الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

فإنه لو صح : أن امرأة صفوان قد أسلمت قبله ، فذلك لا يعني خروجها من بيته ، وانفصالها التام عنه. بل المطلوب هو : أن يعرّفها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه ليس لصفوان أن يقربها ، ويمكنها بعد ذلك أن تنتظر زوجها إلى حين انقضاء عدتها توقعا لإسلامه .. كما كان الحال بالنسبة لما يذكرونه عن امرأة عكرمة بن أبي جهل ، حيث إنها لحقته إلى ساحل البحر ، وجاءت به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكانت مسلمة ، وهو لا يزال على شركه ، فكانت تمنعه من الإقتراب منها إلى أن أسلم ..

إخراج النساء في الحرب :

إن إخراج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لزوجتيه : ميمونة ، وأم سلمة معه في هذه الحرب ، وإخراجهن ، أو إخراج غيرهن من نسائه ، وكذلك إخراج ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» ، أحيانا في حروبه الأخرى .. رغم أن جميع تلك الحروب لم تكن ـ بحسب ظواهر الأمور ـ مأمونة النتائج من حيث الإنكسار ، أو الإنتصار. إن ذلك يعد دليلا آخر على يقينه بوعد الله تعالى له. ولا بد أن يعد ذلك من إخباراته الغيبية ، ومن دلائل نبوته .. إذ إن أحدا لا يخاطر بهذا الأمر الحساس جدا في مثل هذه الحالات. إذا كان غير واثق بالنصر ، وبمصونية عرضه من أن يناله أي أذى.

وقد تقدم : أن مالك بن عوف قد أمر في حنين أصحابه بأن يستصحبوا نساءهم وأطفالهم ونعمهم ، فتغيّظ عليه دريد بن الصمة ، وصفق بيديه ، وقال : «راعي ضأن والله» لاحتمال أن تكون الدائرة عليه ، فتكون الفضيحة في أهله وماله. وأمره أن يرفع الأموال والنساء والذراري إلى عليا قومهم ،

٦١

وممتنع بلادهم. هذا على الرغم من أن مالك بن عوف قد جمع أكثر من عشرين ألف سيف ، ويرى أن النصر في متناول يده ، ويرى أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقاتل رجالا ذوي خبرة قبل هذه المرة ، وإنما كان يلقى قوما أغمارا ، لا علم لهم بالحرب ، فيظهر عليهم على حد تعبيره ، كما تقدم تحت عنوان : الإستخبارات العسكرية ..

إن حمل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نساءه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يشير للأعداء وللأولياء على حد سواء بثقته بالنصر ، بالرغم من عدم توفر شيء من مقوماته .. أو ظهور شيء من علاماته ، بل الدلائل والشواهد متوافرة ومتضافرة بضد ذلك ، وأن العدو هو الذي يملك مقومات الظفر ، ومفاتيح النصر ..

فيكون هذا الفعل منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أسباب الربط على قلوب الأولياء ، ومن أسباب كبت الأعداء أيضا ، وهو بمثابة إخبار غيبي إلهي بنتائج المعركة ، وهو من دلائل صدقه ، وشواهد نبوته ، ومن معجزاته وكراماته كما لا يخفى.

ذات أنواط :

عن أبي قتادة الحارث بن مالك قال : خرجنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى حنين ، ونحن حديثوا عهد بالجاهلية ، فسرنا معه إلى حنين ، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة ـ وعند الحاكم في الإكليل : سدرة خضراء ـ يقال لها : «ذات أنواط» ، يأتونها كل سنة ، فيعلقون أسلحتهم عليها ، ويذبحون عندها ، ويعكفون عليها يوما.

٦٢

فرأينا ونحن نسير مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سدرة خضراء عظيمة ، فتنادينا من جنبات الطريق : يا رسول الله ، اجعل لنا «ذات أنواط» كما لهم «ذات أنواط».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (١) إنها لسنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم ، حذو القذة بالقذة» (٢).

ونقول :

الأنبياء عليهم‌السلام وسنن التاريخ :

١ ـ إن الحديث عن حركة السنن التاريخية في الأمم السابقة واللاحقة ، لا يعني أن ثمة جبرية إلهية تفرض على البشر قراراتهم ، وتتحكم بتصرفاتهم ،

__________________

(١) الآية ١٣٨ من سورة الأعراف.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٤ عن ابن إسحاق ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في الإكليل ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ و (ط دار المعرفة) ص ٦٤ وراجع : مسند أحمد ج ٥ ص ٢١٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٦٣٤ ومسند أبي يعلى ج ٣ ص ٣٠ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٥ ص ١٥٥٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٢ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ٣٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٦ والمعجم الكبير ج ٣ ص ٢٤٤ والدرر لابن عبد البر ص ٣٢٥ وكنز العمال ج ١١ ص ١٧٠ وجامع البيان ج ٩ ص ٦١ وتفسير الآلوسي ج ٩ ص ٤٢ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٤٦.

٦٣

دون أن يكون لهم فيها أي خيار ، أو اختيار ..

بل هو حديث عن حركة الأسباب والعلل ، وتأثيرها في المسببات والنتائج.

وهو من أدلة أن الله سبحانه قد خلق الخلق ، وفق نظام دقيق يهيمن عليه قانون السببية ، ويمكن التعرف على طبيعة حركته من خلال هذا النظام ، حين يقف الإنسان على حقائقه ودقائقه بصورة صحيحة ويقينية ، ويعرف منظوماته الأرقى ، وطبيعة علاقاتها بما هو أدنى منها في سلسلة مراتبها المختلفة.

وإذا وقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمعصوم «عليه‌السلام» على هذه الحقائق والدقائق من نفس صانعها وواضعها ، فإنه سيكون قادرا على رؤية نتائجها المختلفة ، في طول الأزمنة المتعاقبة ، لأنه يعرف أن الزمان والمكان لا يمثل عائقا لحركة السنن ، بل هما حاضنان لنتائجها وتداعياتها ، في عين كونهما خاضعين لها أيضا ..

فإخبار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما سيكون بالإستناد إلى هذه السنن ، لا يمكن تلقّيه على أنه أمر عادي ، وقريب المنال .. بل هو دليل عظمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وآية نبوته ، من حيث إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نال درجة استحق معها أن يطلعه الله على أسرار الخليقة ، وسنن الحياة ، وحقائق التكوين .. وهو ما لم ينله أحد من البشر سواه على الإطلاق ..

من أجل ذلك يكون إخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن هذه السنن والحقائق ، هو عين اليقين ، لأنه يأخذ عن الله تبارك وتعالى ، خالق الكون ، وواهب الحياة ، وجاعل السنن.

وأما ما يخبر به غيره ، فلا يعدو أن يكون من التظني ، والرجم بالغيب ،

٦٤

استنادا إلى استقراءات ناقصة ، أو اجتهادات تنتهي إلى الحدس والتخمين .. مع ضعف بل عجز ظاهر عن الإحاطة بالسنن ، وبمنظومتها ، ومراتبها ، وطبيعة ومدى علاقاتها وتأثرها وتأثيراتها في بعضها البعض ..

٢ ـ ثم إنه لا شك في أن النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على علم تام بأخلاق الناس وبأهوائهم وميولهم ، وهو أعرف من كل أحد بطموحات ، وبطريقة تفكير ، وبحقيقة وصحة ومدى إيمان أولئك الذين سوف يخلفونه ، ويخططون لبلورة دور لهم في المسيرة العامة ، خارج دائرة توجيهاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا تتلاءم مع الأوامر والزواجر الإلهية ..

فإذا وضع ذلك في سياق السنن الإلهية في البشر وخلقهم وخلقهم ، فلا بد أن يدرك المنحى الذي سوف تتخذه تصرفاتهم ، ومواقفهم وممارساتهم ..

٣ ـ واللافت هنا : أن طلبهم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يجعل لهم ذات أنواط ، كأهل الجاهلية ، قد أشبه طلبا لبني إسرائيل من موسى ، فهل جاء هذا التشابه بين هؤلاء وأولئك على سبيل الصدقة؟! أم أن له جذورا في أعماق الذات؟! وهل هذا يشير إلى أن ثمة وجوه شبه أخرى بين هذين الفريقين في سائر المجالات؟!

وهل هناك علاقة بين التعبير الوارد عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الإشارة إلى يهود أمته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. الذين يقتلون ذريته (١) ،

__________________

(١) البحار ج ٤٤ ص ٣٠٤ والعوالم ، الإمام الحسين للبحراني ص ٥٩٨ عن عيون أخبار الرضا ، وتفسير الإمام العسكري ص ٣٦٩ والتفسير الصافي ج ١ ص ١٥٤ وتأويل الآيات لشرف الدين الحسيني ج ١ ص ٧٥ وذوب النضار لابن نما الحلي ص ١٢.

٦٥

وبين يهود بني إسرائيل؟!.

إن ذلك كله يحتاج إلى المزيد من التتبع للنصوص ، والمقارنة بينها ، ورصد الظواهر في هذه الأمة ، وفي بني إسرائيل! وكنا قد بذلنا محاولة في هذا الإتجاه ، نسأل الله أن يوفقنا لإتمامها في الوقت المناسب.

باتجاه هوازن والبشارة بالغنام :

عن سهل بن الحنظلية : إنهم ساروا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم حنين ، فأطنبوا في السير ، حتى إذا كان عشية حضرت صلاة الظهر عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجاء رجل فارس ، فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا بهوازن قد جاءت عن بكرة أبيهم ، بظعنهم ، ونعمهم ، وشائهم ، اجتمعوا.

فتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : «تلك غنيمة للمسلمين غدا إن شاء الله تعالى».

ثم قال : «من يحرسنا الليلة»؟ الخ .. (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٥ عن النسائي ، وأبي داود ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ عن المشكاة ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٣٨٠ وسنن أبي داود ج ١ ص ٥٦١ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٨٣ والسننن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٤٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٧٣ والمعجم الكبير للطبراني ج ٦ ص ٩٦ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤٥٦ وأسد الغابة ج ١ ص ١٣٠ وتهذيب الكمال ج ٣٤ ص ٢١٨ والإصابة ج ١ ص ٢٨٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٢ والسيرة النبوية ـ

٦٦

ونقول :

إن لهذه الحادثة ، نظائر عديدة في حياة النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله». ولكن لا بأس بالتوقف قليلا في هذا المورد على الأقل. ونترك سائر الموارد إلى حصافة القارئ الكريم ، الذي سيكون قادرا على استنطاق نصوصها ، واستخراج معانيها ومراميها ، المناسبة لمقام النبوة ، وسياق الأحداث ..

فنقول :

لقد بشر النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه بأن ما جاءت به هوازن من ظعن ، ونعم ، وشاء سيكون غنيمة للمسلمين .. وذلك على سبيل الإخبار الغيبي ، الذي هو من دلائل النبوة ، ومن أسباب زيادة اندفاع المؤمنين للقتال ، وتشكيك الأعداء بقدراتهم ، وبقوتهم ..

خصوصا : وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبر عن حصول هذا الأمر بالجملة الإسمية المفيدة للتحقق والثبوت ..

كما أنه قد تبسم قبل أن يتفوه بهذا الخبر المفرح لأهل الإيمان ، والمخيف والمحزن لأهل الكفر والطغيان ..

وهو تبسم يوحي بالثقة وبالرضا والإرتياح ، وذلك يزيد من رعب العدو ، ومن ثقة واندفاع الولي ، عوضا عن التوجس ، والترقب ..

وهو أيضا يحمل معه معنى الاستخفاف بالعدو ، والسخرية من قراره

__________________

لابن كثير ج ٣ ص ٦١٦ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وفيه : أن هذا الرجل هو ابن أبي حدرد نفسه.

٦٧

باستصحاب الظعن والأنعام ، وأنه خطأ وقع فيه عدوه ، حين أحضر ذلك كله أمام أعين محاربيه من المؤمنين ، الذين سوف يزيدهم حضور الغنيمة اندفاعا وتوثبا .. فكيف إذا كان أهل مكة أنفسهم ، والمشركون منهم أيضا قد حضروا هذه الحرب طمعا بالغنائم أيضا حسبما تقدم؟!.

إنه تبسم العارف بالنتائج ، والواقف على الخفايا والأسرار.

الغنيمة تقدمة إلهية :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علق حصول المسلمين على تلك الغنيمة على مشيئة الله تبارك وتعالى.

كما أن صياغة العبارة «تلك غنيمة المسلمين غدا» ، قد خلت من الإشارة إلى أي دور للمسلمين في أخذ هذه الغنيمة ، ولو أراد أن يشير إليهم بشيء من ذلك ، لقال : غدا يغنمها المسلمون ، أو سيغنمها المسلمون ، أو نحو ذلك ..

وذلك .. لأن حصول هذه الغنيمة إنما هو بصنع من الله ، وبتوفيق منه لنبيه الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولوليه العظيم علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، ثم يعطيها للمسلمين بمشيئة منه تبارك وتعالى ..

من دون استحقاق منهم لها ، حتى بأن تنسب الغنيمة إليهم ..

فظهر أن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن شاء الله تعالى» ، لم يأت لمجرد التيمن ، أو الدعاء ، بل هو إخبار عن أن الأمر في هذه الغنيمة يرجع كله لله تعالى ، وليس لإرادة أو لفعل الناس دور يصح معه نسبة ذلك إليهم.

وقد ظهرت صحة ودقة هذا التعبير حين فرّ المسلمون بأجمعهم عن

٦٨

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يبق أحد يقاتل المشركين غير علي «عليه‌السلام».

وإن كان العباس أو غيره من بني هاشم لم يبادروا إلى الفرار ، فإنما كانوا حول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحوطونه ويحفظونه كحراس له ، في حين كان المهاجم للأعداء ، وصاحب النكاية فيهم هو علي «عليه‌السلام» دون سواه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ..

وآخر ما نشير إليه هنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، سرعان ما تجاوز هذا الموضوع ، وطوى عنه كشحا ، مظهرا عدم الإكتراث به ، حيث بادر إلى القول : «من يحرسنا الليلة»؟! وكأنه يريد أن يفهم الناس أن هذا الأمر مفروغ عنه ، فلا حاجة لأن يشغل الناس أنفسهم في تفاصيله.

وهذا يعد تأكيدا آخرا على تحقق هذا الأمر ، ولا بد أن تظهر ثمرات ذلك كله بعد النصر الذي سيعقب هزيمة جميع المسلمين عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ابن الأكوع يقتل عينا للمشركين :

وعن سلمة بن الأكوع قال : غزونا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هوازن ، فبينما نحن نتضحى مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذ جاء رجل على جمل أحمر ، فأناخه ، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيد به الجمل ، ثم تقدم فتغدى مع القوم.

وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة من الظهر ، وبعضنا مشاة ، إذ خرج يشتد ، فأتى الجمل ، فأطلق قيده ، ثم أناخه ، ثم قعد عليه. فاشتد به الجمل ،

٦٩

واتبعه رجل من أسلم من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ناقة ورقاء.

وفي رواية : أتى عين من المشركين إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في سفر ، فجلس عند أصحابه يتحدث. انتهى.

ثم انفتل ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اطلبوه واقتلوه».

قال سلمة : وخرجت أشتد ، فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل ، فأنخته ، فلما وضع ركبته على الأرض ، اخترطتّ سيفي فضربت رأس الرجل فندر.

ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والناس معه ، فقال : «من قتل الرجل»؟

قالوا : ابن الأكوع.

قال : «له سلبه أجمع» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٧ عن البخاري ، وفي هامشه عن : البخاري في الجهاد (٣٠٥١) ، وأحمد ج ٤ ص ٥١ وأبو داود (٢٦٥٣) ، والطبراني في الكبير ج ٧ ص ٢٩ والبيهقي في السنن الكبرى ج ٩ ص ٦ و ١٤٧ و ٣٠٦ والطحاوي في المشكل ج ٤ ص ١٤٠ وراجع : نيل الأوطار للشوكاني ج ٨ ص ٩٧ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٥٠ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ٦٧ وفتح الباري ج ٦ ص ١١٧ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٢٩٦ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٢٢٧ ومعرفة السنن والآثار ج ٥ ص ١١٩ والإستذكار لابن عبد البر ج ٥ ص ٦٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٦ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٢ ص ٨٣.

٧٠

ونقول :

إن في هذه الرواية أمورا من شأنها أن تزلزل الطمأنينة لدينا بصحتها ، ونذكر منها :

١ ـ إذا كان ابن الأكوع قد تبع ذلك الرجل وحده ، فلا معنى لسؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من قتل الرجل»؟ لا سيما وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جاء والناس معه لاستقباله ..

إلا أن يقال : ليس في الرواية دلالة على أن ابن الأكوع تبع ذلك الرجل وحده ، ولعله بعد أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتل الرجل انبعث أكثر من شخص ، وإنما تحدث سلمة عن خروجه هو ، وكيف أنه أدركه فقتله وعاد ، فاستقبله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه الناس. أي سوى من كان خرج في طلب الرجل ..

ولكن هذا الإحتمال لا يتلاءم مع سياق كلام ابن الأكوع ، إذ لو كان معه غيره لقال : فاستقبلنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الخ ..

٢ ـ إن الرواية الأولى تصرح : بأنه تبعه على ناقة ورقاء .. والثانية تفيد : أنه تبعه راجلا ، فأي ذلك هو الصحيح؟!

٣ ـ قد كان بإمكان ذلك الرجل أن ينسل من بينهم بصورة طبيعية ، فلماذا يركض ويشتد .. وما معنى : أن يهجم على الطعام بهذه الطريقة المثيرة؟! والمفروض بالعين : أن يكون أكثر كياسة ، ولباقة ، وحنكة مما نراه.

٤ ـ إن حركة الرجل السريعة لا بد أن تثير المسلمين ، وتدعوهم لأن يلحقوه ، ويأخذوه ليعرفوا خبره ، مع أننا لا نجد في الرواية ما يشير إلى أن أحدا تحرك لهذه المهمة سوى رجل واحد هو سلمة بن الأكوع.

٧١

واحتمال أن يكون قد تحرك غيره معه لا يتلاءم مع سياق كلام ابن الأكوع حسبما ذكرناه فيما سبق ..

٥ ـ حين ينزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بجيشه لكي يتضحوا (أي لأجل أكل طعام الضحى) ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يجلس وحيدا بعيدا عن جيشه وفي عمق الصحراء ، بل المتوقع هو : أن ينزل في مكان ، ثم يصير الجيش يتحلق حوله حتى يصبح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الوسط .. فكيف استطاع ذلك الرجل أن يخترق تلك الجموع ، ويسير كل تلك المسافات بين جموع تعد بالألوف ، ويطارده سلمة بن الأكوع ، ثم لا يعترضه أحد من ذلك الجيش ، الذي يحتاج إلى عدة دقائق للخروج من بين جموعه؟! وكيف لم تثر حركته فضولهم؟!

وكيف لم يشاركوا سلمة بن الأكوع في اللحاق به؟!

وكيف؟! وكيف؟!

٦ ـ هل إن ملاحقة وحسم مصير عين ، أو راصد ، تستوجب أن يقوم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه ، ومعه الناس لاستقبال من فعل ذلك؟!

٧ ـ إن ما فعله ذلك الرجل ، من مجيئه على الجمل ، وإطلاق قيده ، وإناخته ، ثم قعوده عليه ، ثم إنهاضه ، والإنطلاق به ، يحتاج إلى بعض الوقت ، الذي يستطيع معه ابن الأكوع وغيره الوصول إليه ، والفبض عليه قبل أن ينهض به الجمل ، فلماذا صبروا حتى فعل ذلك كله. وانطلق بجمله؟!

٨ ـ لماذا كان مع الرجل ناقة وجمل؟!

أو فقل : إن الرواية تتحدث أولا عن جمل جاء به ذلك الرجل ، فأناخه ،

٧٢

وعقله. ثم تتحدث عن ناقة حاذاها سلمة بن الأكوع ، ثم عن جمل حاذاه ، ثم تقدم حتى أخذ بخطامه. فمن أين ومتى جاءت تلك الناقة؟! وما هي الحكمة في ذلك؟!

٩ ـ إذا كان سلمة يركب الناقة ، فمتى نزل عنها ، حتى أخذ بخطام ذلك الجمل الذي ينطلق بسرعة فائقة؟!

١٠ ـ لماذا لم يبادر ذلك الرجل إلى القفز عن ظهر الجمل حينما كان ينخيه سلمة ليتمكن من تجنب سيف سلمة ، بل هو قد انتظر حتى اناخ به الجمل ، ثم اخترط سيفه ، وقتله به؟!

١١ ـ إذا كان قتل ذلك الرجل له أهمية إلى حد ان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخرج مع الناس لاستقبال قاتله ، فلماذا اقتصرت الرواية على سلمة نفسه ، ولم يهتم بها الرواة ، ولم يتناقلوها بالمستوى الذي يليق بها؟!

١٢ ـ إننا نلاحظ : أن راوي الحديث في البداية كان سلمة بن الأكوع ، ولكنه هو نفسه يعود اخيرا ليقول : «واتبعه رجل من أسلم ، من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكيف نفسر هذا السياق لراو يتحدث عن نفسه بهذه الطريقة؟!

هل هذا معقول؟! :

وذكروا : أنهم حين ساروا إلى حنين وأصبحوا قريبا من جمع هوازن. وأرادوا المبيت في موقعهم ، قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : من يحرسنا الليلة؟!

قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله.

قال : «فاركب».

٧٣

فركب فرسا له ، وجاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «استقبل هذا الشعب ، حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة».

فلما أصبحنا خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مصلاه ، فركع ركعتين ثم قال : «هل أحسستم فارسكم»؟

قالوا : يا رسول الله ، ما أحسسناه ، فثوب بالصلاة.

فجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصلي وهو يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاته قال : «أبشروا فقد جاءكم فارسكم».

فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشعب ، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله ، فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب ، حيث أمرني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما أصبحت ، طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدا.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هل نزلت الليلة»؟

قال : لا ، إلا مصليا ، أو قاضي حاجة.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قد أوجبت ، فلا عليك أن لا تعمل بعدها» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٥ عن النسائي ، وأبي داود ، والإصابة ج ١ ص ٧٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٣٨١ والشرح الكبير ج ١٠ ص ٣٧٩ وسنن أبي داود ج ١ ص ٥٦١ والمستدرك ج ٢ ص ٨٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٤٩ والمعجم الكبير ج ٦ ص ٩٦ ـ

٧٤

ونقول :

إننا نشك في صحة هذه الرواية ، وذلك لما يلي :

أولا : إذا كانت الحراسة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فهو لا يحتاجها في جيش يبلغ تعداده الألوف ، وإن احتاج إليها ، فما معنى أن يكون حارسه رجلا واحدا.

وإن كان المقصود هو : أن يحرس أنس بن أبي مرشد ذلك الجيش كله؟! فهو غير معقول! فإن جيشا بهذا العدد الكبير ، يحتاج إلى عشرات ، بل إلى مئات من الفرسان ، الذين يحيطون به من جميع الجهات ، حتى لا يفاجئهم العدو من أية جهة كانت.

ولو فرضنا : أن العدو كان في الجهة التي كان أنس مرابطا فيها.

فمن الذي يضمن عدم انتقال العدو منها إلى جهة أخرى ، ليشن هجومه منها ، أو أن لا يفرق قواه في مختلف الجهات ، لتأتي حملته مؤثرة في تشويش الأمور على الجيش الغافل ، والغارق في النوم؟!

ثانيا : كيف أوكل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر حراسته ، أو حراسة الجيش كله إلى رجل واحد ، قد يأخذه النوم ، أو يأخذه العدو ، وتكون الكارثة؟!.

أليس يزعمون : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جرب ذلك وهو في طريق عودته إلى خيبر ، حيث طلب من بلال أن يبقى مستيقظا إلى حين

__________________

وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤٥٦ وأسد الغابة ج ١ ص ١٣٠ والإصابة ج ١ ص ٢٨٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٥ والبداية ج ٤ ص ٣٧٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٧.

٧٥

طلوع الفجر ، فنام بلال ، وفاتتهم الصلاة؟!

فإننا وإن كنا قد كذبنا هذه المزاعم ، لكننا نذكرها هنا على سبيل إلزام من يصدق بها.

ثالثا : ما معنى أن يصلي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويلتفت إلى جهة الشعب؟!.

واحتمال أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صلى عدة صلوات وكان يلتفت إلى الشعب بعد انتهاء كل صلاة لا يتلاءم مع سياق الكلام ، ولا سيما قوله : فثوب بالصلاة ، حيث إن ظاهره أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يصلي الصلاة المكتوبة .. ويؤيده قوله : حتى إذا قضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاته.

رابعا : قالت الرواية : إن أنس بن أبي مرشد قد نزل من موقعه لأجل قضاء الحاجة ..

ألا يعد ذلك : تفريطا بالمهمة التي أوكلت إليه؟!

وألم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم : أنه بحاجة إلى أن ينزل من موقعه إذا عرضت الحاجة له؟ فماذا لو أن العدو هجم عليه وعلى المسلمين في هذه اللحظة؟!.

خامسا : لعلّ الأمرّ والأدهى من ذلك كله زعمهم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأنس : «لا عليك ، ألّا تعمل بعدها»!.

فهل سهر هذه الليلة في سبيل الله يكفيه عن العمل بقية عمره؟!

وهل معنى قوله هذا : أن العمل قد سقط عنه ، ولم يعد مطالبا به ، فإذا جاء به فإنه سيكون قد أتى بعمل لا يطلبه الله منه ..

٧٦

وإذا كان ذلك غير مطلوب ، فهل يمكن أن نفهم ذلك أن عمله بعد اليوم أصبح بلا ثمرة ، ولا أثر ؛ لأن سهر تلك الليلة قد أغنى عنه؟! ..

وهل يصح من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يلوح لإنسان بأن يترك العمل ، ويكتفي بما سلف؟!.

وقد سئل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ والسائل له هي عائشة ـ عن السبب في أنه يجهد نفسه في عبادة الله ، مع أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبدا شكورا؟ (١). فلماذا لا يدعوه إلى المزيد من

__________________

(١) راجع : البرهان (تفسير) ج ٣ ص ٢٩ عن الكافي ، وعن الإحتجاج للطبرسي ، والدر المنثور ج ٦ ص ٧٠ عن ابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وفي شعب الإيمان ، وابن عساكر ، وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وأبي يعلى ، والحسن بن سفيان ، وابن عدي ، وأبي نعيم في حلية الأولياء عن عائشة ، وأنس ، وأبي هريرة ، والحسن ، وأبي جحيفة وغيرهم. وراجع : الصلاة في الكتاب والسنة للريشهري ص ١٩٦ والكافي ج ٢ ص ٩٥ وشرح أصول الكافي ج ٨ ص ٢٩٤ ومستدرك الوسائل ج ١ ص ١٢٨ ومشكاة الأنوار ص ٧٦ والبحار ج ٦٨ ص ٢٤ وج ٨١ ص ٢٦٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٤٠٣ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيخ هادي النجفي ج ٥ ص ٤٢١ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٢٣٢ ومسند أحمد ج ٦ ص ١١٥ وصحيح البخاري ج ٦ ص ٤٤ وصحيح مسلم ج ٨ ص ١٤٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٣٩ وراجع : فتح الباري ج ٣ ص ١٣ وعمدة القاري ج ١٩ ص ١٧٧ والديباج على مسلم ج ٦ ص ١٧١ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ١٣٨ والمعجم الصغير ج ١ ص ٧١ وفضائل الأوقات للبيهقي ص ١٢٨ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٣٤٩ وتفسير ابن عربي ج ١ ص ٩٥ والجامع لأحكام القرآن ـ

٧٧

الطاعة لله ، ليكون عبدا شكورا أيضا؟

مع أننا نتحفظ على صحة سؤال عائشة أيضا ، فإنها إنما قالت ذلك بحسب نظرتها هي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا بحسب واقع الأمر .. فإنها كانت ترى : أن المقصود بالذنب المغفور للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هو ذنبه تجاه ربه.

وذلك غير صحيح ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معصوم عن الذنب والخطأ ، مبرّأ من الزلل ... والمقصود بالذنب في آيات سورة الفتح هو ما يراه قومه ذنبا.

سادسا .. وأخيرا : إن أنسا قد صرح : بأنه قضى ليلته مصليا ، فهل استطاع أن يتوجه إلى الكعبة في صلاته؟!. وما ذا لو كانت الكعبة خلف ظهره ، حين يكون في مواجهة العدو؟! وهذا هو الأولى بالإحتمال بالنسبة لحنين التي هي إلى جهة الطائف. والمسلمون إنما قدموا من مكة باتجاه حنين ، ويفترض أن تكون مكة خلفهم وحنين أمامهم في مسيرهم ذاك ..

عباس بن مرداس ينصح هوازن :

ويقولون : إن عباس بن مرداس قد أسدى لهوازن نصيحة في شعره حيث قال :

__________________

ج ١٤ ص ٢٧٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ١٩٧ وأضواء البيان للشنقيطي ج ٨ ص ٣٦٠ وتهذيب الكمال ج ١٦ ص ٣٠٠ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٣١٥ و ٣١٦ وج ١٣ ص ٣٣ وأهل البيت في الكتاب والسنة لمحمد الريشهري ص ٢٦٨ وجامع السعادات ج ٣ ص ١٩٢ ومكيال المكارم ج ١ ص ٢٩٠.

٧٨

أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها

مني رسالة نصح فيه تبيان

إني أظن رسول الله صابحكم

جيشا له في فضاء الأرض أركان

فيهم سليم أخوكم غير تارككم

والمسلمون عباد الله غسان

وفي عضادته اليمنى بنو أسد

والأجربان بنو عبس وذبيان

تكاد ترجف منه الأرض ترهبه

وفي مقدمه أوس وعثمان

قال ابن إسحاق : أوس وعثمان قبيلا مزينة (١).

وغني عن القول :

أن المقصود بهذا الشعر إن كان هو نصح هوازن لكي تأخذ حذرها ، وتستعد للحرب ، فتلك خيانة منه ، يحاول أن يتستر عليها بادعاء مدح جيش المسلمين ، وتخويف أعدائهم.

وإن كان المقصود هو مجرد الإفتخار ، وعرض العضلات ، ومن عادة العرب : الإفتخار على أعدائهم بشجاعتهم ، وبعدتهم ، وعددهم .. فلماذا يخبرهم بوقت وصول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم؟!

والذي نراه هو : أن هذا الشعر قد تضمن ما يلي :

١ ـ تفويت عنصر المفاجأة على جيش المسلمين ، لأنه أخبر العدو بوقت وصول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بجيشه إليهم ، وتلك خيانة عظمى ، وجناية كبرى.

٢ ـ إنه يتضمن تطمينا لهوازن ، بأن سليما ، التي كان هو من زعمائها هم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٦.

٧٩

إخوان لهوازن ، وهم سوف لن يتركوهم طعمة للسيوف.

ويلاحظ هنا : أنه لم يصف سليما بالإسلام ، بل أطلق وصف الإسلام على غسّان ، ومن بعدهم.

وهذه إشارة أخرى لهوازن : بأن سليما لم تزل تبطن الكفر ، وإن اظهرت الإيمان.

وبعد ما تقدم ، فقد يراود الذهن احتمال أن يكون هذا الرجل من أهل النفاق ، وربما يكون قد عاد إلى نفسه بعد ذلك.

٨٠