السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٧١
ولعل أبا بكر وعمر لا يريدان من أتباعهم كل هذا ، بل يرضيهم ما هو أقل منه بكثير ، ولكن ماذا نصنع بمن يصبحون ملكيين أكثر من الملك نفسه والله ولي الأمر والتدبير.
ومهما يكن من أمر : فإن كل ذلك إن دل على شيء ، فإنما يدلنا على أمرين :
أحدهما : مدى معاناة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، مع أناس هذه حالهم ، وتلك هي خصوصيتهم التي تهيمن على كل وجودهم وحياتهم ، وتحكم واقعهم. فساعد الله قلبك يا رسول الله على ما تحملت من الأذى حتى قلت : صلى الله عليك وعلى آلك الطاهرين : ما أوذي أحد بمثل ما أوذيت في الله (١) ، بحزن وأسى.
__________________
(١) كنز العمال ج ٣ ص ١٣٠ الحديث رقم : (٥٨١٧ و ٥٨١٨) وج ١١ ص ٤٦١ الحديث رقم : (٣٢١٦٠ و ٣٢١٦١) وكشف الخفاء ج ٢ ص ٥٣٢ وشرح أصول الكافي ج ٩ ص ٢٠٢ وميزان الحكمة ج ١ ص ٦٧ وج ٤ ص ٣٢٢٧ و ٣٢٢٨ وفتح الباري ج ٧ ص ١٢٦ والجامع الصغير ج ٢ ص ٤٨٨ وفيض القدير ج ٥ ص ٥٥٠ وحلية الأولياء ج ٦ ص ٣٣٣ وأسنى المطالب ج ١ ص ٢٤٥ والمقاصد الحسنة ج ١ ص ٥٧٣ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٨٠ وكتاب المجروحين ج ٢ ص ٣٠٥ والكامل ج ٧ ص ١٥٥ وتهذيب الكمال ج ٢٥ ص ٣١٤ وميزان الإعتدال ج ٣ ص ٥٧٠ وج ٤ ص ٤٧٢ والكشف الحثيث ص ٢٣٣ وكتاب التمحيص للإسكافي ص ٤ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٤٢ والبحار ج ٣٩ ص ٥٦ والتفسير الكبير ج ٤ ص ١٤٢ وتفسير ابن عربي ج ١ ص ٢٣٩ وج ٢ ص ٨٢ وتفسير البحر المحيط ج ٧ ص ٢٤٢ وتاريخ الإسلام ج ٤١ ص ٣٣٣ والزواجر ج ١ ص ١١٧.
الثاني : إن ظهور هذا الدين في مجتمع ليس فيه مثل وقيم ، وعلم ومعارف ، وتدبير وسياسة ، وحكمة وما إلى ذلك. لا بد أن يكون من أكبر الأدلة على أنه هو الأصلح للبشر ، والأوفق بفطرتهم ، والمنسجم مع خصوصيات خلقتهم .. كما لا بد أن يعد ذلك من معجزات النبوة ، ودلائل التسديد بالوحي الإلهي ، والهداية والرعاية الربانية.
وكما كان هذا حال النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فإنه أيضا حال علي «عليهالسلام» على قاعدة : «ولك مثلها يا علي» (١). فقد كانت له «عليهالسلام» معجزة مماثلة حيث حقق أعظم الإنتصارات على أقوى الأعداء نفوذا ، وأكثرهم في الناس آنئذ احتراما وتقديسا ، على يد أناس هم إلى أولئك الأعداء أميل ، وهم بهم أشبه وأمثل ، وكانوا يرون الكون معهم أولى وأجمل ، والإلتزام بتعاليمهم ونهجهم ، أصوب وأفضل ..
وذلك في حربه «عليهالسلام» للناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى قال : أنا فقأت عين الفتنة ، ولم يكن ليجرؤ عليها أحد غيري. ولو لم أكن فيكم ما قوتل الناكثون ، ولا القاسطون ، ولا المارقون (٢).
__________________
(١) راجع : ما جرى في غزوة الحديبية عند كتابة العهد ..
(٢) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج ٢ ص ٣٧٤ و ٣٧٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٤ ص ٦٦ والأخبار الطوال ص ٢١١ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٩٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ٧ ص ٥٧ ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) للمير جهاني ج ١ ص ١٠٣ وراجع ج ٢ ص ٣٤٦ والغارات للثقفي ج ١ ص ٧ وراجع ص ١٦ وج ٢ ص ٦٧٧ وشرح الأخبار ج ٢ ص ٣٩ و ٢٨٦ والملاحم والفتن لابن طاووس ص ٢٢١ وتذكرة الخواص ص ١٠٥ عن الواقدي ،
وقد شرحنا حقيقة هذه الظروف التي أحاطت بإنجازات أمير المؤمنين في الجزء الأول من كتابنا : «علي والخوارج» ، فلا بأس برجوع القارئ الكريم إليه ، إن أحب التوسع في البيان ، والإطلاع على الدلائل والشواهد بصورة أتم وأوفى.
__________________
والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٨٩ والكامل لابن الأثير ج ٣ ص ٣٤٨ ولم يذكر من بهم رمق. وفي مروج الذهب ج ٢ ص ٢٠٧ قال : «قسم السلاح والدواب بين المسلمين ورد المتاع والعبيد والإماء إلى أهلهم» وراجع : كتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر الأنصاري) ص ٢٥٦ وكنز العمال ج ١١ ص ٢٩٨ وشرح الأخبار ج ٢ ص ٢٨٦ والبحار ج ٣٢ ص ٣١٦ وج ٣٣ ص ٣٥٦ و ٣٦٦ وج ٣٤ ص ١١٨ و ٢٥٩ وج ٤١ ص ٣٥٤ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ج ١ ص ١٩٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٦٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٥٩ و ١٣٣ وراجع : نهج السعادة ج ٢ ص ٤٣٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٦٩٨ وحلية الأولياء ج ١ ص ٦٨ و ١٦٨ والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني ج ٢ ص ٦٢٧ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣٥٨.
الفصل الخامس :
متآمرون على حياة النبي صلىاللهعليهوآله
ما الذي جرى بعد الهزيمة؟! :
عرفنا : أن المسلمين انهزموا عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في حنين بلا مبرر ، وقد أنزل الله في فعلتهم هذه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. يسجل ملامتهم ، ويجاهر بتوبيخهم ، ويعلن : أن الله سبحانه قد انزل سكينته على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وعلى خصوص المؤمنين الذين جاهدوا ، وصمدوا ، ولم يفروا حسبما بيناه فيما سبق ..
ثم جرت أحداث ومعالجات للموقف من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» انتهت بهزيمة المشركين .. فما هي تلك الأحداث التي جرت ، والمعالجات التي حصلت؟!
هذا ما سوف نشير إليه في هذا الفصل الذي عقدناه لبيان هذا الأمر ..
فنقول :
إننا نستطيع أن نجمل ما جرى من حين الهزيمة إلى حين عودة بعض المسلمين من هزيمتهم بما يلي :
١ ـ محاولات لاغتيال النبي «صلىاللهعليهوآله» هي :
ألف : محاولة شيبة.
ب : محاولة النضير بن الحارث بن كلدة.
٢ ـ حينت وقعت الهزيمة على المسلمين صار «صلىاللهعليهوآله» يركض بغلته قبل الكفار وقد شهر سيفه. ثم نزل عنها ، وصار يتقدم نحوهم.
٣ ـ أمر «صلىاللهعليهوآله» عمه العباس : بأن يصعد مرتفعا لينادي المسلمين ، ويذكرهم العهد ، لكي يرجعوا.
وقد ناداهم النبي «صلىاللهعليهوآله» نفسه أكثر من مرة : يا للأنصار ..
٤ ـ رفع «صلىاللهعليهوآله» يديه إلى السماء ، وصار يدعو بما دعا به موسى «عليهالسلام» حين فلق له البحر ..
٥ ـ أخذ كفا من حصى أو من تراب ، ورمى به في وجوه المشركين ، وقال : شاهت الوجوه.
٦ ـ تولى علي «عليهالسلام» قتال الكفار ، والباقون من بني هاشم ، احتوشوا النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ليكونوا جدارا بشريا له ، يحميه من العدو.
٧ ـ أنزل الله تعالى جنودا من الملائكة لتكون مع المسلمين ..
٩ ـ إن البعض قد رأى هؤلاء الجنود. وذكر ذلك للرسول حسبما تقدم ، وسيأتي.
١٠ ـ حمي وطيس الحرب ، حتى كسرت شوكة المشركين بجهاد علي «عليهالسلام» ، وصبر النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
١١ ـ ثم بدأت عودة بعض الأنصار وخصوصا من الخزرج إلى ساحة القتال.
١٢ ـ قال «صلىاللهعليهوآله» : أنا ابن العواتك (من سليم).
وسنتحدث عن هذه المفردات ونظائرها في الفصول التالية.
أما في هذا الفصل فنكتفي بعرض المؤامرات على حياة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فنقول :
شيبة يريد اغتيال النبي صلىاللهعليهوآله :
روي عن عبد الملك بن عبيد ، وعن عكرمة قالا : قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة : لما كان عام الفتح دخل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مكة عنوة ، وغزا حنينا ، قلت : أسير مع قريش إلى هوازن ، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرّة.
وتذكرت أبي وقتله حمزة ، وعمي وقتله علي بن أبي طالب ، فقلت : اليوم أدرك ثأري من محمد ، وأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها.
وأقول : لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا.
فكنت مرصدا لما خرجت له ، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة.
فلما اختلط الناس ، اقتحم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» عن بغلته ، وأصلتّ السيف ، ودنوت منه ، أريد ما أريد.
وفي رواية : فلما انهزم أصحابه جئته من عن يمينه ، فإذا العباس قائم عليه درع بيضاء ، قلت : عمه لن يخذله ، فجئته من عن يساره ، فإذا بأبي سفيان بن الحارث ، فقلت : ابن عمه لن يخذله ، فجئته من خلفه ، فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع إليّ فيما بيني وبينه شواظ من نار كأنه برق.
فخفت أن يتمحشني ، فوضعت يدي على بصري ، خوفا عليه ، ومشيت القهقرى ، وعلمت أنه ممنوع.
فالتفت إليّ وقال : «يا شيبة ، أدن مني».
فدنوت منه ، فوضع يده على صدري ، وقال : «اللهم أذهب عنه الشيطان».
فرفعت إليه رأسي وهو أحب إلي من سمعي وبصري وقلبي.
ثم قال : «يا شيبة ، قاتل الكفار».
قال : فتقدمت بين يديه ، أحب والله أن أقيه بنفسي كل شيء.
فلما انهزمت هوازن رجع «صلىاللهعليهوآله» إلى منزله ، ودخلت عليه ، فقال : «الحمد لله الذي أراد بك خيرا مما أردت» (١).
ثم حدثني «صلىاللهعليهوآله» بما هممت به.
وحسب نص الرواندي : أن شيبة قال : ما كان أحد أبغض إليّ من محمد ، وكيف لا يكون ذلك وقد قتل منا ثمانية ، كل منهم يحمل اللواء؟!
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٠ و ٣٢١ وج ١٠ ص ٦٦ و ٢٦٢ عن ابن سعد ، وابن عساكر ، والبغوي ، والطبراني ، وأبي نعيم ، والبيهقي ، وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٢٥٧ و ٢٥٨ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٦٤ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٧ وج ٤ ص ١١٨ وج ١٤ ص ١٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٢ عن السيرة النبوية لابن هشام ، وابن أبي خيثمة ، وعن الصفوة ، وعيون الأثر ج ٢ ص ٢١٧ وراجع : شجرة طوبى ج ٢ ص ٣١٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٥٩ والبحار ج ١٨ ص ٦١ وج ٢١ ص ١٦٦ و ١٦٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨٤ والمعجم الكبير ج ٧ ص ٢٩٩ وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ٥٨٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨١ وج ٨ ص ٢٣٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٣٢ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٧١. وراجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ١٨٨ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩١٠ والإصابة ج ٣ ص ١٦١ عن ابن أبي خيثمة ، وابن سعد ، والواقدي ، وابن إسحاق ، والبغوي. وراجع : إعلام الورى ص ١٢١ و ١٢٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٣١.
فلما فتح مكة آيست مما كنت أتمناه من قتله ، وقلت في نفسي : قد دخلت العرب في دينه ، فمتى أدرك ثأري منه؟!
فلما اجتمعت هوازن بحنين قصدتهم لآخذ منه غرة فأقتله ، ودبرت في نفسي كيف أصنع ، فلما انهزم الناس ، وبقي محمد «صلىاللهعليهوآله» وحده ، والنفر الذين بقوا معه ، جئت من ورائه ورفعت السيف ، حتى إذا كدت أحطه غشي فؤادي ، فلم أطق ذلك ، فعلمت أنه ممنوع.
وفي نص آخر قال : رفع إليّ شواظ من نار حتى كاد أن يحمشني ، ثم التفت إليّ محمد «صلىاللهعليهوآله» ، فقال لي : أدن يا شيبة وقاتل. ووضع يده في صدري ، فصار أحب الناس إليّ.
وتقدمت وقاتلت بين يديه ، فلو عرض لي أبي لقتلته في نصرة رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
فلما انقضى القتال دخلنا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال لي : الذي أراد الله بك خير مما أردته لنفسك. وحدثني بجميع ما زورته في نفسي.
فقلت : ما اطّلع على هذا إلا الله. فأسلمت (١).
ونقول :
١ ـ إننا وإن كنا لا نناقش في أن يكون وضع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يده على صدر إنسان يحدث هذا الإنقلاب فيه ، ليكون ذلك من معجزاته «صلىاللهعليهوآله».
__________________
(١) البحار ج ٢١ ص ١٥٤ و ١٨١ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١١٧ و ١١٨ وراجع :
مجمع البيان ج ٥ ص ١٨ ـ ٢٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٢ و ١٠٣.
ولكن المهم في الأمر هو : أن يكون هذا الناقل صادقا فيما يدّعيه لنفسه من تحول وانقلاب. إذ لعله نسج هذه الفضيلة ليتستر على ما يصل إلى حد الفضيحة له ، حين صارحه رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بما كان قد دبّره.
والظاهر : أنه هذه المصارحة بحضور آخرين ، كما قد يومي إليه قوله : فدخلنا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، الدال على : أنه لم يكن وحده.
وحتى لو كان وحده ، فإنه لم يعد مطمئنا إلى أن هذا الأمر سيظل مكتوما .. وهو يعرف أن انتشاره بين أهل الإيمان سوف يضعه في موقع المتهم ، وسيجعلهم ينظرون إليه بعين الريبة والشك ..
ولعله إذا نسج لنفسه هذه الفضيلة ، يجد من يصدقها ، ويستعيد بذلك بعضا من الثقة لدى الناس .. إذ لا يمكن لأحد العيش في محيط مشحون بالريبة والشك.
٢ ـ إن هذا الرجل يدّعي : أنه أصلت سيفه ، وتقدم إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من جهة اليمين ، فوجد العباس ، ثم من جهة الشمال ، فوجد أبا سفيان بن الحارث .. فجاءه من خلفه ..
غير أننا نقول :
قد يصعب على العاقل فهم هذه المزاعم ، فإن المفروض : أن شيبة قد فعل ذلك بعد انهزام أصحابه «صلىاللهعليهوآله» عنه ، وإذ قد خلت الساحة منهم ، فقد اصبح بإمكان النبي «صلىاللهعليهوآله» ومن معه أن يروا كل من يسعى للإقتراب منهم ، سواء أتاهم من الأمام ، أو عن اليمين ، أو اليسار.
كما أنهم حين يرون أنفسهم في موضع الخطر ، فالمفروض هو أن يزداد
حذرهم ، وأن ينظروا في كل الإتجاهات ، ولا سيما عن يمينهم ويسارهم ، ولا يعقل أن يتعلق نظرهم بجهة واحدة ، وهي الأمام ، ثم يغفلون عن سائر الجهات غفلة تامة ..
فكيف إذن يمكن أن نتصوره قد جاءهم عن اليمين تارة ، وعن الشمال أخرى ، وهو مصلت سيفه ، ثم لا يلتفتون إليه ، لا في المرة الأولى ، ولا في الثانية؟!
ولا أقل من أن يكون هو نفسه قد فكّر بأنهم سوف يرونه ، ثم يختار المجيء من جهة الخلف من أول الأمر.
٣ ـ مع أن ما ذكره شيبة عن كون أبي سفيان بن الحارث ، كان عن يسار النبي «صلىاللهعليهوآله» غير معلوم الصحة ، فقد ذكروا أيضا : أنه كان خلف النبي «صلىاللهعليهوآله» ، وكان يمسك بسرجه عند ثفر بغلة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» (١).
والمراد بثفر البغلة : السير الذي في مؤخر السرج.
هذا كله عدا عن أن الأمر لا ينحصر بالعباس ، وبأبي سفيان بن الحارث ، فقد كان معه «صلىاللهعليهوآله» أشخاص آخرون من بني هاشم يحيطون به ..
__________________
(١) راجع : الإرشاد ج ١ ص ١٤٠ و ١٤١ والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص ٨٢ ومناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج ٢ ص ٣٠ و (ط المكتبة الحيدرية) ج ١ ص ٣٠٥ وج ٢ ص ٣٣٠ وإعلام الورى ج ١ ص ٣٨٧ والبحار ج ٢١ ص ١٥٦ وج ٣٨ ص ٢٢٠ وج ٤١ ص ٩٤ وراجع : مجمع البيان ج ٣ ص ١٨ و ١٩ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٣٧٩ وج ٣ ص ٥٢٢ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢١.
٤ ـ إنه يوجد بعض التناقضات بين نصوص هذه الرواية : فهل بدأ شيبة تنفيذ هجومه حين اختلط الناس ، أو بعد انهزام المسلمين عن النبي «صلىاللهعليهوآله»؟!
وهل رفع إليه شواظ من نار كأنه برق؟! أو أنه حين رفع السيف غشي فؤاده ، فلم يطق أن يحطّه؟!
٥ ـ قال اليعقوبي : «وقال شيبة بن عثمان : اليوم أقتل محمدا ، فأراد رسول الله ليقتله ، فأخذ النبي «صلىاللهعليهوآله» الحربة منه ، فأشعرها فؤاده» (١).
النضير يتربص بالنبي صلىاللهعليهوآله شرا :
قال محمد بن عمر : حدثنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري ، عن أبيه قال : كان النضير (بن الحارث بن كلدة) من أحلم قريش. وكان يقول : الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام ، ومنّ علينا بمحمد «صلىاللهعليهوآله» ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء ، فذكر حديثا طويلا ، ثم قال :
خرجت مع قوم من قريش ، هم على دينهم ـ بعد ـ : أبو سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو. ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير.
فلما تراءت الفئتان ، ونحن في حيز المشركين ، حملت هوازن حملة واحدة ، ظننا أن المسلمين لا يجبرونها أبدا ، ونحن معهم ، وأنا أريد بمحمد ما أريد.
وعمدت له ، فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء ، حولها
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٢.
رجال بيض الوجوه ، فأقبلت عامدا إليه ، فصاحوا بي : إليك.
فأرعب فؤادي ، وأرعدت جوارحي.
قلت : هذا مثل يوم بدر ، إن الرجل لعلى حق ، وإنه لمعصوم ، وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام ، وغيّره عما كنت أهم به.
فما كان حلب ناقة حتى كرّ أصحاب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» كرّة صادقة ، وتنادت الأنصار بينها : الكرّة بعد الفرّة : يا للخزرج ، يا للخزرج ، فحطمونا حطاما ، فرقوا شملنا ، وتشتت أمرنا ، وهمة كل رجل نفسه ، فتنحيت في غبّرات الناس ، حتى هبطت بعض أودية أوطاس ، فكمنت في خمر شجرة لا يهتدي إليّ أحد إلا أن يدله الله تعالى عليّ ، فمكثت فيه أياما ، وما يفارقني الرعب مما رأيت.
ومضى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» إلى الطائف ، فأقام ما أقام ، ثم رجع إلى الجعرانة.
فقلت : لو صرت إلى الجعرانة ، فقاربت رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، فما بقي ، فقد رأيت عبرا ، وقد ضرب الإسلام بجرانه ، ولم يبق أحد ، ودانت العرب والعجم لمحمد «صلىاللهعليهوآله» ، فعزّ محمد لنا عز ، وشرفه لنا شرف.
فو الله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله «صلىاللهعليهوآله» يلقاني بالجعرانة كنّة لكنّة ، فقال : «النضير»؟
قلت : «لبيك».
فقال : «هذا خير لك مما أردت يوم حنين ، مما حال الله بينك وبينه».
فأقبلت إليه سريعا.
فقال : «قد آن لك أن تبصر ما أنت فيه توضع».
قلت : قد أرى أن لو كان مع الله تعالى إلها غيره لقد أغنى شيئا ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله.
قال رسول الله : «اللهم زده ثباتا».
قال النضير : فو الله الذي بعثه بالحق ، لكأن قلبي حجر ، ثباتا في الدين ، وبصيرة في الحق ، وذكر الحديث (١).
من هو النضير بن الحارث :
قد ذكر اسم النضير بن الحارث بن كلدة ، على أنه هو الآخر كان قد حاول اغتيال النبي «صلىاللهعليهوآله» في غزوة حنين.
وذكر ابن إسحاق وغيره : أنه كان من المؤلفة قلوبهم ، الذين أعطاهم النبي «صلىاللهعليهوآله» مائة بعير يوم حنين (٢). وهو من مسلمة الفتح.
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢١ و ٣٢٢ عن الواقدي ، والإصابة ج ٣ ص ٥٥٨ و ٥٥٥ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٦ ص ٣٤٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٢ ص ١٠٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٤١٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٩١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٢٠٦ والخصائص الكبرى للسيوطي ج ١ ص ٤٤٧.
(٢) الإصابة ج ٣ ص ٥٥٧ و ٥٥٨ و (ط دار الجيل) ج ٦ ص ٣٤٣ عن ابن إسحاق ، وابن سعد ، وابن شاهين ، وابن عبد البر ، والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٥٦٦ و (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٥٢٥ وأسد الغابة ج ٥ ص ٣١ و (ط دار الكتاب العربي) ص ٢١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٢ ص ١٠٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٥٨ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٣٦ وراجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٤٤١.
ولكن يرد على هذا قولهم : إن موسى بن عقبة ذكر : أن النضير هذا من مهاجرة الحبشة (١). وذكر ذلك ابن الأثير بلفظ قيل (٢).
وقال ابن عبد البر : «كان من المهاجرين ، وقيل : من مسلمة الفتح ، والأول أكثر وأصح» (٣).
وقال أيضا : «وذكر آخرون النضير بن الحارث فيمن هاجر إلى أرض الحبشة ، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم» (٤).
ويمكن أن يجاب : بما ذكره البلاذري عن الهيثم بن عدي ، قال : هاجر النضير بن الحارث إلى الحبشة ، ثم قدم مكة ، فارتدّ ، ثم أسلم يوم الفتح ، أو بعده (٥).
وقول البلاذري هذا يدفع الإشكال الذي يقول : إنه لو كان مسلما مهاجرا ، فكيف يعطيه النبي «صلىاللهعليهوآله» مائة من الإبل ، فإنه إنما كان يعطيها لخصوص المؤلفة قلوبهم (٦).
__________________
(١) الإصابة ج ٣ ص ٥٥٥ و (ط دار الجيل) ج ٦ ص ٣٣٩ و ٣٤٣ و ٣٨٣ والدرر لابن عبد البر ص ٢٣٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ١٨٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٢ ص ١٠٥.
(٢) أسد الغابة ج ٥ ص ٣١ و (ط دار الكتاب العربي) ص ٢١.
(٣) الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٥٦٥ و (ط دار الجيل) ج ٤ ص ١٥٢٥ وعنه في أسد الغابة ج ٥ ص ٣١ و (ط دار الكتاب العربي) ص ٢١.
(٤) الدرر لابن عبد البر ص ٢٣٤ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ١٨٠.
(٥) الإصابة ج ٣ ص ٥٥٥ و (ط دار الجيل) ج ٦ ص ٣٣٩.
(٦) أسد الغابة ج ٥ ص ٣١ و (ط دار الكتاب العربي) ص ٢١.
وارتداده عن الإسلام ، وإبطاله لهجرته ، يكفي شاهدا على أن ثمة حاجة إلى تأليفه ..
ولكن يبقى هناك إشكال آخر على كلام البلاذري ، وعلى كل من يقول بأنه كان قد أسلم قبل الفتح ، وكان من المهاجرين مفاده : أنهم يذكرون : أنه حضر عند الرسول «صلىاللهعليهوآله» يوم حنين ، وصار يسأله عن فروض الصلاة ومواقيتها .. فمن كان من المسلمين المهاجرين إلى الحبشة ، أو إلى المدينة كيف يسأل عن الصلاة ومواقيتها يوم حنين ، التي كانت في آخر سنة ثمان؟! (١).
ويمكن أن يجاب : بأن الراوي لم يفصل لنا تلك الأسئلة ولم نعرف حيثياتها وخصوصياتها ، فلعله سأله عن تفاصيل ، وغوامض ودقائق ترتبط بفروض الصلاة وبأوقاتها ، غير ما كان متداولا بين الناس ..
لا بد من التذكير :
ربما يتساءل البعض بسلامة نية تارة ، أو بخبث أخرى ، حين يريد أن يجعل من سؤاله هذا وسيلة للتشنيع ، والإهانة ، والرفض والإدانة ، فيقول :
ما الفائدة من بحوث وتدقيقات من هذا القبيل ، أليست مضيعة للوقت ، وهدرا للطاقة؟!.
ونقول في الجواب :
لا ، ليس الأمر كذلك ، فإن لهذه البحوث ونظائرها فوائد وعوائد مختلفة. ولعل أهمها :
__________________
(١) أسد الغابة ج ٥ ص ٣١ و (ط دار الكتاب العربي) ص ٢١.
١ ـ تعويد القارئ الكريم على عدم الإستئسار السريع للنص الذي يقرؤه ، فلا يأخذ الأمور على عواهنها ..
ثم هو يعطيه القدرة على التطواف في حنايا وزوايا أي نص يعرض عليه ، واستخراج مكنوناته ، والإستفادة من مخزوناته .. وبذلك يكون قد خرج من حالة الغفلة والسذاجة ، إلى حالة من التيقظ والحذر ، تصونه من أن يقع في فخ الهيمنة الفكرية من خلال الإدّعاءات ، والإلقاءات المغرضة ، والمؤثرة في استلابه القدرة على التأمل ، والتدبر ، والنقد الموضوعي ، الصحيح والعميق.
٢ ـ إن للعلاقة العاطفية بالأشخاص ، والثقة بهم أثرا عميقا في النفس الإنسانية ، يهيؤها ذلك للإنقياد التام لهم ، والتسليم لكل ما يأتي عنهم ، أو ينسب إليهم. حتى لو بلغ الأمر إلى حد نقل هؤلاء المستسلمين من دين إلى دين ، ومن النقيض إلى النقيض ..
وهذا يحتم على العلماء تعويد الناس على التدقيق بحالة وبواقع كل شخصية يحتاجون إلى التعامل معها بنحو أو بآخر ، وربما يكون لها أدنى دور في تكوينهم الفكري والثقافي ، أو الإيماني ، أو ما إلى ذلك ..
وفرق كبير بين شخص تتعاطى معه على أنه خالص الإيمان ، ومجاهد باليد واللسان ، وبين أن تعرفه بأنه منافق ، أو من المؤلفة قلوبهم ، أو متآمر ، أو ما إلى ذلك ..
٣ ـ إنه لا يصح الإستهانة بأي شيء يمكن أن يكون مؤثرا في حياة الناس ، فكما لا يهمل الإنسان ربطة عنقه ، ولا يرضى بأن يكون فيها أدنى خلل ، حتى في شكلها ، فكيف يتغاضى عن أمور تؤثر على فكره ، ومسلكيته ، وثقافته ، وقيمه ومفاهيمه ، وما إلى ذلك ، بحجة أن هذه أمور
صغيرة ، وغير ذات أهمية؟! فهل ربطة العنق أهم من الدين والإعتقاد؟! ومن الفكر ، ومن القيم؟! و.. و.. الخ ..
أبو سفيان لم يكن مسلما بل متآمرا :
قد تقدم أكثر من مرة : بعض الحديث عن إسلام أبي سفيان ، وأن النصوص تؤكد على : أنه لم يسلم يوم الفتح ، بل هو لم يزل كهفا للمنافقين إلى أن توفي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
ثم يأتي له تاريخ بعد وفاة النبي الأكرم «صلىاللهعليهوآله» مليء بالمفاجآت التي تؤكد هذا الإنطباع عنه.
وقد تقدم : أنه خرج إلى حنين ، وكانت الأزلام معه في كنانته .. وأنه كان هو ومعاوية وآخرون على التل ينظرون لمن تكون الغلبة ، ويحبون أن تدور الدوائر على النبي «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين .. وستأتي نصوص عديدة أخرى تؤكد هذا المعنى أيضا ..
وها هي رواية النضير بن الحارث تؤكد أمرين خطيرين :
أولهما : كفر أبي سفيان.
والثاني : تآمره على النبي «صلىاللهعليهوآله» في حنين.
يقول النضير بن الحارث : «خرجت مع قوم من قريش ، هم على دينهم بعد : أبو سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو. ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه في من يغير».
ولكن تبقى هناك حلقة مفقودة ، لا بد من البحث عنها ، وهي : هل كان هناك تنسيق بين هؤلاء المتآمرين وبين غطفان؟!