الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-195-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

إننا نرى صحة هذا الخيار الأخير ، ولا نجد فيه أي محذور ، فإن التدخل الغيبي الإلهي لإيصال المنافع للبشر ، ودفع المضار عنهم أمر مشهود في تاريخ البشر.

ولكن إذا كان يراد بهذا التدخل التوصل إلى سلب الناس القدرة على التصرف ، وعلى الإختيار ، أو أخذهم ومؤاخذتهم استنادا إلى معارف حصلت بوسائل غير عادية ، ولا تقع تحت قدرتهم ، فذلك هو المحذور الذي لا يمكن أن يكون له أي دور في السياسة الإلهية للبشر ، أو في التعامل معهم.

٢ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكتف بما ذكره لهم ، من معرفته الدقيقة بكل ما من شأنه أن يؤثر على مسار الأمور ، بحيث تنتهي إلى ما يحبه المسلمون .. بل هو قد تجاوز ذلك بإخبارهم الغيبي عن مستقبل بني مدلج في هذا الدين ، وأنهم سيدخلون فيه ، وسيكون منهم الشهداء في سبيل الله .. الأمر الذي يصل بالأمور لدى أصحابه إلى درجة اليقين بالنتائج ، فلا موضع للتوهم في أن يكون ما يخبرهم به مجرد توقعات يطلقها على سبيل التفاؤل للربط على القلوب ، وشحذ العزائم ، وإيقاظ الهمم.

٣ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يشر إلى ما سيفعله سيد بني مدلج!! هل سوف يسلم؟! أم أنه سيبقى على شركه؟! لكنه ، وهو السيد الأديب الأريب سيمنع قومه من إظهار العداوة ، ومن إثارة المتاعب ، والدخول في تحالفات ، أو في مؤامرات ضد الإسلام والمسلمين ، وهذا يكفي مبررا للكف عن بني مدلج ..

٤ ـ إن هذا الذي جرى يظهر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يريد

٢٤١

حمل الناس على الإسلام ، ولا كان يريد أن يستفيد من عنصر القوة إلا حين تلجئه الظروف إلى ذلك ، وذلك حين يعلن الآخرون الحرب على الإسلام وأهله ، دون أن تكون هناك أية فرصة لدفع شرهم ، ورد عاديتهم إلا بالتوسل بالقوة.

٥ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان حريصا على ممارسة حقه في دعوة الناس إلى الحق ، وتعريفهم ، وإبلاغهم بنبوته ، وإقامة الحجة عليهم فيها ، وفيما يدعو إليه .. ثم يترك الخيار لهم.

٨ ـ سرية عمر بن أمية إلى بني الديل :

وبعث «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمر بن أمية الضمري إلى بني الديل ، فدعاهم إلى الله ورسوله ، فأبوا اشد الإباء ، فقال الناس : اغزهم يا رسول الله.

فقال : «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أتاكم الآن سيدهم قد أسلم ، فيقول لهم : أسلموا ، فيقولون : نعم (١).

ونقول :

إننا بالإضافة إلى ما قدمناه في الحديث عن غزوة بني مدلج ، نقول :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد توقع لأصحابه قرب قدوم سيدهم إليهم ، وحتمية تحقق ما يخبرهم به ، حيث قال : «أتاكم الآن سيدهم» بصيغة الفعل الماضي الدال على التحقق والوقوع.

__________________

(١) إعلام الورى (ط سنة ١٣٩٩ ه‍) ص ١١٩ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٢٧ والبحار ج ٢١ ص ١٤٠ عنه ، وراجع : مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء) ج ١ ص ٢٦٢.

٢٤٢

ثم أخبر عن إسلام سيد بني الديل قبل قدومه.

ثم توقع أن يكون نفس سيدهم داعية لقومه إلى الدخول في الإسلام ، وذلك سيوفر على المسلمين مشكلات كثيرة ، وقد تكون كبيرة أيضا. وسيسهل على بني الديل الدخول في دين الله ، من دون أي خوف أو وجل ، أو توقع إساءة أو ملامة من رئيسهم وسيدهم.

٩ ـ سرية ابن سهيل بن عمرو إلى بني محارب :

وبعث «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عبد الله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر ، فأسلموا ، وجاء معه نفر منهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

أما سرية بني جذيمة ، فسنفرد حديثا عنها ابتداء من الفصل التالي.

__________________

(١) راجع المصادر المتقدمة في الهامش.

٢٤٣
٢٤٤

الفصل الثاني :

خالد يبيد بني جذيمة

٢٤٥
٢٤٦

قتل بني جذيمة في النصوص والآثار :

وذكروا : أن قصة بني جذيمة قد حصلت بعد الفتح.

قال البلاذري : إنها كانت في شوال (١).

وقالوا : كان بنو جذيمة ـ وهم قبيلة من عبد القيس أسفل مكة بناحية يلملم ـ وقد كانوا أصابوا في الجاهلية من بني المغيرة نسوة ، وقتلوا عمّ خالد ، فأرسل إليهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالد بن الوليد ، بعد أن رجع من هدم العزى ، داعيا لا مقاتلا (٢).

__________________

(١) أنساب الأشراف ج ١ ص ١٨١ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٤٥ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٣١٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ وإمتاع الأسماع ج ٢ ص ٦ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ عيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٧ و ٢٠٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٤٠ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢٧ والمبسوط للسرخسي ج ٢٠ ص ١٤٣ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٢٨ فتح الباري ج ٨ ص ٤٥ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٣١٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠.

٢٤٧

فاستقبلوه وعليهم السلاح ، وقالوا : يا خالد ، إنّا لم نأخذ السلاح على الله وعلى رسوله ، ونحن مسلمون ، فانظر ، فإن كان بعثك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ساعيا فهذه إبلنا وغنمنا فاغد عليها.

فقال : ضعوا السلاح.

قالوا : إنّا نخاف منك أن تأخذنا بإحنة الجاهلية ، وقد أماتها الله ورسوله.

فانصرف عنهم بمن معه ، فنزلوا قريبا ، ثم شن عليهم الخيل ، فقتل وأسر منهم رجالا.

ثم قال : ليقتل كل رجل منكم أسيره.

فقتلوا الأسرى.

وجاء رسولهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره بما فعل خالد بهم ، فرفع «عليه‌السلام» يده إلى السماء وقال : «اللهم إني أبرء إليك مما فعل خالد».

وبكى ، ثم دعى عليا «عليه‌السلام» ، فقال : اخرج إليهم ، وانظر في أمرهم. وأعطاه سفطا من ذهب ، ففعل ما أمره ، وأرضاهم (١).

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٤٠ وإعلام الورى (ط سنة ١٣٩٩ ه‍) ص ١١٩ و (ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ج ١ ص ٢٢٨. وراجع حديث قتل خالد لبني جذيمة في : البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ ومسند أحمد ج ٢ ص ١٥٠ و ١٥١ والمحلى لابن حزم ج ١٠ ص ٣٦٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٥٥ و ٢٥٦ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٧٥ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٤٥ وصحيح البخاري ج ٥ ص ١٠٧ وسنن النسائي ج ٨ ص ٢٣٧ وفتح الباري ج ٨ ص ٤٥ والسنن

٢٤٨

وروى ابن إسحاق ، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي‌الله‌عنهم ، ومحمد بن عمر عن ابن سعد ، قال : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالد بن الوليد ـ حين افتتح مكة ـ داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار (ومعه قبائل من العرب) سليم بن منصور ، ومدلج بن مرة ، فوطئوا بني جذيمة (بن عامر بن عبد مناة بن كنانة) فلما رآه القوم أخذوا السلاح ، فقال خالد : ما أنتم؟

قالوا : مسلمون ، قد صلينا ، وصدقنا ، وبنينا المساجد في ساحاتنا ، وأذّنّا فيها.

قال : فما بال السلاح عليكم؟

قالوا : «إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة ، فخفنا أن تكونوا هم ، فأخذنا السلاح».

فقال خالد : ضعوا السلاح ، فإن الناس قد أسلموا (١).

__________________

الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٤٧٤ وج ٥ ص ١٧٧ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٥٤ وكنز العمال ج ١ ص ٣١٧ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٤٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٣ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٧٦ ومصادر كثيرة أخرى.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧١ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٦ و ٦٧ وراجع : أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٨١ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ و ٩٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢١٠.

٢٤٩

فقال رجل من بني جذيمة ، يقال له : جحدم : «إنه والله خالد. وما يطلب محمد من أحد أكثر من أن يقر بالإسلام ، ونحن مقرون بالإسلام ، وهو خالد ، لا يريد بنا ما يراد بالمسلمين» (١).

«ويلكم يا بني جذيمة ، إنه خالد ، والله ما بعد وضع السلاح إلا الأسار ، وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبدا».

فأخذه رجال من قومه ، فقالوا : «يا جحدم ، أتريد أن تسفك دماءنا؟ إن الناس قد أسلموا ، ووضعت الحرب أوزارها ، وأمن الناس».

فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ، ووضع القوم السلاح لقول خالد (٢).

وقال أبو جعفر ، محمد بن علي رضي‌الله‌عنهم : فلما وضعوا السلاح أمرهم خالد عند ذلك ، فكتفوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ عن ابن إسحاق ، والواقدي ، وراجع : المنمق ص ٢٥٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٥٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٢ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٧ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤١ وشرح الأخبار ج ١ ص ٣٠٩ والغدير ج ٧ ص ١٦٨ وكتاب المنمق ص ٢١٦ و ٢١٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩١.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٢ ـ

٢٥٠

وقالوا : فلما كان السحر نادى خالد : من كان معه أسير فليدافه. والمدافة الإجهاز عليه بالسيف.

وفي المواهب اللدنية : من كان معه أسير فليقتله.

فأما بنو سليم فقتلوا كل من كان في أيديهم.

وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم (١).

وعن إبراهيم بن جعفر المحمودي ، قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «رأيت كأني لقمت لقمة من حيس ، فالتذذت طعمها ، فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها ، فأدخل عليّ يده ، فنزعه».

فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، هذه سرية من سراياك ، تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ، ويكون في بعضها اعتراض ، فتبعث عليا فيسهله (٢).

__________________

وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٧ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤١ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ و ٤٠٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٨ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩١.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ عن أحمد ، والبخاري ، والنسائي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ عن المواهب اللدنية ، والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ وراجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢١٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٠ و ٢٠١ عن ابن هشام ، والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والغدير ج ٧ ص ١٦٩.

٢٥١

قال ابن إسحاق : ولما أبى جحدم ما صنع خالد ، قال : يا بني جذيمة ضاع الضرب ، قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه (١).

قال : وحدثني أهل العلم : أنه انفلت رجل من القوم ، فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هل أنكر عليه أحد»؟

قال : نعم ، قد أنكر عليه رجل أبيض ، ربعة ، فنهمه خالد ، فسكت عنه.

وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب ، فراجعه ، فاشتدت مراجعتهما.

فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، أما الأول فابني عبد الله ، وأما الآخر ، فسالم مولى أبي حذيفة (٢).

قال عبد الله بن عمر في حديثه السابق : «فلما قدمنا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذكرنا ذلك له ، فرفع يديه وقال : «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد». مرتين (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٣ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٤ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٨ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٢ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٢.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ عن أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، وراجع المصادر المتقدمة.

٢٥٢

قال أبو جعفر ، محمد بن علي رضي‌الله‌عنهم : فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال : «يا علي ، اخرج إلى هؤلاء القوم ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك».

فخرج علي «عليه‌السلام» حتى جاءهم ، ومعه مال قد بعث به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فودى لهم الدماء ، وما أصيب لهم من الأموال ، حتى إنه لودى لهم ميلغة الكلب ، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه ، بقيت معه بقية من المال ، فقال لهم عليّ حين فرغ منهم : «هل بقي لكم مال لم يؤد إليكم»؟

قالوا : لا.

قال : فإني أعطيكم من هذه البقية من هذا المال ، احتياطا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما لا يعلم ومما لا تعلمون».

ففعل ، ثم رجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر فقال : «أصبت وأحسنت».

ثم قام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه ، حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه ، يقول : «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد». ثلاث مرات (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ وأشار في هامشه إلى : البخاري ج ٤ ص ١٢٢ ، والنسائي ج ٨ ص ٢٣٧ وأحمد في المسند ج ٢ ص ١٥١ والبيهقي في السنن ج ٩ ص ١١٥. وراجع : الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٥٣ ودلائل الصدق ج ٣ ق ١ ص ٣٣ و ٣٤ والإصابة ج ١ ص ٣١٨ و ٢٢٧ وج ٢ ص ٨١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ و ١٤٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥٨ والسيرة

٢٥٣

وذكر الواقدي : أن عليا «عليه‌السلام» جاءهم بالمال الذي أعطاه إياه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فودى لهم ما أصاب خالد ، ودفع إليهم ما لهم ، وبقي لهم بقية من المال ، فبعث علي «عليه‌السلام» أبا رافع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليستزيده ، فزاده مالا ، فودى لهم كل ما أصاب (١).

ولما رجع علي «عليه‌السلام» إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : ما صنعت يا علي؟!

فأخبره ، وقال : يا رسول الله ، قدمنا على قوم مسلمين ، قد بنوا المساجد بساحتهم ، فوديت لهم كل من قتل خالد حتى ميلغة الكلاب الخ .. (٢).

وقال بعض بني جذيمة أبياتا يذكر فيها غدر خالد بهم ، ومنها :

ولو لا مقال القوم للقوم أسلموا

للاقت سليم يوم ذلك ناطحا

__________________

النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٢ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف بمصر) ج ٣ ص ٦٧ و ٦٨ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤٢ والغدير ج ٧ ص ١٦٩ وكتاب المنمق ص ٢١٧ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٨ و ٤٠٩ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٧٣ والغدير ج ٧ ص ١٦٨ و ١٦٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٢ و ٧٣ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٤ وتاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٤٥ وأسد الغابة ج ٣ ص ١٠٢ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ والمنمق ص ٢٥٩ و ٢٦٠ وراجع : الثقات لابن حبان ج ٢ ص ٦٢ و ٦٣.

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٢ وراجع : إمتاع الأسماع ج ٢ ص ٧.

(٢) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٨٢.

٢٥٤

لما صعهم بشر وأصحاب جحدم

ومرة حتى يتركوا البرك ناضحا (١).

قال ابن عبد البر عن قصة خالد هذه : «وخبره في ذلك (بذلك) من صحيح الأثر» (٢).

ما بهذا أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وبعد .. فإن مهمة سرية الدعوة هي التلطف في توضيح الحقائق للناس ، وإقناعهم ، بإيراد الدلائل والشواهد التي تقطع كل عذر ..

فما معنى : أن يسأل الرجل عن دينه ، هل هو كافر أو مسلم ، حتى إذا قال : إن كنت كافرا فمه.

فيقال له : إن كنت كافرا قتلناك.

ثم يقتلونه ، من دون أن يعرضوا عليه أي شيء من دعوة الإسلام؟!

بل إنهم ليقتلونه حتى بعد أن عرفوا : أنه عشق امرأة فلحقها ..

ولم يمهلوه إلا بمقدار أن يلقي عليها نظرة واحدة ، ثم يقدموه للقتل.

فعن ابن أبي حدرد الأسلمي ، وعن عبد الله بن عصام (المزني) عن

__________________

(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٤ و ٧٥ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٥ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٦٤٥ ومعجم البلدان ج ٤ ص ٢١٤ وكتاب المنمق ص ٢٥٣ و (نسخة مخطوطة) ص ٢١٢ والمماصعة : المضاربة بالسيوف. والبرك : الإبل الباركة.

(٢) الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ١ ص ١٥٣ و (ط دار الجيل) ج ٣ ص ٤٢٨ والنص والإجتهاد ص ٤٦١ والغدير ج ٧ ص ١٦٨ والإكمال في أسماء الرجال للتبريزي ص ٥٦.

٢٥٥

أبيه ، وعن ابن عباس : قال ابن أبي حدرد : كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد.

وقال عصام : لحقنا رجلا فقلنا له : كافر ، أو مسلم؟

فقال : إن كنت كافرا فمه؟

قلنا له : إن كنت كافرا قتلناك.

قال : دعوني أقضي إلى النسوان حاجة.

وقال ابن عباس : فقال : إني لست منهم ، إني عشقت امرأة ، فلحقتها ، فدعوني أنظر إليها نظرة ، ثم اصنعوا بي ما بدا لكم.

الغدر .. ثم القتل :

وذكر الواقدي ما ملخصه : أن بني سليم طاردوا غلاما ليقتلوه ، فقتل منهم رجلين ، ولم يقدروا عليه. ثم ظهر لهم في اليوم التالي ، وطلب الأمان ، وعرض فرسه ، فعرفه بنو سليم أنه غريمهم بالأمس ، فناوشوه عامة النهار ، حتى أعجزهم ، وكر عليهم ، ثم عرض عليهم ان يعطوه عهد الله وميثاقه إذا نزل أن يصنعوا به ما يصنعون بالظعن ، فإن قتلوهن قتلوه ، وإن استحيوهن استحيوه ، فأعطوه ذلك. وكانت النساء والذرية في يد خالد ..

فلما نزل غدروا به ، وجعلوه مع الأسرى من الرجال ، فطلب منهم أن يأخذوا برمته إلى نسيات هناك ، ثم يردونه (١).

قال ابن أبي حدرد : فقال فتى من بني جذيمة ـ وهو في سني وقد

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٨ و ٨٧٩.

٢٥٦

جمعت يداه إلى عنقه برمة ، ونسوة مجتمعات غير بعيد منه ـ يا فتى.

فقلت : ما تشاء؟

قال : هل أنت آخذ بهذه الرمة ، فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة ، ثم تردني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم؟

قال : قلت : والله ليسير ما طلبت.

فأخذت برمته ، فقدته بها حتى أوقفته عليهن.

فدنا إلى امرأة منهن.

قال ابن عباس : فإذا امرأة طويلة أدماء ، فقال : اسلمي حبيش على نفد من العيش.

أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم

بحلية أو ألفيتكم بالخوانق

ألم يك أهلا أن ينول عاشق

تكلف إدلاج السرى والودائق

فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا

أثيبي بود قبل إحدى الصفائق

أثيبي بود قبل أن يشحط النوى

وينأى لأمر بالحبيب المفارق

زاد ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر :

فإني لا ضيعت سر أمانة

ولا راق عيني عنك بعدك رائق

سوى أن ما نال العشيرة شاغل

عن الود إلا أن يكون التوامق

قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخيرين منها له. انتهى.

فقالت : نعم ، وأنت فحييت سبعا وعشرا وترا ، وثمانيا (ثمانين) تترى.

قال ابن أبي حدرد : ثم انصرفت به ، فضربت عنقه.

٢٥٧

وقال عصام : فقربناه ، فضربنا عنقه ، فقامت المرأة إليه حين ضربت عنقه ، فأكبت عليه ، فما زالت تقبله حتى ماتت عليه (١).

وقال ابن عباس : فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت.

فلما قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخبره الخبر ، فقال : «أما كان فيكم رجل رحيم»؟ (٢).

__________________

(١) راجع : تاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٨ و ٦٩ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ و ٩٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠١ و ٢٠٢ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٨ ـ ٨٨٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٦ و ٧٧ و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٨٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢١٠ والمنمق ص ٢٥٣ ـ ٢٥٥ و ٢٥٨ و ٢٥٩ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٧ ص ٣٣٨ و ٣٣٩ والإصابة ج ٤ ص ٤٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٢٠٢ عن ابن هشام ، وعن ابن إسحاق ، وابن سعد ، والنسائي ، وراجع : البيهقي في الدلائل ج ٥ ص ١١٨ والطبراني في الكبير ج ١١ ص ٣٧٠. وراجع : المغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٨ ـ ٨٨٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٨ و ٩٩ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢١٠ وفتح الباري ج ٨ ص ٤٦ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٢٠١ والمعجم الأوسط ج ٢ ص ١٩٦ وكشف الخفاء للعجلوني ج ٢ ص ٢٦٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦١ وعيونالأثر ج ٢ ص ٢١١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٧ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢١٤.

٢٥٨

ونحن نكتفي هنا بذكر ثلاثة أمور هي التالية :

١ ـ شجاعة .. ونبل :

إن ما صنعه هذا الفتى من بني جذيمة ، يثير إعجاب كل منصف أريب ، وعاقل لبيب ، يعطي القيمة لصفات الرجولة ، والشجاعة والشمم ، فهو قد دافع عن نفسه دفاع الأبطال ، وأعرب عن شجاعة وبسالة رائعة.

ثم هو قد أعرب عن احترامه للعهود والمواثيق ، وألزم نفسه بها ، رغم أنه يعرف أن الذين يحاربون ، ويطاردونه ، إنما يفعلون ذلك عدوانا وتجبرا ، وبلا أي مبرر.

وقد كان بإمكان هذا الفتى أن ينجو بنفسه ، ولكن محبته لتلك المرأة ، وسكونه إلى العهد الذي أخذه من محاربيه ، هو الذي دفعه إلى هذا الاستسلام النبيل.

٢ ـ غدر .. ولؤم :

ولكن هذا الفتى لم يلق من محاربيه ما توقعه من وفاء بعهود الله ومواثيقه ، بل وجد الغدر اللئيم ، والفعل الذميم ، مع أن هؤلاء قد وطأوا تلك البلاد على أساس أنهم دعاة للإسلام ، ويريدون تقديم صورة مشرقة ومشرّفة عن هذا الدين.

أما كان فيكم رجل رحيم :

وبعد .. فإن من البديهي : أن للإنسانية سماتها وتجلياتها ، التي تتناسب مع حقيقتها. وأن العاطفة والرحمة الإنسانية هي إحدى هذه السمات ،

٢٥٩

وتوهجها يكون من هذه التجليات ..

وحين تفقد الرحمة ، فإن الإنسانية تفقد معناها ومغزاها ، ولا بد أن ينتقص تبعا لذلك كل ما يرتبط بذلك من حقوق ، وامتيازات ، وأن ينحط ما نشأ عنها من مقامات ودرجات.

وحين تجلت سمات الإنسانية في علي «عليه‌السلام» لكل أحد بالتصدق بالخاتم بالصلاة ، أعلن الله تعالى له أعظم مقام ، ألا وهو مقام الولاية العظمى على البشر ، في قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١).

وحين ظهر الخلل في معنى الرحمة الإنسانية في ذلك (الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ). جاء الإعلان الإلهي : بأن ذلك من سمات ذلك (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) .. وأن ذلك من شأنه ان يخل حتى بالتكوين الفكري والاعتقادي .. إلى حد انه ينتهي بما يوجب خروجه عن الدين والإيمان ، قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٢).

ولأجل ذلك .. جاء الإستفهام الإنكاري الذي يشير إلى فقدان سمات الإنسانية لدى هؤلاء ، فلا جرم أن تصدر منهم هذه الأعمال الفظيعة والشنيعة.

المعترضون على الجريمة :

عن سلمة بن الأكوع ، قال : قدم خالد بن الوليد على النبي «صلى الله

__________________

(١) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

(٢) الآيات ١ ـ ٣ من سورة الماعون.

٢٦٠