال. والدليل على أنها مخفّفة من الثقيلة لزوم اللام في الخبر (٣). ومثل ذلك قول الله تعالى : (وَإِنْ

__________________

(١) ولذلك سمّاها بعضهم اللام الفارقة.

(٢) الآية : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ.) الأعراف ٧ : ١٠٢.

(٣) قال ابن هشام : «وإن خففت (إن) نحو (وإن كانت لكبيرة) ... فاللام

١١٨

كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(١) ، ومثله قوله : (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ)(٢) ، كلّ هذا مخفّف من الثقيلة. وأهل الكوفة يسمّون هذه اللّام لام إلّا ، ويجعلون (إِنْ) هاهنا بمنزلة (ما) في الجحد ، قالوا : ومعنى قوله : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(٣) : ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين ، وكذلك / قوله : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ)(٤) تأويله عندهم : ما كنت من قبله إلّا من الغافلين ، وكذلك سائر هذا الذي مضى يخرجونه إلى هذا التأويل ، وهذا

__________________

عند سيبويه والأكثرين لام الابتداء ، أفادت ـ مع إفادتها توكيد النسبة وتخليص المضارع للحال ـ الفرق بين إن المخففة من الثقيلة وإن النافية ، ولهذا صارت لازمة بعد أن كانت جائزة ، اللهم إلا أن يدل دليل على قصد الإثبات ...

وزعم أبو علي وأبو الفتح وجماعة أنها لام غير لام الابتداء ، اجتلبت للفرق.

قال أبو الفتح : قال لي أبو علي : ظننت أن فلانا نحوي محسن حتى سمعته يقول : إن اللام التي تصحب إن الخفيفة هي لام الابتداء. فقلت له : أكثر نحويّي بغداد على هذا. وحجة أبي علي دخولها على الماضي المتصرّف نحو : إن زيد لقام ، وعلى منصوب الفعل المؤخر عن ناصبه في نحو : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) وكلاهما لا يجوز مع المشدّدة.» المغني ١ : ٢٥٦.

(١) الآية : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) يوسف ١٢ : ٣.

(٢) سورة الصافات ٣٧ : ٥٦.

(٣) انظر الحاشية ٢ من الصفحة السابقة.

(١) الآية : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) يوسف ١٢ : ٣.

١١٩

غلط ؛ لأنّ اللّام للإيجاب والتحقيق ، و (ما) للنفي ، فلا يجوز اجتماعهما في حال ، فيكون الكلام محقّقا منفيا ؛ ألا ترى أنك لو أظهرت (ما) في هذه الآيات لم يجز ، لو قلت : ما كنت من قبله لمن الغافلين ، وما زيد لقائم ، لم يجز ، وإنّما يكون الشيء موضوعا موضع غيره إذا كان معناه كمعناه ، فأمّا إذا باينه فحمله عليه خطأ.

وأمّا مجيء (إن) بمعنى (ما) إذا كان بعدها (إلّا) فسائغ جيّد ؛ لأنك لو وضعت (ما) مكانها لم يمتنع ، وذلك قولك : إن زيد إلّا قائم ، فهو بمعنى (ما) لأنك لو قلت : ما زيد إلا قائم ، كان كلاما جيّدا ، وكذلك قوله عزّ وجلّ : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)(١) لأنه لو قيل : ما الكافرون إلّا في غرور ، لكان المعنى واحدا.

فإن قال قائل : فإنك إذا اعتمدت على أن إذا كان في خبرها اللّام لم تكن بمعنى ما ، لأن اللّام للتحقيق وما للنفي ، والجمع بينهما خطأ في شيء واحد ، فأنت قد تقول : ما زيد إلّا قائم ، فتجمع بين (إلّا) و (ما) في كلام واحد ، و (إلّا) محققة و (ما) نافية ، فما أنكرت أن يكون معنى قولهم : إن زيد لقائم ، بمعنى

__________________

(١) انظر الحاشية ٢ من ص : ١١٧.

١٢٠