السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧١
يعرفوا مصير النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فلا معنى للمخاطرة بالعودة إلى ساحة القتال ، لأن ذلك إلقاء للنفس إلى التهلكة بلا وجه ظاهر ..
الخزرج صبّر عند الحرب :
ثم إنهم حين يترقبون سؤالا يحرجهم ، وهو : لماذا كان الخزرج هم السبّاقون لإجابة نداء الرسول «صلىاللهعليهوآله» ، والعودة إلى ساحة القتال دون الأوس ، ودون سائر المهاجرين؟!
ولماذا خص النبي «صلىاللهعليهوآله» الخزرج بندائه ، وخصهم الأنصار أنفسهم بالدعوة أيضا؟!
نعم .. إنهم يترقبون سؤالا من هذا القبيل يبادرون إلى الإجابة بطريقة ضمنية ، ويوردون الكلام بعفوية طبيعية ، ويرسلونه إرسال المسلمات ، فيقولون : إن الخزرج صبّر عند اللقاء.
ونقول :
١ ـ ولا ندري كيف ، ولماذا كان الخزرج كذلك دون إخوانهم من الأوس ، فضلا عن غيرهم من قبائل المنطقة؟! مع أنهم كانوا في الجاهلية يتصاولون مع الأوس تصاول الفحلين.
ولم يظهر لنا : أنهم قد عرفوا بهذه الخصوصية قبل حرب حنين ..
٢ ـ ولو كانت هذه صفتهم ، فلماذا هربوا قبل لحظات ولم يصبروا كما صبر علي «عليهالسلام» ، ونفر من بني هاشم؟!
إن الحقيقة هي : أن الخزرج كانوا ـ بصورة عامة ـ أكثر إيمانا ، والتزاما ، وطاعة لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» من غيرهم ، وقد عرف فيهم النبي
«صلىاللهعليهوآله» ذلك فخصهم بالنداء .. وعمّ الأنصار .. فكانوا أسرع استجابة ، فصاروا ينادون يا للأنصار ، على أمل أن يلتحق بهم غيرهم من سائر القبائل ، فلما لم يبادر أحد إلى ذلك صاروا يقولون : يا للخزرج ـ حسبما تظهره النصوص التي ذكرناها فيما سبق ..
هل هذا خطأ؟! :
وقد ذكرت رواية ابن مسعود المتقدمة : أنه «صلىاللهعليهوآله» ، «لم يمض قدما». أي أنهم يريدون القول : بأنه «صلىاللهعليهوآله» قد ثبت في موضعه ، ولم يتقدم للقتال ، مكتفيا بالدفاع عن نفسه ، وحفظ موقعه بانتظار عودة المنهزمين لمهاجمة الكافرين ، ليكون تحقيق النصر على المشركين على أيديهم .. مع ان ذلك غير صحيح.
والظاهر : أن هذا من أخطاء النساخ.
والصحيح هو : أن يقال : «لم يزل يمضي قدما» وعلي «عليهالسلام» يهد المشركين هدا بعد ان قتل صاحب لوائهم. وتحقق النصر.
وقد صرحت الروايات المتقدمة نفسها ، بالقول : «فطفق رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يركض بغلته قبل الكفار ، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..».
وفي رواية : «أكفها أن لا تسرع ، وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين» (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٢ والدر المنثور ج ٤ ص ١٦٠ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ١٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٠٧ وراجع :
المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٧٩ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٩٤ وكنز
ركض صلىاللهعليهوآله بغلته نحو علي عليهالسلام :
وقد تقدم في حديث الشيخ المفيد : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لما رأى الهزيمة ركض نحو عليّ بغلته ، فرآه قد شهر سيفه الخ .. (١).
ولم تفصح الروايات : عن سبب ذلك منه «صلىاللهعليهوآله» ، فهو يعرف : أن عليا «عليهالسلام» لا يمكن أن يفرّ من ساحة المعركة .. فلعله أراد ان يطمئن على سلامته من أي سوء ، وأن يؤكد موقعه «عليهالسلام» في ساحة الجهاد ، لكي لا يحاول المغرضون نسبة الأباطيل إليه «عليهالسلام» ، وخداع البسطاء من الناس بها.
ولعل هذه الرواية قد حرّفت وحذفت منها كلمة «نحو علي» ووضع مكانها «نحو المشركين» أو «قبل الكفار» كما ورد في روايات الآخرين ، من الذين يحاولون مساواة علي «عليهالسلام» بغيره.
وفي بعض هذه الروايات : «.. كان النبي «صلىاللهعليهوآله» يركض ناحية هوازن (الكفار) ويقول :
__________________
العمال ج ١٠ ص ٥٤٦ وتفسير القرآن للصنعاني ج ٢ ص ٢٦٩ وجامع البيان (ط دار الفكر) ج ١٠ ص ١٣١ وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ١٣٤ ومسند أبي عوانة ج ٤ ص ٢٧٧ وفضائل الصحابة ج ٢ ص ٩٢٤ و ٩٢٧ والمنتظم ج ٣ ص ٣٣٤.
(١) البحار ج ٢١ ص ١٥٠ و ١٥١ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٣١ و ٣٣٢ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٤٥٩ و ٤٦٠ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢٣٤ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٩٩ و ٢٠٠ وتفسير القمي ج ١ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٤ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١١.
أنا النبي لا كذب |
|
أنا ابن عبد المطلب»(١). |
مع ملاحظة : أن تعبيرهم أيضا ليس فيه شيء من الكذب ، لأن عليا «عليهالسلام» كان يغوص في أوساط المشركين ، ويقتل منهم من حضرت منيته ، ومن بلغ إليه سيفه.
النبي صلىاللهعليهوآله يطالب المهاجرين بعهدهم :
ويستفاد من النصوص المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» حين قال للعباس : ناد بالقوم ، وذكرهم العهد ، إنما قصد بذلك خصوص المهاجرين.
ويدل على ذلك : ما ورد في حديث عثمان بن شيبة المتقدم ، حيث قال «صلىاللهعليهوآله» : «يا عباس ، إصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة ، وبالأنصار الذين آووا ونصروا».
فإن الأنصار والمهاجرين معا قد بايعوا النبي «صلىاللهعليهوآله» تحت الشجرة ، فما معنى تخصيص المهاجرين بهذا الوصف ، وتوصيف الأنصار بالذين آووا ونصروا؟!
__________________
(١) السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١٠ وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٥٨٠ وتفسير السعدي ج ١ ص ٣٣٣ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٥٦ وتيسير الكريم الرحمن في كلام المنان ص ٣٣٣ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٦٧ والتفسير الكبير ج ١٦ ص ١٨ ومناهل العرفان ج ٢ ص ٢٦٩ وشرح الزرقاني على الموطأ ج ٣ ص ٢٧ وراجع : تفسير الثعلبي ج ٥ ص ٢٣ وإمتاع الأسماع ج ٧ ص ٢١٧ وروح المعاني ج ١٠ ص ٧٤ وفتح الباري ج ٨ ص ٣١ وعمدة القاري ج ١٤ ص ١٥٧.
ألا يؤكد هذا : على أن المقصود هو تسجيل إدانة للمهاجرين ، من حيث إنهم لم يفوا بعهدهم ، ومن حيث أن وازعهم للعودة هو وفاؤهم بالعهود التي يعطونها ، وهو ما يلتزم به حتى الإنسان الجاهلي.
وأما الأنصار ، فإنهم وإن أسرعوا في الفرار في بادئ الأمر ، إلا أن إيواءهم ونصرتهم تكفي حافزا لهم على سرعة العودة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لكي يحفظوه ، ويطيعوه ، وليحفظوا جهدهم ، ولا يبطلوا جهادهم ، وذلك هو ما يفرض عليهم الإلتزام والطاعة.
وهذا يشير إلى اختلاف أساسي بين النظرتين ، وبين الفريقين ..
ويدل على نوع الوعي ، ودرجة الإيمان ، وحوافز الإلتزام لدى هؤلاء ، وأولئك ، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.
حياء الأنصار من رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وقد تقدم في حديث القمي : أن الأنصار حين عادوا إلى القتال ، استحيوا من أن يرجعوا إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ولحقوا بالراية في ساحة المعركة مباشرة.
وهذا يشير إلى : أن ثمة معاني إنسانية ، وقيما أخلاقية تهيمن على الأنصار ، وتؤثر في سلوكهم وحركتهم .. وعلى قاعدة : الحياء من الإيمان. يكون ذلك دليلا على بعض نفحات الإيمان فيهم أيضا.
من هؤلاء يا أبا الفضل؟! :
وسأل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» العباس بن عبد المطلب عن أولئك الناس الذين كانوا يرجعون إلى ساحات القتال ، فيقول : من هؤلاء
يا أبا الفضل؟!
فيقول : يا رسول الله ، هؤلاء الأنصار.
فهل كان العباس «رحمهالله» أعرف بهم من رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟! ولماذا خفي أمرهم على النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وظهر لغيره؟!
إن الجواب الأقرب إلى الإعتبار هنا هو : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان يريد من العباس أن يعلن هوية الراجعين على الملأ ، ليعرف الناس الفضل لأهل الفضل ، ولكي يقطع الطريق على المترصدين من سارقي الفضائل ، ومنتحلي المواقف كذبا وزورا. حتى لا يحرموا الأنصار من حقهم ، وفضلهم بالسطو على هذه الفضيلة ايضا في جملة ما يسطون عليه.
وهكذا يقال أيضا : حين رأى «صلىاللهعليهوآله» أبا سفيان بن الحارث وهو مقنع بالحديد ، فسأل عنه ، فأجابه أبو سفيان : ابن عمك يا رسول الله ..
تناقضات .. يلاحظها القارئ :
وقد يلاحظ القارئ الكريم : أن ثمة تناقضات فيما بين الروايات ..
فمن ذلك : اختلاف الروايات في الذي ناول النبي «صلىاللهعليهوآله» الحصى ، أو التراب ، أو أن النبي «صلىاللهعليهوآله» تناوله بنفسه .. وهل نزل عن البغلة من أجل ذلك؟ أم أنها هي التي انخفضت به؟ وقد تقدم ذلك .. وتقدم أن من الممكن دفع التناقض المتوهم.
ومنه أيضا : أن عودة الأنصار هل كانت لسماعهم نداء العباس ، أو لسماع نداء الرسول «صلىاللهعليهوآله» نفسه؟!
ويمكن حل هذا التناقض : بأن من الممكن أن يعود فريق لسماعه صوت النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ويعود فريق آخر لسماعه صوت العباس.
ومنه : الإختلاف في موقع العباس ، وأبي سفيان بن الحارث من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بعد فرار المسلمين.
فهل كان أبو سفيان آخذا بركاب النبي «صلىاللهعليهوآله»؟ أم بغرزه؟ أم بثفر السرج؟
وهل كان الآخذ بعنان البغلة هو العباس؟ أم أبو سفيان بن الحارث؟
وهل كان العباس أمامه «صلىاللهعليهوآله»؟ أم كان آخذا بلجام البغلة؟ أم كان عن يمينه؟
ويمكن أن يدفع هذا التناقض : بأن الحالات قد اختلفت ، فتارة كان هذا يأخذ بعنان البغلة ، وأخرى ذاك. وتارة يكون أمامه ، وأخرى يكون خلفه ، وغير ذلك.
ومنه : الإختلاف في نداء النبي «صلىاللهعليهوآله» والعباس.
هل كان للأنصار فقط؟ أم كان للأنصار والمهاجرين معا؟ وقد تقدم ذلك.
ويمكن دفع التناقض : بأنه «صلىاللهعليهوآله» ناداهم جميعا أولا ، ثم خص الأنصار بالنداء ، حين رأى أن المهاجرين لا يلوون على شيء.
ومنه : الإختلاف في عدد من ثبت مع النبي «صلىاللهعليهوآله» كما سيأتي إن شاء الله تعالى ..
ومنه : الإختلاف في أنهم بعد عودتهم من فرارهم إلى ساحة المعركة هل قاتلوا أم لا؟
ومنه : الإختلاف في الذين نزلت عليهم السكينة. وقد أوضحنا ذلك فيما سبق ، وربما نعود إلى التوضيح.
ومنه : اختلاف الروايات في أن هوازن خرجت من الشعاب على النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فثبت لهم. أم خرجت على المسلمين ، فانهزموا؟ كما سنرى.
النبي صلىاللهعليهوآله يركب بغلة :
إنه لا شك في أنه كانت لدى النبي «صلىاللهعليهوآله» خيول معروفة بأسمائها وأعيانها ، مثل الظرب ، ولزاز.
ولكننا نقرأ في النصوص المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يركب شيئا من الخيل في حنين ، بل كان يركب البغلة الشهباء ، أو تلك المسماة بدلدل.
ولعل ذكر الفرس في حديث عبد الرحمن الفهري ، حيث قال : إنه «صلىاللهعليهوآله» اقتحم عن فرسه ، فأخذ كفا من تراب ، قد ورد سهوا من الراوي ، وإذ قد ظهر ذلك ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو :
لماذا لم يركب «صلىاللهعليهوآله» فرسا ، فإنها أقدر على التحرك السريع في ساحات القتال؟!
ويؤكد ضرورة اختيار الخيل هنا : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان هو المستهدف الأول لكل تلك الجيوش والكتائب ، وستكون همتها مصروفة للوصول إليه .. وسيكون ركوبه البغلة من دواعي الحرص على استهدافه بالهجمات ، حيث يترجح لدى أعدائه احتمال تمكنهم من إلحاق الأذى به «صلى
الله عليه وآله».
ونقول في الجواب :
لعل السبب في هذا الإختيار هو :
١ ـ أن ذلك يدل على : أن ثمة شجاعة نادرة ، وثباتا لا مثيل له لدى رسول الله «صلىاللهعليهوآله». «لأن ركوب الفحولة مظنة الإستعداد للفرار والتولي. وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار ، والأخذ بأسباب ذلك كان أدعى لاتباعه» (١).
٢ ـ إن النبي «صلىاللهعليهوآله» كان قد وعد المسلمين النصر ، وأن يجعل الله ما جاؤوا به من أموال ، وأنعام وسواها ، غنائم للمسلمين. فإذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» يركب بغلة ، وليس فرسا ، وقد فر عنه جميع من كان معه وهم اثنا عشر ألفا ، أو أكثر ، أو أقل ، وقد أصبح هو وابن عمه علي «عليهالسلام» ، وربما بضعة أشخاص آخرين من بني هاشم وحيدين في بلاد الأعداء النائية ، وإذا كان اعداؤه الذين يهاجمونه هم أهل البلاد ، العارفون بمسالكها ، وفجاجها ، ومضايقها ، وهم على درجة كبيرة من الكثرة ، ووفرة العدد ، وحسن العدة ، حتى إن عددهم قد يصل إلى عشرين ألف سيف ، أو أزيد من ذلك.
وإذا كان قد تفرق عنه جيشه في تلك البلاد وتاه في أرجائها ، حتى لم يعد يمكن جمعه ، ولا الإعتماد عليه في تحقيق أي شيء يؤثر على مصير الحرب ..
فإذا كان الأمر على هذا الحال .. فإن المتوقع هو أن يغير النبي «صلى الله
__________________
(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤٩ وفتح الباري ج ٨ ص ٢٦.
عليه وآله» من مسير حركته ، وان يدخل تغييرات أساسية على أوضاعه الأمنية ، والقتالية ، ليتمكن من تجاوز هذه المحنة بسلام.
ولكن هذا النبي «صلىاللهعليهوآله» العظيم والكريم لم يتخذ أي إجراء احتياطي حتى في هذه الحال الشديدة ، فلم يبحث عن مركوب يستطيع بحركته السريعة أن يمكّن من يمتطيه ، ليس من الخروج من ساحة القتال ، وإنما من حفظ نفسه ـ ولو من خلال المراوغة السريعة ـ من هجمات أعدائه المتتابعة.
بل بقي في موقع التحدي والتصدي ليحقق النصر ، الذي كان قد وعد الناس به ، فكان له ما أراد ، على يد أحب الخلق إلى الله تعالى ، وإليه ، وهو علي بن أبي طالب «عليهالسلام».
وليكون ذلك دليلا آخر على صدقه ، وعلى نبوته «صلىاللهعليهوآله» ، وعلى أنه متصل بالغيب ، ومؤيد بالله ، ومسدد بألطافه ، ومحاط بعناياته الظاهرة والخفية.
٣ ـ والذي زاد من وضوح هذه المعجزة الظاهرة ، وسطوع هذه الكرامة الباهرة : أنه «صلىاللهعليهوآله» يعلن للناس عن نفسه ، ويصرح لهم باسمه الشريف ، ليسمعه الأعداء منهم والأصدقاء على حد سواء.
ومضمون هذا الإعلان هو : إخبارهم بأنه سينتصر ، كما أخبرهم ، مضيفا إلى ذلك أنه قد جعل نفس النبوة رهينة بهذا النصر .. ويكون هذا منه في الوقت الذي يرى كل أحد أنه لا يملك شيئا ، يمكن أن يعطي أية فرصة مهما كانت ضئيلة لذرة من خيال لاحتمال نجاة له من عشرين ألف سيف يحيطون به ، بعد أن فرّ عنه جميع أنصاره ، وتركوه في بلاد عدوه وحيدا فريدا.
وقيل : إن جيش الكفار كان ضعفي المسلمين في العدد ، وأكثر من ذلك. «ولذا جزم في النور : بأن هوازن كانوا أضعاف الذين كانوا معه «صلىاللهعليهوآله» ..» (١).
وتقدم القول : بأن بعض جيش المشركين كان ثلاثين ألفا.
وذكر الثعالبي : أنهم كانوا ثلاثين ألفا (٢).
والدليل على أنه «صلىاللهعليهوآله» قد جعل نفس نبوته رهينة بهذا النصر : أنه «صلىاللهعليهوآله» كان يعرّف الناس بموقعه وبمكانه ، ويتحدث عن نفسه لهم ، بعنوان : أنه الذي يحمل صفة النبوة ، التي «يستحيل معها الكذب. ويقول :
أنا النبي لا كذب |
|
أنا ابن عبد المطلب (٣) |
وكأنه «صلىاللهعليهوآله» قال : لأنني أنا النبي. والنبي لا يكذب ،
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٥١.
(٢) راجع : تفسير الثعالبي ج ٣ ص ١٧٢ وراجع : السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ و (ط دار المعرفة) ص ٦٦.
وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٨٢.
(٣) مصادر هذه الفقرات كثيرة ، فراجع على سبيل المثال : إعلام الورى ص ١٢٢ والبحار ج ٢١ ص ١٦٧ والإرشاد ج ١ ص ١٤٣ وأمالي الطوسي ص ٥٧٤ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٨١ وسنن الترمذي ج ٣ ص ١١٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٢٤٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٣ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٨١ و ٢٨٩ وصحيح البخاري ج ٣ ص ٢١٨ و ٢٢٠ وج ٤ ص ٢٤ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٨.
فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم ، وأنا متيقن من أن الذي وعدني به الله من النصر حق.
«وقيل معنى قوله : لا كذب. أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك» (١).
ونظير هذا الموقف رواه لنا محمد بن سنان عن الإمام الرضا «عليهالسلام» ، فإنه قال له في أيام هارون : إنك قد شهرت نفسك بهذا الأمر ، وجلست مجلس أبيك ، وسيف هارون يقطر بالدم؟!.
قال : جرأني على هذا ، ما قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة ، فاشهدوا أني لست بنبي.
وأنا أقول لكم : إن أخذ هارون من رأسي شعرة ، فاشهدوا أني لست بإمام (٢).
٤ ـ ثم إنه «صلىاللهعليهوآله» قد نسب نفسه إلى عبد المطلب ، لشهرة أمر عبد المطلب في البلاد والعباد ، لما رزقه من نباهة الذكر ، وطول العمر ..
__________________
(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤٩ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٢٥ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٢٧٤ وراجع : فيض القدير ج ٣ ص ٤٩ ومجمع البحرين ج ٤ ص ٢٨ والتيسير بشرح الجامع الصغير ج ١ ص ٣٧٤.
(٢) راجع : الكافي ج ٨ ص ٢٥٧ و ٢٨٥ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٣٥٦ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٤٥١ والبحار ج ٤٩ ص ٥٩ و ١١٥ والأنوار البهية ص ٢١٧ ومدينة المعاجز ج ٧ ص ٢٢٧ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٣٩٥ ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج ١ ص ١٦٥ وراجع : حياة الإمام الرضا «عليهالسلام» للقرشي ج ١ ص ٤١ وج ٢ ص ٢٢٧ وعن أعيان الشيعة ج ٤ ق ٢ ص ٩٧ والحياة السياسية للإمام الرضا «عليهالسلام» ص ٣٢٤.
ولم يكن لعبد الله والد النبي «صلىاللهعليهوآله» شهرته.
٥ ـ والأهم من ذلك كله : أنه «صلىاللهعليهوآله» ـ كما ذكر في الروايات المتقدمة ـ قد نزل عن بغلته حين غشيه الأعداء ، وذلك مبالغة منه في إظهار الإصرار على الثبات والصبر مهما كانت النتيجة ، فإن توهم أحد أن للبغلة أي أثر في حفظ نفسه الشريفة «صلىاللهعليهوآله» ، أو التسريع في خروجه من دائرة الخطر ، فإن نزوله عنها يبدد هذا الوهم ، ويمحو أثره من الوجود ..
يضاف إلى ذلك : أن ذلك يتضمن مواساة منه «صلىاللهعليهوآله» لمن ثبت وجاهد ، وعرّض نفسه للخطر ، أو لاحتمالاته ، أو احتمالات الضرر ، فإنه «صلىاللهعليهوآله» لا يرغب بنفسه عن أنفسهم.
٦ ـ ثم إن هناك تصعيدا آخر في موقفه الحازم والصارم هذا ، وهو : أن الروايات قد ذكرت : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد تجاوز موضوع اختيار البغلة كمركوب له في ساحات الخطر ..
ثم النزول عنها ليصبح راجلا.
ثم تعريف الناس بمكانه ، وبصوته ، وأنه ما زال على قيد الحياة.
نعم .. لقد تقدم خطوة أخرى باتجاه الخطر الهائل الذي يتحاشاه أعظم الناس بطولة وبسالة ، وأشدهم إقداما ، وشجاعة .. وهو أنه حين غشوه ، وأصبح راجلا ، صار يتقدم باتجاه أعدائه ..
ولا شك في أن هذا سيفاجئ الأعداء ، ويصدمهم ، ويثير أمامهم احتمالات تزلزلهم ، وتشوش الموقف أمام أعينهم ، وستختلط عليهم الأمور ، وتتناقض المشاعر ، وسيفهمون ذلك على أنه كرامة ، بل معجزة ، لا يجوز لهم متابعة التحدي لها ، لأن ذلك سيعرضهم لأخطار لم يحسبوا لها
حسابا ، ولم تخطر لهم على بال ، ولا مرت لهم في خيال ..
وتتبلور تلك الصدمة الكبرى برؤيتهم عليا «عليهالسلام» ، وهو يحصدهم حصدا ، بسيف يتوالى لمعانه لهم كأنه شعلة نار ، يتجلى فيها غضب الجبار ، وهي تجري فيهم حكم الواحد القهار.
٧ ـ كما أن المهزومين من المسلمين ، سوف يصعقون لهذه المفاجأة ، وستتأكد لديهم المعجزة ، والرعاية الإلهية ، والحفظ الرباني لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وتأييده بنصره ، وسيثير ذلك مشاعر الندم لدى طائفة كبيرة منهم ، ويعطيهم القوة والعزيمة ، ويدعوهم إلى تدارك ما بدر منهم ، والعودة إلى ساحة الحرب ، والشدة في الطعن والضرب.
نعم .. إن ذلك لا بد أن يعطي الكثير منهم القوة في الإيمان ، والنفاذ في البصيرة ، والصدق في العزيمة ، والحماس للتضحية ، والرغبة في مثوبة الله تبارك وتعالى.
النبي صلىاللهعليهوآله والشعر :
وقد تقدم : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد قال حين فرّ عنه الناس :
أنا النبي لا كذب |
|
أنا ابن عبد المطلب |
وهذا الكلام له وزن الشعر ، فهل يعتبر قائله شاعرا؟!
وكيف نوفق بين ذلك ، وبين القول : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يكن شاعرا؟! ..
ونجيب :
أولا : إن الكلام العادي ، قد يأتي على وزن الشعر في بعض الأحيان ،
ولكنه لا يعد شعرا إلا إذا قصد ذلك منه.
والشاهد على ذلك : أنه قد ورد في القرآن بعض من ذلك ، ولم يقل أحد : إن القرآن قد تضمن شعرا.
فقد قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١).
وقال : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) (٢).
وقال سبحانه : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (٣).
ولكن ذلك لا يصحح القول : بأن القرآن قد تضمن بيتا من الشعر ، أو شطر بيت ، ولم يقل ذلك أحد من المشركين ، والذين اتهموا النبي «صلىاللهعليهوآله» ، بأنه شاعر لم يستطيعوا أن يتخذوا من هذه الآيات شاهدا على مزاعمهم ، بل إن الناس كذبوهم في مزاعمهم هذه ..
ولم يستطيعوا أن يردوا قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٤).
ولا قوله عزوجل : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (٥).
بادّعاء : أن الآيات التي ذكرناها آنفا تدل على خلاف ما دلت عليه هاتان الآيتان.
__________________
(١) الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.
(٢) الآية ١ من سورة الكوثر.
(٣) الآية ٢ من سورة الزلزلة.
(٤) الآية ٦٩ من سورة يس.
(٥) الآية ٤١ من سورة الحاقة.
ثانيا : إن الآيات حين نفت عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يكون شاعرا ، فإنما أرادت أن تقول أمرين :
الأول : أن الشعر مما لا يليق بالأنبياء «عليهمالسلام» ، وقد نزه الله تعالى عنه نبيه الكريم «صلىاللهعليهوآله» ، رفعا لدرجته ، وتنزيها لساحته عن أن يكون ممن يزين المعاني الشعرية بالتخييلات الكاذبة ، والأوهام الباطلة.
الثاني : أن هذا القرآن لم يعتمد الطريقة الشعرية في بيان مقاصده. لكن ذلك لا يعني أن لا يصدر عن النبي «صلىاللهعليهوآله» كلام يتوافق مع وزن بيت ، أو شطر بيت من الشعر.
بيان ذلك : أن الشعر يقوم على أمرين :
أحدهما : اعتماد الأمور الخيالية ، والأوهام ، والتزيينات اللفظية والبديعية ، في عرضه للمعاني على القلوب والنفوس ، ودفعها للقبول بها.
الثاني : التزام الوزن بما له من موسيقى مثيرة ، وإيقاع مؤثر كأسلوب آخر من أساليب التسويق للمقاصد والمعاني ، التي يراد إبعادها عن مجال التأمل والتحليل العقلي ، فتلقى إلى القلوب والنفوس عبر المشاعر والإنفعالات فتتلقفها ، وتتفاعل معها من دون فكر وروية ، وبلا تدبر في الأبعاد ، والأسباب ، أو في الأهداف والنتائج.
أما إذا جاء الكلام موزونا ، ولكن من دون أن يكون للإيقاع والوزن أي تأثير في التسويق للمعنى ، ومن دون أن يعطل دور العقل في التأمل والتفكر ، والتحليل ، والتدبر ، ومن دون أن تمازج تلك المعاني خيالات أو أوهام. فإن هذا الكلام لا يكون مشمولا لما نزه الله نبيه عنه تجلية منه وتكريما له ، وتنزيها عنه.
وهذا هو السبب في أن وجود فقرة أو فقرات يتوافق وزنها مع وزن بعض الشعر لم يجعل هذه الفقرات من الشعر ، ولا يكون نقضا للقاعدة التي أطلقها القرآن حول الشعر والشعراء ، وحول القرآن ، والأنبياء. إدانة ورفضا ، وحلا ونقضا.
النبي صلىاللهعليهوآله يركض البغلة ، والعباس يكفها :
ونقرأ في الروايات المتقدمة : كيف أن النبي كان يركض البغلة نحو الكفار ، وكان العباس يكفها ، بعد أن ولى المسلمون مدبرين.
ومن الواضح : أن هذا الهجوم على الأعداء من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من شأنه أن يرعبهم ، لا سيما وهم يرون أنه راكب على بغلة ، تقصر به عن بلوغ مراده في ساحة الحرب ، فاندفاعه الواثق والقوي هذا يجعل المشركين يحسبون ألف حساب لما يمكن أن يكون معتمده ، وما يريد أن يحققه. ولا بد أن يمنعهم ذلك من الإقدام والمغامرة ، أو هو على الأقل يوجب قدرا من التردد لديهم في ذلك ..
أما العباس فهو يكف البغلة عن الإسراع باتجاه العدو ، لأنه يرى أن من واجبه أن يحتاط للأمر ، ويحفظ حياته وحياة رسول الله «صلىاللهعليهوآله». وهو لا يلام في ذلك ، لأنه لا يقصد مخالفة الرسول ، ولا يريد إبطال تدبيره ..
على أن هذا الاندفاع من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كان لأجل أن يكون بالقرب من أخيه علي «عليهالسلام» ، الذي كان قد غاص في أوساط الأعداء ، حتى افتقده العباس ، وظن أنه تخلى عن موقعه ، وعن دوره ، فأطلق
كلمات تبرّم وشك ، فدلوه على موقعه فيما بين تلك الكتائب المتكالبة على قتله ، وقتل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومن معهما من المؤمنين.
الفصل الثاني :
هزيمة المشركين على يد علي عليهالسلام