الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

فالتقى المسلمون والمشركون ، فولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله تعالى ، وبقي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحده ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا عباد الله ، أنا عبد الله ورسوله».

ونادى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نداءين لم يخلط بينهما كلاما ، فالتفت عن يمينه ، فقال : «يا معشر الأنصار ، أنا عبد الله ورسوله».

فقالوا : «لبيك يا رسول الله ، نحن معك».

ثم التفت عن يساره ، فقال : يا معشر الأنصار ، أنا عبد الله ورسوله.

فقالوا : لبيك يا رسول الله ، نحن معك.

فهزم الله تعالى المشركين ، ولم يضرب بسيف ، ولم يطعن برمح (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٥ عن ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وقال في هامشه : أخرجه أحمد ج ٣ ص ١٩٠ و ٢٧٩ وج ٥ ص ٢٨٦ وابن سعد ج ٢ ق ١ ص ١١٣ وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٣٠ و ٥٣١ والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ١٤١ وفي السنن ج ٦ ص ٣٠٦ والدولابي في الكنز ج ١ ص ٤٢ وانظر الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ وراجع : السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٨ و ١٠٩ والمصنف ج ٨ ص ٥٥١ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٥٠ وصحيح البخاري ج ٤ ص ١٥٦٧ و (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٠٦ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٧٣٥ و (ط دار الفكر) ج ٣ ص ١٠٦ والمسند المستخرج على صحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٣ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٨٨ والجمع بين الصحيحين ج ٢ ص ٤٩٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤١٦ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٨٠ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٣١١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٧ و (ط دار إحياء التراث العربي) ص ٤٠٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٧٥.

٢٠١

تراجع الأنصار ، لسماع صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ويقول أبو بشير المازني : إنه حين رأى المقدمة قد انهزمت ، وصار الناس ينهزمون معها : «وأكرّ في وجوه المنهزمين ، ليس لي همة إلا النظر إلى سلامة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى صرت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يصيح : «يا للأنصار».

فدنوت من دابته ، والتفت من ورائها ، وإذا الأنصار قد كروا كرة رجل واحد ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واقف على دابته في وجوه العدو.

ومضت الأنصار أمام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقاتلون ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سائر معهم يفرجون العدو عنه ، حتى طردناهم فرسخا ، وتفرقوا في الشعاب ، حتى فلوا من بين أيدينا.

فرجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى منزله وقبته ، وقد ضربت له ، والأسرى مكتفون حوله ، وإذا نفر حول قبته. وفي قبته زوجاته : أم سلمة وميمونة ، حولها النفر الذين يحرسون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهم : عباد بن بشر ، وأبو نائلة ، ومحمد بن مسلمة (١).

وفي نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نادى أصحابه ، وذمرهم : «يا أصحاب البيعة يوم الحديبية ، الله ، الله الكرة على نبيكم».

وقيل : إنه قال : «يا أنصار الله وأنصار رسوله ، يا بني الخزرج» ، وأمر العباس بن عبد المطلب فنادى في القوم بذلك ، فأقبل إليه أصحابه سراعا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٩ و ٣٢٠ عن الواقدي.

٢٠٢

يبتدرون (١).

ونقول :

قد تضمنت النصوص المتقدمة أمورا نشير إلى طائفة منها ، كما يلي :

المشركون خرجوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ويذكرون في تبرير هزيمتهم : أن المشركين اختبأوا في مضايق الوادي ، وشعابه ، وأجنابه ، وتهيأوا ، قالوا : «فما راعنا إلا كتائب الرجال بأيديها السيوف ، والعمد ، والقنا ، فشدوا علينا شدة رجل واحد ، فانهزم الناس راجعين ..» (٢).

ولكن الشيخ المفيد يقول : إنه بعد أن فرّ المسلمون ، وبعد نداء العباس : «وكانت ليلة ظلماء ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الوادي ، والمشركون قد خرجوا عليه من شعاب الوادي ، وجنباته ، ومضايقه ، مصلتين سيوفهم ، وعمدهم وقسيهم» (٣).

__________________

(١) الإرشاد ج ١ ص ١٤٢ والبحار ج ٢١ ص ١٦٧ وراجع ص ١٥٦ و ١٥٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٨ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٣٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٦ وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ١٣١ والإكتفاء ج ٢ ص ٢٤٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٦ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٥٧٨.

(٢) إعلام الورى ص ١٢١ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٣٠ والبحار ج ٢١ ص ١٦٦ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٣٤٧ وراجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٨١ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٩ والدر النظيم لابن حاتم العاملي ص ١٨٢.

(٣) الإرشاد ج ١ ص ١٤٢ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٨٤ والبحار ج ٢١ ص ١٥٦ و ١٥٧ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٩.

٢٠٣

ولعل شدة المشركين على المسلمين شدة رجل واحد ، قد أرعبت المسلمين ، فهربوا ، ثم خرج باقي المشركين على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المضائق والشعاب ، بأيديهم العمد ، والسيوف ، والقسي.

أنا ابن العواتك :

عن سيابة بن عاصم السلمي : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال يوم حنين : «أنا ابن العواتك» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٣٢٣ وج ٥ ص ٣٣٦ عن الطبراني ، وفي هامشه عن :

الطبراني في الكبير ج ٧ ص ٢٠١ ، وانظر مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢١٩ والبيهقي في الدلائل ج ٥ ص ١٣٥ وسعيد بن منصور (٢٨٤٠ و ٢٨٤١) وابن عساكر كما في التهذيب ج ١ ص ٢٨٩ وراجع : عمدة القاري ج ١٤ ص ٢٨٧ والمعجم الكبير (ط دار إحياء التراث) ج ٧ ص ١٦٩ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٢ ص ٦٩١ شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٦٧ عن الواقدي ، وكنز العمال ج ١١ ص ٤٤٣ وج ١٢ ص ٤٣٨ وطبقات خليفة بن خياط ص ١٠١ والجرح والتعديل ج ٤ ص ٣٢١ والثقات ج ١ ص ٢٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٠٧ و ١١٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٨٢ وج ٤ ص ١٨٤ وتذكرة الحفاظ ج ٣ ص ١٠٦٧ والإصابة ج ٣ ص ١٩٤ وج ٥ ص ٣٠٤ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٨٠ والوافي بالوفيات للصفدي ج ١٦ ص ٣٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٥ و ٣٧٦ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ١٦٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٢٢ و ٦٢٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٦٧ وج ٢ ص ٥٠٥ وتاج العروس ج ٢ ص ٩١ والتاج والإكليل ج ٣ ص ٣٩٢ والمراسيل لابن أبي حاتم ج ١ ص ٦٩ ومعجم الصحابة ج ١ ص ٣٠٢.

٢٠٤

أو : «أنا ابن العواتك من قريش» (١).

أو : «أنا ابن العواتك من سليم» (٢).

ونقول :

العواتك من سليم ثلاث نساء من جدات رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٩ ص ٢٥٠ و (ط دار الإسلامية) ج ١٣ ص ٣٤٦ والبحار ج ١٩ ص ١٧١ والحدائق الناضرة ج ٢٢ ص ٣٥٧ وجواهر الكلام ج ٢٨ ص ٢٢٢ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٩ ص ١٥٧ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٨١ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» ج ٥ ص ٣٣ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٨ ص ٥٨٥ ومجمع البحرين ج ٣ ص ١١٨.

(٢) البحار ج ١٩ ص ١٧١ و ١٧٢ والإستيعاب (ط دار الجيل) ج ٢ ص ٦٩١ والفايق في غريب الحديث ج ٢ ص ٣٣٠ والجامع الصغير ج ١ ص ٤١١ وكنز العمال ج ١١ ص ٤٠٢ و ٤٤٣ وج ١٢ ص ٤٣٤ وغوامض الأسماء المبهمة ج ٢ ص ٧٧٩ والصحاح للجوهري ج ٤ ص ١٥٩٨ والنهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ١٧٩ وتاريخ واسط ج ١ ص ٤٣ وغوامض الأسماء المبهمة ج ٢ ص ٧٨٠ ولسان العرب ج ١٠ ص ٤٦٤ وفيض القدير ج ٣ ص ٥٠ وتاج العروس ج ١٣ ص ٦١٠ وإكمال الكمال لابن ماكولا ج ٥ ص ١٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١٠٧ والأعلام للزركلي ج ٣ ص ٢٤٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٠ والفردوس بمأثور الخطاب ج ١ ص ٤٦ والفائق ج ٢ ص ٣٩٠ والروض الأنف ج ١ ص ٢٠٧ ومنح الجليل ص ٣ ص ٢٤٠ والوافي بالوفيات للصفدي ج ١٦ ص ٣٦ والدر النظيم ص ٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٣٢٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٦٧ و ١٤٤ وتهذيب اللغة ج ١ ص ١٩٧.

٢٠٥

وآله» ، وهن :

١ ـ عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان. أم عبد مناف بن قصي.

٢ ـ عاتكة بنت مرة بن هلال ، بن فالج بن ذكوان. أم هاشم بن عبد مناف.

٣ ـ عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان. أم وهب بن عبد مناف بن زهرة ، جد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فالأولى عمة الثانية ، والثانية عمة الثالثة ، وبنو سليم تفخر بهذه الولادة (١).

والعواتك من جداته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اثنتا عشرة : ثلاث منهن من بني سليم ، واثنتان من قريش ، وكنانية ، وأسدية ، وهذلية ، وقضاعية ، وأزدية (٢).

وقال اليعقوبي : «واللاتي ولدنه من العواتك اثنتا عشرة عاتكة : عشر منهن مضريات ، وقحطانية ، وقضاعية. والمضريات : ثلاث من قريش ، وثلاث من سليم ، وعدوانيتان ، وهذلية ، وأسدية ..» (٣).

__________________

(١) راجع : لسان العرب ج ١٠ ص ٤٦٤ والأعلام للزركلي ج ٣ ص ٢٤٢ والبحار ج ١٩ ص ١٧٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٨١ وفيض القدير ج ٣ ص ٥٠ والنهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ١٨٠ وغوامض الأسماء المبهمة ج ٢ ص ٧٨٠ والحدائق الناضرة ج ٢٢ ص ٣٥٧ ومستدركات علم الرجال ج ٨ ص ٥٨٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٣٢٣ وراجع : الروض الأنف ج ١ ص ٢٠٦.

(٢) لسان العرب ج ١٠ ص ٤٦٤ وراجع : كتاب المحبر للبغدادي ص ٤٧ والكامل في التاريخ ج ١ ص ٥٥٦ و (ط دار صادر) ج ٢ ص ٣٤ وراجع : تاج العروس ج ٢٦ ص ٢٦٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٠.

٢٠٦

وذكر ابن عساكر في تاريخه عن أبي عبد الله العدوي : أن العواتك أربع عشرة وأن السلميات أربع (١) ومن أراد التوسع في البحث فليراجع.

غير أننا نقول :

لعل كلمة «من سليم» أو «من قريش» قد أضيفت إلى كلمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. حيث إن المناسب هو : أن يكون مقصوده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جميع العواتك الاثني عشر.

إذ قد تقدم : أن الهزيمة التي جرت على المسلمين كان سببها قبيلة سليم ، ومن معها من أهل مكة في مقدمة الجيش.

بل صرحت بعض الروايات : بأن المسؤول عن ذلك هو خصوص سليم دون سواها ..

فهل يريد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يكافئ سليما على فعلتها الشنعاء تلك؟! ..

من أجل ذلك نقول :

لعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقصد بكلمته هذه : أن يقول للناس :

أولا : إن خطأ من حضر من سليم في هذه الحرب ، لا يعني أن يلحق العار بالأبرياء من هذه القبيلة أيضا.

ثانيا : إن هذا الخطأ يجب أن لا يكون سببا في استمرار سير هذه القبيلة باتجاه واحد ، هو سبيل الإنحراف والغي ، فالذي يخطئ وينحرف يمكنه أن يرجع عن سبيل الغي إلى سبيل الخير والصلاح ولو بعد حين ..

__________________

(١) تاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ١١٠ وكنز العمال ج ١٢ ص ٤٣٥.

٢٠٧

وقد كان في بني سليم أناس صالحون في السابق ، إلى حد أن ثلاث جدات لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كنّ منها ، وقد نشأن في بيوت عز وخير .. فما المانع من أن تعود سليم إلى انتهاج طريق الهدى ، والفلاح والنجاح؟! ..

ثالثا : إنه لا بد لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من العمل على ترميم سمعة القبائل التي تبتلى بخطأ بعينه ، حتى لا تسقط في مهاوي الخزي والعار ، فإن ذلك من شأنه أن يحدث خللا في البنية الإجتماعية ، وأن تنشأ عنه تداعيات كبيرة وخطيرة ..

لذلك نلاحظ : أنه ينسب نفسه إلى العواتك ، ويقول للناس : إن عليهم أن لا يتمادوا في الطعن في هذه القبيلة أو تلك ، ما دام أن له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رحما فيها ، وفي كثير من تلك القبائل ، مثل : سليم ، وكنانة ، وأسد ، وهذيل ، وقضاعة ، والأزد.

ونضيف نحن هنا أمرا رابعا : وهو أن راوي هذه الرواية وهو سيابة بن عاصم. كان من بني سليم ، فقد يكون ذلك من أسباب الشبهة في صحة هذه الإضافة ، وهي كلمة «من بني سليم» ، من حيث إن من الممكن أن يكون قد أراد بروايته هذه جرّ النار إلى قرصه ، ودفع العار عن بني جنسه .. فلا بأس بالبحث عن طريق آخر لهذه الرواية لا يكون فيه تهمة من هذا القبيل.

يا أصحاب سورة البقرة :

وعن المراد بقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا أصحاب سورة البقرة ، نقول :

٢٠٨

إن هذه السورة هي أول سورة نزلت في المدينة ، فلعل هذا النداء يرمي إلى تذكيرهم ببعض آياتها التي تقول : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، وتقول : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

وتقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣).

كما أن هذه السورة تضمنت أيضا : حديثا عن المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب ، ويوقنون بالآخرة ، وسائر العقائد ، وحديث المنافقين ، وعن مختلف قضايا التشريع ، وحقائق الدين.

غير أننا نقول :

لعل القول بأن المراد التذكير بقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) هو الأنسب بقوله : يا أهل بيعة الشجرة ، ويا أصحاب السمرة.

وبقوله : ذكّرهم بالعهد.

وقوله : إلى أين تفرون؟ أذكروا العهد الذي عاهدتم.

وقوله : يا أصحاب البيعة يوم الحديبية .. ونحو ذلك ..

فإن مثل هذا كله يدل على : أن المقصود هو : إلزامهم بعهدهم ، ليكون ذلك حافزا لهم على العودة إلى ساحات الجهاد.

كما أنه يتضمن قدرا من التهديد بأن الله تعالى سوف يعاملهم بالمثل ،

__________________

(١) الآية ٤٠ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٢٤٩ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٢٠٨ من سورة البقرة.

٢٠٩

وهذا ما لا يمكنهم تحمله والرضا به لأنفسهم.

فأسمع أولهم وآخرهم :

وحين نادى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الفارين : أين ما عاهدتم الله عليه؟! أسمع أولهم وآخرهم ، ليقيم الله عليهم الحجة بذلك. لأنها معجزة تثبت صدق هذا النبيّ العظيم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من جهة. وتذكرهم بما يحفزهم للثبات والتصدي من جهة أخرى ، فلم يعد يمكن لأي منهم أن يقول : إن الخوف أنساني كل شيء ، ولو أنني التفت لهذه الأمور في تلك اللحظات لكان لي موقف آخر.

عاهدوا الله ورسوله :

والذي يراجع النص الذي أورده الشيخ المفيد «رحمه‌الله» ، يلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقل : اذكروا العهد الذي عاهدتموني عليه ، بل قال :

اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله .. فيكون بذلك قد تجنب الإيحاء بأن الأمر يرتبط به كشخص ، وأثار في الأذهان صورة عن ارتباط الموضوع بالله تعالى ، حين ذكروا : أن العهد كان معه بما أنه رسول الله ، لا بما له من صفة شخصية.

ولكنه حين ظهرت معجزته لهم ، ورأوا شاهد نبوته عيانا ، حيث رأوا وجهه في الظلمات ، فأضاء كأنه القمر ليلة البدر ، عاد فذكّرهم بالعهد ، ولكنه ربطه بالله مباشرة ، ولم يعد ثمة من حاجة إلى تحديد دوره في هذا الأمر. فإن المعجزة قد حددت ذلك ، وعرفتهم برسوليته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا بد أن ينتهي كل شيء إليه تبارك وتعالى ..

٢١٠

دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فرار أصحابه :

وعن دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد فرار أصحابه عنه نقول :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذكر فقرات ثلاثا ، هي :

١ ـ اللهم لك الحمد.

٢ ـ وإليك المشتكى.

٣ ـ وأنت المستعان.

وفي سياق بيان ذلك نقول :

ألف : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يعرّف كل أحد انه حتى حين يفر عنه جميع من معه ، ويبقى وحده في مواجهة عشرات الألوف من أعدائه ، الساعين إلى سفك دمه ، فإن ذلك لا ينقص من نعم الله عليه ، بل ذلك يؤكد أن لا أحد يستحق الحمد سواه تبارك وتعالى ؛ لأنه وحده المنعم المتفضل ..

بل إن فرارهم عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا بد أن يفهم على أنه بمثابة التفريط بنعمة الله تعالى عليهم ، لا أنه إضرار برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو إنقاص من النعم الواصلة إليه ، ولذلك قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اللهم لك الحمد.

ب : وإذا فرط هؤلاء الناس بنعم الله ، وتخلوا عن واجبهم الإلهي ، واستحقوا الإبعاد عن ساحة رحمته ، ولطفه جل وعلا.

وإذا كان الله تعالى ـ وحده ـ هو المنعم الواهب ، والمتفضل .. فإن أحدا لا يستطيع أن ينفعهم بشيء. ولا أن يصلح ما أفسدوه ، ويبني ما هدموه إلا هو تبارك وتعالى ..

٢١١

وهذا يعني : أن الشكوى لغير الله لا تثمر شيئا ، بل هي ليست بشكوى ، لأن غير الله لا يستطيع أن يدفع ، ولا أن يمنع .. والإنسان العاقل لا يعبث ولا يلعب. بل إن الشكوى لغير الله ـ والحالة هذه ـ تمثل نكرانا لفضله تبارك وتعالى ، وهذه خطيئة لا يمكن أن تصدر من المعصوم. ولذلك قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وإليك المشتكى.

ج : وإذا كان الله تعالى وحده هو القادر ، والقاهر ، والحكيم ، والعليم ، والرؤوف الرحيم ، والمعطي والمانع. وإذا كانت المخلوقات كلها تستمد منه ، وتفتقر إليه. فلا معنى للإستعانة بسواه. لأن ذلك من السفه الذي لا يصدر عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أيضا. ولذلك قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وأنت المستعان.

د : وإذا كانت هذه هي العقيدة الراسخة بالله تبارك وتعالى ، وهي خلاصة نظرة الإنسان إلى الكون وما فيه ، وإلى الحياة بكل مظاهرها ..

وإذا تمحض في الإخلاص والصدق في هذا الدعاء المرتكز إلى ذلك الإيمان الراسخ ، فسوف يتحقق بعمق وصدق مفهوم قوله تعالى : (ادْعُونِي). ويكون لا بد من الإستجابة لمن يدعوه تعالى ولا يدعو غيره .. ويرجوه ولا يرجو غيره ..

ولا بد بعد هذا أن ننتظر تحقق المعجزات ، وقد تحققت في حنين فعلا ، كما تحققت لموسى «عليه‌السلام» من قبل ، وشاهد تحقق المعجزات في حنين : أن الله تعالى قد هزم عشرات الألوف بسيف علي «عليه‌السلام» وحده. بعد أن أمد الله رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمؤمنين بجنود لم يروها ، تماما كما حصل في حرب بدر العظمى ..

٢١٢

إن تهلك هذه العصابة لا تعبد :

وكما جرى في حرب بدر جرى في حرب حنين ، فقد قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كلتا الواقعتين : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد ، وإن شئت أن لا تعبد ، لا تعبد.

ونقول :

أولا : لا شك في أن المقصود ب «هذه العصابة» هو عصابة أهل الإيمان ، الذين يدافعون عن دينهم وعن نبيهم ، وعلي «عليه‌السلام» أولهم ، وعلى رأسهم ..

وأما شمولها للذين ولوا الأدبار ، ولم يفوا بعهدهم ، بما فيهم المشركون. وقد صرحوا : بأنهم ثمانون رجلا ، بما فيهم المنافقون وما أكثرهم. يضم إليهم أصحاب المطامع والأهواء .. نعم .. أما شمول هؤلاء فذلك غير ظاهر .. فإن الإسلام إنما كان يقوم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلي «عليه‌السلام» ، فإن هلكا فلا إسلام بعد ذلك ، ولا عبادة لله تعالى.

وأما المنهزمون ، فإن فرارهم الذي هو بمثابة هلاك وبوار دورهم ، وانعدام تأثيرهم ـ فلم يمنع من استمرار عبادة الله تبارك وتعالى.

ثانيا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علق استمرار عبادة الله تعالى على مشيئة الله تبارك وتعالى.

ومن الواضح : أن وجوب شكر المنعم ، وعبادة الله ، والطاعة له حكم عقلي ، لا مجال للتخلف عنه. وهذا معناه : أن المقصود بكلامه هذا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليس هو إسقاط هذا الوجوب ، بل المراد : أن تزول عبادة الله تعالى بزوال المؤمنين ، وهلاكهم.

٢١٣

هزيمة الأعراب أم هزيمة قريش والقادة؟! :

وتحاول بعض النصوص : أن تلطف العبارات ، وتخفف من حدة قبح الهزيمة ، بطريقة ذكية ، حين تنسب الهزيمة إلى الأعراب ، لكي يفهم الناس أن قريشا ، وأهل مكة ، والمهاجرين لم يكونوا مع المنهزمين .. وإن كان معهم منهم أحد ، فإنما هم أفراد قليلون ، جرفهم السيل البشري للأعراب ربما من غير اختيار منهم.

وهذا ولا شك خيانة للحق والحقيقة ، لما يستبطنه من تزوير وتضليل ، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.

هل كانت الهزيمة ليلا؟! :

تقدم : أن المسلمين انهزموا عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ليلة ظلماء ، وأن وجهه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أضاء للناس كالقمر ليلة البدر.

ولكن قد يقال : إن ذلك مما يصعب القبول به ، إذا أخذنا بالرواية التي تقول : فلما تراءت الفئتان حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد ، فانهزموا .. لأن ترائي الفئتين يكون في النهار عادة ..

ويمكن أن يجاب عن ذلك : بأن المقصود بترائي الفئتين : هو مواجهة كل منهما للأخرى ، ولو بوصول طلائع الفريقين إلى موقع ترى فيه طرفا من الفريق الآخر. وهذا يحصل ليلا كما يحصل نهارا.

وليس المقصود : الرؤية المباشرة نهارا ..

ويؤيد ما نقول : قولهم أيضا في نصوص أخرى سبقت : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صار يسأل عن أبي سفيان بن الحارث ، وسأل أيضا عن الأنصار

٢١٤

الذين حضروا بعد الهزيمة إلى ساحة القتال .. إذ لعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» احتاج إلى السؤال عنهم بسبب حيلولة الظلام بينه وبينهم ، فلا يراهم ..

ويمكن الرد على ذلك : بأنه ربما يكون قد سأل عنهم لأنه يريد تعريف الناس بهم ، والجهر باسمهم ، وبيان حالهم .. حتى وإن كان قد عرفهم بالرؤية المباشرة ، أو بالعلم الخاص ، الذي اختصه الله تعالى به.

نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم نداء العباس؟! :

قد ظهر من سياق رواية المفيد : أن الناس لم يصغوا إلى نداء العباس ، بل مروا على وجوههم في هزيمتهم.

فلما ناداهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أين ما عاهدتم الله عليه»؟ لم يسمعها رجل إلا رمى بنفسه إلى الأرض ، فانحدروا إلى حيث كانوا من الوادي ، حتى لحقوا بالعدو ، فقاتلوه (١).

فلا يصح قولهم ـ حسبما تقدم وما سيأتي ـ : إن عودة الأنصار كانت لسماعهم نداء العباس (٢).

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٦٧ وراجع ص ١٥٦ و ١٥٧ والإرشاد ج ١ ص ١٤٢ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٩ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٢ وكشف اليقين ص ١٤٤

(٢) راجع على سبيل المثال : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ ومجمع البيان ج ٥ ص ١٧ و ١٨ والمعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٢٩٩ والثقات ج ٢ ص ٦٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٤٨ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢١٨ وزاد المعاد ج ٣ ص ٤٧١ والإكتفاء ج ٢ ص ٢٤٣ والدرر لابن عبد البر ص ٢٢٦ والسيرة النبوية لابن هشام (ط دار الجيل) ج ٥ ص ١١٣ وكتاب التوابين لابن قدامة ج ١

٢١٥

غير أن لنا تحفظا على قوله «لحقوا بالعدو فقاتلوه» إذ إن الدلائل والشواهد تشير إلى أنهم لم يقاتلوهم ، كما سيأتي.

الأنصار .. وخصوصا الخزرج :

قد صرحت رواية عثمان بن شيبة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب من العباس : أن ينادي المهاجرين والأنصار.

ولكن الغريب في الأمر : أن المهاجرين لم يستجيبوا للنداء أبدا ، وإنما استجاب الأنصار فقط ، كما ذكرته رواية القمي وغيره (١) ، ورواية عثمان بن أبي شيبة نفسها ، بل لقد صرحت رواية الطبرسي بالقول : «تبادرت الأنصار خاصة» (٢).

ونص آخر يذكر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب منه أن ينادي خصوص الأنصار.

بل لقد ذكرت رواية أبي بشير المازني : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يصيح : يا للأنصار ، وإذ بهم كروا كرة رجل واحد ، ومضت الأنصار أمامه

__________________

ص ١١٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٥٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٥ و ٦٦ والبحار ج ٢١ ص ١٤٧ و ١٥١ وتفسير القمي ج ١ وغير ذلك كثير جدا.

(١) تفسير القمي ج ١ ص ٢٨٧ و ٢٨٨ والبحار ج ٢١ ص ١٥١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣١ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٠٤ وراجع المصادر في الهامش السابق.

(٢) مجمع البيان ج ٥ ص ١٧ و ١٨ والبحار ج ٢١ ص ١٤٧.

٢١٦

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقاتلون حتى طردوا العدو ، فلماذا خص نداءه بالأنصار ، ولم يذكر المهاجرين؟

أليس لأنه كان قد يئس من نصرهم؟!

وتقدم عن أنس : أنه لما بقي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحده ، نادى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نداءين لم يخلط بينهما كلاما ، فالتفت عن يمينه ، وقال :

يا معشر الأنصار ، أنا عبد الله ورسوله ، فقالوا : لبيك يا رسول الله ، نحن معك ، فهزم الله تعالى المشركين الخ ..

وعن سعيد بن جبير : فيومئذ سمى الله تعالى الأنصار مؤمنين ، قال : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١)» (٢).

بل صرحت رواية عثمان بن شيبة (٣) : بأنه لما اجتمع حول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مائة ، وكانت الدعوة في الأنصار : يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج.

بل روي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : يا أنصار رسول الله! يا بني الخزرج!!

وذلك يدل على عدم صحة ما ذكرته رواية ابن مسعود ، من أنه بعد أن

__________________

(١) الآية ٢٦ من سورة التوبة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٧ عن ابن أبي حاتم ، وفي هامشه عن الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٣ وراجع : الدر المنثور ج ٤ ص ١٦٢ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٢٥ وجمع البيان ج ١٠ ص ١٠٣ و (ط دار الفكر) ص ١٣٣ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٣ ص ٧٥٢ وج ٦ ص ١٧٧٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٩.

(٣) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٥.

٢١٧

ضرب وجوه المشركين بكف من تراب ، أمره بأن يهتف : يا للمهاجرين والأنصار ، فهتف بهم ، فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب.

فإن الصحيح هو : أن الذين جاؤوا ولبوا النداء هم خصوص الأنصار ولا سيما الخزرج. بل الخزرج منهم فقط.

الحب والحنان في الأنصار :

ويتجلى حب الأنصار لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تعبيرات الروايات ، كقول العباس : «والله ، لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقرة على أولادها» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ و ٣٥٠ وج ١١ ص ١٠٢ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ و (ط دار المعرفة) ص ٦٦ وذخائر العقبى ص ١٩٨ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٠٧ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٧ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٢٨ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١١٥ وفتح الباري ج ٨ ص ٢٥ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٨٠ ومسند الحميدي ج ١ ص ٢١٩ والآحاد والمثاني ج ١ ص ٢٧٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ١٩٧ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٥٢٤ والمعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٢٩٩ وكتاب التوابين لابن قدامة ص ١١٥ ورياض الصالحين للنووي ص ٧١٥ وتفسير ابن أبي حاتم ج ٦ ص ١٧٧٣ وتفسير الثعلبي ج ٥ ص ٢٣ وتفسير البغوي ج ٢ ص ٢٧٨ وتفسير القرطبي ج ٨ ص ٩٨ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ١٧ و ١٩ وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ١٣٤ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٥٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٧٨ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٦٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٤.

٢١٨

وقولهم : «ما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا عطفة الإبل على أولادها» (١).

وفي نص آخر : فثابوا من كل ناحية ، كأنهم النحل تأوي إلى يعسوبها (٢).

وحين يكون المحارب محبا لقائده ، فإنه وإن فرّ حين تفاجئه هجمة قوية ، ولكن محبته تبقيه على مقربة ممن يحب ، وتدفعه لأن يبذل محاولة لمعرفة ما جرى عليه ، ثم العودة إليه بمجرد أن تلوح له بارقة أمل عن حياته ونجاته ..

وأما غير المحب ، فلا يرده عن هزيمته شيء ، ولا يفكر بأحد.

ولعل هذا كان شأن المهاجرين وكان ذاك شأن الأنصار ، وخصوصا الخزرج منهم ، ولذلك نادى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأنصار ، فكانوا هم الذين استجابوا ، وعادوا إليه.

وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالقمر :

وقد ذكرت رواية الإرشاد المتقدمة : أنه لما انهزم المسلمون عن النبي «صلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٣ عن البيهقي ، وأبي القاسم البغوي ، وفي هامشه عن المعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٣٥٨ وتهذيب تاريخ دمشق ج ٦ ص ٣٥١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٣ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١١١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٩ و (ط دار المعرفة) ص ٦٦ وفتوح الشام للواقدي ج ١ ص ٢٠٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٥٧ والخصائص الكبرى للسيوطي (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٤٤٩.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٥ وراجع : الإكتفاء ج ٣ ص ٥٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٥٨.

٢١٩

الله عليه وآله» التفت إليهم ببعض وجهه ، فأضاء لهم كأنه القمر ليلة البدر.

ونقول :

إن هذا النور المتدفق من وجه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحيث يراه الناس ، والمفروض : أن هذا الأمر يحصل في الليل .. لا بد أن يعطي الدلالة لأهل الإيمان على أن عليهم أن يكونوا أعمق إيمانا ، وأشد يقينا مما هم عليه ..

ولا بد أن يدفعهم ذلك إلى إعادة النظر في فرارهم المزري هذا ، ويؤكد لهم أن ذلك معناه : خسران الدنيا والآخرة ، إذ لا يمكن أن يوفقهم الله لحياة سعيدة في الدنيا ، بعد أن تركوا نبيهم لتتناهبه سيوف أعدائه ، وأعدائهم ..

بل المتوقع لهم هو : الخذلان الدائم ، والعار ، والخزي المقيم .. وفي الآخرة ينتظر هم عذاب أليم.

كما أن الحجة تتم على الأعداء ، الذين أظهر الله لهم نور النبوة ، في الليلة الظلماء ، فلماذا ، وعلام يحاربون الأنبياء ، ويسعون لقتلهم ، وإسقاط دعوتهم؟ وما هو المبرر لطاعة ساداتهم وكبرائهم في أمر خطير كهذا؟!

وهل يمكن لأولئك السادات أن يحموهم من غضب الله تعالى ، أو أن يكونوا بديلا لهم عن عونه ولطفه ورعايته؟!

ثم إن ذلك يحدد مركز الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للأعداء ، فإذا منعهم الله من الوصول إليه رغم كثرتهم وقوتهم ، فذلك معجزة أخرى لهم ، تيسر لهم الإيمان ، وتقودهم إلى التسليم والبخوع لنبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين تتهيأ الظروف لإسلامهم ، بعد أن تضع الحرب أوزارها ، ولا يكون إسلامهم ـ والحالة هذه ـ قهرا وجبرا ، وبلا حجة ودليل ..

كما أن المنهزمين لا يمكن أن يعتذروا عن إمعانهم في هزيمتهم : بأنهم لم

٢٢٠