الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

طالب عليه‌السلام قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله : «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (١) دعاني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لي : يا علي إنّ الله أمرني «أن أنذر عشيرتي الأقربين» فضقت بذلك ذرعاً ، وعلمت أنّي متى اُناديهم بهذا الأمر أرىٰ منهم ما أكره ، إلى أن قال : يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتى فيكم؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت : أنا وأنا لأحدثهم سنّا وأرمصهم (٢) عيناً ، وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم (٣) ساقاً أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ووصيّ وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوه. فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لإبنك وتطيع (٤).

أقول : ولو لم يكن لأمير المؤمنين عليه‌السلام في استخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له إلّا هذا الخبر وهذه القضيّة لكفىٰ «لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (٥).

ولرسول الله كما تقدّم معاجز كثيرة متنوّعة تبلغ أربعة آلاف وأربعماءة وأربعين معجزة كما جاء في المناقب لإبن شهراشوب فراجع (٦).

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٤.

٢ ـ الرمص بالتحريك : وسخ يجتمع في موق العين ، فإن سال فهو غمص ، وإن جمد فهو رمص ، الصحاح : ج ٣ ، ص ١٠٤٢.

٣ ـ رجل أحمش الساقين : دقيقهما ، الصحاح : ج ٣ ، ص ١٠٠٢.

٤ ـ تاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٥٤٢ ـ ٥٤٣ ، وقريب منه ما أخرجه إبن سعد في الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٤٧.

٥ ـ ق : ٣٧.

٦ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٤٤.

٢٢١

وقال الجزري : وقد صنّف العلماء في معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتباً كثيرة ذكروا فيها كلّ عجيبة (١).

ونختم حديثنا بما رواه إبن سعد في طبقاته : أن قريشاً لمّا تكاتبت على بني هاشم ألّا يناكحوهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يخالطوهم في شيئ ، ولا يكلّموهم حين أبوا أن يدفعوا إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومكثو في شعبهم ثلاث سنين محصورين. ثم إطلع الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر صحيفتهم ، وأنّ الأرضة قد أكلت ما كان فيها من جور وظلم ، وبقي ما كان فيها من ذكر الله ، فجاءهم أبوطالب فقال لهم : إن إبن أخي قد أخبرني ولم يكذّبني قط أن الله قد سلّط على صحيفتكم الأرضة ، فلحست كلّ ما كان فيها من جور أو ظلم أو قطيعة رحم وبقي فيها كل ما ذكر به الله فإن كان إبن أخي صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم ، وإن كان كاذباً دفعته إليكم فقتلتموه أواستحييتموه. قالوا : قد أنصفتنا. فأرسلوا إلى الصحيفة ففتحوها فإذا هي كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أكلت الأرضة كلّها إلّا ما كان من ذكر الله فيها ، فسقط في أيديهم ونكّسوا على رؤوسهم.

فقال أبوطالب : علامَ نُحبس ونحصر وقدبان الأمر؟.

ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة ، فقال : اللّهم اُنصرنا ممّن ظلمنا ، وقطع أرحامنا ، واستحلّ ما يحرم عليه منّا ، ثم انصرفوا إلى الشعب.

وتلاوم رجال من قريش على ما صنعوا ببني هاشم ، فلبسوا السلاح ثم خرجوا إلى بني هاشم وبني المطّلب فأمروهم بالخروج إلى مساكنهم

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤٧.

٢٢٢

ففعلوا ، فلمّا رأت قريش ذلك سقط في أيديهم وعرفوا أن لن يسلموهم ، وكان خروجهم من الشعب في السنة العاشرة (١).

* * *

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٦٣ ـ ١٦٤.

٢٢٣

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ : خٰاضَ إِلىٰ رِضْوٰانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ ، وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ. وَقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ ، وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ ، وَخَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهٰا ، وَضَرَبَتْ إِلىٰ مُحٰارَبَتِهِ بُطُونَ رَوٰاحِلِهٰا ، حَتّىٰ أَنْزَلَتْ بِسٰاحَتِهِ عَدٰاوَتَهٰا مِنْ أَبْعَدِ الدّٰارِ ، وَأَسْحَقِ الْمَزٰارِ.

قوله عليه‌السلام : «وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «خٰاضَ إِلىٰ رِضْوٰانِ اللهِ كُلَّ غَمْرَةٍ» أي تحمّل صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبيل الدعوة إلى الإسلام وتبليغ رسالته والوصول إلى رضوان الله كلّ مكروه وشدّة.

روى السروي عن زين العابدين عليه‌السلام أن قريشاً اجتمعت إلى أبي طالب والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده فقالوا : نسألك من إبن أخيك النصف. قال : وما النصف منه؟.

قالوا : يكفّ عنّا ونكفّ عنه ، فلا يكلّمنا ولا نكلّمه ، ولا يقاتلنا ولا نقاتله ، ألا إنّ هذه الدعوة قد باعدت بين القلوب وزرعت الشحناء (٣) ، وأنبتت البغضاء ، فقال : يا إبن أخي أسمعت؟

قال : يا عمّ لو أنصفني بنو عمّي لأجابوا دعوتى وقبلوا نصيحتّى ، إنّ الله تعالى أمرني أن أدعو إلى دين الحنيفيّة ملّة إبراهيم ، فمن أجابنى فله

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٣٠٧ ، الخطبة ١٩٤.

٢ ـ آل عمران : ١٤٤.

٣ ـ الشحناء : العداوة والبغضاء.

٢٢٤

عند الله الرضوان والخلود في الجنان ، ومن عصاني قاتلته حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين الحديث (١).

قوله عليه‌السلام : «وَتَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ» أي تجرّع الغموم والهموم من أذى قريش والمشركين له صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل تحصيل رضى الرّب المؤدّي إلى رضوانه تعالى.

وفي المناقب إن طارق المحاربي قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سويقة ذي المجاز ، وعليه حلّة حمراء وهو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إلٰه إلّا الله تفلحوا ، وأبو لهب يتبعه ويرميه بالحجارة ، وقد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، وهو يقول : يا أيّها الناس لا تطيعوه فإنّه كذاب (٢).

وفي الخبر : نهى أبوجهل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصّلاة وقال : إن رأيت محمّدًا يصلّي لأطأنّ عنقه ، فنزل : «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا» (٣) (٤).

وعن الزهري : لمّا توفي أبوطالب ، واشتدّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله البلاء ، عمد إلى ثقيف بالطائف رجاء أن يأويه سادتها : عبد نائل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمروبن نمير الثقفي ، فلم يقبلوه ، وتبعه سفاؤهم بالأحجار ، ودموا رجليه ، فخلّص منهم ، واستظلّ في ظل حبلة (٥) منه ، وقال : اللّهمّ إنّى أشكو إليك من ضعف قوتي ، وقلّة حيلتي وناصري وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين. فأنفذ عتبة وشيبة إبنا ربيعة إليه بطبق عنب على يدي

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٩.

٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٦.

٣ ـ الإنسان : ٢٤.

٤ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٧.

٥ ـ الحُبلة ـ بالضمّ ـ الكرم أو أصل من أصوله.

٢٢٥

غلام يدعىٰ عداساً ، وكان نصرانيّاً ، فلمّا مدّ يده وقال : بسم الله.

فقال : إن أهل هذا البلد لا يقولونها ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أين أنت؟

قال : من بلدة نينوى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مدينة الرجل الصالح يونس إبن متّى؟

قال : وبما تعرفه؟ قال : أنا رسول الله ، والله أخبرني خبر يونس ، فخرّ عداس ساجداً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجعل يقبّل قدميه وهما يسيلان دماً.

فقال عتبة لأخيه : قد أفسد عليك غلامك ، فلمّا انصرف عنه سأل عن مقالته.

فقال : والله إنّه نبيّ صادق ، فقالوا : إنّ هذا رجل خدّاع لا يفتنّنك عن نصرانيّتك ، وقالوا : لو كان محمّد نبيّاً لشغلته النبوّة عن النساء ، ولأمكنه جميع الآيات ولأمكنه منع الموت عن أقاربه (١).

وروى الطبري في منتخب ذيل المذيل : عن منيب بن مدرك الأزدي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجاهليّة ، وهو يقول للناس : «قولوا لا إلٰه إلّا الله تفلحوا» فمنهم من تفّل في وجهه ، ومنهم من حثا عليه التراب ، ومنهم من سبّه حتّى انتصف النهار ، الحديث (٢).

وأخرجه الكليني بإسناده عن علي عليه‌السلام لمّا أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بإظهار الإسلام ، وظهر الوحي رأى قلّة من المسلمين ، وكثرة من المشركين ، فاهتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله همّاً شديداً ، فبعث الله تعالى إليه جبرئيل عليه‌السلام بسدرٍ من سدرة المنتهى ، فغسل به رأسه ، فجلا به همّه (٣).

وقوله عليه‌السلام : «وَقَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ» أي تغيّر لأجله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقار به من قريش كعمّه أبو لهب وأبوجهل. وذكروا : أنّه كان إذا قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٦٨.

٢ ـ منتخب ذيل المذيل : ص ٨٠.

٣ ـ الكافي : ج ٦ ، ص ٥٠٥ ، ح ٧.

٢٢٦

وفد ليعلموا علمه ، إنطلقوا بأبي لهب إليهم ، وقالوا له : أخبر عن إبن أخيك ، فكان يطعن في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتقوّل الباطل ، ويقول : إنّنا لم نزل نعالجه من الجنون. فيرجع القوم ولا يلقونه (١).

وفي المناقب عن أبي أيوب الأنصاري : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بسوق ذي المجاز ، فدعاهم إلى الله تعالى ، والعباس قائم يسمع الكلام ، قال : أشهد أنّك كذّاب ، ومضى إلى أبي لهب ، وذكر ذلك ، فأقبلا يناديان : إن إبن أخينا هذا كذّاب ، فلا يغرّنكم عن دينكم.

وأضاف في القول قائلاً إستقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أبو طالب ، فاكتنفه ، وأقبل على أبي لهب والعباس فقال لهما : ما تريدان؟ تربت أيديكما (٢) والله أنّه لصادق القيل ، ثم أنشأ أبوطالب :

أنت الرّسول رسول الله نعلمه

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب (٣)

وفيه ايضاً قال أبوجهل : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منّا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نؤمن به ، ولا نتّبعه أبداً ، إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزل «وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ» (٤) (٥).

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٦.

٢ ـ ترب الرجل : إذا إفتقر ، أي لصق بالتراب.

٣ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٦.

٤ ـ الانعام : ١٢٤.

٥ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٠ ـ ٥١.

٢٢٧

وقال إبن أبي الحديد : ومن قرأ كتب السيرة علم ما لاقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذات الله سبحانه من المشقّة ، واستهزاء قريش به في أوّل الدعوة ، ورميهم إيّاه بالحجارة ، حتّى أدموا عَقبَهُ ، وصياح الصبيان به ، وفرث الكرش على رأسه ، وفتل الثوب في عنقه ، وحصره وحصر أهله في شعب بني هاشم عدّة ، سنين محرّمة معاملتهم ومبايعتهم ومناكحتهم وكلامهم ، حتّى كادوا يموتون جوعاً ، لولا أنّ بعض من كان يحنو عليهم لرحم أولسبب غيره ، فهو يسرق الشيئ القليل من الدقيق أوالتمر فيلقيه إليهم ليلاً ، ثم ضربهم أصحابه وتعذيبهم بالجوع والوثاق في الشمس ، وطرد هم إيّاهم عن شعاب مكة ، حتّى خرج من خرج منهم إلى الحبشة ، وخرج عليه‌السلام مستجيراً منهم تارة بثقيف. وتارة ببني عامر ، وتارة بربيعة الفَرَس ، وبغيرهم ، ثم أجمعوا على قتله والفتك به ليلاً ، حتّى هرب منهم لائذاً بالأوس والخزرج ، تاركاً أهله وأولاده ، وما حوته يده ، ناجياً بحشاشة نفسه ، حتّى وصل إلى المدينة ، فناصبوه الحرب ، ودموه بالمناسر (١) والكتائب ، وضربوا إليه آباط الإبل ، ولم يزل منهم في عناء شديد ، وحروب متّصلة ، حتّى أكرمه الله تعالى ونصره ، وأيّد دينه وأظهره (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَتَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ» أي اجتمعوا على حربه صلى‌الله‌عليه‌وآله ومنابذته وإيذائه الأباعد منه نسباً من أقصى البلاد.

قال السروي نهى أبوجهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الصّلاة ، وقال : إن رأيت محمّداً يصلّي لأطأنّ عنقه ، فنزل : «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ

__________________

١ ـ المنسر : قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكبير.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد ، ج ١٠ ، ص ١٦٥ ـ ١٦٦.

٢٢٨

وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا» (١) (٢).

وفي خبر آخر جاء أبوجهل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلّي ليطأ على رقبته ، فجعل ينكص على عقبيه ، فقيل له : مالك؟

قال : إنّ بيني وبينه خندقاً من نار مهولا ، ورأيت ملائكة ذوي أجنحة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لودنا منّي لاختطفته الملائكة عضواً عضوا ، فنزل : «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ * عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ» (٣) (٤).

وذكروا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا مشى يتكفّأ ، وكان الحكم بن أبي العاص يحكيه ، فالتفت صلى‌الله‌عليه‌وآله يوماً فرآه يفعل ذلك.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فكذلك فلتكن ، فكان الحكم مختلجاً يرتعش من يومئذٍ (٥).

قوله عليه‌السلام : «وخلعت إليه العرب أعنّتها» هذا مثل معروف بين الناس ، معناه أوجفوا إليه مسرعين لمحاربته ، لأن الخيل إذا خلعت أعنّتها كان أسرع لجريها ، قاله : إبن أبي الحديد (٦).

قوله عليه‌السلام : «وَضَرَبَتْ إِلىٰ مُحٰارَبَتِهِ بُطُونَ رَوٰاحِلِهٰا» الرواحل : جمع الراحلة وفي لسان العرب : الراحلة من الإبل : البعير القوي على الأسفار والأحمال ، والذكر والاُنثى فيه سواء ، والهاء فيها للمبالغة (٧).

وقال الجزري وفي الحديث : «تجدون الناس كابل مائةٍ ليس فيها راحلة» أي : الرجل الكامل في الناس قليل كقلّة الراحلة في الآبال (٨).

__________________

١ ـ الإنسان : ٢٤.

٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٥٧.

٣ ـ العلق : ٩ ـ ١٠.

٤ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٧١.

٥ ـ الإستيعاب : ١ ، ص ٢٥٩ ـ ٣٦٠.

٦ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ١٠ ، ص ١٦٤.

٧ ـ لسان العرب : ج ١١ ، ص ٢٧٧ ، مادة «رحل».

٨ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٢ ، ص ٢٠٩.

٢٢٩

وقال إبن أبي الحديد : كناية عن إسراع العرب نحوه للحرب ، لأنّ الرواحل إذا ضربت بطونها لتساق كان أوحى لها ، ومراده أنهم كانوا فرساناً وركباناً (١).

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ أَنْزَلَتْ بِسٰاحَتِهِ عَدٰاوَتَهٰا» أي أسرعوا إلى حربه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله عليه‌السلام : «مِنْ أَبْعَدِ الدّٰارِ ، وَأَسْحَقِ الْمَزٰارِ» وفيه إشارة إلى شدّة عداوتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأن إثارة الحرب من مكان البعيد لا يكون إلّا عن عداوة شديده لهم.

* * *

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ١٠ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

٢٣٠

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ،

أَرْسَلَهُ ، وَأَعْلٰامُ الْهُدىٰ دٰارِسَةٌ ، وَمَنٰاهِجُ الدِّينِ طٰامِسَةٌ. فَصَدَعَ بِالْحَقِّ ، وَنَصَحَ

لِلْخَلْقِ ، وَهَدىٰ إِلَى الرُّشْدِ ، وَأَمَرَ

بِالْقَصْدِ. صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ وَسَلَّمَ.

قوله عليه‌السلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال تعالى : «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ» (٢) أي رسوله بالحق.

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ وَأَعْلٰامُ الْهُدىٰ دٰارِسَةٌ» أي أرسله ربّه إلى الخلق بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ، في حين علائم الهدى إلى صراط الله مندرسة.

قوله عليه‌السلام : «وَمَنٰاهِجُ الدِّينِ طٰامِسَةٌ» المناهج : جمع منهج أي الطريق الواضح ، ذكر الجوهري (٣) والدين في اللغة الطاعة ، وفي العرف الشرعي : هو الشريعة الصادرة بواسطة الرسل عليهم‌السلام ولمّا كان إتّباع الشريعة طاعة مخصوصة كان ذلك تخصيصاً من الشارع للعام بأحد مسمّياته ولكثرة إستعماله صار حقيقة دون سائر المسمّيات ، لأنّه المتبادر إلى الفهم حال إطلاق لفظ الدين.

و «طامسة» أي ممحوّة : فالمراد من قوله عليه‌السلام «ومناهج الدين طامسة» أي أنّ طريق المعارف الإسلاميّة والدين الواضح المبين كان

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، الخطبة ١٩٥.

٢ ـ آل عمران : ١٤٤.

٣ ـ الصحاح : ج ١ ، ص ٣٤٦ ، مادة «نهج».

٢٣١

ممحوّة قبل الإسلام أي في زمن الفتره.

وقال داود عليه‌السلام في زبوره : «اللّهم إبعث مقيم السنّة بعد الفترة» (١) ، أي طريق المعارف الحقّة ممحوّة.

وفي المناقب : في زبور داود اللّهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة (٢).

قوله عليه‌السلام : «فَصَدَعَ بِالْحَقِّ» أي أعلن بالحقّ كما أمر ، قال تعالى : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَنَصَحَ لِلْخَلْقِ» النصح : مصدر نصح له من باب ـ منع ـ هذه اللغة الفصيحة ، وعليها قوله تعالى : «إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ» (٥) وفي لغة يتعدّى بنفسه فيقال : نصحته ، والاسم : النصيحة ، وهي كلمة جامعة ، ومعناها : حيازة الخير للمنصوح له ، من نصحت العسل إذا صفّيته من الشمع ، شبّهوا تخليص العقول من الغشّ بتخليص العسل من الشمع.

وقال الراغب : أصلها من نصحت الثوب إذا خطّته ، وهي إخلاص المحبّة لغيرك في إظهار مافيه صلاحه (٦).

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٤.

٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٤.

٣ ـ الحجر : ٩٤.

٤ ـ إكمال الدين وإتمام النعمة : ص ٣٤٤ ، ح ٢٨.

٥ ـ هود : ٣٤.

٦ ـ المفردات : ص ٤٩٤ ، مع إختلاف يسير في العبارة.

٢٣٢

والمراد بنصحه صلى‌الله‌عليه‌وآله للخلق : إرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم ، وتعليمهم إيّاها ، وعونهم عليها ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، والذبّ ، عنهم ، وعن أعراضهم ، والسخاء عليهم بوجوده ، والإيثار لهم وحسن الخلق معهم واغتفار سيّئاتهم وإكرامهم على حسناتهم والدعاء لهم ، وبالجملة جلب خير الدنيا والآخرة إليهم خالصاً مخلصاً لوجه الله.

قوله عليه‌السلام : «وَهَدىٰ إِلَى الرُّشْدِ» أي إلى ما يوجب هدايتهم إلى الرشد والصواب ، قال تعالى : «قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (١).

قوله عليه‌السلام : «وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ» أي أمر بالعدل وهو الصراط المستقيم قال تعالى : «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ» قال تعالى : «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا» (٣). فالصلاة من الله تعالى : الرحمة ، ومن الملائكة : الإستغفار ، ومن الآدميين : الدعاء.

قوله عليه‌السلام : «وَاٰلِهِ وَسَلَّمَ» أي آل الرسول ، وهم أصحاب الكساء ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما قال تعالى : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (٤).

أخرج الطبراني : عن اُم سلمة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة : ائتيني

__________________

١ ـ البقرة : ٢٥٦.

٢ ـ الأعراف : ١٥٧.

٣ ـ الأحزاب : ٥٦.

٤ ـ الأحزاب : ٣٣.

٢٣٣

بزوجك وإبنيك ، فجاءت بهم ، فألقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم كساء فدكيّاً ، ثم وضع يده عليهم ، ثم قال : اللّهم إنّ هؤلاء أهل محمّد وفي نسخة لفظ ـ آل محمّد ـ فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد قالت اُم سلمة فرفعت الكساء لأدخل معهم فجزبه من يدى ، وقال : إنّك على خير (١).

وفي هذا المعنى روايات كثيرة ، انظر كتب السير والتاريخ.

* * *

__________________

١ ـ المعجم الكبير : ج ٢٣ ، ص ٣٣٦ ، ح ٧٧٩ ـ ٧٨٠.

٢٣٤

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

بَعَثَهُ حِينَ لٰا عَلَمٌ قٰائِمٌ ، وَلٰا مَنٰارٌ

سٰاطِعٌ ، وَلٰا مَنْهَجٌ وٰاضِحٌ.

قوله عليه‌السلام : «بَعَثَهُ حِينَ لٰا عَلَمٌ قٰائِمٌ» أي في زمان الفترة لم يكن عالم حتّى يهتدى به المكلّف. فبعثته في تلك الفترة تكون بمقتضى وجوب اللطف على الله سبحانه ، لئلاّ تخلو الأرض من الحجّة. قال الله : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا مَنٰارٌ سٰاطِعٌ» أي لا يكون للطريق علم مرتفع حتّى يكون دليلاً على الإرشاد والهداية لهم.

قوله عليه‌السلام : «وَلٰا مَنْهَجٌ وٰاضِحٌ» أي ما كان لهم في تلك الفتره مسلك وطريق واضح لأنّ الجهل والاُميّة. والخرافة كانت تسيطر على الجزيزة العربيّة وتعبث بالعقول والمعتقدات ولم يكن العرب أهل كتاب ولا ديانة سماويّة ترفع من مستواهم الفكري ، أو تنظّم حياتهم الإجتماعيّة ، وتعمّق وعيهم الحضاري ، بل كانوا أعراباً جاهلين يعبدون الأصنام والأوثان والجن والنجوم والملائكة ، وعندما نعرف هذه الحقيقة نستطيع أن نفهم عظمة نبيّ الإسلام الهادي إلى الرشد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي إستطاع بمشيئة الله ولطفه على العباد أن ينقذ البشريّة ، من الجهل والاُميّة.

* * *

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٣١٠ ، الخطبة ١٩٦.

٢ ـ النساء : ١٦٥.

٢٣٥

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا نَجِيبُ اللهِ.

وَسَفِيرُ وَحْيِهِ ، وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ.

قوله عليه‌السلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا نَجِيبُ اللهِ» النجيب : الكريم ، النفيس في نوعه ، فضيل بمعنى فاعل ، من نجُبَ ـ كَكرُمَ ـ نجابة ، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول ، أي اللّباب الخالص الذي انتجبه الله من خلقه ، فالمراد إذن من قوله عليه‌السلام : «محمّد نجيب الله» أي كريم النسب وأفضل الناس حسباً ونسباً.

قوله عليه‌السلام : «وَسَفِيرُ وَحْيِهِ» الوحي في اللغة : الإشارة والرسالة والإلهام وكلّ ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه فهو وحي ، وهو مصدر وحى إليه يحيي من باب وعد ، وأوحى إليه بالألف مثله ، وهي لغة القرآن الفاشية ، ثم غلب إستعمال الوحي فيما يلقىٰ إلى الأنبياء من عند الله ، قال تعالى : «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَرَسُولُ رَحْمَتِهِ» أي أنّ رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت رحمة للعالمين ، قال تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (٣) وفي الحديث : أنا نبيّ الرحمة (٤) وفي آخر قال صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أنا رحمة مهداة (٥) وتفصيل هذه الرحمة من وجوه.

أحدها : أنّه الهادي إلى سبيل الرشاد ، والقائد إلى رضوان الله

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٣١٢ ، الخطبة ١٩٨.

٢ ـ النجم : ٣ ـ ٤.

٣ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٤ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٤ ، ص ٣٩٥.

٥ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥١.

٢٣٦

سبحانه ، وبسبب هدايته صلى‌الله‌عليه‌وآله يكون وصول الخلق إلى المقاصد العالية ، ودخول جنّات النعيم التي هي غاية الرحمة.

الثاني : أن التكاليف الواردة على يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله أسهل التكاليف وأخفّها على الخلق بالنسبة إلىٰ سائر التكاليف الواردة على أيدي الأنبياء السابقين لاُممهم ، ومن هنا نرى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة (١) وذلك عناية من الله تعالى ورحمة اختصّ بها اُمّته على يديه.

الثالث : إنّه ثبت أنّ الله يعفو عن عصاة اُمّته ويرحمهم بسبب شفاعته.

الرابع : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل ربّه أن يرفع عن اُمّته بعده عذاب الإستيصال ، فأجاب الله دعوته ، ورفع العذاب رحمة.

الخامس : أنّ الله وضع في شريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله الرّخص تخفيفاً ورحمة لاُمّته.

السادس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رحم كثيراً من أعدائه كاليهود والنصارىٰ والمجوس. برفع السيف عنهم ، وبذل الأمان لهم ، وقبول الجزية منهم.

بيد أنّه لم يقبل أحد من الأنبياء الجزية قبله.

السابع : إنّ الله تعالى أخّر عذاب من كذّبه ولم يصدّقه إلى الموت ، أو القيامة قال تعالى : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ» (٢) مع العلم بأنّ كلّ نبيّ من الأنبياء قبله إذا كذّب ، أهلك الله من كذّبه ، وغير ذلك من الوجوه التي لا تحصى كثرة.

وفي المناقب : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صبر في ذات الله ، وأعذر قومه إذ كذّب في ذات الله وشرّد ، وحصب بالحصاة ، وعلاه أبوجهل بسلا شاة ، فأوحى الله إلى جاجائيل ملك الجبال أن شق الجبال وانته إلى أمر محمّد ،

__________________

١ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٤٥١.

٢ ـ الأنفال : ٣٣.

٢٣٧

فأتاه فقال له : قد اُمرت لك بالطاعة ، فان أمرت أطبقت عليهم الجبال فأهلكتهم بها.

قال : إنما بعثت رحمة ، اللّهم إهد قومي ، فانّهم لا يعلمون (١).

* * *

__________________

١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢١٥.

٢٣٨

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

ثُمَّ إِنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ بِالْحَقِّ حِينَ دَنٰا مِنَ الدُّنْيَا الْإِنْقِطٰاعُ ، وَأَقْبَلَ مِنَ الْاٰخِرَةِ الْإِطِّلٰاعُ ، وَأَظْلَمَتْ بَهْجَتُهٰا بَعْدَ إِشْرٰاقٍ ، وَقٰامَتْ بِأَهْلِهٰا عَلىٰ سٰاقٍ ، وَخَشُنَ مِنْهٰا مِهٰادٌ ، وَأَزِفَ مِنْهٰا قِيٰادٌ. فِى انْقِطٰاعٍ مِنْ مُدَّتِهٰا ، وَاقْتِرٰابٍ مِنْ أَشْرٰاطِهٰا ، وَتَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهٰا ، وَانْفِصٰامٍ مِنْ حَلْقَتِهٰا ، وَانْتِشٰارٍ مِنْ سَبَبِهٰا ، وَعَفٰاءٍ مِنْ أَعْلٰامِهٰا ، وَتَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرٰاتِهٰا ، وَقِصَرٍ مِنْ طُولِهٰا. جَعَلَهُ اللهُ سُبْحٰانَهُ بَلٰاغًا لِرِسٰالَتِهِ ، وَكَرٰامَةً لِأُمَّتِهِ ، وَرَبِيعًا لِأَهْلِ زَمٰانِهِ ، وَرِفْعَةً لِأَعْوٰانِهِ ، وَشَرَفًا لِأَنْصٰارِهِ.

قوله عليه‌السلام : «ثُمَّ إِنَّ اللهَ سُبْحٰانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ بِالْحَقِّ حِينَ دَنٰا مِنَ الدُّنْيَا الْإِنْقِطٰاعُ» أي قرب زمان إنقطاع الدنيا كما في قوله عليه‌السلام في الخطبة الثامنة والعشرين : «أما بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع» وقد إختلف الناس في مدّة عمر الدنيا ، إختلافاً شديداً ، فذهب قوم إلى أنّ عمر الدنيا خمسون ألف سنة ، قد ذهب بعضها ، وبقي بعضها واحتجّوا بقوله تعالى : «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (٢) لأنّ اليوم إشارة إلى الدنيا ، وفيها يكون عروج الملائكة والروح إليه ، وذكر إبن أبي الحديد نقلاً عن حمزة بن الحسن الإصفهاني في كتابه المسمّىٰ «تواريخ الأُمم» أنّ اليهود تذهب إلى أنّ عدد السنين من إبتداء التناسل إلى سنة الهجرة لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعة آلاف واثنتان وأربعون سنة وثلاثة أشهر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ٣١٤ ـ ٣١٥ ، الخطبة ١٩٨.

٢ ـ المعارج : ٤.

٢٣٩

والنصارى : تذهب إلى أنّ عدد ذلك خمسة آلاف وتسعماءة وتسعون سنة وثلاثة أشهر.

وأنّ الفرس تذهب إلى أنّ من عهد كيومرث والد البشر عندهم إلى هلاك يزدجرد إبن شهريار الملك : أربعة آلاف وماءة واثنتين وثمانين سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوماً ، ويسندون ذلك إلى كتابهم الذي جاء به زردشت ، وهو الكتاب المعروف بأبستا.

فأما اليهود والنصارى فيسندون ذلك إلى التوراة ، ويختلفون في كيفيّة استنباط المدّة.

وتزعم النصارى واليهود أنّ مدّة الدنيا كلّها سبعة آلاف سنة ، قد ذهب منها ما ذهب ، وبقي ما بقي.

وامّا الأخباريّون من المسلمين ، فأكثرهم يقولون : إنّ عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ويقولون إنّنا في السابع.

والحقّ أنّه لا يعلم أحد هذا إلّا الله تعالى وحده كما قال سبحانه : «يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا» (١) (٢).

وقال المسعودي : كيف توجب أن يوقّت عمر الدّنيا بسبعة آلاف سنة ، والله عزّوجلّ يقول : وقد ذكر الأجيال ومن ضمّه الهلاك «وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَٰلِكَ كَثِيرًا» (٣) والله تعالى ذكره لا يقول الكثير إلّا في الشيئ الحقيقي الكثير ، وأعلمنا في كتابه خلقة آدم.

__________________

١ ـ النازعات : ٤٢ ـ ٤٣.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ١٠ ، ص ١٩٧ ـ ١٩٨.

٣ ـ الفرقان : ٣٨.

٢٤٠