الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

الآن حمي الوطيس :

وقد ذكرت الروايات : أنه لما عاد الأنصار للقتال قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : الآن حمي الوطيس (١).

ونقول :

إن الهزيمة للمشركين قد حصلت على يدي علي «عليه‌السلام» ، فإن كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال هذه الكلمة ، فقد قالهل حين اشتد القتال بين المشركين وبين علي «عليه‌السلام» ، لا بين المسلمين بعد عودتهم والمشركين. إذ

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٨ عن ابن مردويه ، والبيهقي ، وابن عساكر ، وراجع : إعلام الورى ص ١٢٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٣٢ والبحار ج ٢١ ص ١٥٧ و ١٦٧ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٢ و ٦٣ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨١ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٨٥ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٩ وتفسير جوامع الجامع للشيخ الطبرسي ج ٢ ص ٥٦ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ٣٥ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢٣١ وزاد المسير لابن الجوزي ج ٣ ص ٢٨٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٥١ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٨٠.

٢٤١

إنهم بعد عودتهم لم يرم أحد منهم بسهم ، ولم يطعن برمح ، كما سيتضح.

لم يحارب أحد سوى علي عليه‌السلام :

وقد ادّعت بعض الروايات المتقدمة : أن المسلمين الذين عادوا إلى ساحة المعركة قد قاتلوا. فراجع رواية أبي بشير المازني ، وكذلك رواية عثمان بن شيبة ، ورواية الشيخ المفيد «رحمه‌الله» ، وغير ذلك .. وقد أخذ المؤرخون هذه الرواية بحسن نية ، ولم يدققوا في صحتها وسقمها ..

بل لقد قال دحلان : «لما انهزم المشركون تبع أثرهم المسلمون قتلا وأسرا حتى حدّث بعض من هوازن قال : ما خيل لنا إلا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا.

وأنزل الله من الملائكة خمسة آلاف ، وقيل : ثمانية ، وقيل : ستة عشر ألفا.

فقيل : إنهم قاتلوا ، وقيل : لم يقاتلوا لإلقاء السكينة في قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة» (١).

ونقول :

إن هذا الرجل قد وهم في فهم كلام بعض من هوازن ، فإنه إنما أراد : أن الملائكة كانت تلاحقهم (٢).

ولم يرد : أن الذين عادوا من هزيمتهم كانوا يلاحقونهم.

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١١.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ و (ط دار المعرفة) ص ٧٥ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٦ وج ٣ ص ٣٢٢ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٨٣ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٧٧ و ٢٩٥ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٣٠٨ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٠

٢٤٢

ولو سلمنا : أنه أراد ذلك ، فلعله رأى جنود الملائكة ، فظن أن المنهزمين قد عادوا من هزيمتهم.

وقد صرحت بعض الروايات الآتية حين الحديث عن «النصر الإلهي والإمداد بالملائكة» : بأنهم كانوا يرون المسلمين بين الملائكة كمثل الشامة. ويرون أن الملائكة هم الذين قتلوهم.

غير أننا نقول :

إن ذلك مشكوك فيه ، بل الذي قاتل هو خصوص علي «عليه‌السلام» ، وقد قتل أربعين رجلا بيده ، حسب تصريحهم.

وهو ما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أيضا (١).

قال أنس : وكان «عليه‌السلام» يومئذ أشد الناس قتالا بين يديه (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٨ ص ٣٧٦ والبحار ج ٢١ ص ١٧٦ و ١٧٨ و ١٧٩ وج ٤١ ص ٩٤ و ٦٦ عنه ، وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٩٥ و ٢٩٦ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٥٥ والأمالي لابن الشيخ ص ٥٨٥ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٤٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٩٩ وراجع : كشف الغطاء (ط ق) ج ١ ص ١٥ والكافي ج ٨ ص ٣٧٦ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٥٤٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٤٥٢ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٣٢ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٠١ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة ج ١ ص ٢٥٧ وج ٩ ص ٣٤١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٤ عن أبي يعلى ، والطبراني ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٠ و ١٨٢ وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج ١٠ ص ٥٤٨ (٣٠٢٢٥) ، ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٢٩٠ والمطالب العالية ج ١٧ ص ٤٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٤ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٢٥١ وشرح إحقاق الحق ج ٨

٢٤٣

وأما من عداه : فيشك كثيرا في أن يكون أحد منهم قاتل ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ روي عن أنس ، وعكرمة قالا : لما انهزم المسلمون بحنين ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على بغلته الشهباء ـ وكان اسمها دلدل ـ فقال لها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دلدل ، البدي. فألزقت بطنها بالأرض ، فأخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حفنة من تراب ، فرمى بها في وجوههم ، وقال : «حم ، لا ينصرون» ، فانهزم القوم ، وما رمينا بسهم ، ولا طعنا برمح (١). أو فما رموا بسهم ، ولا طعنوا برمح ، ولا ضربوا بسيف. فهزمهم الله.

٢ ـ وعن أنس أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقي وحده ، فنادى الأنصار عن يمينه تارة ، وعن يساره أخرى بندائين لم يخلط بينهما ، فلبوه بأنهم معه ، «فهزم الله المشركين ، ولم يضرب بسيف ، ولم يطعن برمح» (٢).

حيث إن الراجح هو : أن تقرأ كلمتا «يضرب» و «يطعن» في العبارة الأخيرة بصيغة المبني للمجهول ، فتتوافق في مفادها مع الرواية السابقة. أو

__________________

ص ٣٦٣ وج ٣٢ ص ٣٩٧ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ١٤٨ ومعجم رجال الحديث لمحمد حياة الأنصاري ج ١ ص ١٧٧.

(١) مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٤ عن أبي نعيم ، والطبراني ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٤ عن الطبراني في الأوسط ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ١٠٨ و ١٠٩ و ١١٠ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٣٦ والخصائص الكبرى للسيوطي (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٤٤٩ والبحار ج ٦١ ص ١٩١ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٠٢ والدر المنثور ج ٥ ص ٣٤٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٥٠ ودلائل النبوة للإصبهاني ج ١ ص ٢٢٨.

(٢) تقدمت مصادر هذا الحديث ، حيث ذكرناها تحت عنوان : حديث أنس.

٢٤٤

تكون قد حصل فيها تصحيف في لفظ الحروف نضرب ونطعن. صحفت فصارت : يضرب ويطعن. وربما يكون ذلك قد حصل سهوا ، وربما عمدا ، لحاجة في النفس قضيت.

٣ ـ قال ابن إسحاق : «ورجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من جهة المشركين بعد انهزامهم إلى العسكر ، وأمر أن يقتل كل من قدر عليه ، وثاب من انهزم من المسلمين» (١). فإنه ظاهر في أن عودة من انهزم قد كانت بعد انقضاء الأمر.

٤ ـ قولهم : فو الله ، ما رجعت راجعة للمسلمين حين هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتوفين (مكتفين) عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢). فإنه صريح في أن هزيمة المشركين وقعت ، وأسر من أسر منهم قبل

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٢ عن ابن إسحاق ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٢ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٤٩ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ عن أبي القاسم البغوي ، والبيهقي ، وفي هامشه عن : تهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٦ ص ٣٥١ وعن الطبراني في المعجم الكبير ج ٧ ص ٣٥٨ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١١ و (ط دار المعرفة) ص ٧٠ وراجع ص ١٠٨ و ١٠٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٣ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٣ و ٣٧٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢١٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٩ و ٦٢٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٦ وراجع : شرح إحقاق الحق ج ٣٢ ص ٣٩٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٢٩.

٢٤٥

رجعة راجعة المنهزمين.

وهذا معناه : أن المنهزمين لم يشاركوا في القتال بعد عودتهم ..

٥ ـ إن أحاديث : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حثا التراب في وجوه المشركين ، فهزمهم الله تعالى ، تدل على : أن المشركين انهزموا من دون أن يباشر المسلمون العائدون من الهزيمة أي قتال معهم ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحثو التراب في وجوههم :

والأحاديث هي التالية :

١ ـ حديث ابن مسعود عن أنه مع ثمانين من المهاجرين والأنصار لم يولوا الدبر ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : ناولني كفا من تراب ، فناوله فضرب وجوههم ، فامتلأت أعينهم ترابا ، ثم قال : أين المهاجرون والأنصار؟!

قلت : هم أولئك.

قال : إهتف بهم.

فهتف بهم ، فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب ، وولى المشركون أدبارهم (١).

٢ ـ عن كرز بن يزيد الفهري قال : «فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى ، فجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «يا عباد الله. أنا عبد الله ورسوله ، يا أيها الناس ، إني أنا عبد الله ورسوله».

__________________

(١) تقدمت مصادر هذا الحديث.

٢٤٦

فاقتحم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن فرسه ، وحدثني من كان أقرب إليه مني : أنه أخذ حفنة من تراب ، فحثاها في وجوه القوم ، وقال : «شاهت الوجوه».

قال يعلى بن عطاء : وأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم ، أنهم قالوا : «ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه من التراب ، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست ، فهزمهم الله تعالى» (١).

٣ ـ عن أنس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخذ يوم حنين كفا من حصى أبيض ، فرمى به وقال : «هزموا ورب الكعبة».

وكان علي «عليه‌السلام» يومئذ أشد الناس قتالا بين يديه (٢).

٤ ـ عن شيبة بن عثمان : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال يوم حنين : يا عباس ، ناولني من الحصباء.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ و ٣٢٤ وقال في هامشه : أخرجه أبو داود (٥٢٣٣) وأحمد ج ١ ص ٢٥٥ و ٨٤ وج ٣ ص ٤٣٨ وج ٥ ص ٢٨٦ و ٣٧٢ و ٣٨١ وانظر الدر المنثور ج ٥ ص ٢٠٥ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٤. وراجع :

السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٤ عن أحمد ، وأبي داود ، والدارمي ، ومسند أبي داود الطيالسي ص ١٩٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٩ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٦٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٩ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٤١ والخصائص الكبرى للسيوطي ج ١ ص ٤٤٥.

(٢) تقدمت مصادر هذا الحديث.

٢٤٧

قال : وأفقه الله تعالى البغلة كلامه ، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض ، فتناول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من البطحاء ، فحثا في وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه ، حم لا ينصرون» (١).

٥ ـ وفي نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب كف التراب من أبي سفيان بن الحارث (٢).

٦ ـ وفي نص ثالث : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلبه من العباس وأبي سفيان (٣).

٧ ـ وفي نص رابع : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب كف التراب من ابن مسعود (٤).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٤ عن البغوي ، والبيهقي ، وأبي نعيم ، وابن عساكر ، وقال في هامشه : أخرجه ابن عساكر كما في التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ، والطبراني في الكبير ج ٧ ص ٣٥٩ و (ط دار إحياء التراث العربي) ص ٢٩٩ ، والمجمع ج ٦ ص ١٨٤ ، وأبو نعيم في الدلائل ج ١ ص ٦١ ، والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ١٤١. وراجع : والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٤ والبحار ج ٦١ ص ١٩٢ وتخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٣٦.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٥٠ و ١٥١ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٣٢ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٠٠ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢٣٤.

(٣) راجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٥٧ والخصائص الكبرى للسيوطي ج ١ ص ٤٤٩ والناسخ والمنسوخ ج ١ ص ١٣٦ و ١٩٣.

(٤) المستدرك للحاكم ج ٢ ص ١١٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٠ وفتح الباري ج ٨ ـ

٢٤٨

٨ ـ عن يزيد بن عامر السوائي ، وكان شهد حنينا مع المشركين ، ثم أسلم ، قال : أخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم حنين قبضة من الأرض ، ثم أقبل على المشركين ، فرمى بها في وجوههم وقال : «ارجعوا ، شاهت الوجوه».

قال : فما من أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو القذى في عينيه ، ويمسح عينيه (١).

٩ ـ عن عياض بن الحارث ، وعن عمرو بن سفيان قالا : قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم حنين قبضة من الحصباء ، فرمى بها وجوهنا ،

__________________

ص ٢٥ والمعجم الكبير ج ١٠ ص ١٦٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٥٨ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨ و ٣٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٣ ص ٧٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٠ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٦٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٥ و ٣٥٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٨.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٤ عن عبد بن حميد ، وتاريخ البخاري ، والبيهقي ، وابن الجوزي وأشار في هامشه إلى : البخاري في التاريخ ج ٨ ص ٣١٦ والطبري في التفسير ج ١٠ ص ٧٣ وابن حجر في المطالب (٤٣٧٢) والمجمع ج ٦ ص ١٨٢ والسيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٦. وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٤ والمعجم الكبير للطبراني ج ٢٢ ص ٢٣٧ وأسد الغابة ج ٥ ص ١١٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٣١ والآحاد والمثاني ج ٣ ص ١٣٦ ومعجم الصحابة ج ٣ ص ٢٢٥ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٤٤٦ والمطالب العالية ج ١٧ ص ٤٨٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٨.

٢٤٩

فانهزمنا (١).

زاد عمرو بن سفيان قوله : فما خيّل إلينا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا (٢).

١٠ ـ وفي حديث سلمة بن الأكوع قال : لما غشوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نزل عن بغلته ، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض ، ثم إنه استقبل به وجوههم ، وقال : «شاهت الوجوه».

فما خلى (خلق) الله تعالى منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة. فولوا مدبرين.

وقسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غنائمهم بين المسلمين (٣).

__________________

(١) راجع : تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٢ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٧٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٣٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٠ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٢١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٤٢ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٤٤٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٦.

(٢) راجع : الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ١١ ص ٤٠٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٠ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٧٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٣١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٨ والمعرفة والتاريخ ج ١ ص ١٥٢ و ٢٨٧.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٦ عن البخاري ، ومسلم ، والبهقي ، وفي هامشه عن :

مسلم ج ٣ ص ١٤٠٢ (٨١) ، والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ١٤٠ و ١٤١ ، وانظر الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٦. وراجع : إعلام الورى ص ١٢٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٣٢ والبحار ج ٢١ ص ١٦٧ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ١٩ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٩ وفتح الباري ج ٨ ص ٢٥ والسيرة النبوية لابن كثير

٢٥٠

ونقول :

إن هذه الحادثة تحتاج ـ قبل أن نواصل الحديث ـ إلى بعض التوضيح ، والبيان ، فلاحظ ما يلي :

شاهت الوجوه :

تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا على المشركين بقوله : «شاهت الوجوه» ، وذلك حين رمى التراب ، أو الحصى في وجوههم.

وقد يسأل سائل عن المراد بهذا الدعاء ، فنقول في الجواب :

قد يقال في معنى هذا الدعاء العديد من الوجوه ، إذ :

١ ـ لعل المقصود هو : الإلماح إلى أن الله تعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم ، سواء بالنسبة لتكوينه الظاهري المتمثل في صورته البشرية ، أو في تكوينه الباطني ، المتمثل بما أعطاه الله إياه من فطرة سليمة ، وعقل

__________________

ـ ج ٣ ص ٦٢٨ والجمع بين الصحيحين ج ١ ص ٥٨١ ومسند الروياني ج ٢ ص ٢٥٣ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ١٦٥٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٣٢ ومرقاة الجنان ج ١١ ص ٢٩ والبيان والتعريف لإبراهيم بن محمد الحسيني ج ٢ ص ٧٦ والأموال لابن سلام ج ١ ص ١٨٣ وإرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع للشوكاني ج ١ ص ٦٣ والجواب الصحيح لابن تيمية ج ٦ ص ٢٥٧ والمنتقى من منهاج الإعتدال للذهبي ج ١ ص ٥٢٠ ومنهاج السنة ج ٨ ص ١٣٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٤٠ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٤٥١ ودلائل النبوة للإصبهاني ج ٣ ص ١١٣٠ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٧٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٩ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٦٨.

٢٥١

قويم ، ومن عواطف ومشاعر نبيلة ، ومن سمات وصفات وميزات إنسانية ، لو حافظ عليها لسار في خط التكامل ، والإرتقاء ، حتى يصبح أفضل من الملائكة الأصفياء.

ولكن هذا الإنسان بسوء اختياره ، وبعمله الفاسد ، ورأيه الكاسد ، يشوّه صورته الباطنية ، من خلال العدوان على تلك الصفات والميزات الإنسانية وتشويهها ، وتبقى صورته الظاهرية ، التي يتعامل بها مع الآخرين على حالها ، فيظن الناس فيه الخير والصلاح ، والنجاح والفلاح ، مع أن الأمر ليس كذلك ، بل هو يضم جناحيه على طبيعة هي للحيوان أقرب منها للإنسان ، فهو يحمل طبع الذئب أو الخنزير ، أو السبع ، أو غير ذلك ، ولكن صورته صورة إنسان ..

ولأجل ذلك ، فإن دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المشركين بتشويه الوجوه ، هو الطلب إلى الله تعالى أن يفضح أمرهم ، ويظهرهم على حقيقتهم.

٢ ـ وقد يفهم هذا الدعاء : على معنى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يطلب من الله تعالى : أن يحول هذه الوجوه ، التي يظهر عليها الإستبشار والإبتهاج بانتصار الباطل على الحق ـ يحولها ـ إلى وجوه كالحة ، يشوهها الغيظ والخزي ، والذل والشنار بنصر الحق الإلهي على باطلهم الشيطاني ..

٣ ـ وقد يكون المقصود هو : تشويه وجوههم بعذاب النار في الآخرة على قاعدة : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١).

__________________

(١) الآية ١٠٤ من سورة المؤمنون.

٢٥٢

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (١).

٤ ـ وقد يكون المقصود أيضا هو : مجموع ذلك. أو سواه من المعاني التي تناسب هذا المقام ..

كف الحصى :

وقد اختلفت الروايات المتقدمة : حول كيفية أخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كفا من حصى (أو من تراب).

هل نزل عن بغلته ، وأخذها بنفسه؟

أم أن البغلة نفسها انخفضت به حتى أخذ ما أراد؟

أم أن ابن مسعود ناوله إياها؟

أم ناوله إياها أبو سفيان بنفسه؟

أم ناوله إياها هو والعباس؟

وفي بعضها : أن عليا «عليه‌السلام» هو الذي فعل ذلك (٢).

وحاول الصالحي الشامي الجمع بين هذه الروايات ، فقال :

«والجمع بين ذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قال لصاحبه : ناولني ، فناوله ، فرماهم.

ثم نزل عن البغلة ، فأخذ بيده ، فرماهم أيضا.

فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين ، وفي الأخرى التراب. وأن كلا

__________________

(١) الآية ١٠٦ من سورة آل عمران.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠.

٢٥٣

ممن ذكر ناوله» (١).

ونقول :

يمكننا تصور وجه آخر للجمع ، وهو أن المشركين كانوا يعدون بعشرات الألوف ، فقيل : عشرون ألفا.

وقيل : أربعة وعشرون.

وقيل : ثلاثون.

وقيل : أضعاف عدد المسلمين.

فلعلهم انقسموا في هجومهم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين إلى عدة طوائف ، بسبب ضيق الوادي الذي تجري فيه الحرب. فكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأخذ الحصى ، أو التراب ، ويرميه في وجه كل طائفة ، ولعله أخذه مرة من العباس ، وأخرى من ابن مسعود ، وثالثة من علي «عليه‌السلام» ، ورابعة بانخفاض البغلة حتى تلزق بطنها بالأرض ، أو بنزوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنها. وربما كان يرميهم تارة بالتراب ، وأخرى بالحصى ..

وإنما قلنا هذا : لأننا لا نرى مبررا لتكرار رمي التراب في وجوههم ، فإن الله سبحانه لا بد أن يلقي في قلوب المهاجمين الرعب ، من أول مرة يرميهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها كما هو ظاهر.

معجزتان : فعلية وخبرية :

وقالوا أيضا : في رميه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكفار ، وقوله : «انهزموا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٥٠.

٢٥٤

ورب الكعبة الخ ..» معجزتان ظاهرتان لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

إحداهما : فعلية.

والأخرى : خبرية.

فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخبر بهزيمتهم ، ثم رماهم بالحصى ، فأثر ذلك فيهم ، فولوا مدبرين فعلا.

وفي رواية : استقبل وجوههم ، فقال : «شاهت الوجوه».

وهنا أيضا معجزتان : فعلية وخبرية (١).

فقد أخبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : عن أن هذا الأمر سيصيب وجوههم ، ثم كان لفعله تأثير في حصول ذلك لهم ..

نزول السكينة :

قال الطبرسي : (.. ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها ..) (٢). حين رجعوا إليهم وقاتلوهم.

وقيل : على المؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : علي ، والعباس ، في نفر من بني هاشم. عن الضحاك.

وروى الحسن بن علي بن فضال ، عن أبي الحسن الرضا «عليه‌السلام» أنه قال : السكينة ريح من الجنة ، تخرج طيبة ، لها صورة كصورة وجه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٥٠ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١١٦ ومرقاة المفاتيح ج ١١ ص ٢٧.

(٢) الآية ٢٦ من سورة التوبة.

٢٥٥

الإنسان ، فتكون مع الأنبياء (١).

وروي مثله عن العباس بن هلال (٢).

وروي في قول الله عزوجل : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) قال : هم الملائكة. (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا). قال : قتلهم بالسيف.

وروي أيضا عن سعيد بن جبير ، قال : «في يوم حنين أمدّ الله تعالى رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ويومئذ سمى الله تعالى الأنصار مؤمنين ، قال : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)» (٣).

وعن ابن مسعود ، قال : كنت مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٢٠٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٣ ص ٢١٢ و (ط دار الإسلامية) ج ٩ ص ٣٢٨ ومجمع البيان ج ٥ ص ١٧ و ١٨ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٣٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ٤٤٢ وراجع : البحار ج ١٣ ص ٤٥٠ و ٤٥١ وج ٢١ ص ١٤٧ وراجع : شجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٨٩ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ٣٣٧ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٨٤ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ١٢٦ وج ٢ ص ٢٠١ ومنتقى الجمان ج ٣ ص ٢٢.

(٢) البحار ج ١٣ ص ٤٥٠ و ٤٥١ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ٣٣٧ وتفسير العياشي ج ١ ص ١٣٣.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٧ عن ابن أبي حاتم ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٣ و (ط دار المعرفة) ص ٢٢٥ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٣ ص ٧٥٢ وج ٦ ص ١٧٧٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٩ وتفسير الثعالبي ج ٥ ص ٢٣ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٧٩.

٢٥٦

حنين ، فولى الناس عنه ، وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار ، فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما. (وفي نص آخر : فقمنا على أقدامنا) ولم نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل الله تعالى عليهم السكينة ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على بغلته لم يمض قدما الخ .. وقد تقدم (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم بعض الوقفات ، للتوضيح ، أو للتصحيح ، فلاحظ ما يلي :

حقيقة السكينة :

إن ما رواه الحسن بن فضال ، عن أبي الحسن الرضا «عليه‌السلام» في معنى السكينة ليس بالأمر المستهجن ، الذي يمكن المبادرة إلى رده بيسر

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٥ و ٣٢٩ و ٣٥٠ عن أحمد ، والحاكم ، والطبراني ، والبيهقي ، وأبي نعيم ، برجال ثقات. وفي هامشه عن : أحمد ج ١ ص ٤٥٣ والطبراني في المعجم الكبير ج ١٠ ص ٢٠٩ عن مجمع الزوائد ج ٦ ص ٨٤ و ١٨٣ والحاكم ج ٢ ص ١١٧. وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٢٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٥٨ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨ و ٣٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٣ ص ٧٩ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٠ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٦٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٨.

٢٥٧

وسهولة ، وإن كان قد تضمن بعض التعابير ، التي قد لا تروق لبعض الناس.

وذلك لأن السكينة كما قلنا : هي حالة من الرضا يلقيها الله على من يستحقها ، واستعد وتهيأ لها من عباده ، ليزدادوا بها إيمانا ، وتزيد بها طهارة قلوبهم ، وصفاء نفوسهم ..

ولكن ذلك لا يمنع من أن تكون لهذه السكينة تجليات خاصة بالنسبة للأنبياء ، تتناسب مع حالاتم صلوات الله وسلامه عليهم. وإن لم نستطع نحن أن ندرك حقيقة ذلك بدقة ، إذ يكفينا أن نعلم : بأن ثمة أمرا خاصا يمتازون به عن سائر الناس.

متى سمّى الله الأنصار مؤمنين؟! :

أما قول سعيد بن جبير : أنه تعالى سمى الأنصار مؤمنين «يوم حنين» فهو محض اجتهاد منه ، ويرد عليه :

أولا : إن الآيات القرآنية وصفت الذين كانوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنهم مؤمنون مثل قوله تعالى في أهل بيعة الشجرة : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

ومنها قوله تعالى عن فتح مكة : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ

__________________

(١) الآية ١٨ من سورة الفتح.

٢٥٨

كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (١).

وقال عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٢).

ولا شك في أن الأنصار كانوا من بين المؤمنين الذين ذكروا في هذه الآيات ، الواردة في سورة الفتح ، التي نزلت قبل حنين.

ثانيا : قد ذكرنا وسنذكر : أن النصر إنما كان على يد علي أمير المؤمنين فقط. فالسكينة إنما نزلت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلى علي «عليه‌السلام» فقط .. ولا أقل من أن يكون هذا الذي ذكرنا راجحا.

ثالثا : هل نستطيع أن نفهم من الكلام المنسوب لسعيد بن جبير : أن المقصود هو توهين أمر الأنصار ، وإثارة الريب في إيمانهم ، وتكريس الآيات التي تتحدث عن وجود مؤمنين مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنها تقصد خصوص المهاجرين ، رغم فرارهم في هذا الموطن وسائر المواطن؟!

رابعا : تقدم أن الضحاك يقول : إن السكينة إنما نزلت على خصوص الذين ثبتوا مع رسول الله ، وهم علي «عليه‌السلام» والعباس ، في نفر من بني هاشم ..

وهذا معناه : أن المقصود بالمؤمنين هم خصوص هؤلاء ، وهم من المهاجرين لا من الأنصار ، فما معنى قول ابن جبير : إن السكينة نزلت على الأنصار؟!

__________________

(١) الآية ٢٦ من سورة الفتح.

(٢) الآية ٤ من سورة الفتح.

٢٥٩

قيمة رواية ابن مسعود :

وأما رواية ابن مسعود المتقدمة ، فنقول فيها :

أولا : إن المهاجرين فروا مع الفارين .. فلا معنى لحشر اسمهم في جملة من ثبت ، إلا إن كان المقصود بهم خصوص علي «عليه‌السلام» والعباس ، ونفر من بني هاشم ..

ولكن يبقى سؤال : لماذا هذه التعميمات الموهمة ، والتعميمات المضللة؟!

ثانيا : ما زعمه من أن الثمانين لم يولوا الدبر غير صحيح ، بل الجميع قد ولى الدبر باستثناء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي «عليه‌السلام» .. وبعض بني هاشم الذين احتوشوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لكي يحموه من سيوف الأعداء ..

وسنوضح هذه الحقيقة بصورة أتم في مقام آخر.

جبنهم ونزول السكينة :

قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

وقد زعموا : أن سبب نزول السكينة على المسلمين ليس هو جبنهم ،

__________________

(١) الآيات ٢٥ ـ ٢٧ من سورة التوبة.

٢٦٠