الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

و (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (١).

و (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢).

و (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٣).

إلى عشرات من الآيات الأخرى المصرحة بهذا المعنى ..

فلماذا إذن تبادر هوازن إلى جمع الجموع ، والاستعداد طيلة سنة كاملة لحرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! ولماذا تريد منعه من إبلاغ رسالات ربه ، بأساليب القهر ، والظلم والتعدي ، الذي يبلغ حد شن حرب ، تأكل الأخضر واليابس؟!

هل هذا ضعف بصيرة أم خذلان؟!

وقد قرأنا في النصوص المتقدمة ولم نزل نقرأ أمثال هذه المزاعم في مواقف كثيرة أخرى مشابهة لأهل الكفر ، مثل يهود خيبر وغيرهم : «أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين إنما كانوا ينتصرون في حروبهم المتلاحقة ، لأنهم كانوا يلاقون قوما لا يحسنون القتال .. ثم يزعمون أنهم هم أهل الجد والجلد ، وأهل العدة والعدد ، والعارفون بفنون الحرب ، والذين يملكون خبرات عالية بأساليب الطعن والضرب» ...

ولكن هؤلاء القوم وكذلك غيرهم من اهل اللجاج والعناد يرون المعجزات الباهرة ، التي لا تبقي مجالا للشك بحتمية الرعاية الربانية لهذا

__________________

(١) الآية ١٨٨ من سورة الأعراف.

(٢) الآية ٧ من سورة الرعد.

(٣) الآية ٢٩ من سورة الكهف.

٢١

الدين وأهله. وقد كانوا يرون بأم أعينهم المعجزات القاهرة للعقول ، أو الكرامات الظاهرة الآسرة للوجدان ، الموقظة للضمير.

فما معنى : أن يتعامى أولئك الناس عن كل مظاهر هذه العناية الإلهية ، والرعاية الربانية ، ويتجهون نحو تزوير الحقائق ، وإخفاء أمرها ، وتدنيس طهرها ..

فهل يرجع هذا إلى ضعف في بصيرتهم ، أو إلى خذلان رباني لهم ، حجبهم عن الحقائق ، أو حجبها عنهم ، على قاعدة : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) ، و (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٢).

إن الإجابة الصحيحة والصريحة عن ذلك ، هي : صحة ووقوع كلا هذين الأمرين ، نعوذ بالله من الخذلان ، ومن سوء العاقبة وعذاب الخزي في الدنيا والآخرة ..

دريد بن الصمة في محكمة الوجدان :

إن كلام دريد بن الصمة مع مالك بن عوف فيما يرتبط برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبموقعه ، وبما حققه من إنجازات يشير إلى معرفته التامة بما يجري في المنطقة ، وبما آلت إليه الأمور بعد تلك الحروب الطويلة ، التي خاضها المسلمون مع أعدائهم من مختلف الأديان والأجناس ، وفي جميع المواقع ..

كما أنه قد أظهر خبرة غير عادية بحالات القبائل ، وسياسات الناس

__________________

(١) الآية ٥ من سورة الصف.

(٢) الآية ١٧ من سورة محمد.

٢٢

وأحوالهم .. وتنبأ بما تكون عليه الحال ، لو التقى الناس في ساحات القتال ، وتنبأ بأن مالكا سيترك أصحابه ، ويلجأ إلى حصن الطائف ، وهذا ما حصل فعلا.

فإذا كان هذا الرجل يملك هذه الخبرة العالية ، ويعرف : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجل كريم ، فلماذا يستجيز لنفسه قتال الرجل الكريم ، من دون ذنب أتاه إليه ، ولا إلى غيره ، سوى أنه يدعوه إلى الحق والخير والهدى؟!

وإذا كان يعرف أيضا : أن هذا النبي قد أوطأ العرب ، وخافته العجم ، وخافه من في الشام.

ويعرف : أنه أجلى يهود الحجاز : إما قتلا ، أو خروجا على ذل وصغار.

ويعرف : أن الحرب مع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليست مجرد عبث يتلاشى وينتهي ، بل هي عمل تبقى آثاره ونتائجه إلى الأعقاب ، عبر الأحقاب ..

فلماذا يرضى من يعرف ذلك كله : بأن يكون المدبر لهذه الحرب الظالمة ، والعدوانية ، على رجل كريم ، قد حقق كل هذه الإنجازات الهائلة التي لم تعرف لها المنطقة العربية مثيلا في كل تاريخها الطويل؟!

فهل هذه حكمة ودراية ، أم رعونة وغواية؟!

طموح تحمية الرعونة :

ومما لفت نظرنا هنا أيضا : أن مالك بن عوف لا يرضى بما أشار به دريد بن الصمة ، ويسعى إلى فرض رأيه على قومه بأسلوب أرعن وساقط ، حيث إنه يأخذ سيفا ، ويهددهم بأنه سوف يقتل به نفسه إن خالفوه ..

٢٣

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعفه الشديد ، وإفلاسه الأكيد ، من أي منطق صحيح وسليم.

ولو كان يملك حجة ومنطقا صحيحا ، فهو يكفي لإلزامهم بالأخذ برأيه ، ويفرض عليهم البخوع لحجته ..

والأشد غرابة هنا : أن لا نجد في تلك القبيلة الكبيرة بأسرها ، والتي هي بصدد اتخاذ قرار مصيري وحاسم ، يؤثر على مستقبلها ووجودها ـ لا نجد فيها ـ من يقول له : إن تهديدك بقتل نفسك لا يدل على صحة قراراتك ، إن لم يكن دليلا على ضعف حجتك ، وبوار منطقك ..

وإذا كان قرارك خاطئا فسينتج المصائب والبلايا ، والكوارث والرزايا ، على مئات أو ألوف من البشر ، لا يحق لك أن تتصرف بمصيرهم من دون روية ، وتدبر ، وحكمة وتبصر.

بل إنهم جميعا خضعوا لإرادته ، وأطاعوه حبا بالحفاظ على حياته ، ولم يفكروا بما يحفظ لهم حياتهم .. مع أن هذا الرجل هو مجرد شاب طامح ، لا يملك الكثير من الخبرة ، أو التجربة ، والحنكة ، ولا يشعر بالمسؤولية بالمستوى الذي يؤهله لإصدار قرارات بهذا القدر من الحساسية ، وبهذا المستوى من الخطورة. بل هو يستجيب لأحاسيسه ، وينقاد لمشاعره ، وأهوائه.

والأغرب من ذلك : أن هؤلاء الناس قد سمعوا حجة دريد بن الصمة على مالك بن عوف .. وكانت حجة قوية ، ومرضية ، وسمعوا أيضا جواب مالك عليها ، الذي كان مجرد إصرار على رأي ظهر خطؤه ، وقد صاحب إصراره هذا الضحك الإزدرائي وحفنة من الشتائم ، حيث اعتبره إنسانا قد كبر ، وكبر علمه ، فأصبح هرم الجسم والعلم والعقل .. فهو يتكلم بما ربما

٢٤

يصنف في دائرة الخرف والإختلال ، أو التدني في مستوى الإدراك والوعي للأمور ..

الإستطلاع .. والتثبت :

عن جابر بن عبد الله ، وعمرو بن شعيب ، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما سمع بخبر هوازن بعث عبد الله بن أبي حدرد ، فأمره أن يدخل في القوم فيقيم فيهم ، وقال : «إعلم لنا علمهم».

فأتاهم ، فدخل فيهم ، فأقام فيهم يوما وليلة ، أو يومين ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسمع من مالك ، وأمر هوازن ، وما هم عليه (١).

وعند محمد بن عمر : أنه انتهى إلى خباء مالك بن عوف ، فيجد عنده رؤساء هوزان ، فسمعه يقول لأصحابه : إن محمدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة ، وإنما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب ، فيظهر عليهم ، فإذا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٣ عن ابن إسحاق ، والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٣ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٢١٤ و ٢١٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٨ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٢ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٨ و ٤٩ ومعجم قبائل العرب ج ٢ ص ٨٣٣.

٢٥

كان السحر فصفّوا مواشيكم ونساءكم من ورائكم ، ثم صفوا ، ثم تكون الحملة منكم ، واكسروا جفون سيوفكم ، فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون ، واحملوا حملة رجل واحد ، واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولا. انتهى (١).

ثم أقبل حتى أتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر ، فقال : رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعمر بن الخطاب : «ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد»؟

فقال عمر : كذب.

فقال ابن أبي حدرد : والله لئن كذبتني يا عمر لربما كذبت بالحق.

فقال عمر : ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قد «كنت ضالا فهداك الله» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٣ عن الواقدي ، وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٤٩ و ١٦٤ ـ ١٦٥ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٨٦ ـ ٢٨٧ وراجع : إعلام الورى ص ١٢٠ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٩٣ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٣ وإعلام الورى ص ١٢٠ والبحار ج ٢١ ص ١٦٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٩٣ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٦ و ٨٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ص ٨٩١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٠ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٦١ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٤٧٥ و (ط دار الكتاب العربي) ج ٢ ص ٥٧٢ وأسد الغابة ج ٣ ص ١٤١ وشرح المواهب اللدنية ج ٣ ص ٢ والبداية ـ

٢٦

(زاد الطبرسي قوله : وابن أبي حدرد صادق) (١).

ماذا يريد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من ابن أبي حدرد؟! :

١ ـ إننا لسنا بحاجة للتذكير بأهمية الإستخبارات في إنجاح أي عمل عسكري ضد العدو ، ولذلك رأينا : أنه حين علم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمر هوازن كان أول عمل قام به هو إرسال العيون لمعرفة نواياهم الحقيقية في أمر الحرب والسلم من جهة ، ثم معرفة الخطة التي سيعتمدونها في حربهم ، فيما لو كان قرارهم هو إثارة الحرب ضد المسلمين من جهة أخرى.

٢ ـ ثم إن هذا التروّي ، وعدم التسرع في اتخاذ القرار بجرد وصول الخبر عن جمع هوازن ، يدخل في دائرة الإنصاف للآخرين ، والشعور بالمسؤولية ، وتحاشي القيام بأي عمل حربي ضدهم ، أو أي عمل إيذائي مهما كان نوعه قبل التأكد من صحة الأخبار الواصلة ..

٣ ـ ويثير الإنتباه هنا : التعبير الذي اختاره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يصدر أمره لابن أبي حدرد ، حيث قال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إعلم لنا علمهم».

فالمهمة إذن هي : أن ينوب عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تحصيل

__________________

والنهاية ج ٤ ص ٣٧١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ٣٦٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٣ و ٦١٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٦.

(١) إعلام الورى ص ١٢٠ و (ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ج ١ ص ٢٢٩ والبحار ج ٢١ ص ١٦٥.

٢٧

العلم بالمطلوب.

٤ ـ ومتعلق العلم الذي يريده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ابن أبي حدرد هو أيضا نفس علمهم ، أي أنه يريد منه أن لا يكتفي بالحدسيات ، وبالإمارات والقرائن ، ولا بالظنون مهما بلغت قوتها .. ولا بالاستنتاجات المستندة إلى الإجتهاد ، بل المطلوب هو : أن يصبح علمه بما عزموا عليه هو نفس علمهم. وكأنه ينقل إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفس علمهم.

وهذا غاية في الإحتياط ، ومنتهى في الدقة.

موقف عمر من ابن أبي حدرد :

ولا ندري السبب في هذا الموقف الغريب والعجيب ، الذي اتخذه عمر بن الخطاب من ابن أبي حدرد!! فإن هذه القضية قد حملت معها الكثير من الدلالات اللافتة والمثيرة .. ونستطيع أن نشير هنا إلى الأمور التالية :

الأمر الأول : سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

فقد لاحظنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن سمع ما نقله ابن أبي حدرد عن مالك بن عوف ، قال لعمر : ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟

وقد يكون التفسير الطبيعي لهذا السؤال هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد توجيه عمر إلى خطة مالك بن عوف ، التي رسمها لأصحابه لمهاجمة أهل الإسلام.

غير أنه يمكن أن يفسر ذلك بطريقة أخرى ، وهي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد استدراج عمر ، ليفصح عن دخيلة نفسه. وهذا ما حصل فعلا.

٢٨

الأمر الثاني : تكذيب عمر لابن أبي حدرد :

ثم جاءت إجابة عمر نشازا ، وهجينة في مضامينها ، حين اتهم ابن ابي حدرد بالكذب. مع أن الله تعالى لم يطلعه على غيبه ، كما أنه لم يكن يملك أي دليل يشير إلى كذب هذا الرجل.

إلا أن يكون لعمر بن الخطاب عيون قد حضروا نفس المجلس الذي حضره ابن أبي حدرد ، ونقلوا له ما يدل على عدم صحة ما جاء به إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولا نظن أن أحدا يرتضي حتى إبداء هذا الإحتمال ، إلا في صورة واحدة ، وهي أن يكون على علم بسوء سريرة عمر بن الخطاب ، ويرى أنه يخطط ، ويعمل بصورة مستقلة ، ولحساب فريق آخر غير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجماعة المسلمين.

أو أنه يتهم عمر بأنه يمالئ مشركي هوازن ، ويتصل بهم ، وينسق معهم ، ويريد بموقفه هذا تعمية الأمور على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والتستر عليهم عنده ، لتمكينهم من إيراد ضربتهم بأهل الإسلام. أو حفظهم ، ودفع الأخطار عنهم ، ما وجد إلى ذلك سبيلا.

وهذه احتمالات خطيرة ، ولا يمكن البخوع لها والتسليم بها ، إذا لم تدعمها الأدلة الدامغة ، والشواهد الواضحة.

الأمر الثالث : لربما كذبت بالحق :

وأما جواب ابن ابي حدرد لعمر بقوله : لربما كذبت بالحق. ثم تفسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لذلك : بأنه قد كان ضالا فهداه الله .. فهو غير

٢٩

ظاهر الوجه ، ويصعب الإطمئنان إلى عدم عروض التحريف له .. لأن ابن أبي حدرد يريد أن يرد الاتهام بمثله ، والتكذيب بالحق أيام الضلال مما لا يختص بعمر ، بل هو حال عامة الناس آنئذ.

وعمر إنما نسب إلى ابن أبي حدرد الكذب في نفس مقامه ، وعين كلامه ، فالمناسب أن يكون رد ابن أبي حدرد عليه هو نسبة الكذب إليه بنفس المستوى ، وفي نفس ذلك المقام.

بل إن المناسب هو : أن يستبدل كلمة «لربما» بكلمة «لطالما» كما هو المتوقع في أمثال هذه المواقف .. ولعل محبي عمر استبدلوا هذه بتلك للإبقاء على مقام عمر وهيبته.

غير أن بالإمكان دفع هذه الإحتمالات بأن مقصود ابن أبي حدرد بكلامه هذا هو : أن حكم عمر بكذب ابن أبي حدرد في هذا المورد ربما يكون تكذيبا بالحق ..

ولكن يرد على هذا : أنه يخالف التوجيه الذي نسبوه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في جوابه لعمر ، وهو قوله : «قد كنت ضالا فهداك الله» ..

كما أن ذلك لا يصحح اعتراض عمر ، واستنجاده برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولا يبرر نجدة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له بهذا الكلام المنسوب إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولو كان هذا مقصود ابن أبي حدرد لكان عمر قد فهم كلام ابن أبي حدرد ، ولم يكن معنى لأن يتوجه عمر بشكواه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الأساس ولا أن يظهر كأنه يدعو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

٣٠

للإنتصار له.

وليس ثمة ما يبرر الشكوى أو الاستنصار.

كما أنه لم يكن هناك ضرورة للتفسير من قبل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

الأمر الرابع : صدق أبي حدرد :

وقد انتهى الأمر بإعلان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صدق ابن أبي حدرد في أقواله.

حيث أضاف «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : «وابن أبي حدرد صادق».

وهذا في حد ذاته يعتبر إدانة لعمر ، وتكذيبا له ، بل هو تأييد لقول ابن أبي حدرد : على رواية «لربما كذبت بالحق» إذا كان مقصوده : أن تكذيبك لي في هذا المورد ربما يكون تكذيبا بالحق .. والنبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أكد صحة ذلك ..

فإذا كان صادقا ، فلماذا لم يبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى تأنيب عمر على نسبته إلى الكذب؟! فإن هذا هو المتوقع من النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مثل هذه الحالات ، إلا إذا فرض : أن ثمة ما يمنع من الزيادة على هذا ، والله هو العالم بالحقائق.

الأمر الخامس : لماذا الحذف؟! :

وقد لاحظنا : أن أكثر نقلة هذه القضية يقتصرون على بعض فقراتها ، ويحذفون سائرها .. خصوصا حينما يصل الأمر إلى عمر وموقفه ، وما جرى ، مع أنهم يلاحقون الواو والفاء ، والباء ، والتاء حين يكون هناك ما يحتملون فيه أدنى تأييد له .. فراجع على سبيل المثال السيرة الحلبية ، والإصابة ، وأسد

٣١

الغابة .. وغير ذلك من مصادر ..

أليس هذا من أجلى مصاديق القول المعروف : «حبك الشيء يعمى ويصم»؟!.

أعاذنا الله من الزلل والخطل في الفكر ، وفي القول ، وفي العمل ، إنه ولي قدير ، وبالإجابة جدير ..

٣٢

الفصل الثاني :

الجيشان إلى حنين

٣٣
٣٤

الإستعداد للمسير وعقد الألوية :

ويلاحظ : أن المؤرخين لا يجرؤون على ذكر صاحب لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذه الغزوة ، ولكن القمي «رحمه‌الله» ، لم يهمل الروايات المصرحة باسمه ، فجهر بالحق ، ولم يبال بالأخطار التي أدناها الاتهام بالزندقة ، والخروج عن الدين ، فهو يقول :

«بلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اجتماع هوزان بأوطاس ، فجمع القبائل ، ورغّبهم في الجهاد ، ووعدهم النصر ، وأن الله قد وعده أن يغنمه أموالهم ، ونساءهم ، وذراريهم.

فرغب الناس ، وخرجوا على راياتهم ، وعقد اللواء الأكبر ، ودفعه إلى أمير المؤمنين «عليه‌السلام». وكل من دخل مكة براية ، أمره أن يحملها. وخرج في اثني عشر ألف رجل ، عشرة آلاف ممن كانوا معه (١).

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٤٧ و ١٤٩ و ١٥٥ و ١٦٥ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٨٦ والبرهان (تفسير) ج ٢ ص ١١٣ ونور الثقلين ج ٢ ص ١٩٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢٨ وراجع : الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٤٠ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ١٣٩ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٤٥٩ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٣٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ١٠٦ وتفسير جوامع الجامع للطبرسي ج ٢ ص ٥٥ وجامع ـ

٣٥

وقيل : عشرة آلاف (١).

وقيل : أحد عشر ألفا (٢).

وقيل : أحد عشر ألفا وخمس مائة (٣).

وقيل : أربعة عشر ألفا (٤).

وقيل : ستة عشر ألفا (٥). فيهم ثمانون من المشركين من أهل مكة منهم صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو (٦).

ونلاحظ هنا ما يلي :

أولا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ وفق هذا النص ـ قد أخبر الناس بنتائج

__________________

البيان ج ١٠ ص ١٣٠ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٠ و ٢٢١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤١ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٧ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٨١ وتفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٠ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٢٥ فتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨.

(١) زاد المسير ج ٣ ص ٢٨١.

(٢) فتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨.

(٣) راجع : تفسير الثعلبي ج ٥ ص ٢٢ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٨١ عن مقاتل وتفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٠ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٢٥.

(٤) راجع : تفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٢٥.

(٥) فتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٨١ وتفسير القرطبي ج ٨ ص ١٠٠ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٢٥.

(٦) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وراجع : إمتاع الأسماع ج ٨ ص ٣٨٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٤.

٣٦

تلك الحرب مسبقا. ولعل ذلك يرجع لعدة أسباب :

أحدها : أن يرغّب الناس في الخروج إلى الحرب ..

الثاني : أن يكون ذلك من أسباب الربط على قلوبهم ، وتأكيد اليقين لديهم بصحبة النبوة ..

الثالث : أن يثقوا برعاية الله تعالى لهم ، ولطفه بهم ..

الرابع : أن يعرف الناس ، ويميز أهل اليقين ، والصادقين في إيمانهم عن غيرهم من المدّعين غير الصادقين.

الخامس : أن يدلهم ما جرى من الهزيمة الشاملة ، ثم النصر العتيد الذي يأتي بعدها بسيف علي «عليه‌السلام» على : أن ذلك كان بعلم الله ، وأن الذي تحقق لم يكن عن استحقاق منهم ، بل هو أمر صنعه الله لوليه ووصي رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنهم إنما ينعمون بفواضله ، ويستفيدون من ثمار جهده وجهاده ، فالغنائم ليست لهم ، وكذلك السبايا والأسرى ، فإذا قسمها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على من شاء من المؤلفة قلوبهم ، فليس لأحد الحق في أن يعترض بشيء ، وليس له أن يتوهم أن له نصيبا أو حقا فيها .. بل هي لخصوص صانع النصر ، ألا وهو علي بن أبي طالب «صلوات الله وسلامه عليه» ..

عقد الألوية :

زعموا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عقد الألوية ليلة حرب حنين في وقت السحر ، «فدفع لواء المهاجرين إلى عمر بن الخطاب ، ولواء إلى علي بن أبي طالب ، ولواء إلى سعد بن أبي وقاص ، ولواء الأوس إلى أسيد بن

٣٧

حضير ، ولواء الخزرج إلى حباب بن المنذر ، وآخر إلى سعد بن عبادة.

وقيل : كان لكل من الأوس والخزرج لواء في تلك الغزوة ، ولكل قبيلة من القبائل التي كانت معه لواء ، ثم ركب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بغلته الخ ..» (١).

وفي سيرة الدمياطي : في كل بطن من الأوس والخزرج لواء وراية يحملها رجل منهم (٢).

ونقول :

قد تقدم : أن اللواء الأكبر كان مع علي «عليه‌السلام» ، ولكن هؤلاء يحاولون الكيد لعلي «عليه‌السلام» ، والتشكيك بما له من فضائل وكرامات بهذه الطريقة الغبية والمفضوحة ، فنحن نسجل هنا ما يلي :

١ ـ إنهم هم أنفسهم يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى لواء المهاجرين لعلي «عليه‌السلام» ، وأعطى راية لعمر بن الخطاب (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ و (ط دار المعرفة) ص ٦٤ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وراجع : الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٠ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٩ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٢ وج ٧ ص ١٧٠.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ و (ط دار المعرفة) ص ٦٤ ، وراجع : الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٠.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٧ و (ط دار المعرفة) ص ٦٤ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وراجع : الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٠ وإمتاع الأسماع ج ٧ ص ١٧٠.

٣٨

إنه لا شك في كذب هذه الإدعاءات ، فالألوية إنما تعطى للشجعان الأكفاء ، ولم يظهر من عمر بن الخطاب ما يدل على ذلك ، بل ظهر منه عكسه في كثير من المقامات التي انهزم فيها.

٢ ـ إن عامة المؤرخين ، والمصنفين في السيرة النبوية لا يجرؤن على التصريح باسم حامل اللواء الأكبر في هذه الحرب الهائلة ، وأنه علي «عليه‌السلام». وهذا يرجع إلى أن لدى الحكام ، وكل من يدور في فلكهم من وعاظ السلاطين ، وسائر الناس ـ والناس على دين ملوكهم ـ حساسية كبيرة من ذكر أي شيء يرتبط بعلي «عليه‌السلام» ، أو يشير إلى فضله ، ومناقبه ومقاماته ..

ولعل تصريح المصادر الكثيرة : بأنه «عليه‌السلام» كان حامل لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بدر ، وفي كل مشهد جعلهم يكتفون بذلك ، ويعتبرون : أن هذه التصريحات تبرّئ ذمتهم ، وتدفع عنهم الإحراجات التي يخشون التعرض لها من التصريح بهذا الأمر في كل غزوة ، ومقام ، ومشهد ، فلا ضير إذا أهملوا ذلك واكتفوا به عن التصريح المتعاقب والمتوالي في كل مرة.

وقد غاب عنهم : أن هذا التصرف منهم قد أفسح المجال للحاقدين ، والمصطادين بالماء العكر لمحاولة تزوير الحقائق ، وإطلاق ادّعاءات تجانب الواقع والحقيقة في المواقف المختلفة ، فزعموا في حرب حنين : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطى لواء المهاجرين لعمر بن الخطاب ، وأن عليا صلوات الله وسلامه عليه كان يحمل لواء من ألوية المهاجرين ، وأعطى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» راية لسعد وراية لعمر. ثم أعطى لواء الخزرج لحباب بن المنذر ، ولواء

٣٩

الأوس لأسيد بن خضير.

نقول :

إن ذلك لا يصح ، لأن لواء الجيش كله كان مع علي. ولا يمنع أن يكون معه لواء المهاجرين أيضا.

ويدل على ذلك :

١ ـ إنهم يقولون : إنه «عليه‌السلام» كان صاحب لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بدر ، وفي كل مشهد (١).

٢ ـ عن ابن عباس ، قال : لعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام» أربع ما هنّ لأحد : هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وهو صاحب لوائه في كل زحف. وهو الذي ثبت معه يوم المهراس (أي يوم أحد) ؛ وفرّ الناس. وهو الذي أدخله قبره (٢).

__________________

(١) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، من تاريخ ابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ج ١ ص ١٤٥ وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الفكر) ج ٤٢ ص ٧٤ وذخائر العقبى ص ٧٥ عن أحمد في المناقب ، والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج ٣ ق ١ ص ١٤ و (ط دار صادر) ج ٣ ص ٢٣ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٦٢٥ وكفاية الطالب ص ٣٣٦ عنه ، وفي هامشه عن : كنز العمال ج ٦ ص ٣٩٨ عن الطبراني ، والرياض النضرة ج ٢ ص ٢٠٢ وقال : أخرجه نظام الملك في أماليه.

وراجع : فضائل الصحابة لابن حنبل ج ٢ ص ٦٥٠ و ١١٠٦ عن ابن عباس ، والحكم ، وشرح إحقاق الحق ج ٨ ص ٥٢٨ وج ٣٠ ص ٢٢٠ وج ٣٢ ص ٢٤.

(٢) مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١١ وتلخيصه للذهبي بهامشه ، ومناقب الخوارزمي ص ٢١ و ٢٢ وإرشاد المفيد ص ٤٨ و (ط دار المفيد) ج ١ ص ٧٩ وذخائر العقبى ـ

٤٠