الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-195-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

ولكن ليت شعري كيف يجيب هؤلاء على الأسئلة التالية :

كيف يصح الإجتهاد مع وجود النص على أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يرسله مقاتلا ، وإنما أرسله داعيا؟!

وكيف يصح الإجتهاد ، مع النهي الصريح عن قتل المسلمين؟! فإنه لا يحل قتل المسلم إلا في كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو تعمده قتل مسلم (١). أو فساد في الأرض (٢) ، وكل ذلك لم يكن ..

وإذا كان بنو جذيمة لم يحسنوا أن يقولوا : «أسلمنا» ، فقالوا : «صبأنا»

__________________

(١) راجع : مشكاة المصابيح ج ٢ ص ٢٨٥ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٨٤٧ ومصابيح السنة ج ٢ ص ٥٠٢ والديات لابن أبي عاصم ص ٩ وعن صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٢١ وعن صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٧ و (ط دار الفكر) ج ٥ ص ١٨٧ وج ٨ ص ٤٣ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٣٥ ص ٢١٢ والمحلى لابن حزم ج ١١ ص ٦٨ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٤٩٩ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٣٢٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٢٨ وعمدة القاري ج ١٨ ص ٢٠٣ وج ٢٤ ص ٦١ وعون المعبود ج ١٢ ص ٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٤١٧ ونصب الراية ج ٤ ص ١٠٩ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ٢ ص ٩٦ وكنز العمال ج ١ ص ٨٧ و ٩٢ وشرح مسند أبي حنيفة ص ٣٥٩ وكشف الخفاء ج ٢ ص ٣٦٧ وأحكام القرآن ج ٢ ص ٩٨ و ٢٩٢ وأضواء البيان ج ٣ ص ١٣٤ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٤٤٥.

(٢) كما نصت عليه الآية الكريمة : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (الآية ٣٣ من سورة المائدة).

٢٨١

ـ كما زعم أنصار خالد ومحبوه ـ فإن صلاتهم ، وأذانهم ، ومساجدهم شاهد صدق على إسلامهم.

ولو قيل : إن ذلك لا يمنع من ارتدادهم بعد صلاتهم وأذانهم ، فيصح قتلهم ..

فإننا نقول :

قد تقدم : أن خالدا قال لهم : ما أنتم؟

قالوا : مسلمون.

ولو أنهم كانوا قد عادوا إلى الإرتداد ، فلما ذا اعترض الناس على خالد حين قتلهم؟!

ولما ذا غضب عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ولما ذا برئ إلى الله من فعل خالد ثلاث مرات؟!

ولما ذا لامه عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمار ، وعبد الله بن عمر ، وسالم مولى أبي حذيفة؟!

ولما ذا لم يقتل أحد من الأنصار أسيره؟!

ولما ذا يعتذر خالد عن قتلهم : بأنه يريد أخذ ثار عوف؟!

ولما ذا .. ولما ذا ..

ومن جهة أخرى : كيف يمكن لهؤلاء إثبات اجتهاد خالد ، وهو كان حديث عهد بالإسلام؟ إلا أن يكون هؤلاء يرون أن الإجتهاد ـ كالنبوة ـ مقام إلهي يمنحه الله لمن يشاء!!

وأخيرا نقول :

إن زعمهم : أن خالدا تأول فأخطأ ، فيه جرأة كبيرة على خالد ـ بنظرهم

٢٨٢

طبعا ـ وهو ذنب يستغفرون الله منه ، فقد كان ينبغي أن يقولوا فيه مثل ما قالوه في قاتل علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فقد افتروا على ابن ملجم ، فزعموا : أنه مجتهد مأجور على ما فعل.

وقال محمد بن جرير الطبري في التهذيب : «ولا خلاف بين أحد من الأمة أن ابن ملجم قتل عليا متأولا مجتهدا مقدرا على أنه على صواب» (١).

وهذا هو نفس ما عذروا به أبا الغادية قاتل عمار بن ياسر (٢).

اجتهاد خالد عند الخطابي :

قال الخطابي : «يحتمل أن يكون خالد نقم عليهم للعدول عن لفظ الإسلام ، ولم ينقادوا إلى الدين ، فقتلهم متأولا. وأنكر عليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» العجلة ، وترك التثبت في أمرهم ، قبل أن يعلم المراد من قولهم : صبأنا» (٣).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ وراجع : مغني المحتاج ج ٤ ص ١٢٤ وتلخيص الحبير ج ٤ ص ٤٦ والمحلى لابن حزم ج ١٠ ص ٤٨٤ والجوهر النقي ج ٨ ص ٥٨ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٣ ص ٦١ والغدير ج ١ ص ٣٢٣ وج ٩ ص ٣٩٣ وج ١٠ ص ٣٤١ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ١٩٧ والمبسوط للسرخسي ج ٢٦ ص ١٧٥ والشرح الكبير ج ١٠ ص ٧٦ والنص والإجتهاد ص ١٣.

(٢) المحلى لابن حزم ج ١ ص ٤٨٤ والجوهر النقي (مطبوع بهامش سنن البيهقي) ج ٨ ص ١٥٨ والغدير ج ١ ص ٣٢٨ وسماء المقال في علم الرجال للكلباسي ج ١ ص ٢٠.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج ٤ ص ١٦١ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٤٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢١١ ومرقاة المفاتيح ج ٧ ص ٤٨٧.

٢٨٣

وهو كلام بارد ، وتأويل فاسد.

فأولا : إن مهمة خالد هي دعوتهم إلى الله تعالى ، وتقريب مفاهيم الإسلام إلى أذهانهم ، وإقامة الحجة عليهم ، من خلال الأدلة والشواهد.

فإن لم يرق لهم الدخول في الإسلام ، فليس له أن يقاتلهم ، فضلا عن أن يغدر بهم ، ثم ياسرهم ، ويعرضهم على السيف.

ثانيا : لا ندري كيف يجوز له أو لغيره الإجتهاد في مورد يحكم فيه العقل بلزوم الإحتياط بمراجعة النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله». الذي لم يفوض إليه أن يعمل باجتهاده ، سواء أخطأ فيه ، أم أصاب.

ثالثا : إنه حتى لو أن خالدا لم يستعجل في أمر بني جذيمة ، بل تثبت من قصدهم بكلمة «صبأنا» ، وعلم أنهم قد رفضوا الإسلام ، فإن قرار قتلهم أو استبقائهم لا يعود إليه. فالتثبت في أمرهم ، ومعرفة مرادهم من كلمة صبأنا لا يفيد في دفع اللوم عن خالد.

رابعا : قد تقدم : أنهم صرحوا بأنهم مسلمون ، وصلوا مع خالد عدة صلوات قبل أن يغدر بهم ، وبنوا المساجد في الساحات ، ورفعوا الأذان ، وكانوا بعد أسرهم يطلبون من المسلمين أن يمكنوهم من الصلاة ، فكانوا يحلونهم من كتافهم ، فإذا صلوا أعادوهم إليه.

خامسا : قد اعترف خالد لعمر ، واعترف لعبد الرحمن بن عوف : بأنه قد قتلهم لأحن ، وثارات ، وعصبيات جاهلية.

اعتراض ابن عوف وسالم وابن عمر :

واعتراض عبد الرحمن بن عوف على خالد ، وجواب خالد له يدل على

٢٨٤

أن قتل بني جذيمة لم يكن بسبب الفهم الخاطئ من قبل بني كنانة ، فإن خالدا لم يعتذر بذلك ، بل اعتذر بأنه أراد أن يقتل قاتل عوف والد عبد الرحمن بن عوف.

كما أن السبب في قتلهم إن كان هو الفهم الخاطئ من قبل بني كنانة ، فإن ملامة عبد الرحمن لخالد تصبح بلا معنى ، فإن الخطأ في الفهم يعتبر عذرا مقبولا عند الناس.

على أنه لو صح ذلك ، فإن اتهام عبد الرحمن بن عوف لخالد بأن ما فعله من أمر الجاهلية ، وأنه أراد أن يأخذ بثأر عمه الفاكه بن المغيرة يصبح من البهتان الذي يقتضي مبادرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ردع ابن عوف عنه ؛ فإنه من الظلم الظاهر ، ومن المنكر السافر.

وكل هذا الذي ذكرناه : يجري أيضا بالنسبة لاعتراض ابن عمر وسالم مولى أبي حذيفة .. فقد كان على خالد أن يعتذر لهما : بأنه لا ذنب له فيما جرى .. بل الآخرون هم المخطئون في فهم كلامه ، فإن كان ثمة من لوم ، فيجب أن يوجه إليهم ، إن صح لوم من يخطئ في فهم الكلام الموجه إليه.

التناقض والاختلاف :

إن التناقض الظاهر فيما بين الروايات في عرضها لما جرى لبني جذيمة يشير إلى أن ثمة رغبة في تعمية الأمور ، وإثارة الشبهات حول حقيقة وحجم ما جرى ، فعسى ولعل ، ولعل وعسى يفيد ذلك في إعادة شيء من ماء الوجه لخالد ، ولو أمام البسطاء والسذج من الناس.

ونحن لا نريد أن نفيض في إظهار هذه التناقضات ، بل نكل ذلك إلى

٢٨٥

القارئ الكريم نفسه. فإن وضوح ذلك يدعونا إلى توفير الوقت لما هو أهم ، ونفعه أعم.

أدفئوا أسراكم :

وزعموا : أنه لما كان وقت السحر ، نادى خالد : من كان معه أسير فليدافّه ، والمدافّة : الإجهاز عليه بالسيف.

ونقول :

من الذي قال : إن كنانة والعرب حول مكة تقول : أدفئوا ، بمعنى اقتلوا؟

فإننا لم نجد شاهدا على ذلك سوى ما في هذه الرواية.

غير أنهم ذكروا : أن قولهم : أدفأ الجريح بمعنى أجهز عليه ، وقالوا : إن هذه لغة يمانية (١).

وبنو مدلج وكنانة كانتا تعيشان في منطقة مكة ، وليستا يمانيتين.

كما أن الأسرى لم يكونوا جرحى ، ليقال : إنهم فهموا من هذه الكلمة لزوم الإجهاز على من كان جريحا منهم!!

وقد صرحت الروايات : أن الذين كانوا مع خالد بن الوليدهم :

١ ـ من المهاجرين والأنصار.

٢ ـ من بني سليم بن منصور.

٣ ـ ومن بني مدلج بن مرة.

__________________

(١) راجع : أقرب الموارد ج ١ ص ٣٣٩.

٢٨٦

ومن الواضح : أن بني سليم بن منصور ينتهون إلى قيس بن عيلان بن مضر .. فأين كنانة من هؤلاء؟!

والمهاجرون هم عموما من قريش.

والأنصار هم من الأوس والخزرج ، فالذين كانوا من كنانة هم بنو مدلج بن مرة بن عبد مناف بن كنانة ، وهؤلاء قلة قليلة ، يعرفون لغة قريش ، ويعرفون أن المتكلم معهم قرشي.

فلو صح : أن أحدا من كنانة ممن كان حاضرا قد وقع في الغلط فعلا ، فالمفروض هو : أن ينهاه رفقاؤه عن قتل أسيره ، ويعرّفوه معنى كلام خالد.

النداء عند السحر!! لما ذا؟! :

ثم إننا لا ندري لما ذا اختار خالد وقت السحر ليأمر أصحابه بقتل أسراهم؟ هل كان يريد أن يفرغ من هذا الأمر ، وحينما يكون الأتقياء من صحابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نائمين ، لا يشعرون بما يجري ، حتى يفرغ من جريمته؟!

لأن الظاهر : أن خالدا كان يخاف من ثورة كثير من الصحابة ضده ، لو أنهم شهدوا تلك الجريمة النكراء ، والفضيحة الصلعاء ، والشنعاء.

ويكفي أن التاريخ لم يستطع أن يصرح لنا إلا باسم رجلين اعترضا على خالد فيما صنع ، ومن غير المعقول أن يمالئه على هذه الجريمة ثلاث مائة وخمسون رجلا قد صحبوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعرفوا ورأوا بعضا من سياساته ومواقفه!!

فمن المتوقع أن يكثر المعترضون عليه ، ولو لأجل التنصل من المسؤولية

٢٨٧

عما يحدث ، وتسجيل موقف رافض ، ولو على مستوى الشكليات.

كما أننا نستفيد من قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أما كان فيكم رجل رحيم؟! شاهدا ومؤيدا لما ذكرناه.

فإن الذين مارسوا القتل ـ على ما يظهر ـ قد وقع الإختيار عليهم بعناية ودقة. أي أن خالدا قد سلم الأسرى لأناس يعرفهم بالقسوة ، وبعدم الرحمة ، حسبما أشارت إليه كلمات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فعل خالد من أمر الجاهلية :

إن من الأمور التي قررها الإسلام ، وضع دماء الجاهلية ، وعدم أخذ الناس بها. ربما لأنها إنما أريقت لا لأجل إحقاق حق ، وإبطال باطل ، وإنما انطلاقا من عصبيات مقيتة وثأرا يأخذ البريء بذنب المسيء ، ونصرة لمفاهيم جاهلية وغير إنسانية.

والمتأمل في ما فعله خالد يجد : أنه لا يخرج عن هذا السياق ، إن يكن يغرق فيه ، ويغرق في وحوله النتنة ، وتبتهج روحه لما ينبعث منه من روائح عفنة.

لما ذا لم يعاقب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خالدا؟! :

ولا يشك أي مطلع منصف في أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غضب مما جناه خالد ، ولم يكتف بالإعراض ، بل شفع ذلك بتكرار البراءة إلى الله من فعله ثلاث مرات. ثم هو قد واجهه باللوم على ما بدر منه تجاه عبد الرحمن بن عوف الذي اعترض عليه بسبب ما صدر منه.

٢٨٨

غير أن ثمة سؤالا يبقى بحاجة إلى جواب .. وهو :

لما ذا لم يأخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالدا بجريمته ، ما دام أنه قد كان من المؤكد : أنه إنما قتل جماعة من المسلمين ، وأنه لم يكن صادقا حينما ادّعى عليهم الكفر .. وأنه قد كذب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بادّعائه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أمره بقتلهم؟!

ولعل الصواب أن يتضمن الجواب ما يلي :

إننا لا نريد أن نقول : إن قتل خالد يحبط مسعى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لاستقطاب مستضعفي المنطقة ، من حيث إن ذلك سيثير أمام الدعوة الإسلامية ألف مشكلة ومشكلة ، حين تتحرك زعامات قريش في إعلام مسموم ، يرمي إلى إثارة الشبهات في حقانية هذا الدين ، وفي صحة قرارات النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولكننا نريد أن نكتفي بالقول : بأن ادّعاء خالد : أن بني جذيمة كانوا كفارا حين قتلهم ، قد كان بهدف إيجاد الشبهة في أن يكون قد اشتبه عليه الأمر ، فظن كفرهم ، فقتلهم.

وهو وإن كان مخطئا في ذلك بلا ريب ، إلا أن خطأه هذا لا يبرر الاقتصاص لهم منه. بل هو يوجب أن يديهم إمام المسلمين ، وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بيت المال.

وقد بادر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى دفع الدية لهم ، وتعويضهم عن كل ما فقدوه.

والقرائن والدلالات وإن كانت متضافرة على تكذيب هذه المزعمة. ولكنها مزعمة تكفي لدفع غائلة الاقتصاص من خالد ، فإن الحدود تدرأ

٢٨٩

بالشبهات.

وقد أشرنا مرات عديدة إلى : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتعامل مع الناس على أساس علم الشاهدية ، أو العلم الخاص الذي يمنحه الله تعالى إياه ، وإنما يتعامل معهم وفق ما تؤدي إليه الوسائل العادية المتوفرة لديهم ، فهو يقضي بين الناس بالأيمان والبينات ، وبما يوجبه الإقرار ، وما يراه بعينه ، ويسمعه بأذنه ..

وتوضيح آخر نضيفه هنا ، وهو : أن خالدا ، وإن كان منهيا عن القتال ، لأن سريته سرية دعوة لا سرية قتال. وقد أخطأ في قتاله لبني جذيمة بلا ريب.

ولكن هناك أمران يفرضان تعاملا خاصا ، يتناسب مع مقتضياتهما وهما :

أولا : أن المسلم لا يقتل بالكافر .. فادّعاء كفرهم يجعل خالدا الذي قتلهم عمدا في مأمن من القصاص. أي أن هؤلاء ، وإن كانوا مسلمين في واقع الأمر ، ولكن خالدا يدّعي : أنه إنما قتلهم لظنه فيهم الكفر .. وهذه شبهة توجب دفع القصاص ، كما قلنا.

ثانيا : إنه لا يجوز الإقدام على أي تصرف يثير الشبهة في صحة ودقة وصوابية التصرفات ، التي تصدر عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فلا يجوز له أن يفعل ما يوجب شكهم في نبوته ، أو اتهامه في عصمته ..

ولعل ذلك هو بعض فوائد عدم السماح له بأن يتعامل مع الناس بعلم الشاهدية.

غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعراضه عن خالد :

قال البلاذري ، والواقدي : مكث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

٢٩٠

معرضا عن خالد حينا ، وخالد يتعرّض له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويحلف ما قتلهم على ترة ، ولا عداوة ، وإنه لم يسمع منهم تشهّدا.

قال البلاذري : فرضي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنه وسماه بعد ذلك سيف الله.

قال الواقدي : فلما قدم علي ووداهم ، أقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خالد ، فلم يزل عنده من علية أصحابه حتى توفي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثم ذكر حديث : لا تسبوا خالدا ، فإنما هو سيف من سيوف الله سله على المشركين (١).

ونقول :

قد تحدثنا في موضع سابق من هذا الكتاب عن تسمية خالد ب «سيف الله» ، وأنه أمر مكذوب ، وأن خالدا إنما سل سيفه على المسلمين في قضية بني جذيمة ، وفي يوم البطاح حين قتل مالك بن نويرة ، ولم نجد له أية نكاية في المشركين ، بل كان هو السبب في هزيمة المسلمين في مؤتة ، بعد أن كان النصر منهم على أعظم أمبرطورية في ذلك العصر قاب قوسين أو أدنى ، ثم كان بعد ذلك الرجل الذي تولى إخضاع المسلمين لأبي بكر ، وقتلهم على ذلك بلا رحمة ولا شفقة!!

__________________

(١) أنساب الأشراف للبلاذري ج ١ ص ٣٨١ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٣ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٩ ومسند أبي يعلى ج ١٣ ص ١٤٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٤٣ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧ والمطالب العالية ج ١٦ ص ٣٠٩ وفضائل الصحابة ج ٢ ص ٨١٥.

٢٩١

وغضب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإعراضه عن خالد ، لعله لأجل دلالة الناس عن حقيقة : أن خالدا ليس صادقا فيما يدّعيه.

وأن الشبهة التي أراد أن يتلطى خلفها وإن كانت توجب درء الحد عنه في ظاهر الأمر ، ولكنها شبهة قائمة على الخداع والتضليل ، ولذلك عامله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفق ما ادّعاه لنفسه من جهة .. ثم بيّن له الحقيقة والواقع ، ليفهمه : أن القبول منه لا يعني أنه قد تمكن من خداع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من جهة أخرى ، فلا يظنن أنه قادر على التلاعب بقرارات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين ، والتأثير على سياساتهم ، بما يدبره من مكائد ومصائد. فهو إنسان مكشوف ومعروف لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فلئن دفع عن نفسه القتل بما خادع به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين هذه المرة ، فإنه قد لا يسلم من ذلك فيما لو سولت له نفسه ذلك مرة أخرى.

٢٩٢

الفصل الثالث :

نصوص أخرى أوضح وأصرح

٢٩٣
٢٩٤

أربع مائة قتيل من بني جذيمة :

قال ابن حبيب البغدادي : «بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر ، فقاتلهم على ماء لهم ، يقال له : الغميصاء (١) ، فقتل منهم أربع مائة غلام» (٢).

وصرح المؤرخون : بأن خالدا أكثر القتل في بني جذيمة (٣).

ولكن محبي خالد يسعون بكل قوة لتقليل عدد القتلى ، ولكن القتلى كانوا من الكثرة بحيث لم يجدوا مناصا من الإعتراف بذلك ، فقد رووا عن رجل من بني جذيمة ، مبيض ؛ قال : سمعت خالد بن إلياس يقول : بلغنا أنه قتل منهم قريبا من ثلاثين رجلا (٤).

وهذا الرقم رغم أنه كثير في نفسه ، ولكن حديث ابن حبيب عن قتل

__________________

(١) الغميصاء : موضع في البادية قرب مكة إلى جهة يلملم.

(٢) المنمق (ط الهند سنة ١٣٨٤ ه‍) ص ٢٤٨ و (نسخة مخطوطة) ص ٢٠٩.

(٣) المنمق ص ٢٥٢ و ٢٥٩ و (نسخة مخطوطة) ص ٢١١ و ٢١٢ وراجع : الوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ١٧ والنص والإجتهاد ص ٤٦٠ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٦٢٧ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ج ١ ص ٢٦٦.

(٤) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٤.

٢٩٥

أربع مائة غلام ، يدل على كثرة هائلة في عدد القتلى ، تجعل من الصعب علينا تصديق كلام منسوب إلى رجل مجهول من بني جذيمة ، عن خالد بن إلياس الضعيف في نفسه أيضا ، الذي وصفه ابن معين بأنه : ليس بشيء ، ولا يكتب حديثه (١).

وقال البخاري : ليس بشيء منكر الحديث (٢).

وقال أحمد والنسائي : متروك (٣).

وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث (٤).

وقال أبو زرعة : ضعيف ليس بقوي. سمعت أبا نعيم يقول : لا يسوى حديثه فلسين (٥).

وقال النسائي مرة : ليس بثقة ، ولا يكتب حديثه (٦).

__________________

(١) عمدة القاري ج ٥ ص ٢٨٦ وميزان الإعتدال ج ٢ ص ٤٠٨ ونصب الراية للزيلعي ج ١ ص ٤٦٤.

(٢) عمدة القاري ج ٥ ص ٢٨٦ ونصب الراية للزيلعي ج ١ ص ٤٦٤ والكامل لابن عدي ج ٣ ص ٥ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ٦٨ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠ و ٧١.

(٣) ميزان الإعتدال ج ١ ص ٦٢٧ و ٦٢٨ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠ و ٧١ وعمدة القاري ج ٥ ص ٢٨٦ ونصب الراية للزيلعي ج ١ ص ٤٦٤ وضعفاء العقيلي ج ٢ ص ٣ والجرح والتعديل ج ٣ ص ٣٢١ والكامل لابن عدي ج ٣ ص ٥ وبحر الدم للمبرد ص ٤٨ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ٦٨ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠.

(٤) تخريج الأحاديث والآثار ج ١ ص ٤٢ ونصب الراية للزيلعي ج ١ ص ٤٦٤ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠.

(٥) الجرح والتعديل ج ٣ ص ٣٢١ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠.

(٦) تحفة الأحوذي ج ٨ ص ٦٨ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧١.

٢٩٦

وضعّفه أيضا : يعقوب بن سفيان ، وابن عدي ، والترمذي ، وابن شاهين ، والساجي ، ومحمد بن عمار ، وابن مثنى ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والنقاش ،.

وقال ابن عبد البر : ضعيف عند جميعهم (١).

ولو استطاع محبوا خالد إنكار أصل وجود قتلى لما ترددوا في ذلك.

القسوة والغلظة :

قد ذكرت هذه الحادثة بمرارة ظاهرة في أشعار عدد من الناس ، وقد تركت أثرها في وجدانهم وفي مشاعرهم الإنسانية ، فراجع بعض ما قيل في ذلك في كتاب السيرة النبوية لابن هشام ، والمنمق ، وغير ذلك.

ولسنا بحاجة إلى التدليل على فظاعة ما جرى ، فإن الحوامل قد أسقطن أجنتهن ، وقد محقت تلك القبيلة عن بكرة أبيها ، في مالها ، وفي رجالها ، الذين لم ينج منهم إلا الشريد ، وإلا الأسرى الذين أطلقهم الأنصار ، وبعض من غيرهم .. وكان خالد وبنو سليم هم الأعتى والأقسى ، والأغلظ أكبادا فإن بني سليم قد قتلوا جميع من كان في أيديهم من الأسرى ، ولم يفلت منهم احد ..

ويكفي للتدليل على حقيقة خالد وأعوانه ، قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم : «أما كان فيكم رجل رحيم»؟!

ابن واضح يروي ما جرى :

أما النص الذي ذكره ابن واضح فهو التالي : «بلغ جذيمة : أن خالدا قد

__________________

(١) تهذيب التهذيب ج ٣ ص ٧٠ و ٧١.

٢٩٧

جاء ومعه بنو سليم ، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح.

فقالوا : إنا لا نأخذ السلاح على الله ، وعلى رسوله ، ونحن مسلمون.

فانظر ما بعثك رسول الله له ، فإن كان بعثك مصدقا ، فهذه إبلنا وغنمنا ، فاغد عليها.

قال : ضعوا السلاح.

قالوا : إنا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية.

فانصرف عنهم ، وأذّن القوم وصلوا.

فلما كان السحر شنّ عليهم الخيل ، فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية.

فبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد. وبعث علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» فأدى إليهم ما أخذ منهم ، حتى العقال ، وميلغة الكلب. وبعث معه بمال ورد من اليمن ، فودى القتلى ، وبقيت منه بقية. فدفعها علي «عليه‌السلام» إليهم على أن يحلوا رسول الله مما علم ومما لا يعلم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لما فعلت أحب إلي من حمر النعم.

ويومئذ قال لعلي «عليه‌السلام» : فداك أبواي.

وقال عبد الرحمن بن عوف : والله ، لقد قتل خالد القوم مسلمين.

فقال خالد : إنما قتلتهم بأبيك عوف بن عبد عوف.

فقال له عبد الرحمن : ما قتلت بأبي ، ولكنك قتلت بعمك الفاكه بن المغيرة (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي (ط صادر) ج ٢ ص ٦١ وراجع المصادر المتقدمة.

٢٩٨

الأموال من اليمن!! :

وذكر البلاذري وغيره : أن المال الذي أعطاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبني جذيمة كان قد اقترضه ، فصرفه في ذلك (١).

وقد تقدم : أنهم ذكروا : أن المال الذي اقترضه من صفوان بن أمية ، وحويطب ، وابن أبي ربيعة قد ودى منه قتلى بني جذيمة (٢).

ولكن اليعقوبي قال : إنه قد أدى ديات القتلى من مال ورد إليه من اليمن.

ونقول :

قد عرفنا : أن أموال بني جذيمة قد قسمت ، ولم يعد يمكن رد اعيانها ، فردّ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم مثل ما أخذ منهم ، حتى لقد أعطاهم عوضا عن ميلغة الكلب ، وحبال الرعاة ، وما إلى ذلك.

كما أنه قد أعطاهم ديات قتلاهم. وديات القتلى تكون في العادة مبالغ كبيرة جدا ، قد يحتاج أداؤها إلى التماس المال من أكثر من اتجاه. وقد يحتاج من عليه دية إلى أن يسير في العرب طلبا للمعونة منها ، خصوصا إذا تعددت الديات. فكيف إذا بلغت العشرات والمئات ، كما هو الحال في قضية بني جذيمة ، حيث أكثر خالد من القتل فيهم ، حتى ذكر البعض رقم أربع مائة غلام.

مهما اقترض «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أموال ، فإنه لا يمكن اقتراض ما

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٨١.

(٢) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٢.

٢٩٩

يفي بديات عشر معشار هؤلاء.

خصوصا إذا لاحظنا ما يحتاج إليه جيش يزيد على عشرة آلاف مقاتل من نفقات عظيمة.

أما ما ذكروه : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ودى القتلى مما اقترضه من صفوان بن أمية وغيره ، فهو لا يعدو كونه مجرد مزحة من قائله. خصوصا مع التصريح بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اقترض ذلك المال ليعين به ضعفاء أصحابه .. ولا شك في أن كثرة هؤلاء الضعفاء ظاهرة ، تتناسب مع عدد عشرة آلاف مقاتل ، قد جاؤوا من بلاد بعيدة ، وليس لهم مصدر رزق في هذه البلاد ، وقد جاؤوا محاربين غير مسالمين ، ولا متاجرين.

وأما المال الذي جاء من اليمن ، فهو ليس من غنائم الحرب ، لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم تكن له سرايا ، ولا كتائب تعمل في تلك المناطق ، بل كان كل ما يمكنه أن يستفيد منه في مجال القتال قد وظفه في تجهيز هذا الجيش إلى مكة ومحيطها ، ليحسم الأمور فيها ، ويدخل المنطقة بأسرها في مرحلة جديدة من التوجهات والطموحات ، والتخطيط ، والحركة ، والعمل.

كما أن المفروض هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن قد بسط سلطته على منطقة اليمن .. ولم يكن له تجار يعملون فيها على تحصيل المال ، وإمداده به ..

كما أن اليمن نفسها لم يكن لها ذلك التميّز والتفرد ، والأهمية في إنتاج المال. فقد كانت مناطق الشام ، وبلاد الروم ، وفارس اكثر أهمية منها من هذه الجهة.

يضاف إلى ما تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد أن يباغت قريشا بالجيوش ، وهو إنما يجمع جيوشه من منطقة المدينة وما هو قريب منها ،

٣٠٠