الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٣

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-195-5
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٦٦

وعن أبي حصين الهذلي قال : لما أسلمت هند بنت عتبة ، أرسلت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهدية ـ وهو بالأبطح ـ مع مولاة لها بجديين مرضوفين وقد (١) ، فانتهت الجارية إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ فدخلت عليه وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين نسائه ، أم سلمة وميمونة ، ونساء من بني عبد المطلب ـ فقالت : إن مولاتي أرسلت إليك هذه الهدية ، وهي تعتذر إليك ، وتقول : إن غنمنا اليوم قليلة الوالدة.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بارك الله لكم في غنمكم ، وأكثر والدتها».

وكانت المولاة تقول : لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل ولا قريبا ، فتقول هند : هذا بدعاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبركته.

ثم تقول : لقد كنت أرى في النوم : أني في الشمس أبدا قائمة ، والظل مني قريب لا أقدر عليه ، فلما دنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأيت كأني دخلت الظل (٢).

__________________

الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٠٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٦٥ وج ٧ ص ٦٠ وج ٨ ص ١٣٧ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ١٦٣ و ٣٨٩ و ٣٩٠ والسيرة النبوة لابن كثير ج ٣ ص ٦٠٤.

(١) المرضوف : الذي يشوى على الرضف ، وهو الحجارة المحماة بالنار. والقدّ : جلد السخلة.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٥٥ ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٦٨ و ٨٦٩ ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٧٠ ص ١٨٤ وإمتاع الأسماع ج ٥ ص ٢٨٣.

١٠١

تعقيب غير ضروري :

ونحسب : أن من غير الضروري لفت نظر القارئ إلى هذه التلمقات الباردة ، والخيالات الركيكة التي أتحفتنا بها هند بنت عتبة ، سعيا منها للسخرية بعقول الناس ، وإقناعهم عن طريق بهرجة الكلام تارة ، والإستناد إلى أضغاث الأحلام ، وما تنسجه الأوهام ، بزعم : أنه منام أخرى ، لإقناعهم بأنها : قد أخلصت الولاء لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنها صادقة فيما تنمقه من ثناء عليه ، وما تزوقه من تزلفات له.

واللافت هنا : أن رواة هذه الأخبار عنها هم : الأمويون تارة. والزبيريون أخرى. ومن يحب هؤلاء ويواليهم ، ثالثة.

فاقرأ واعجب ، فما عشت أراك الدهر عجبا.

وحسب هند : أنها حين بايع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» النساء كانت لا تزال تخشى من أن يعرفها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيطالبها ، أو يؤاخذها بما فعلته بحمزة ..

وقد أطلقت في تلك البيعة تعريضات قارصة ، وعبارات جارحة ، تتضمن الاتهام له ، بل والسخرية به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حسبما أشرنا إليه في ذلك المورد ، وقد تغاضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ذلك كله ، رغم أنه كان قد اهدر دمها ، ثم عفا عنها.

هند .. وأموال زوجها البخيل :

عن عائشة : أن هندا بنت عتبة يوم الفتح ، قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل مسّيك ، فهل علي من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟

١٠٢

فقال لها : «لا حرج عليك أن تطعميهم بالمعروف» (١).

وفي نص أخر : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم.

قال : «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٤٣١ وج ٥ ص ٢٥٨ عن البخاري ، ومسلم. وأشار في هامشه إلى : البخاري ج ٩ ص ٥٠٧ ح ٣٦٤ ومسلم ج ٣ ص ١٣٣٨ وج ٧ ص ١٧١٤ ، وراجع : السيرة الحلبيه ج ٣ ص ٩٧ و (ط دار المعرفة) ص ٤٧ وسبل السلام ج ٣ ص ٢١٩ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٣ ص ١٠٢ وج ٨ ص ١٠٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٦٧ وفتح الباري ج ٩ ص ٤٤٥ وعمدة القاري ج ١٣ ص ٧ وج ٢٤ ص ٢٣٥ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٦١ ومسند الشاميين ج ٤ ص ١٩١ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١٣ ص ١٣٦ و ٣٩٠.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧ و (ط دار المعرفة) ص ٤٧ الخلاف الشيخ الطوسي ج ٤ ص ١٦٠ وج ٦ ص ٣٥٥ والمبسوط للشيخ الطوسي ج ٦ ص ٣ وجامع الخلاف والوفاق ص ٣٨١ ورسائل الشهيد الثاني (ط ق) ص ٣٠٠ وكفاية الأحكام للسبزواري ج ١ ص ٤٣٧ كشف اللثام (ط ج) ج ٧ ص ٥٩٣ وكشف اللثام (ط ج) ج ١٠ ص ٥٨٦ و (ط ق) ج ٢ ص ١١٤ و ٤٢٢ والحدائق الناضرة ج ١٨ ص ١٦١ ورياض المسائل ج ١٣ ص ١٦٦ و ١٨١ وجواهر الكلام ج ٣١ ص ٣٠٢ وج ٤١ ص ٤٩٢ وبلغة الفقيه للسيد محمد بحر العلوم ج ٣ ص ٢٨٣ والعروة الوثقى للسيد اليزدي ج ٦ ص ٤٧٨ وكتاب الأم للشافعي ج ٥ ص ٩٣ و ٩٤ و ١٠٨ و ١١٤ ومختصر المزني ص ٢٣٠ والمجموع للنووي ج ١٨ ص ٢٩٤ و ٣٠٠ وج ٢٠ ص ٢٠٤ والمبسوط للسرخسي ج ١٧ ص ٣٩ وحاشية رد المحتار لابن عابدين ج ٦

١٠٣

ونقول :

__________________

ص ٧٣٠ والمغني لابن قدامه ج ٩ ص ٢٢٩ و ٢٣٩ وج ١١ ص ٤٠٠ وص ٤٨٥ والشرح الكبير لابن قدامه ج ٩ ص ٢٢٩ و ٢٧٠ وج ١١ ص ٤٢٤ و ٤٥٦ و ٤٦٣ و ٤٦٤ وكشاف القناع للبهوتي ص ٥٦٣ وج ٦ ص ٤٤٩ والمحلى لابن حزم ج ١٠ ص ٩٢ وج ١١ ص ٣٤٩ وجواهر العقود للأسيوطي ج ٢ ص ١٧٠ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٧ ص ١٣١ وفقه السنة ج ٢ ص ١٧٠ و ١٧٤ و ٤١٢ والقواعد الفقهية للبجنوردي ج ٣ ص ٩٥ والبحار الأنوار ج ٧٢ ص ٢٣٢ وكتاب المسند للشافعي ص ٢٦٦ و ٢٨٨ ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٩ و ٥٠ و ٢٠٦ وسنن الدارمي ج ٢ ص ١٥٩ وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٦ ص ١٩٣ وج ٨ ص ١١٦ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٧٦٩ وسنن النسائي ج ٨ ص ٢٤٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤٦٦ و ٤٧٧ وج ١٠ ص ٢٧٠ وفتح الباري ج ٩ ص ٤٤٥ و ٤٤٦ وعمدة القاري العيني ج ٢١ ص ٢١ وج ٢٤ ص ٢٥٥ ومسند الحميدي ج ١ ص ١١٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٥ ص ٢٤٤ ومسند ابن راهويه ج ٢ ص ٢٢٤ والسنن الكبرى النسائي ج ٥ ص ٣٧٨ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٩٨ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٥٦ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٦٨ ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ج ٦ ص ١٠١ و ١١٦ وج ٧ ص ٣٦٩ و ٤٨٢ ورياض الصالحين للنووي ص ٦٠٣ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ٢ ص ٢٢٥ ونصب الراية للزيلعي ج ٣ ص ٥٥٦ وأحكام القرآن لابن العربي ج ٣ ص ٧١ وتفسير القرطبي ج ٣ ص ١٦٣ والتسهيل لعلوم التنزيل للغرناطي الكلبي ج ٤ ص ١١٦ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٨ ص ٢٣٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٤٧١ وج ٧٠ ص ١٦٦ وتاريخ الإسلام للذهبي ج ٣ ص ٢٩٨ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٧ وجامع السعادات للنراقي ج ٢ ص ٢٣٩.

١٠٤

لا ندري إن كانت هند التي تضرب أبا سفيان برجلها ، حين عاد من المدينة ، وتطلب من قريش : أن تتخذ منه موقفا سلبيا ، وتستخدم عبارات قاسية في حديثها عنه ، وتحريضها عليه!!

نعم .. لا ندري إن كانت تهتم لمعرفة مشروعية أخذها من ماله ، ما يسد خلتها هي والعيال .. أم أنها تعبث ، وتتماجن ، وتسخر!!

فإن من الواضح : أن الإجابة على السؤال الذي طرحته بديهية لدى أجهل الناس ، وأشدهم سذاجة ، إذ أي إنسان يجهل : أنه يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها البخيل لتطعم أولادها ، مع العلم : بأن مسؤولية أطفالهم تقع على عاتق نفس ذلك الزوج البخيل!!.

١٠٥
١٠٦

الفصل الثاني :

أحداث جرت في فتح مكة

١٠٧
١٠٨

لا تحدوا النظر إلى سهيل :

عن سهيل بن عمرو قال : لما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة وظهر ، اقتحمت بيتي ، وأغلقت بابي عليّ ، وأرسلت إلى ابني عبد الله : أن اطلب لي جوارا من محمد ، فإني لا آمن أن أقتل.

(ثم صار يتذكر أفعاله السيئة تجاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : في بدر وأحد والحديبيّة).

فذهب عبد الله إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله!! أبي تؤمنه؟

قال : «نعم ، هو آمن بأمان الله فليظهر».

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمن حوله : «من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد إليه النظر ، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الإسلام ، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن بنافع له».

فخرج ابنه عبد الله إلى أبيه ، فأخبره بما قاله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال سهيل : كان والله برا صغيرا ، برا كبيرا.

فكان سهيل يقبل ويدبر آمنا. وخرج إلى حنين مع رسول الله «صلى الله

١٠٩

عليه وآله» وهو على شركه حتى أسلم بالجعرّانة (١).

ونقول :

إن علينا أن نأخذ بنظر الإعتبار أمرين هما :

١ ـ سبب تعظيم سهيل بن عمر!! :

إنهم قد عظموا سهيل بن عمرو ما ليس فيه ، وأطروه بما لا يستحقه ، ولعل سبب هذا الكرم منهم عليه هو أنه حين ندم الأنصار على بيعتهم لأبي بكر ، هتفوا باسم علي «عليه‌السلام» ، فقام سهل بن عمرو ، فقال :

«يا معشر قريش ، إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار ، وأثنى عليهم في القرآن ، فلهم بذلك حظ عظيم ، وشأن غالب ، وقد دعوا إلى أنفسهم وإلى علي بن أبي طالب ، وعلي في بيته لو شاء لردهم ، فادعوهم إلى صاحبكم وإلى تجديد بيعته ، فإن أجابوكم وإلا قاتلوهم ، فو الله إنى لأرجو الله أن ينصركم عليهم ، كما نصرتم بهم».

وقد رد عليهم الأنصار على لسان ثابت بن قيس ، حيث قال : «يا معشر الأنصار ، إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش ، فأما إذا كان من أهل الدنيا ، لاسيما من أقوام كلهم موتور ، فلا يكبرن عليكم ، إنما

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٩ و ٢٥٠ عن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ و (ط دار المعرفة) ص ٦٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤٧ و ٨٤٨ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٢٨١ وشرح البلاغة للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٨٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٠٣ والطبقات الكبرى ج ٧ ص ٤٠٤ وتهذيب الأحكام ج ٤ ص ٢٣٣ والوافي بالوفيات ج ١٦ ص ١٨ وإمتاع الأسماع ج ١٣ ص ٣٨٧.

١١٠

الرأي والقول مع الأخيار المهاجرين ، فإن تكلمت رجال قريش ، [و] الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء ، فعند ذلك قولوا ما أحببتم ، وإلا فأمسكوا» (١).

٢ ـ ليس هذا مدحا لسهيل بن عمرو :

وأما نهي النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه : عن أن يحدّوا النظر لسهيل بن عمرو ، فهو وإن كان هناك من يريد أن يعتبره مدحا لهذا الرجل. ولكن اعتباره قدحا لعله هو الأقرب والأصوب .. إذا لوحظ فيه أمران :

أحدهما : أن هذا الرجل وإن كان ذا عقل وشرف ، ولكنه لا ينقاد لعقله ، ولا يختار ما يحفظ له شرفه ومكانته ، بل هو يختار ما يتوافق مع نزواته وأهوائه ، وحميته الجاهلية ، فإذا وجد الناس يحدون النظر إليه ، فإنه قد ينكص على عقبيه ، ويتخذ سبيل المكابرة ، والتحدي والحجود ..

ثانيهما : إن من يكون ذا عقل راحج ، وذا شرف ، فإنه يستخدم عقله لحفظ شرفه ، فإذا استخدم عقله لإذهاب هذا الشرف ، فمعنى ذلك : أنه يفقد عنصرا ثالثا كان بحاجة إليه ، ألا وهو عنصر الأخلاق الإنسانية الفاضلة ، التي تبعده عن الإستكبار وعن الجحود ، وعن العصبيات القبلية والجاهلية .. وأن يكون حكيما ، ومنصفا ، ومتواضعا. فإن ذلك يسهل عليه قبول الحق ، ورفض الباطل .. ويدعوه إلى أن لا يتأخر في الدخول إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٦ ص ٢٣ و ٢٤ ومواقف الشيعة ج ٣ ص ١٦٢.

١١١

الإسلام. ولكن سهيلا بسبب فقده لهذا العنصر الهام قد كابر ، وجحد ، وتعامى عن الآيات والمعجزات طيلة هذه السنين ، بل إنه حتى حين أظهر الإسلام ، فإنما انصاع إلى ذلك بداعي الخوف ، وليس استجابة لما يحكم به عقله ، وتقضي به فطرته ..

ولأجل ذلك كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتألفه على الإسلام كغيره من المؤلفة قلوبهم ، ليقنعه : بأن الإسلام لا يريد له ضرا ، ولا يبغي له شرا ، بل هو يريد : أن يسوق إليه المنافع ، ويحفظ له مصالحه في دائرة الحق ، والصدق ، والإستقامة ، والعدل ..

ومن الواضح : أن نبذ أحكام العقل ، والإنقياد لسلطان الهوى والإصرار على الجحود بسبب فقد الخلق الإنساني لا يمكن أن يعد فضيلة للإنسان العادي ، فكيف بمن كان ذا عقل وشرف؟!

كما أن من يكابر ويعاند الحق ، فإنما يعاند عقله ، ويتناقض مع ذاته ..

والنتيجة التي ننتهي إليها هي : أن العقل والشرف لا يفيدان ، إذا لم يملك الإنسان خلقا إنسانيا رفيعا يدعوه للإلتزام بأحكام عقله ، وبمقتضيات فطرته ..

وإبليس لم يكن ينقصه عقل ، ولا معرفة ، ولا مكانة ، فهو يعبد الله بين الملائكة ، ولكنه كان ينقصه الخلق الرفيع ، فإن رذالة أخلاقه هي التي جعلته في حظيرته الإبليسية الشيطانية ، لأنها عطلت عقله ، وحجبته عن ممارسة دوره.

١١٢

إسلام ابني أبي لهب :

عن ابن عباس ، عن أبيه قال : لما قدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة في الفتح ، قال لي : «أين ابنا أخيك عتبة ومعتب ابني أبي لهب. لا أراهما»؟

قلت : تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش.

قال : «ائتني بهما».

فركبت إليهما بعرنة ، فأتيت بهما ، فدعاهما إلى الإسلام ، فأسلما وبايعا.

ثم قام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخذ بأيديهما ، وانطلق بهما حتى أتى الملتزم ، فدعا ساعة ثم انصرف ، والسرور يرى في وجهه.

فقلت : يا رسول الله ، سرك الله ، إني أرى السرور في وجهك ، فقال : «إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي» (١).

ونقول :

أولا : قال العسقلاني عن إسناد هذا الحديث : إنه ضعيف.

ثانيا : إن عتبة بن أبي لهب قد افترسه الأسد قبل الهجرة ، بسبب دعاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٥٠ ، عن ابن سعد ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧ و (ط دار المعرفة) ص ٤٨ والإصابة ج ٢ ص ٤٥٥ و ٤٥٦ وج ٣ ص ٤٤٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٣٦٥ وج ٦ ص ١٣٨ وكنز العمال ج ١١ ص ٧٣٧ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٦٠ وج ٢٢ ص ٢٠٢ وج ٦٢ ص ٨١ و ٢٥٩ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٣٢.

(٢) البحار ج ١٦ ص ٣٠٩ وج ١٧ ص ٤١٢ وج ١٨ ص ٥٧ و ٥٨ و ٢٤١ وج ٦٢ ـ

١١٣

ثالثا : رووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل يوم الفتح بين عتبة

__________________

ص ٨١ والغدير ج ١ ص ٢٦١ وتخريج الأاديث والآثار ج ١ ص ٣٧٨ وج ٣ ص ٣٧٧ والكشاف للزمخشري ج ٤ ص ٢٢ وشرح شواهد الكشاف ص ٤٥٣ وسفينة البحار ج ٦ ص ١٣٦ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٧١ وتفسير مقاتل بن سليمان ج ٣ ص ٥٣٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٦٩ والدر المنثور ج ٦ ص ١٢١ والإصابة ج ٦ ص ٤١٣ والدرجات الرفيعة ص ١٩٢ والمعارف ص ١٢٥ والإستغاثة ج ١ ص ٦٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ٣٧٣ ومستند الشيعة ج ١٥ ص ٣٠٤ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٢١٦ ومواهب الجليل ج ١ ص ٢٥٨ وسبل السلام ج ٢ ص ١٩٥ ونيل الأوطار ج ٥ ص ٩٨ وذخائر العقبى ص ١٦٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٢١١ وفتح الباري ج ٤ ص ٣٤ وعمدة القاري ج ١٠ ص ٨١ والذرية الطاهر النبوية ص ٨٥ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٥٦ و ٥٧ وج ٢ ص ٥٢١ و ٥٢٦ وتصحيفات المحدثين ج ٢ ص ٧٠٨ والإستذكار ج ٤ ص ١٥٢ وكنز العمال ج ١٢ ص ٤٣٩ والفايق في غريب الحديث ج ٢ ص ٢٨٥ وج ٣ ص ٣٠ والفتح السماوي ج ٢ ص ٥٤٨ وفيض القدير ج ٣ ص ٦٠٤ و ٦٠٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٨٧ ونور الثقلين ج ٥ ص ١٤٦ وتفسير السمعاني ج ٦ ص ١٥٨ وتفسير النسفي ج ١ ص ٢٧٠ وتفسير الرازي ج ١١ ص ١٤٣ وج ٣٢ ص ١٦٧ وتفسير البحر المحيط ج ٣ ص ٤٤٤ وتفسير ابن السعود ج ٣ ص ٨ و ٩ ص ٢١٠ وتفسير الآلوسي ج ٦ ص ٦٣ وج ١٥ ص ٢٢٥ وج ٣٠ ص ٢٦٢ وأضواء البيان ج ١ ص ٤٣٦ وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٦٣ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ٤٨١ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٧٦ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٤٦٨ والخصائص الفاطمية ج ١ ص ٤٥٧ ومعجم ما استعجم ج ٢ ص ٦٩٦ وشرح المقاصد في علم الكلام ج ٢ ص ١٨٨ ودلائل النبوة ج ٢ ص ٣٣٨ و ٣٣٩ بثلاثة طرق ، وراجع : إثبات الهداة ج ٢ ص ١٢٢.

١١٤

ومعتب ابني أبي لهب ، يقول للناس : هذان أخواي ، وابنا عمي ـ فرحا بإسلامهما ـ استوهتبهما من الله ، فوهبهما لي (١).

قال العسقلاني : ويجمع : بأنه دخل المسجد بينهما ، بعد أن أحضرهما العباس (٢).

غير أن ما قاله العسقلاني لا يحل مشكلة التناقض بين حديث دخوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسجد ، وحديث مجيئه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للملتزم ، وبين الحديث المتقدم ، لأن حديث المجيء للملتزم يدل على : أن استيهابهما من الله قد حصل بعد دخوله المسجد ، وهما معه ..

وهذا الحديث الأخير يدل على : أن استيهابهما من الله قد حصل قبل دخوله المسجد ..

على أن ثمة أسئلة أخرى تبقى بحاجة إلى جواب ، مثل السؤال عن السبب في هذا الإهتمام بهذين الرجلين دون سواهما ، حيث لم يذهب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأحد إلى الملتزم ليستوهبه من ربه؟!

وسؤال آخر ، وهو : ما معنى هذا الإستيهاب؟!

فإن كان بمعنى : أن يخرجهما الله من الشرك إلى الإسلام ، وغفران ذنوبهما التي ارتكباها في زمان شركهما ، فيرد عليه :

أن المفروض هو : أنهما قد أسلما قبل هذا الإستيهاب .. حسب نص الرواية عن العباس.

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٤٤٣ عن الطبراني.

(٢) الإصابة ج ٣ ص ٤٤٣.

١١٥

وإن كان بمعنى : أن يغفر الله تعالى لهما ذنوبها التي يرتكبانها بعد إسلامهما أيضا ، ثم يدخلهما الله تعالى الجنة .. وإن كانا من أهل النار ، لو لا هذا الإستيهاب .. فيرد عليه :

أن هذا غير مقبول ولا معقول ؛ إذ لما ذا لا يستوهب غيرهما من سائر أهل النار أيضا؟!

كما أن ذلك يدخل في دائرة الإغراء بالمعاصي ، أو على الأقل يدعو إلى عدم الإهتمام بتجنبها!!

وفي جميع الأحوال ، لا بد من وجود أمر ، أو ميزة في هذين الرجلين ، يستحقان هذا العطاء العظيم لأجلها ..

ولا بد أن تكون خصوصية غير عادية ، وأن تكون ظاهرة فيهما بحيث يعرفها فيهما كل أحد ، وأن يدرك الناس كلهم أنها توجب هذا التكريم والتعظيم ..

وبدون ذلك يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عرّض الناس لخطر الكفر والخروج من الدين ، فيما لو ظنوا فيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه لا يقيم العدل ، ولا يلتزم بمقتضيات الفطرة ، وأحكام العقل.

ونحن لا نعرف ، وكذلك لا نظن : أن أحدا من البشر يعرف في أبناء أبي لهب أية خصوصية تستحق الذكر ، فضلا عن أن تكون من موجبات هذا العطاء الهائل ، الذي لم يفز به غيرهما ، رغم أنهما بقيا على عنادهما وعلى جحودهما وعلى حربهما له ولدينه كل تلك السنين ..

١١٦

السائب شريك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في التجارة :

عن مجاهد عن السائب : أنه كان شارك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل الإسلام في التجارة ، فلما كان يوم الفتح أتاه ، فقال :

«مرحبا بأخي وشريكي ، كان لا يداري ولا يماري ، يا سائب!! قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك وهي اليوم تتقبل منك» وكان ذا سلف وخلة (١).

وعن السائب بن عبد الله ، قال : جيء بي إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة ، فجعل عثمان وغيره يثنون عليّ ، فقال رسول الله : «لا تعلموني به ، كان صاحبي» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٩ وج ٩ ص ١٦ عن أحمد ، وابن أبي شيبة ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ و (ط دار المعرفة) ص ٥٥ وج ١ ص ٢٣٦ وج ٢ ص ٤٥١ والإستيعاب ج ٣ ص ١٢٨٨ وراجع : الإصابة ج ٢ ص ١٠ عن أبي داود ، والنسائي ، عن مجاهد ، عن قائد السائب. وراجع : تلخيص الحبير ج ١٠ ص ٤٠٤ ومسند أحمد ج ٣ ص ٤٢٥ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٦١ ومجمع الزوائد ج ١ ص ٩٤ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٤٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٨٦ والمعجم الأوسط ج ٢ ص ١٤٥ والمعجم الكبير ج ٧ ص ١٣٩ وتخريج الأحاديث الآثار ج ٣ ص ٢٩ ونصب الراية ج ٤ ص ٣٨٩ والوافي بالوفيات ج ٢٤ ص ٢١١ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ١٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٧٧ وج ٥ ص ٢٤٩ عن أحمد ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ و (ط دار المعرفة) ص ٥٥ والإصابة ج ٢ ص ١٠ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٣ ص ١٩ ومسند أحمد ج ٣ ص ٤٢٥ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ١٩٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٥٤.

١١٧

ونقول :

١ ـ قد اختلفوا في اسم المقصود هنا ، هل هو :

السائب بن عبد الله.

أو عبد الله بن السائب.

أو السائب بن عويمر.

أو قيس بن السائب بن عويمر ، حسبما روي عنه؟ (١).

وقول أبو عمر : وهذا أصح ما قيل (٢) ، يحتاج إلى ما يعضد صحته ، وهو غير موجود.

بل الموجود هو : روايات ضعيفة لا تقوم بها حجة ، ولا يثبت بها شيء ، فإن ما يرويه السائب لنفسه ، يبقى موضع التهمة : بأنه يجر النار إلى قرصه ، وما يرويه مجاهد : هو رواية من لم يشهد تلك الأحوال ، ولم يكن قد ولد ولا وجد إلا في عالم الخيال.

٢ ـ ما معنى قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لرجل لم يسلم بعد : مرحبا بأخي؟! لمجرد أنه كان قد شاركه في شراء سلعة أو بيعها؟!

__________________

(١) الإصابة ج ٣ ص ٢٤٨ عن البغوي ، والحسن بن سفيان ، وأبي بشير الدولابي ، لكنه قال : أبو قيس. والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٢٢٠ و ٢٢١ و (ط دار الجيل) ص ١٢٨٨ و ١٢٨٩ والأقوال المشار إليها في السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ و (ط دار المعرفة) ص ٥٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ و (ط دار المعرفة) ص ٥٥ وراجع : الإصابة ج ٣ ص ٢٤٨ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٧ ص ١٤٨ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٢٢١ و (ط دار الجيل) ص ١٢٨٩.

١١٨

٣ ـ إن أبا عمر قد روى الرواية عن قيس بن السائب هكذا : روي عنه أنه قال : «كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شريكي في الجاهلية ، فكان خير شريك ، لا يداري ، ولا يماري. ويروى : لا يشاري ولا يماري» (١).

وهذا معناه : أن المدح متوجه من قيس بن السائب لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي مدح شريكه.

٤ ـ عن عبيد الله بن السائب ، قال : أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمكة لأبايعه ، فقلت : أتعرفني؟

قال : «نعم ، ألم تكن شريكا لي مرة»؟ (٢).

فلو صحت هذه الرواية ، فهي تدل على : أن الشراكة قد حدثت مرة في ذلك العمر الطويل ، كما لو أنهما اشتريا جملا أو شاة بمال لهما معا ، ثم باعاه ، ثم اقتسما ثمنه. وهذا لا يعطي أي امتياز يستحق التنويه به ، سوى أن الشريك قد ملك بعض المال ، واستطاع أن يتوافق مع شخص آخر على معاملة لهما في السوق ..

٥ ـ لو صح أنه كان للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخوة وصحبة وشراكة

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٢٢٠ و ٢٢١ والإصابة ج ٣ ص ٢٤٨ والنهاية في غريب الحديث ج ٢ ص ٤٦٨ ولسان العرب ج ١٤ ص ٤٢٩ وج ١٥ ص ٢٧٨ وتاج العروس ج ١ ص ١٥٢ وج ١٩ ص ٥٧١ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ١ ص ٢٢٢ وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٥٣ والتاريخ الكبير ج ٥ ص ٩ وتفسير الرازي ج ٢٤ ص ٢٤٢.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٣١٤ عن البغوي و (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٩٠.

١١٩

مع أحد لظهر ذلك للناس ، ولكان قد شاع وذاع ، فلما ذا لا نجد أية إشارة لهذة الأخوة ، والشراكة في أي مناسبة أخرى ، سوى هذه المناسبة؟

ولما ذا عرف عثمان وسواه هذا الرجل ، وحسبوا أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعرفه ، حتى احتاجوا إلى مدحه والثناء عليه عنده ، فإن الصحبة والشراكة من شأنها أن تظهرا؟!

لأنه إنما يشاركه في المعاملات الظاهرة مع الناس ، وفي سوقهم ، وكما أن صحبته إنما تعني : أن يكونا معا في كثير من الأوقات ، فلما ذا ظن الناس : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعرفه؟!

ألم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكيا مثلهم ، يعرف ما ومن يعرفون ، وينكر ما ومن ينكرون؟!

وإذا صاحب أحدا وآخاه وشاركه ، فإن الناس سوف يرون ذلك ، ويطلعون عليه؟!.

الخطبة الثانية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة :

قالوا : خرج غزي من هذيل في الجاهلية ، وفيهم جنيدب بن الأدلع الهذلي ، يريدون حي «أحمر باسا» من أسلم. وكان «أحمر باسا» رجلا من أسلم شجاعا لا يرام ، وكان لا ينام في حيّه ، بل ينام خارجا من حاضره.

وكان إذا نام غط غطيطا منكرا لا يخفى مكانه ، وكان الحاضر إذا أتاهم فزع ، صرخوا : يا «أحمر باسا».

فيثور مثل الأسد ، فلما جاءهم ذلك الغزي من هذيل ، قال لهم جنيدب بن الأدلع : إن كان أحمر باسا قد قيّل في الحاضر فليس إليهم سبيل ، وإن له

١٢٠