الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

قال : وقتل علي «عليه‌السلام» أربعين رجلا بعد قتل أبي جرول (١).

٢ ـ قال ابن شهر آشوب : «وفارسهم أبو جرول ، وإنه قدّه عظيما بنصفين ، بضربة في الخوذة ، والعمامة ، والجوشن ، والبدن إلى القربوس ، وقد اختلفوا في اسمه» (٢).

٣ ـ قالوا : «في عقر علي «رضي‌الله‌عنه» بعير حامل راية الكفار دليل جواز عقر فرس العدو ، ومركوبه ، إذا كان ذلك عونا على قتله» (٣).

٤ ـ بالنسبة لما تقدم : من أن قتل أبي جرول كان السبب في هزيمة المشركين ، نقول :

سيأتي : أن قتل حامل اللواء وسقوط اللواء من يده يشوش حركة الجيش ، ويتسبب بدرجة كبيرة من الضياع والإحباط لدى كثير من عناصره ، ويؤدي إلى هزيمة فعلية في أحيان كثيرة.

٥ ـ قد تقدم : أن لا منافاة بين ما تقدم من أن هزيمة المشركين في حنين قد كانت حين أخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفا من تراب أو حصى ، ورماها في وجوهم .. وبين ما ذكر هنا من أن قتل أبي جرول بيد علي «عليه‌السلام» كان هو السبب في الهزيمة ..

وقد بينا الوجه في ذلك ..

__________________

(١) الإرشاد المفيد ج ١ ص ١٤٢ ـ ١٤٤ والبحار ج ٤١ ص ٩٤ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٦٠٤ ـ ٦٠٦.

(٢) البحار ج ٤١ ص ٦٦ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٦ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٥٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٥٤٢.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٥٠ وزاد المعاد ج ٣ ص ٤٨٣.

٢٨١

٦ ـ إن ادّعاء مشاركة رجل أنصاري لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» في قتل أبي جرول .. لا تتلاءم مع قول ابن شهر آشوب : إن عليا «عليه‌السلام» قد قدّه بنصفين ، بضربة في الخوذة والعمامة ، والجوشن ، والبدن إلى القربوس.

وهذه هي صفة ضربات علي «عليه‌السلام» ، فإن ضرباته «عليه‌السلام» كانت أبكارا (مبتكرات لا عوانا) ، إذا اعتلى قدّ ، وإذا اعترض قط (١).

٧ ـ لو صدقت روايتهم عن مشاركة الرجل الأنصاري لعلي «عليه‌السلام» في قتله ، فإن ذكر اسم الرجل ، وإغفال اسم علي «عليه‌السلام» أولى بل أوجب .. إذ من غير المناسب أن يذكروا اسم من ضرب الجمل ، ويهملوا اسم من قتل ذلك الفارس العظيم ، الطارد للمسلمين ، والقائد

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ١ هامش ص ١٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٥٥ والبحار ج ٢١ ص ١٧٩ وج ٤١ ص ٦٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٥٠ وتفسير مجمع البيان ج ١ ص ٢٥٢ و ٣٨٩ والهاشميات والعلويات (قصائد الكميت وابن أبي الحديد) ص ١٥٣ والصحاح ج ٢ ص ٥٩٧ وج ٣ ص ١١٥٣ والفروق اللغوية ص ٤٣٢ و ٤٣٣ ولسان العرب ج ٣ ص ٣٤٤ وج ٤ ص ٨٠ ومختار الصحاح لمحمد بن عبد القادر ص ٣٩ ومجمع البحرين ج ١ ص ٢٣٢ وتاج العروس ج ٢ ص ٤٦٠ وج ٣ ص ٥٨ وج ٥ ص ٢٠٧ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣٣٠ و ٣٤٠ و ٣٨٢ و ٣٩٧ وشرح إحقاق الحق ج ٨ ص ٣٢٨ و ٣٢٩ وج ١٨ ص ٧٩ وج ٣١ ص ٥٦٩ وج ٣٢ ص ٣٠٥ و ٣٣٦ و ٣٣٧ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٢٦٧ وتفسير الآلوسي ج ١٢ ص ٢١٨ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ لمحمد الريشهري ج ٩ ص ٤٣٠ والنهاية في غريب الحديث ج ١ ص ١٤٩.

٢٨٢

لجيوش المشركين!!

٨ ـ وقد تضمنت الرواية حديثا عن اجتلاد الناس مع المشركين بعد عودتهم من الهزيمة ، وبعد قتل أبي جرول ، وقد تقدم : تصريح بعض النصوص : بأن الهزيمة وقعت على المشركين ، ولم يضرب المسلمون فيهم بسيف ، ولا طعنوا برمح ..

هكذا يكيدون عليا عليه‌السلام :

ولكنّ مبغضي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لم يكتفوا بالتزوير الظاهر ، الذي تحدثنا عنه ، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة تسديد إهانة مبطنة لعلي «عليه‌السلام» ، حيث قالوا :

فجعلت أم عمارة تصيح : يا للأنصار ، أية عادة هذه. ما لكم والفرار؟!

قالت : وأنظر إلى رجل من هوازن على جمل أورق ، معه لواء يوضع جمله في أثر المسلمين ، فاعترض له ، فأضرب عرقوب الجمل. فيقع على عجزه ، وأشد عليه ، ولم أزل أضربه حتى أثبتّه ، وأخذت سيفا له.

ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قائم ، مصلت السيف بيده ، قد طرح غمده ينادي : «يا أصحاب سورة البقرة».

فكرّ الأنصار ، ووقفت هوازن قدر حلب ناقة فتوح ، ثم كانت إياها ، فو الله ما رأيت هزيمة قط كانت مثلها ، قد ذهبوا في كل وجه ، فرجع إلي أبنائي جميعا : حبيب وعبد الله أبناء زيد بأسارى مكتفين ، فأقوم إليه من الغيظ ، فأضرب عنق واحد منهم ، وجعل الناس يأتون بالأسارى فرأيت

٢٨٣

في بني مازن ابني النجار ثلاثين أسيرا (١).

ونقول :

١ ـ قد يقال : إنه لا معنى لأن تقول أم عمارة للأنصار : «أية عادة هذه»؟ لأن الفرار لم يكن عادة للأنصار.

ويمكن أن يجاب : بأن الخطاب لم يكن لخصوص الأنصار ، بل كان لعموم الفارين والأنصار بعض يسير منهم ، وحتى لو كان خاصا بالأنصار ، فإن الأنصار كانوا مع الفارين ، أو مع الذين لم يجرؤوا على المواجهة في أحد ، وخيبر ، والخندق ، وبني قريظة ، وفدك.

٢ ـ على أن قبيلة هوازن وإن كانت تشكل جانبا كبيرا من الجيش الذي جاء لحرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إلا أن من الواضح : أن هوازن لم تكن هي كل ذلك الجيش ولا نصفه ، بل هي أقل من ذلك بكثير ، فكيف عرفت أم عمارة أن صاحب الجمل واللواء كان من قبيلة هوازن.

٣ ـ إن قتل صاحب اللواء وسقوط اللواء الذي يراقبه المقاتلون في حركتهم في المعركة يوجب تضعضع الجيش ، وإحساسه بالصدمة ، وفقدان التوازن ..

فلو صحت رواية شيوخ الواقدي عن قتل أم عمارة لحامل لواء المشركين ، فالمفروض : أن يظهر أثر ذلك على هوازن ، وأن يختل أمرها ، وأن تظهر عليها أمارات الهزيمة ، ولم نجد أن هذه الرواية دلتنا على شيء من ذلك.

٤ ـ إن أم عمارة حسب ادّعاء الرواية قد قتلت أحد الأسرى ، ولا نرى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد لامها على ذلك ، بل لم يذكر ذلك عنها أحد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣١ عن الواقدي ، والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٠٤.

٢٨٤

من الرواة أو المؤرخين فيما نعلم.

٥ ـ إن هذا الأمر لو صح ، لكان الرواة والمؤرخون قد تناقلوه ، وفصلوه ، وجعلوه محور حديثهم ، ومحط أنظارهم ، لأنه أمر فريد ، يهم كل أحد أن يطلع عليه ، ويقف على تفاصيله ، وأن يطبّلوا ويزمّروا لامرأة تقتل قائدا ، وتكون سببا لهزيمة جيش بأكمله في حرب مصيرية كحرب حنين.

٦ ـ وأخيرا .. فإننا نستطيع أن نتيقن أن ما يرمي إليه واضعوا هذه الرواية هو استلاب إحدى فضائل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وهي قتله «عليه‌السلام» لأبي جرول ، وانهزام هوازن بسبب ذلك .. ومنح هذا الموقف العظيم لامرأة من سائر الناس ، ليكون ذلك آكد في وهن أمر علي «عليه‌السلام» ، وأكثر إيلاما للعارفين بالحق ، والناصرين له.

شعر علي عليه‌السلام في حرب حنين :

وذكروا أيضا : أن عليا «عليه‌السلام» قال في حرب حنين ؛ وأنكرها ابن هشام :

ألم تر أن الله أبلى رسوله

بلاء عزيز ذى اقتدار وذي فضل

وقد أنزل الكفار دار مذلة

فلاقوا هوانا من أسار ومن قتل

فأمسى رسول الله قد عز نصره

وكان أمين الله أرسل بالعدل

فجاء بفرقان من الله منزل

مبينة آياته لذوي العقل

فآمن أقوام بذاك فأيقنوا

فأمسوا بحمد الله مجتمعي الشمل

وأنكر أقوام فزاغت قلوبهم

فزادهم ذو العرش خبلا على خبل

٢٨٥

وحكم فيهم (١) يوم بدر رسوله

وقوما كماة (٢) فعلهم أحسن الفعل

بأيديهم بيض خفاف قواطع

وقد حادثوها بالجلاء وبالصقل

فكم تركوا من ناشئ ذي حمية

صريعا ومن ذي نجدة منهم كهل

وتبكي عيون النائحات عليهم

تجود بإرسال الرشاش وبالوبل

نوائح تبكي عتبة الغي وابنه

وشيبة تنعاه وتنعى أبا جهل

وذا الذحل تنعى وابن جدعان فيهم

مسلبة حرى مبينة الثكل

ثوى منهم في بئر بدر عصابة

ذوو نجدات في الحروب وفي المحل

دعا الغي منهم من دعا فأجابه

وللغي أسباب مرمقة الوصل

فأضحوا لدى دار الجحيم بمعزل

عن الشغب والعدوان في أسفل السفل (٣)

ونقول :

إن لنا مع تلكم النصوص وقفات عديدة ، نجملها ضمن ما يلي من مطالب :

مع الشعر المنسوب لعلي عليه‌السلام :

إننا نشير هنا إلى نقطة واحدة ، وهي : أن هذا الشعر قد نسب إلى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وهو المجاهد الأول والفاتح الأكبر في حنين ،

__________________

(١) وأمكن منهم.

(٢) غضابا.

(٣) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ١٢٥ والبحار ج ١٩ ص ٣٢١ وج ٤١ ص ٩٤ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٧٥ وج ٢ ص ٣٣١ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٤٠٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٥٣٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٥٢٥.

٢٨٦

وبدر ، وأحد ، والخندق ، وخيبر ، وقريظة ، وفدك ، وذات السلاسل .. و..

ولكننا نراه لا يذكر شيئا عن جهده هو «عليه‌السلام» وجهاده ، ولا عن بطولات سطرها أي من الناس في حنين على الخصوص ، بل هو يخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالثناء ، وينسب كل توفيق ونصر فيها إليه.

ثم هو يذكّر الناس بحقائق الدين ، وتعاليمه القائمة على العدل والحق ، ويشير إلى القرآن بعنوان أنه المفرق بين الحق والباطل ، والمنسجم مع ما تقضي به العقول ، بما فيه من هدايات تستنزل التوفيق الإلهي ، وتكون معاندتها من أسباب الخذلان ، وزيادة العمى في القلب.

ولكن لو رجعنا إلى شعر العباس بن مرداس ، وسائر من تحدث أو قال الشعر في حرب حنين ، فإننا نراه يخلط الحق بالباطل ، وينسب البطولات ، والمواقف العظيمة لهذه القبيلة أو تلك ، أو لذلك الشخص وسواه.

والأدهى من ذلك : أن كثيرا من هؤلاء الشعراء لا يكون أمينا على الحقيقة ، ولا يلتزم جانب الصدق فيما يقول .. مع أن بعضهم إنما ينفخ في غير ناره ، ويكد ويتعب ، ويدخل في المتاهات والضلالات والمهالك ، ليس لأجل نفسه بل من أجل جاره ..

أعاذنا الله من الخذلان ومن وساوس الشيطان ..

ظروف حرب حنين :

وقد عرفنا فيما سبق : أن ثمة وجوه شبه عديدة بين حرب حنين ، وحرب بدر ، وقد ذكرنا عشرة منها ، ونحب هنا أن نلقي المزيد من الضوء على احداها ، ألا وهي العناصر المكونة لكلا الفريقين ، حيث نجد : أن فريق

٢٨٧

المشركين يمتاز بما يلي :

١ ـ إن أكثرهم عصبة واحدة من حيث الإنتماء القبلي ، لأن أكثرهم من هوازن ، أو ممن له بها رابطة قرابة ، أو مصلحة ، أو سكنى ، أو غير ذلك مما يؤثر على حياة الناس في المستقبل ، ومصيرهم ، لو أرادوا التواكل أو التواني في التصدي لعدو يتخيلون أنه لا يراعي مصالحهم .. أو يرون أنه يعمل على الإضرار بها.

٢ ـ إنهم جميعا يدينون بدين واحد ، ولهم قناعات واحدة ، من حيث الإلتزام بالشرك ، ورفض التوحيد ، وجحود نبوة النبي محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورفض كل ما يترتب على ذلك من آثار.

٣ ـ إنهم يلتزمون بتنفيذ أوامر قياداتهم القبلية ، ولا يفكرون بالانسلاخ عنها ، أو التمرد على أوامرها ، حقا كانت أم باطلا ، وسواء أكانت ضد الظالم أم كانت ضد المظلوم .. أي أنهم لا يملكون أي معيار آخر يدعوهم للطاعة أو للخلاف سوى القيادة العشائرية التسلطية ، والتي تحكمهم بمفاهيم الظلم والتعدي ، وبأحكام الهوى والجاهلية.

٤ ـ إن هؤلاء يعيشون في بلادهم ، ويشعرون أن عليهم أن يدافعوا عن وطنهم.

٥ ـ إن هؤلاء على معرفة تامة بمسالك البلاد ، ومنعطفاتها ، ومواضع مياهها وغياضها ، وسهولها وجبالها ، وهم أقدر على التحرك فيها ..

وفي المقابل نلاحظ : أن ثمة نقاط ضعف بارزة في تركيبة العناصر المكونة للجيش الذي جاء مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إذ :

١ ـ إن عناصر ذلك الجيش كانوا مختلفين في انتمائهم العقائدي ، ففيهم

٢٨٨

المسلم والكافر .. وفيهم المسلم الحقيقي الخالص ، والمنافق ..

٢ ـ إن إيمان المؤمنين منهم لم يكن في مستوى واحد ، إذ فيهم ضعيف الإيمان ، وفيهم القوي الصلب في إيمانه.

٣ ـ كما أن هناك اختلافا في دوافعهم لخوض هذه الحرب ، فهناك المجاهد في سبيل الله ، المدافع عن دينه ورسوله.

وهناك : الباحث عن الغنائم والإماء ، والعبيد.

وفريق ثالث : يريد أن يتلذذ بأخذ الثارات ، أو أن يثبت فروسيته أو مقامه من خلال شن الغارات.

٤ ـ ليس لدى هذا الفريق عصبية مؤثرة في مسار الحرب ، بل هم من فئات شتى ، وقبائل مختلفة ، كانت مئات منها على مدى الأيام متناحرة ، ومتباغضة ، بل كان بين بعضها حروب طويلة ، وثارات وإحن وأضغان مستحكمة. ولا يشعر أي منها بأنه معنيّ بحفظ ، أو بمعونة غيره من القبائل ، إلا ما قل ، أو ما شذ منها.

٥ ـ وهناك عامل آخر لا بد أن نضيفه إلى ما تقدم ، وهو تدنّي مستوى ، أو فقل : انحسار واسع لتأثير القيادات القبلية ، حيث لم تعد قادرة على فرض موقف على سائر أفراد القبيلة ، وهذا الإنحسار قد جاء لصالح تأثير موقع النبوة ، وأوامره فيهم ، وفي رؤسائهم على حد سواء ..

بل إنهم حتى إذا اختاروا التخلي عن نبيهم ، أو فقل : حتى إذا عذروا أنفسهم في التخلي عنه ، وأسلموه إلى يد عدوه ، فإن رؤساء القبائل لن يستعيدوا ما كان لهم من تأثير في مسار الأمور الذي كان لهم قبل قبولهم الإسلام ..

٢٨٩

٦ ـ إن هؤلاء يقاتلون عدوهم في بلاد يجهلون مسالكها ، ومنعطفاتها ، وما فيها من مياه ، وأشجار ، وأماكن مأهولة ، أو براري وقفار ..

ومن كان كذلك ، فهو يعيش هواجس مختلفة تفقده الإستقرار ، وتمنعه الراحة في الليل والنهار.

ثم إن هؤلاء الناس قد أصبحوا بعد حلول الهزيمة بهم أكثر ضعفا ، لأنهم يشعرون بشيء من الضياع في تلك البقاع ..

ولا بد أن يتضاعف هذا الضعف حين يلاحقهم شبح الخطأ الذي ارتكبوه ، ويقضّ مضاجعهم شعورهم بالخزي والعار. خزي الهزيمة ، وعار الخيانة.

بالإضافة إلى : ذل وصغار ، تزرعه فيهم شماتة الأعداء ، وملامة الأصدقاء والأولياء ..

٢٩٠

الفصل الثالث :

الثابتون في حنين

٢٩١
٢٩٢

الثابتون في حنين :

عن حارثة بن النعمان قال : لقد حزرت من بقي مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أدبر الناس ، فقلت : مائة واحد (١).

وعن ابن عمر قال : لقد رأينا يوم حنين وإن الفئتين لموليتان ، وما مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مائة رجل (٢).

ويقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما انكشف الناس عنه يوم حنين ، قال لحارثة : «يا حارثة ، كم ترى الناس الذين ثبتوا».

قال : فما التفتّ ورائي تحرجا ، فنظرت عن يميني وعن شمالي ، فحزرتهم مائة ، فقلت : يا رسول الله!! هم مائة.

فما علمت أنهم مائة حتى كان يوم مررت على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٩ عن البيهقي ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٦ ودلائل النبوة ج ٥ ص ١٣١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٩ عن ابن مردويه ، وسنن الترمذي ج ٣ ص ١١٧ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٢٧٤ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٢ ص ٤١٤ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٥.

٢٩٣

وهو يناجي جبريل عند باب المسجد ، فقال جبريل : «يا محمد ، من هذا»؟

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «حارثة بن النعمان».

فقال جبريل : هو أحد المائة الصابرة يوم حنين ، لو سلّم لرددت عليه ، فأخبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حارثة ، قال : «ما كنت أظنه إلا دحية الكلبي واقفا معك» (١).

ونقول :

قد حاول بعضهم أن يدّعي : أن لا منافاة بين روايتي الثمانين والمائة .. على اعتبار : أن الذي تحدث عن المائة ـ وهو ابن عمر ـ نفى أن يكونوا مائة ، وأثبت أنهم أقل ، وابن مسعود أثبت كونهم ثمانين (٢).

ولكن هذا التوجيه إن أفاد في رواية ابن عمر ، فإنه لا يفيد في رواية حارثة بن النعمان ، فإنها تصرح : بأن الذين ثبتوا كانوا مائة رجل بالتحديد ، فراجع الرواية المشار إليها آنفا.

وإن أمكن إثارة احتمال الخطأ أو المبالغة بالنسبة لحارثة بن النعمان ، فلا يمكن إثارة هذا الإحتمال بالنسبة لجبريل ، على أن احتمال المبالغة لا مورد له ، لأن المقام مقام تحديد ، وبيان العدد ، وليس مقام مبالغة.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٩ عن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ و (ط دار المعرفة) ص ٦٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٤٨٨ وراجع :

الإستيعاب ج ٣ ص ١٢٢٠ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٤٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ وفي هامشه عن : المعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٣٥٨ وتهذيب تاريخ مدينة دمشق ج ٦ ص ٣٥١ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٣٠ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٢٧٤.

٢٩٤

أضف إلى ذلك : أن تحديد ابن مسعود ، أو ابن عمر للعدد يبقى موضع ريب ، فإن أحدا من الناس في تلك الحرب الهائلة لا يستطيع عد الرجال ، وهم في حالة كر وفر ، وتردد مستمر ، وهو معهم.

إلا إذا فرضنا : أن ابن مسعود ، وابن عمر قد اعتزلا القتال ، ليتفرجا على المقاتلين ، وليعدوا الرجال .. وهذا ما لا يرضاه لهما أحد ..

وأما قول الحلبي : «وهذا السياق يدل على أن المائة انتهت إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد الهزيمة ، وهو يؤيد القول بأن الذين ثبتوا معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يبلغوا المائة» (١). فيدل على ما قلناه وبيناه أكثر من مرة من أن الجميع انهزموا ولم يبق أحد وأن الثمانين أو المائة أو سواهما إنما عادوا إليه بصورة تدريجية ، فأخبر هذا عن الثمانين بعد أن عادوا ، وأخبر ذاك عن المائة حينما تكاملوا مائة.

النساء في حنين :

اختلفوا في الثابتين في حنين ، ونحن نشير هنا إلى ما ذكروه ، فنقول :

زعموا : أن الذين ثبتوا كان فيهم نساء ورجال .. فمن النساء أربع نسوة : نسيبة بنت كعب. وأم سليم. وأم سليط. وأم الحارث.

ورووا : عن عبد الله بن أبي بكر : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى أم سليم بنت ملحان ، وكانت مع زوجها أبي طلحة ، وهي حامل بعبد الله بن أبي طلحة ، وقد خشيت أن يغر بها الجمل ، فأدنت رأسه منها ،

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٧.

٢٩٥

وأدخلت يدها في خزامه (١) مع الخطام.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أم سليم»؟

قالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، أقتل المنهزمين عنك كما تقتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أو يكفي الله يا أم سليم» (٢).

وعند محمد بن عمر : «قد كفى الله تعالى عافية الله تعالى أوسع» (٣).

وعن أنس قال : اتخذت أم سليم خنجرا أيام حنين ، فكان معها ، فلقي أبو طلحة أم سليم ومعها الخنجر ، فقال أبو طلحة : ما هذا؟

قالت : إن دنا مني بعض المشركين أبعج به بطنه.

فقال أبو طلحة : أما تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم؟ (الرمصاء. كذا في سيرة ابن هشام).

فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقالت : يا رسول الله ، أقتل من يعدونهم من الطلقاء ، انهزموا عنك.

فقال : «إن الله تعالى قد كفى وأحسن يا أم سليم» (١).

__________________

(١) الخزام بكسر الخاء المعجمة حلقة تصنع من شعر ، وتجعل في أنف البعير ، انظر اللسان (خزم).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٠ عن ابن إسحاق ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ و ١١٤ وراجع : السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٢ والثقات ج ٢ ص ٧١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٦ والإكتفاء ج ٢ ص ٣٤٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٠ عن الواقدي.

٢٩٦

وعن عمارة بن غزية قال : قالت أم عمارة : لما كان يوم حنين والناس منهزمون في كل وجه ، وكنا أربع نسوة ، وفي يدي سيف لي صارم ، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها ، وإنها يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة.

وأم سليط.

وأم الحارث (٢).

ونقول :

١ ـ قد وصف أبو طلحة زوجته لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرميصاء «بل لقد رووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : دخلت الجنة ، فسمعت خشفة ، فقلت من هذا؟!

فقالوا : هذه العميصاء بنت ملحان» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٠ عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، ومسلم. وقال في هامشه : أخرجه مسلم في الجهاد (١٣٤) ، وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٣٢ وأحمد ج ٣ ص ٢٧٩ و (ط دار صادر) ص ١٩٠ و ٢٧٩ ، والبيهقي في السنن ج ٦ ص ٣٠٧ والمغازي ج ٣ ص ٩٠٤ وراجع : السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٠ والمعجم الكبير ج ٢٥ ص ١٢٠ وراجع : صحيح مسلم ج ٥ ص ١٩٦ ومسند أبي داود ص ٢٧٧ ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٢٢٦ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٦٩ وج ١٦ ص ١٥٣ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٤٢٥ والجمع بين الصحيحين ج ٢ ص ٦٣٨ ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ٣٣١ وحسن الأسوة بما ثبت عند الله ورسوله في النسوة ج ١ ص ٤٢٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٠ عن الواقدي ، وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٥.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ و (ط دار المعرفة) ص ٧٣ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٢٥ ـ

٢٩٧

ومن الواضح : أنه لا معنى لأن يكتفي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالضحك من كلام أبي طلحة ، لأن «الرميصاء» هي التي يخرج القذى من عينها (١).

ومعنى هذا هو : أنه يصفها بما فيه نقص ، ومهانة لها وما لا يرضى الإنسان بأن يشاع ويتداول عنه ..

وهو على الأقل من قبيل التنابز بالألقاب ، وفي كلتا الحالين لا بد أن يبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى نهي أبي طلحة عن هذا المنكر ، ولا يصح الإكتفاء عن ذلك بالضحك.

٢ ـ لقد كان بعض الرجال يستصحبون معهم زوجاتهم في الأسفار ، حتى لو كان سفر حرب. وحضور النساء في الحرب لا يستلزم مشاركتهن فيها.

وعليهن أن يبقين في المواضع التي تخصص لهن ، وقد تقترب هذه

__________________

و ٢٣٩ و ٢٦٨ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٤٥ وفضائل الصحابة للنسائي ص ٨٥ وشرح مسلم للنووي ج ١٦ ص ١١ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٩٩ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٩٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٠٣ ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٢٢٣ وصحيح ابن حبان ج ١٦ ص ١٦٢ والمعجم الكبير ج ٢٥ ص ١٣٠ والجامع الصغير ج ١ ص ٦٤٣ و ٦٤٤ وكنز العمال ج ١١ ص ٦٥٣ وج ١٢ ص ١٤٦ و ١٤٨ وفتح القدير ج ٣ ص ٦٩٠ و ٦٩١ و ٦٩٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ ص ٤٣٠ وأسد الغابة ج ٥ ص ٥١٤ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ٣٦٦ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٣٠٩ والإصابة ج ٨ ص ٢٥٥ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٤١٩.

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ و (ط دار المعرفة) ص ٧٢.

٢٩٨

المواضع من موضع تواجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد تبتعد عنه.

ومن جهة أخرى ، فقد ذكرت الروايات : أن بعض نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كنّ معه في الحرب ، فلعل هؤلاء النسوة الأربع قد كن مع نسائه في مكان قريب ، وهزم الناس ، وبقي النساء في مواضعهن ، وربما اقتربن من موضع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أكثر من أجل تحصيل قدر أكثر من الأمن بالقرب منه ..

ولكن ذلك لا يصحح القول : بأنهن ثبتن في ساحات القتال .. حتى لو حملت بعضهن سيفا ، أو خنجرا ، أو أي شيء آخر تخوفا من أي طارئ.

ولو صح ادعاء ذلك لهن ، لوجب أن يعدوا نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا في جملة الثابتين .. ولم نجدهم فعلوا ذلك.

على أن الحكايات المتقدمة لا تدل على مشاركة أولئك النسوة في تلك الحرب.

فإن أم سليم طلبت من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يقتل المنهزمين عنه كما يقتل أعداءه. وقد أعدت خنجرا حتى إذا دنا منها أحد المشركين تبعج به بطنه. وليس في هذه الروايات أكثر من ذلك.

فما معنى عدهن ممن ثبت يا ترى؟!

الثابتون من الرجال :

قال الحلبي ، وغيره : «وردت في عدد من ثبت معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» روايات مختلفة ، فقيل : مائة. وقيل : أقل.

وقيل : ثلاثمائة. وقيل : ثمانون.

٢٩٩

وقيل : اثنا عشر. وقيل : عشرة» (١).

وعدوا من الرجال الذين ثبتوا في حنين أشخاصا كثيرين ..

ونحن نذكر هنا ما قاله الصالحي الشامي ، وهو ما يلي :

عن الحكم بن عتيبة ، قال : لم يبق معه إلا أربعة ، ثلاثة من بني هاشم ، ورجل من غيرهم ، علي بن أبي طالب ، والعباس وهما بين يديه ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان ، وابن مسعود من جانبه الأيسر ، قال : فليس يقبل أحد إلّا قتل ، والمشركون حوله صرعى (٢).

فمن أهل بيته : عمه العباس ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخوه ربيعة ابنا عم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والفضل بن العباس ، وعلي بن أبي طالب ، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث ، وقثم بن العباس.

إلى أن قال : قال في الزهر : وفيه نظر ، لأن المؤرخين قاطبة فيما أعلم عدوه فيمن توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو صغير ، فكيف شهد

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٨ و (ط دار المعرفة) ص ٦٥ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٢ وراجع :

فتح الباري ج ٨ ص ٣٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٠ عن ابن أبي شيبة ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ و (ط دار المعرفة) ص ٦٧ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٢ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٩ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤١٧ و (ط دار الفكر) ج ٨ ص ٥٥٣ وفتح الباري ج ٨ ص ٢٣ والغدير ج ٧ ص ٢٠٦ وشرح إحقاق الحق ج ٨ ص ٤٧٤ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٦٣.

٣٠٠