الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-195-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

الباب الأول

من فتح مكة إلى حنين .. تسع بعوث وسرايا ..

الفصل الأول : بعوث وسرايا قبل بني جذيمة

الفصل الثاني : خالد يبيد بني جذيمة

الفصل الثالث : نصوص أخرى أوضح وأصرح

الفصل الرابع : حديث العترة هو القصص الحق

٢٢١
٢٢٢

الفصل الأول :

بعوث وسرايا قبل بني جذيمة

٢٢٣
٢٢٤

بداية :

قد ذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل ، وهو في مكة العديد من السرايا ، التي كانت تهدف إلى إزالة آثار الشرك من المنطقة ، وذلك في اتجاهين :

أحدهما : هدم الأصنام الني كانت مقامة في تلك المناطق ، بعد أن أزيل ما كان منها معلقا على الكعبة ، وما كان على المسجد الحرام.

الثاني : دعوة الناس إلى الله تبارك وتعالى ، وحده لا شريك له.

وقد ذكروا من القسم الأول والثاني وفق ترتيب المسعودي وغيره ما يلي :

١ ـ سرية خالد بن الوليد في شهر رمضان إلى نخلة اليمانية ، لهدم العزّى فيها.

٢ ـ سرية عمرو بن العاص في شهر رمضان إلى سواع ، برهاط ، فهدمه.

٣ ـ سرية سعد بن زيد الأشهلي ـ هو من الأوس ـ في هذا الشهر إلى مناة بالمشلل ، فهدمه.

٤ ـ سرية خالد بن سعيد بن العاص إلى عرنة.

٥ ـ سرية هشام بن العاص إلى يلملم.

٢٢٥

٦ ـ سرية الطفيل بن عمرو الدوسي في شوال إلى ذي الكفين ، صنم عمرو بن حممة الدوسي ، فهدمه.

٧ ـ سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة (١).

ونقول :

هذا ما ذكره المسعودي وغيره هنا. غير أن بعضه محل نظر وإشكال ، فإن بعض ما ذكروه وإن كان قد وقع قبل غزوة حنين ، ولكن بعضه الآخر مختلف فيه ، مع تصريح بعضهم بما يدل على أنه متأخر عن غزوة حنين.

وذلك مثل سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين ، فإنها وقعت حين أراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسير إلى الطائف.

وبعض ثالث مما ذكر لم نجد فيما اطلعنا عليه من المصادر ما يكفي للحكم عليه ، بل لم نجد ما يمكّننا من إفراده بالذكر ، وذلك مثل :

ألف : سرية خالد بن سعيد إلى عرنة.

ب : سرية هشام بن العاص إلى يلملم.

وقد أضاف آخرون إلى ما تقدم عدة سرايا ذكروها قبل ذكرهم لسرية خالد إلى بني جذيمة وهي :

٩ ـ سرية غالب بن عبد الله إلى بني مدلج.

١٠ ـ سرية عمرو بن أمية الضمري إلى بني الديل.

__________________

(١) التنبيه والإشراف ص ٢٣٣ و ٢٣٤ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٣ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٧٧ و ٢٣٢.

٢٢٦

١١ ـ سرية عبد الله بن سهيل بن عمرو إلى بني محارب بن فهر (١).

وسنحاول إن شاء الله ذكر هذه البعوث والسرايا وفقا للترتيب والترقيم المذكور أعلاه ، فنقول :

١ ـ سرية خالد لهدم العزى :

لقد أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالد بن الوليد إلى العزى ، ليهدمها ، لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان ، وكانت بيتا بنخلة (٢).

وكان سدنتها ، وحجابها : من بني شيبان ، من بني سليم حلفاء بني هاشم ، وكانت أعظم أصنام قريش وجميع كنانة.

وذلك : أن عمرو بن لحي كان قد أخبرهم أن الرب يشتي بالطائف عند اللات ، ويصيف عند العزى ، فعظموها ، وبنوا لها بيتا. وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة (٣).

__________________

(١) إعلام الورى (ط سنة ١٣٩٩ ه‍) ص ١١٩ والبحار ج ٢١ ص ١٤٠ عنه ، وراجع : مناقب آل أبي طالب (ط دار الأضواء سنة ١٤١٢ ه‍) ج ١ ص ٢٦٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦ عن ابن سعد ، والبيهقي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٦ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ٤٨٨ و ٤٨٩ وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٧ والبحار ج ٢١ ص ١٤٥ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٧.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦ عن ابن سعد ، والواقدي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٦ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ٤٨٨ و ٤٨٩ وراجع :

٢٢٧

وزعموا : أن خالدا ذهب إليها ، فقلعها ، واستأصلها ، فخرجت منها عجوز عريانة ، سوداء ، ثائرة الرأس ، فضربها خالد بسيفه ، فقتلها (١).

غير أننا نظن : أن هذه القصة قد تعرضت للتشويه والتحريف ، بهدف التمويه على ما بدر من خالد ، من مخالفة لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث تذكر النصوص أيضا : أن خالدا لم يقلع العزّى ، ولم يهدمها ، بل رجع إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخبره أنه قد قلعها.

فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هل رأيت شيئا؟!

قال : لا.

قال : ما قلعت.

وفي رواية قال : إنك لم تهدمها ، فارجع إليها فاهدمها.

فعاد إليها خالد متغيظا ومعه المعول ، فقلعها ، فخرجت منها عجوز الخ .. (٢).

__________________

السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ١٩ ج ٣ ص ٢٠٨ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٩٧.

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٦ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ٣٨٨ و ٤٨٩ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٤٥ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٠٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٦ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ٤٨٨ و ٤٨٩ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣٠٨ وزاد المعاد ج ١ ص ١١٦٦ والبحار ج ٢١ ص ١٤٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٤٥ و ١٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ١٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٧.

٢٢٨

ونص آخر يقول : إن خالدا خرج في ثلاثين فارسا من أصحابه.

قال ابن إسحاق : فلما سمع سادنها السلمي بسير خالد إليها علّق عليها سيفه ، وأسند في الجبل الذي هي فيه وهو يقول :

أيا عزّ شدي شدة لا شوى لها

على خالد ألقي القناع وشمري

أيا عزّ إن لم تقتلي المرء خالدا

فبوئي بإثم عاجل أو تنصّري

قالوا : فأتاها خالد ، فقطع السمرات ، وهدمها ، ثم رجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبره.

فقال : «هل رأيت شيئا»؟

قال : لا.

قال : «فإنك لم تهدمها ، فارجع إليها فاهدمها».

فرجع خالد وهو متغيظ. فلما رأت السدنة خالدا انبعثوا في الجبل ، وهم يقولون : يا عزّى خبليه ، يا عزّى عوريه ، ولا تموتي برغم.

فخرجت إليه (امرأة عجوز) سوداء ، عريانة ، ثائرة الرأس مولولة ، زاد أبو الطفيل : تحثو التراب على رأسها ووجهها. فضربها خالد وهو يقول :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

فجزّ لها اثنتين ، ثم رجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره.

فقال : «نعم ، تلك العزى قد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦ عن أبي الطفيل ، والواقدي ، وابن سعد ، وتاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٥ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٨٧٣ و ٨٧٤ وراجع : السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٧٩ وتاريخ

٢٢٩

الحدث في قفص الإتهام :

ونلاحظ على هذه الروايات أمورا عديدة :

فأولا : هل كانت هذه العجوز السوداء من الإنس أو من الجن؟!

وإذا كانت من الجن .. فهل يمكن لخالد أن يقتل الجن بسيفه؟!

وإذا كانت السيوف الإنسية تقتل الجن .. فلما ذا لم تتجنب تلك الجنية سيف خالد؟!

وما هو مصير جثتها بعد قتلها؟! هل بقيت ظاهرة للعيان؟ أم اختفت؟! وإذا كانت قد اختفت .. فكيف يمكن إثبات صحة قتلها وموتها؟!

وهل يمكن لخالد في هذه الحال : أن يثبت صحة ما يدّعيه لنفسه من بطولة ، وعظمة؟!

وهل كان أمثال هذه العجوز ، يوجدون عند سائر الأصنام ، مثل هبل ، واللات ، وودّ ، وسواع ، ومناة و.. و.. الخ ..؟!

وهل ظهرت تلك العجائز على الذين هدموا تلك الأصنام ، واقتلعوها؟!

ثانيا : لما ذا كذب خالد فيما أخبر به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فأخبره بأنه قد هدم العزّى ، والحال أنه لم يهدمها.

ثالثا : لما ذا لم يهدم خالد العزّى في المرة الأولى؟! هل لأنه خاف من ان يكون لها تأثير عليه ، من حيث أنه يعتقد : بأن لها شأنا وأثرا؟!

__________________

الخميس ج ٢ ص ٩٦ والبحار ج ٢١ ص ١٤٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٢ وإمتاع الأسماع ج ١٤ ص ١٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٧.

٢٣٠

فإن كان الأمر كذلك ، فهو يثير أكثر من علامة استفهام حول صحة إيمان خالد ، وحول إخلاصه فيما يدّعيه من التخلي عن الشرك ، وعبادة غير الله تعالى.

رابعا : إنه حين عاد خالد إلى العزّى متغيظا ، إن كان تغيظه على العزّى؟ فلما ذا حدث هذا التغيظ منه الآن ، ولم يكن حين ذهب إليها ثم رجع؟!

وإن كان هذا التغيظ على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ، حيث كشف أمره ، وفضحه ، فذلك قد يصل إلى حد الكفر والخروج من الدين ..

وإن كان تغيظ على نفسه ، وعلى ارتكابه ما أوجب الفضيحة وظهور الكذب ، وافتضاح النوايا ، فهذا ما لا سبيل إلى تلافيه ، بعد ان أوقع نفسه فيه ، ولكن ذلك لا يعفيه من المسؤولية ، بل هو يقترب في قبحه وفي تأثيراته من الخيار الثاني الآنف ..

خامسا : قد تكرر هذا الحديث بعينه بالنسبة لنائلة أيضا ، ولكنهم لم يذكروا أن أحدا قتل تلك العجوز. وتقدم ذلك.

وذكر هذا الحديث بعينه ، مع ذكر قتلها بالنسبة لمناة ، حيث زعموا : أن سعد بن زيد قتلها أيضا.

ولكن عمرو بن العاص لم ينل هذا الشرف ، ولا خرجت له شيطانه ، ولا شيطان حين هدم سواعا.

ملاحظة : إننا نظن أنهم أرادوا أن ينسبوا لخالد فضيلة حرب الجن ، وهي كرامة ثابتة لعلي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، لكي يرفعوا من شأن خالد ، ويقللوا من شأن علي «عليه‌السلام» ، حيث لا تبقى هذه الفضيلة منحصرة فيه ولا هي من خصائصه وميزاته على غيره.

٢٣١

السادن .. بين الذكاء والغباء :

ثم إن ما فعله السادن من تعليق السيف برقبة الصنم ليدافع عن نفسه ، فيه دلالة ظاهرة على أنه كان مدركا بفطرته ، وبعقله سخافة عبادتهم لصنم ، لا يضر ولا ينفع ، ولا يبصر ولا يسمع. وتصرفه هذا يشير إلى ذكائه ، وحسن تخلصه من المسؤولية ، ودفع أي اعتراض عليه ، أو مؤاخذة له ، فيما يرتبط بعدم مبادرته للدفاع عن ذلك الصنم المشؤوم.

ولو أنه كان يؤمن بأن للصنم القدرة على المقاومة ، والدفاع عن نفسه ، فإنه يكون في غاية الغباء ، وفي منتهى السذاجة ، والتغفيل ..

هل هذه سرية؟! :

إن تسمية هدم العزّى التي كانت مجرد صنم في بيت ببطن نخلة بأنه «سرية» لعله لا يخلو من مسامحة ، بل مبالغة ، لأجل تعظيم شأن خالد ، وتعويضه عن بعض ما فقده في قصة بني جذيمة.

وكذلك الحال في قصة هدم عمرو بن العاص لسواع ، فإنه لم يكن هناك أحد من الناس يخشى منه سوى سادنه.

كما أن من الملاحظ : أن الذي حضر هدم العزّى أيضا هو خصوص السادن دون سواه ..

فلعل إرسال ثلاثين رجلا مع خالد قد كان بهدف الحماية من مخاطر الطريق ، فلا يتعرض له أحد بسوء.

أو لعله كان لغرض آخر ، مثل دعوة بعض القبائل التي قد تصادفهم في الطريق إلى الدخول في هذا الدين.

٢٣٢

قبل قصة بني جذيمة أو بعدها :

قال الصالحي الشامي :

ذكر ابن إسحاق ومن تابعه ، إرسال خالد لهدم العزى بعد سرية خالد إلى بني جذيمة.

وذكرها محمد بن عمر ، وابن سعد ، والبلاذري ، وجرى عليه في المورد والعيون ، وجزم به في الإشارة قبلها. وارتضاه في الزهر ، وقال : إن في الأول نظرا ، من حيث إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة ، ولا يتجه إرساله بعد ذلك في بعث.

والذي ذكره غير واحد ، منهم الواقدي ، وتلميذه محمد بن سعد : أن سرية خالد إلى العزّى كانت لخمس ليال من شهر رمضان ، وسرية خالد إلى بني جذيمة كانت في شوال سنة ثمان.

قلت : إن صح ما ذكره ابن إسحاق من كون سرية خالد لهدم العزّى بعد سرية بني جذيمة ، فوجهه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رضي عليه ، وعذره في اجتهاده (١).

غير أننا نقول :

إن سرية خالد لهدم العزّى لا ربط لها بوجد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خالد ، بسبب الجريمة التي ارتكبها في حق بني جذيمة. وإنما هي متصلة بسياسة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في اقتلاع جذور الشرك من قلوب أولئك الناس الطامحين والمغامرين. أو على الأقل إحراق آخر خيوط

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٦ و ١٩٧.

٢٣٣

الأمل الذي ربما يراودهم في العودة إلى السقوط في حمأة الشرك ، وتلويث النفوس بقاذوراته.

كما أن ذلك يساعد على قطع علاقة الناس السذج والبسطاء بهذا النوع من الناس ، الذي يحمل رواسب من هذا النوع ، وتكريس علاقتهم بمصدر الوحي ، ورمز الفضيلة والإيمان والتقوى ..

فكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يحطم اصنامهم بأيدي خصوص هؤلاء الذين يتعاملون مع القضايا بمنطق انتهاز الفرص ، واقتناصها ، ليصبح أمرهم ظاهرا ، وليأمن الناس بوائقهم ، التي قد تتجه إلى نحو من العمل السري والتآمري ، الذي يريد أن يحفظ معالم الإنحراف ، مختزنة في نفوس الضعفاء ، والسذج ، والبسطاء ، ليستفيد منها في الموقع المناسب.

وعلى هذا الأساس نقول :

إن قولهم : إنه لا يمكن أن يكلف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالدا بهدم العزى بعد أن فعل ببني جذيمة ما فعل غير صحيح.

وذلك لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان سيبعث خالدا لهدم العزّى ، وعمرو بن العاص لهدم سواع ، حتى لو ارتكب خالد جريمته في حق بني جذيمة .. وحتى لو ظهرت من عمرو بن العاص البوائق والمعاصي.

بل إن ظهور ذلك من هذا أو ذاك يؤكد لزوم اختيارهما لهذه المهمة ، كما هو ظاهر لا يخفى.

فما ذكره الصالحي الشامي أو غيره : من أن من الممكن أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رضي على خالد ، ليصح إرساله لهدم العزّى .. غير صحيح.

ولعل الصحيح هو : أنه كان غاضبا على خالد ، فاقتضى هذا الغضب

٢٣٤

نفسه ، أن يرسله في هذه المهمة. رفقا بالناس ، وحفظا للدين ، وإقامة للحجة عليه وعلى أمثاله.

٢ ـ هدم سواع :

قال الواقدي ، وابن سعد وغيرهما : في شهر رمضان بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمرو بن العاص إلى سواع : صنم هذيل بن مدركة ، وقيل : لهمدان (١) ، وكان على صورة امرأة ليهدمه.

قال عمرو : فانتهيت إليه ، وعنده السادن ، فقال : ما تريد؟

فقلت : أمرني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن أهدمه.

قال : لا تقدر على ذلك.

قلت : لم؟

قال : تمنع.

قلت : حتى الآن أنت على الباطل؟! ويحك ، وهل يسمع أو يبصر؟

قال : فدنوت منه فكسرته ، وأمرت أصحابه (أصحابي) فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ وزاد المسير ج ٨ ص ١٠٠ والتبيان للطوسي ج ١٠ ص ١٤١ وتفسير جوامع الجامع للطبرسي ج ٣ ص ٦٤٧ وتفسير غريب القرآن ص ٢١٣ وتفسير النسفي ج ٤ ص ٢٨٤ وتفسير الرازي ج ٣٠ ص ١٤٤ وتفسير البيضاوي ج ٥ ص ٣٩٥ وتفسير البحر المحيط ج ٨ ص ٣٣٥ وتفسير أبي السعود ج ٩ ص ٤٠ والسيرة الجلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ١٨ ولسان العرب ج ٨ ص ١٧٠ ومجمع البحرين ج ٤ ص ٤٨١ وتاج العروس ج ١١ ص ٢٣٠.

٢٣٥

ثم قلت للسادن : كيف رأيت؟

قال : أسلمت لله تعالى (١).

وزعموا : أن هذا الصنم سمي سواعا على اسم سواع بن شيث بن آدم «عليه‌السلام» ، وقد كان هذا الصنم لقوم نوح «عليه‌السلام» ، ثم صار لهذيل.

كان برهاط : قرية جامعة على ثلاثة أميال من مكة على ساحل البحر يحجون إليه (٢).

وبعد ما تقدم فإننا نطلب من القارئ الكريم ، أن يلاحظ مايلي :

١ ـ إن الرواة هنا لم يذكروا لنا إن كان مع عمرو بن العاص أحد.

فضلا عن أن يذكروا عدد من كان معه حين ذهب لهدم سواع.

٢ ـ إن أصحاب الصنم هم الذين هدموا خزانته بأمر من عمرو بن العاص.

٣ ـ أين ذهبت الأموال أو التحف ، أو الأمتعة التي كانوا يتوقعون وجودها في خزانة الصنم؟! فإن الناس كانوا يهدون لأصنامهم أشياء مختلفة.

٤ ـ إن عمرو بن العاص يستدل على السادن بدليل كان الأحرى ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٨ عن الواقدي ، وابن سعد ، وراجع : تاريخ الأمم والملوك (ط دار المعارف) ج ٣ ص ٦٥ و ٦٦ و (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٣٤٠ و ٣٤١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٧٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٦ و ٩٧ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٤٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٠٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ عن مزيل الخفا.

٢٣٦

والأجدر به أن يستدل هو به على نفسه ، فإنه كان إلى الأمس القريب يعبد تلك الأصنام ، ويتقرب لها.

٥ ـ هل يصح تكليف رجل واحد بمهمة هدم صنم أن يوصف بأنه سرية؟!

٣ ـ هدم مناة وقتلها :

قالوا : بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في شهر رمضان بعد فتح مكة (١) سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة لهدمها ، وكانت (بالمشلل (٢)) للأوس والخزرج ، وغسان.

وقيل : مناة لخزاعة. وكانت بقديد. قاله قتادة (٣).

وقيل : هي صخرة كانت لهذيل وخزاعة وثقيف (٤).

فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن. فقال السادن : ما تريد؟

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٧ والتنبيه والإشراف ص ٢٣٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٩.

(٢) المشلل : جبل إلى ناحية البحر ، وهو الذي يهبط منه إلى قديد.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٩٤ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٢٥٠.

(٤) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ وراجع : الجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ٩٩ وتفسير الرازي ج ٢٨ ص ٢٩٦ وراجع : الأعلام للزركلي ج ٨ ص ٨٠ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ١١٧.

٢٣٧

قال : هدم مناة.

قال : أنت وذاك.

فأقبل سعد يمشي إليها ، وتخرج إليه امرأة عريانة ، سوداء ، ثائرة الرأس ، تدعو بالويل ، وتضرب صدرها.

فقال السادن : مناة!! دونك بعض غضباتك.

ويضربها سعد بن زيد الأشهلي فقتلها. ويقبل إلى الصنم معه أصحابه ، فهدموه.

ولم يجد في خزانتها شيئا.

وانصرف راجعا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

ونحن نسجل هنا الأمور التالية :

١ ـ إننا لا نستطيع أن نؤيد صحة ما ذكرته الرواية آنفا : من أن مناة كانت للأوس ، والخزرج ، وغسان. فأين عنها غسان في الشام؟! والأوس والخزرج في المدينة؟!

في حين أن المشلل موضع لجهة البحر ، وهو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد.

٢ ـ هل يصح تسمية مهمة هدم صنم بأنه سرية؟!

٣ ـ لما ذا يخلي السادن بين سعد بن زيد وبين الصنم ليهدمه ، فلا يمانع ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٩٩ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٧ و ٩٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٤٦ و ١٤٧ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٦٣ وعيون الأثر ج ٢ ص ٢٠٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٢٠٩.

٢٣٨

أو لا يظهر انزعاجه ، أو رأيه ولو بكلمة ، أو لا يحذر الفاعل من عواقب ما يقدم عليه كما فعل سادن سواع والعزى؟!

بل هو يقول للمهاجم : أنت وذاك.

ولكنه حينما رأى تلك المرأة خرجت إليه ، يقول لها : مناة!! دونك بعض غضباتك.

على أن ثمة سؤالا آخر هنا ، وهو : هل كان ذلك السادن يعرف مناة؟!

وهل كان قد رآها قبل هذه المرة؟!

ولما ذا لم يكن هذا الأمر قد اشتهر بالجزيرة العربية بأسرها؟!

٤ ـ يلاحظ هنا : أن المرأة العريانة السوداء الخ .. لا تخرج لمواجهة خالد في المرة الأولى حتى عاد إليها ، واقتلعها ، فخرجت.

ولكن مناة تخرج لسعد بن زيد بمجرد توجهه نحو الصنم.

٥ ـ يلاحظ أيضا : توافق صفات العزى ، وحركاتها ، مع صفات مناة ، وحركاتها ، فهي عريانة .. سوداء .. ثائرة الرأس .. تدعو بالويل .. تضرب صدرها .. امرأة.

٦ ـ ويلاحظ : أن سعد بن زيد لا يجد في خزانة مناة شيئا أيضا!!

٤ ـ سرية خالد بن سعيد إلى عرنة :

٥ ـ سرية هشام بن العاص إلى يلملم :

وقد قلنا : إن ما راجعناه من مصادر لا يسمح لنا بتقديم تفاصيل تذكر عن أحداث محتملة حصلت في هاتين السريتين.

٢٣٩

٦ ـ سرية الطفيل الدوسي إلى ذي الكفين :

وسيأتي الحديث عن هذه السرية قبيل مسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الطائف ، لأنها كانت بعد حنين.

٧ ـ سرية غالب بن عبد الله إلى بني مدلج :

وقالوا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث (وهو في مكة) غالب بن عبد الله في سرية دعوة إلى بني مدلج ، فقالوا : لسنا عليك ولا معك.

فقال الناس : اغزهم يا رسول الله!

فقال : إن لهم سيدا أديبا أريبا ، ورب غاز من بني مدلج شهيد في سبيل الله (١).

ونقول :

١ ـ إن ذلك يدل على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان عارفا بأدق التفاصيل في المحيط الذي يتعامل معه ، بل كان أعرف الناس بطبائع الأشخاص وحالاتهم. كما أنه يعرف مدى نفوذهم وتأثيرهم ، ويتخذ قراراته على هذا الأساس.

ولكن هل هذه المعرفة كانت مكتسبة له من خلال ما تهيأ له من وسائل عادية؟! أم انها مرتبطة بالتسديد ، واللطف الإلهي ، والإمداد الغيبي؟!

__________________

(١) إعلام الورى (ط سنة ١٣٩٩ ه‍) ص ١١٩ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٢٧ والبحار ج ٢١ ص ١٤٠ عنه ، وراجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٢٦٢ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٣.

٢٤٠