الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٤

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-196-3
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٧١

من خلال دافع الرحم ، والتعصب للقرابة.

وربما يكون ذلك سببا في تقليل حجم الخسائر التي لا بد أن تترك أثرها على حياة الناس الأسرية ، وعلاقاتهم الإجتماعية وواقعهم السياسي ، وغير ذلك من أمور.

٢ ـ دور بني سليم في هزيمة المسلمين :

قد أظهرت النصوص التي سيأتي شطر وافر آخر منها : أن بني سليم هم الذين انهزموا أولا .. ثم تبعهم سائر الناس ، حتى لم يبق أحد مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ونحن وإن كنا لا نملك ما يدفع ذلك. بل لدينا ما يؤيده ويؤكده ، غير أننا نقول :

إن أهل مكة قد شاركوا في هذه الهزيمة بصورة مؤثرة أيضا ، فإن قسما منهم قد أسلم ، ولكن لم ينصهر بهذا الدين بعد ، ولا تفاعل معه ، ولا ذاق حلاوته ، وقسم أظهر الإسلام نفاقا ، ومجاراة لواقع استجدّ .. كما هو حال المؤلفة قلوبهم ، الذين كانوا زعماء الناس. وقد أعطاهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الغنائم التي بلغت أرقامها الألوف ، أو عشرات الألوف من مختلف أنواع الماشية ، فضلا عن سائر الغنائم ..

وقد كان هذا النوع من الناس يعدّون بالمئات أو الألوف ، حتى لقد أعطى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمائة زعيم عشرة آلاف من الإبل ، لكل واحد مائة منها ، فضلا عن عشرات أو مئات آخرين أعطاهم أقل من ذلك .. من أجل أن يتألفهم على الإسلام ..

١٠١

في النصوص أيضا : أن فريقا من أهل مكة كان يرضيهم أن تكون الصدمة للمسلمين في هذه الحرب. وقد أظهر بعضهم شماتته بما جرى حين فرّ المسلمون.

فوجود هؤلاء في المقدمة يجعل احتمال أن تكون لهم مشاركة فاعلة ومؤثرة في الهزيمة قريبا جدا ، فكيف إذا دلت عليه بعض النصوص التي ستأتي إن شاء الله تعالى.

كما أن خالدا قائدهم لا يمكن تبرئته من المشاركة في صنع هذه الهزيمة ، أو تهيئة الأجواء لها ، خصوصا وأنه على المقدمة ، ولم يظهر منه أي اعتراض على ما جرى ، بل كان هو في جملة المنهزمين ..

والذي يدعونا إلى القبول بهذه الإثارات وتأييدها : أننا وجدنا خالدا لم يظهر له إسلام إلا قبيل الفتح ، وحين أظهر إسلامه ، وأوكلت إليه بعض المهمات ، لم يكن أداؤه فيها محمودا ، بل هو قد ارتكب مذابح وفظائع ، وفجائع في حق الأبرياء ، حتى تبرأ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما صنع ، وغضب عليه ، واعرض عنه ..

بل هو لم يرتدع عن مثل هذه الأفاعيل ، حتى بعد استشهاد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقصة قتله مالك بن نويرة ، وزناه بزوجته في ليلة قتله ، معروفة عنه.

فلماذا؟ وكيف يمكن تبرئته من عار صنع الهزيمة في حرب حنين؟!

هل هذا أبو بكر؟! :

قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ

١٠٢

مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (١).

عن الربيع بن أنس قال : قال رجل يوم حنين : «لن نغلب من قلة» ، فشق ذلك على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وكانت الهزيمة (٢).

وعن الحسن قال : لما اجتمع أهل مكة وأهل المدينة قالوا : الآن نقاتل حين اجتمعنا ، فكره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما قالوا ، مما أعجبهم من كثرتهم ، فالتقوا ، فهزموا حتى ما يقوم أحد على أحد (٣).

وعن أنس قال : لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة ، أعجبتهم كثرتهم ، فقال القوم : اليوم والله نقاتل (٤).

__________________

(١) الآيتان ٢٥ و ٢٦ من سورة التوبة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن يونس بن بكير في زيادات المغازي ، وراجع :

السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ١٠٧ والبحار ج ٢١ ص ١٤٧ و ١٦٥ عن مجمع البيان ج ٥ ص ١٧ و ١٨ وإعلام الورى ص ١١٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٢ وفتح الباري ج ٨ ص ٢١ وتخريج الأحاديث والآثار ج ٢ ص ٦٣ والفتح السماوي للمناوي ج ٢ ص ٦٧٣ وتفسير الجلالين ص ٤٣٩ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١١٦ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١٠٣ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٧٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٥.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن ابن المنذر ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن أبي الشيخ ، وابن مردويه ، والبزار ، والحاكم وصححه ، والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٥ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨.

١٠٣

ولفظ البزار : فقال غلام من الأنصار يوم حنين ـ وهو سلمة بن الأكوع ، أو سلمة بن وقش ـ : «لن نغلب اليوم من قلة» ، فما هو إلا أن لقينا عدونا ، فانهزم القوم ، وولوا مدبرين (١).

وقال المفيد «رحمه‌الله» : فظن أكثرهم أنهم لن يغلبوا ، لما شاهدوه من جمعهم ، وكثرة عدتهم وسلاحهم ، وأعجب أبا بكر الكثرة يومئذ ، فقال : لن نغلب اليوم من قلة.

فكان الأمر بخلاف ما ظنوه ، وعانهم أبو بكر بعجبه بهم (٢).

وتقول رواية أخرى : إن العباس باهى بكثرة العسكر ، فمنعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : «تستنصر بصعاليك الأمة»؟! (٣).

عن الزهري : قال رجل من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لو لقينا بني شيبان ما بالينا ، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة (٤).

قال ابن إسحاق : حدثني بعض أهل مكة : أن رسول الله «صلى الله

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن أبي الشيخ ، وعن الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبزار ، وعن مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٨١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ وراجع : مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٧٨ زاد المسير لابن الجوزي ج ٣ ص ٢٨١ وتفسير السمعاني ج ٢ ص ٢٩٨ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٥٥ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٧٣ وراجع : بناء المقالة الفاطمية لابن طاووس ص ١٣٩.

(٢) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٤٠ والبحار ج ٢١ ص ١٥٥ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٠.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٩٦ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٠.

١٠٤

عليه وآله» قال حين فصل من مكة إلى حنين ، ورأى كثرة من معه من جنود الله تعالى : «لن نغلب اليوم من قلة» ، كذا في هذه الرواية (١).

والصحيح : أن قائل ذلك غير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما سبق.

قال ابن إسحاق : وزعم بعض الناس : أن رجلا من بني بكر قالها (٢).

وعن سعيد بن المسيب : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، لن نغلب اليوم من قلة (٣). (وشق ذلك على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وساءته تلك

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن ابن إسحاق ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن الواقدي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٥ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ١٠.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن الواقدي ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٠٠ وتفسير البحر المحيط لابن حيان الأندلسي ج ٥ ص ٢٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ و (ط دار المعرفة) ص ٦٩ والإفصاح للمفيد ص ٦٨ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٨٠ والبحار ج ٢١ ص ١٥٥ وشرح النهج ج ١٥ ص ١٠٦ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٧٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٥٠ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٧٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦٩ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٩ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢٢١ وكشف اليقين للحلي ص ١٤٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦١٠ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ لمحمد الريشهري ج ١ ص ٢٥٥ ونهج الحق وكشف الصدق للحلي ص ٢٥١ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٠٦.

١٠٥

الكلمة (١)).

كذا في هذه الرواية ، وبذلك جزم ابن عبد البر (٢).

من القائل : لن نغلب اليوم من قلة؟!

اختلفت الروايات في اسم الذي قال : لن نغلب اليوم من قلة ، أو نحو ذلك ، هل هو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (والعياذ بالله)؟!

أو هو أبو بكر ، قال ذلك للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أو قاله سلمة بن الأكوع.

أو أن القائل هو سلمة أو سلامة بن وقش نفسه؟!

أو العباس بن عبد المطلب؟!

أو هو غلام من الأنصار؟!

أو رجل من الصحابة؟!

أو أهل مكة ، أو أهل المدينة؟!

__________________

(١) السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٦٩ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٦٥ وتخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج ٢ ص ٦٣ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٤ ولباب النقول (ط دار إحياء العلوم) ص ١١٦ و (ط دار الكتب العلمية) ص ١٠٣ وفتح القدير ج ٢ ص ٣٤٨ وتفسير الآلوسي ج ١٠ ص ٧٤ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٧ عن المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٩٦ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٠٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٢٥.

١٠٦

أو رجل من بني بكر؟!

فما هذا التردد ، وما هذه الحيرة في تعيين قائل تلك العبارة المشؤومة؟!

ألا يشير ذلك : إلى أن هناك سعيا لإخفاء اسم القائل الحقيقي عن الناس؟! ومن هو ذلك الشخص المحظوظ ، الذي يسعى الرواة لإسداء هذه الخدمة الجليلة إليه؟!

ونحن لا نرى سببا لإخفاء اسم أحد من هؤلاء ، الذين ذكروهم ، إلا إن كان اسم العباس ، من قبل العباسيين.

أو اسم أبي بكر من قبل من يعتقدون إمامته وخلافته.

فإذا كان هذا الإخفاء يتولّاه أناس عاشوا في زمن بني أمية ، مثل الزهري ، والحسن ، وبعض الصحابة مثل أنس وأمثالهم ، فإن من الواضح : أنه لم يكن للعباسيين دور أو ذكر ، أو شوكة ، أو نفوذ في تلك الفترة.

فينحصر الأمر في محبي الخلفاء ، والمعتقدين بإمامتهم.

وبذلك يترجح احتمال أن يكون قائل ذلك هو : أبو بكر.

وبه جزم ابن عبد البر وغيره.

اتهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالكفر :

إن اتهام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأنه ممن أعجبته الكثرة يوم حنين كما أظهرته رواية البراء بن عازب (١) باطل ومكذوب ، بلا ريب ، وذلك لما يلي :

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١١٠ والسيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٢٥ و ٣٢٦ ، وراجع : جامع البيان للطبري ج ١٠ ص ١٢٨ والمحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز ج ٣ ص ١٩

١٠٧

أولا : إن نسبة ذلك إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا تجوز ، فإن ذلك يستبطن الطعن في نبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، على أساس أن القرآن قد صرح : بأن الإعجاب بالكثرة قد صاحبه اعتبار : أن الكثرة هي المعيار في النصر والظفر ، وليس التأييد الألهي ، ولذلك قبّح الله تبارك وتعالى ذلك منهم ، ولامهم وذمهم عليه ، مصرحا بأنهم : قد اعتمدوا على كثرتهم ، واعتبروا أنها تغنيهم وتكفيهم ، فقال سبحانه : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً). رغم أن الله تعالى قد نصرهم في مواطن كثيرة تصل إلى ثمانين.

ثانيا : إننا لم نزل نسمع من الرسول الهادي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التأكيد تلو التأكيد على أن النصر من عند الله ، وبمشيئته ، وتسديده ، وتوفيقه. وقد صرح القرآن بأن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى. والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

هو الذي كان يقرأ على الناس قوله تعالى عن بدر : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١). وهذه الآية إنما نزلت في سورة آل عمران ، التي نزلت في أيام بدر ، في أوائل الهجرة.

وقد فتح الله لهم مكة ، ونسب النصر فيها إلى نفسه أيضا ، فقال : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٢).

__________________

والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٦٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٩٥.

(١) الآية ١٢٦ من سورة آل عمران ، والآية ١٠ من سورة الأنفال.

(٢) الآية ٣ من سورة الفتح.

١٠٨

والجيش الذي فتح مكة هو نفسه الذي يتوجه لقتال هوازن.

وقال عن غزوة أحد : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

وقال : (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢).

والآيات التي تشير إلى هذه المعاني كثيرة ، وكلها نزلت قبل غزوة حنين ..

ثالثا : إن صريح الآية القرآنية أن الذين أعجبتهم كثرتهم هم الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، ثم ولوّا مدبرين. وثبت في ساحة المعركة ، ثلة قليلة من المؤمنين ، فاستحق هؤلاء الثابتون إنزال السكينة عليهم ، لأنهم كانوا يتحملون الشدائد ، ويواجهون الأخطار الجسام.

وهم علي «عليه‌السلام» في ساحة القتال وبعض بني هاشم ، الذين احترسوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وضربوا عليه طوقا بشريا يحميه .. كما أن السكينة نزلت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأنزل عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعليهم جنودا لم يرها أولئك الذين هربوا ..

فكيف يدّعي هؤلاء الجهلة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال تلك الكلمة المشؤومة؟!

رابعا : كيف يكون قائل ذلك هو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ،

__________________

(١) الآية ١٦٠ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ١٣ من سورة آل عمران.

١٠٩

والحال أن عددا من الروايات يصرح : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كره هذه المقالة منهم؟!

وبعضها يقول : فشق ذلك على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». أو نحو ذلك فراجع (١).

أتستنصر بصعاليك الأمة؟! :

قد تقدمت الرواية التي تقول : إن العباس باهى بكثرة العسكر ، فمنعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : أتستنصر بصعاليك الأمة؟ (٢).

والصعلوك هو : الفقير.

وصعاليك العرب : ذؤبانها ، أي لصوصها ، وفقراؤها (٣).

وهي كلمة هامة ومثيرة ، خصوصا ، وأنها صدرت من نبي الإسلام الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤).

وإذا أردنا تحليل هذه الكلمة ، فإن أول ما يواجهنا فيها هو : أن المقصود بالصعلوك هنا ليس هو الفقير ، فإن الفقر لا يمنع من البطولة ، والإقدام ، والشجاعة ، والشدة في الحرب إلى بلوغ النصر .. بل لعل أعظم الناس

__________________

(١) راجع : رواية الربيع بن أنس ، ورواية الحسن المتقدمتين في مصادرهما. ورواية مباهاة العباس بكثرة من معهم ، فمنعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠٠.

(٣) أقرب الموارد ج ١ ص ٦٤٨ وراجع : تاج العروس ج ١٣ ص ٥٩٩.

(٤) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

١١٠

شجاعة كانوا من الفقراء ، الذين لم يتذوقوا طعم النعيم ، ولم تشدهم ملذات الحياة إليها ، ليخلدوا إلى الأرض ، فيمنعهم ذلك من ركوب الأهوال ، ومن الإقدام على المخاطر.

إن الشجاعة والإقدام ، هي نتاج طموح كبير ، أو نتاج رؤية إيمانية واعتقادية ، تهييء لانفعال روحي وإنساني فاعل وقوي. أو هي وليدة حدث وجداني ، يثير هزة مشاعرية عميقة ، وتحرك معاني النبل ، والشمم ، والكرم في عمق الذات ، وتدفع إلى التضحية والإيثار ، في مواقع الفداء والعطاء ، بلا حدود ولا قيود.

أما الذؤبان واللصوص ، فهم الذين يفقدون الإحساس الإنساني ، والدافع الإيماني ، ويعيشون في مستنقعات الأهواءن ويصبحون أسرى انحطاط طموحاتهم ، وانحسار وضمور مشاعرهم الإنسانية ، ونضوب الروافد الفكرية الإيمانية ..

إن هؤلاء يفقدون معنى الشجاعة ، ولا يفهمون معنى لنصرة المظلومين ، لأنهم هم الذين يشاركون في إشاعة الظلم ، ولا تحركهم المشاعر الإنسانية ، لأنهم اجتثوا كل عروقها النابضة ، وجففوا روافدها في أعماق نفوسهم ، ولا تحجزهم معاني الإيمان والاعتقاد بعد أن نضبت روافدها ، وتلاشت كل أشباح معانيها من حنايا قلوبهم.

إن اللصوصية التي تعني أن يعيش الإنسان حالة مزرية من الإنحطاط الخلقي ، والجفاف العاطفيين والتقوقع في قفص الذات ، والتفكير في التفاهات الصغيرة ، وصنع مفردات الخزي والعار ، لا يمكن أن تدفع صاحبها إلى أن ينجد مظلوما ، أو أن يدافع عن قضايا كبيرة ، فضلا عن أن

١١١

يضحي في سبيل القيم ، ومن أجل المعاني الإنسانية والإيمانية.

وذلك هو ما يفسر لنا استنكار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على العباس بقوله : «أتستنصر بصعاليك الأمة»؟!

فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرى في أكثر ذلك الجمع : أنهم ذؤبان وصعاليك ، لأن أكثرهم جاء لأجل الغنائم ، واستلاب أموال الناس ، ولا يبالي بعد هذا بما يجري للطفل الصغير ، والشيخ الكبير .. كما لا يهمه أن ينتصر الدين ، أو ينكسر ، وأن يكون النصر للحق وأهله ، أو للباطل وحزبه. إنهم يريدون أن يضحوا بكل شيء من أجل أنفسهم وشهواتهم ، فهم اللصوص والذؤبان .. الذين يهربون عن أدنى خطر يستشعرونه ، ويخافون من أي سانح أو بارح ، ومن الساكت والصائح ، والضاحك والنائح.

وقليل هم أولئك المؤمنون الطيبون الذين يشعرون بالمسؤولية ، ويعيشون القيم الإنسانية ، ويلتزمون بحدود الشرع ، ويفكرون في نصرة الدين وأهله ، مهما غلت التضحيات ، وقد أظهرت الوقائع أن هؤلاء هم خصوص النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وثلة قليلة معه ، هم الذين أنزل الله سكينته عليهم من المؤمنين.

١١٢

الفصل الرابع :

الهزيمة وتمحّل الأعذار

١١٣
١١٤

الهزيمة في اللحظات الأولى :

أنه لا ريب في وقوع الهزيمة على المسلمين ، في اول صدام لهم مع المشركين .. وقد حاول أهل التعذير والتبرير ، وأنصار المؤلفة قلوبهم عرض الأحداث بطريقة ذكية وخادعة ، خلطوا فيها الغث بالسمين ، والصحيح بالسقيم ، فقالوا :

كان خالد بن الوليد مع بني سليم في مقدمة الجيش ، وكان أكثرهم حسرا ليس عليه سلاح ، أو كثير سلاح. فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم. والمسلمون عنهم غافلون ، فرشقوهم رشقا لا يكادون يخطئون ، فولّى جماعة كفار قريش ، الذين كانوا في جيش الإسلام ، وشبان الأصحاب ، وأخفاؤهم. وتبعهم المسلمون الذين كانوا قريب العهد بالجاهلية ، ثم انهزم بقية الأصحاب (١).

وذكروا أيضا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد انحدر في الوادي في غبش الصبح .. فخرج عليهم القوم ، وكانوا قد كمنوا لهم في شعاب الوادي ، ومضايقه ، فحملوا عليهم حملة رجل واحد ، وكانت هوازن رماة ،

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ وراجع : تفسير البغوي ج ٢ ص ٢٧٨.

١١٥

فاستقبلوهم بالنبل ، كأنهم جراد منتشر ، لا يكاد يسقط لهم سهم ..

وقال البراء بن عازب : كانت هوازن رماة ، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا ، فأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، فأخذ المسلمون في الرجوع منهزمين ، لا يلوي أحد عن أحد.

إلى أن قالوا : إن الطلقاء قال بعضهم لبعض : أخذلوه فهذا وقته ، فانهزموا أول من انهزم ، وتبعهم الناس (١).

ونقول :

إن في ما ذكر آنفا مواضع للنظر ، والنقاش نجملها فيما يلي :

وقت الإنحدار في الوادي :

لماذا اختار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الإنحدار في الوادي في غبش الصبح؟ مع أن الجيش يسير في العادة نهارا ويستريح ليلا ، والمسير في الليل يحمل معه أخطار مواجهة الكمائن في المضائق والشعاب ..

ألا يدل ذلك : على عدم صحة ما زعموه ، وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سار في الجيش نهارا.

المضائق والكمائن :

وزعموا : أن المشركين قد كمنوا في المضايق والشعاب ، فهاجموهم ، ثم كانت الهزيمة ..

وهذا الكلام موضع ريب وشك.

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ١٠٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٨.

١١٦

أولا : قد تقدم : أن الموضع الذي اختير للقتال لم يكن فيه مضايق ولا شعاب ، لأن دريد بن الصمة حين لمس الأرض وسأل عنها ، وأخبروه باسمها ، قال : نعم مجال الخيل ، لا حزن ضرس ، ولا سهل دهس.

فالموضع الصالح لجولان الخيل ، لا بد أن يكون متسعا ليس فيه عوائق ..

ثانيا : إنه لا يصح قولهم : إن الكمين هو الذي هزمهم ، فقد صرحت رواية البراء بن عازب : بأن الجيشين قد تواقفا ، وإن جيش المسلمين قد حمل على المشركين فكشفهم ، فانكبوا على الغنائم ، فاغتنمها منهم المشركون فرصة ، فرشقوهم بالسهام ..

ثالثا : إن الهزيمة إنما وقعت على خصوص بني سليم ، ومن جهة واحدة ، ولو كان الهجوم من المضايق والشعاب ، أو على خصوص أهل مكة لم يتبعهم غيرهم ..

إلا أن يدّعى : أن الجيش كان يسير على شكل صف طويل .. لأنه منحدر في الوادي الضيق .. مع أن الأمر ليس كذلك ، فإن العائدين قد عادوا إلى القتال في ساحة متسعة ، كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بقي صامدا فيها ، وقد مر به المنهزمون ، وكان يناديهم ، ولكنهم لا يلوون على شيء.

ونقول لهؤلاء :

إنهم قد فشلوا حين زعموا : أن المقدمة ، كانت لا تملك سلاحا.

فإن المقدمة كانت تتألف من أهل مكة ، وكان أهل مكة هم الأغنى في المنطقة بأسرها ، وهم الأكثر سلاحا فيها.

ومن بني سليم ، الذين لم يزل العباس بن مرداس يفتخر بهم وبدروعهم ، فيقول :

١١٧

من كل أغلب من سليم فوقه

بيضاء محكمة الدخال وقونس (١)

فالدخال : الدروع. والقونس : أعلى بيضة الخوذة.

ويقول :

على الخيل مشدودا علينا دروعنا

ورجلا كدفاع الآتي عرمرما (٢)

وهذا يدل : على أنهم كانوا في غاية الإستعداد والإعداد ، فلماذا يزعم هؤلاء المدافعون عنهم : أن الذين تتألف منهم المقدمة كان أكثرهم حسرا ، ليس عليهم سلاح ، أو كثير سلاح؟!

كما أن هؤلاء قد نجحوا حين بينوا : أن كفار قريش كانوا في المقدمة.

وفشلوا أيضا : حين زعموا : أن شبان الأصحاب كانوا في المقدمة ..

فإن ذلك لا يعدو كونه تخرصا ورجما بالغيب.

ونجحوا أيضا حين بينوا : أن الذين انهزموا كانوا قريب العهد بالجاهلية ..

وفشلوا : حين لم يبينوا دور خالد وبني سليم ، وزعماء قريش ، وعموم أهل مكة بما فيهم الرؤساء والزعماء في صنع الهزيمة ..

ونجحوا حين اعترفوا بالهزيمة لمن لا يحبون أن ينسبوا إليهم أي شيء ينقص من قدرهم ، ويظهر عجزهم.

وفشلوا حين ادّعوا : أن السبب في الهزيمة هو رميهم بالسهام رميا لا

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٠١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٤٢٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٩٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٥٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤٥.

(٢) البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٩٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٩١٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٦٥١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤٦.

١١٨

يكاد يخطئ ، فإن ذلك أيضا يدخل في باب التهويل والتضخيم للأمور ، بدون دليل معقول ، ومقبول. مع تصريح النصوص المتقدمة بأن السلاح الذي واجههم كان من جميع الأنواع ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي اختار مقدمة الجيش :

وقد يسأل سائل : لماذا اختار الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقدمة جيشه من خصوص هؤلاء ، مع أن احتمالات هزيمتهم جبنا وخورا ، أو تآمرا وكيدا كانت قريبة ، وظاهرة؟!

ونجيب : بأننا قد ذكرنا سبب ذلك في موضع سابق من هذا الكتاب. وقلنا : إن من جملة مقاصده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يلي :

١ ـ إن ذلك يطمئن زعماء مكة ، وجميع الزعامات الأخرى في المنطقة إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقبلهم في المجتمع الإسلامي ، ويعاملهم فيه كغيرهم ، ولا يريد أن ينتقم من أحد ، ولا محاسبة أحد.

٢ ـ كما أنه لا يريد مما يدعوهم إليه ان يكتسب لنفسه شيئا ، ولا أن يستأثر بشيء ، بل إن أراد شيئا فإنما يريده لهم ..

٣ ـ وليعلم الجميع : أن دخولهم في الإسلام لا ينقص من قدرهم ، ولا يوجب الخسران لهم ، بل هو يعلي من مقامهم ، ويمنحهم العزة والكرامة ، والمجد والزعامة ، ويمكّنهم من الحصول على خير الدنيا والآخرة.

٤ ـ إن أهل المنطقة إذا رأوا أن الذين يخشون سطوتهم هم الذين يدعونهم إلى هذا الدين ، بل هم يحاربونهم دفاعا عنه وعن أهله ، وعن نبيه ، فإن ذلك سوف يعطي أولئك الناس شعورا بالأمن والطمأنينة إلى أنهم

١١٩

سوف لا يتعرضون للعقوبة بعد رجوع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى بلده ، وصيرورتهم وحدهم في مواجهة أولئك الناس الذين عرفوا قسوتهم ، وشهدوا فصولا من انتقامهم من مخالفيهم بصورة غير عقلانية ، ولا إنسانية وسوف لا يخشون سطوتهم وانتقامهم.

توجيهات سقيمة للهزيمة :

وقد حاول أهل التبرير ، ومحبو التماس الأعذار مهما كانت باردة وغير منطقية أن يبرروا الهزيمة ، فجاؤوا بالعجب العجاب.

ويتضح ذلك من خلال ملاحظة ما يلي :

شبان لا خبرة لهم :

وذكر كثير من أهل المغازي : أن المسلمين لما نزلوا وادي حنين تقدمهم كثير ممن لا خبرة لهم بالحرب ، وغالبهم من شبان أهل مكة ، فخرجت عليهم الكتائب من كل جهة ، فحملوا حملة رجل واحد ، والمسلمون غارون ، فر من فر ، وبلغ أقصى هزيمتهم مكة ، ثم كروا بعد (١).

قلة السلاح .. والإقبال على الغنائم :

وعن البراء بن عازب قال : عجل سرعان القوم ـ وفي لفظة : شبان أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليس عليهم سلاح ، أو كثير سلاح ، فإنّا لما حملنا على المشركين انكشفوا ، فأقبل الناس على الغنائم ، وكانت هوازن

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣١٨.

١٢٠