السيّد محسن الحسيني الأميني
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦
وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ (١)
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّفِيُّ ، وَأَمِينُهُ الرَّضِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ. أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ ، وَظُهُورِ الْفَلَجِ ، وَإِيضٰاحِ الْمَنْهَجِ ، فَبَلَّغَ الرِّسٰالَةَ صٰادِعًا بِهٰا ، وَحَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دٰالًّا عَلَيْهٰا ، وَأَقٰامَ أَعْلٰامَ الْإِهْتِدٰاءِ ، وَمَنٰارَ الضِّيٰاءِ ، وَجَعَلَ أَمْرٰاسَ الْإِسْلٰامِ مَتِينَةً ، وَعُرَى الْإِيمٰانِ وَثِيقَةً.
قوله عليهالسلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ» (٢).
قوله عليهالسلام : «الصَّفِىُّ» أي الخالص في مقام العبوديّة عن الكدر النفسانيّة.
وقيل : إنّ على حساب الحروف الأبجديّة لفظ المصطفى محمّد رسول الله يساوي عدد ٧١٤ ، ولفظ سيّد النبيين صلىاللهعليهوآلهوسلم يساوي عدد ٧١٦. فهما متقاربان تقريباً.
قوله عليهالسلام : «وَأَمِينُهُ الرَّضِىُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ» «الأمين» : تقدم شرحه في الخطبة ١٠٠.
قوله عليهالسلام : «أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ» «الرسالة» بالكسر ، لغة : اسم من الإرسال وهو التوجيه ، وعرفاً تكليف الله تعالى بعض عباده بواسطة ملك يشاهده ويشافهه أن يدعو الخلق إليه ويبلّغهم أحكامه ، وقد تطلق على نفس الأحكام المرسل به. والمراد أي أرسله مع المعجزات الباهرة الدّالة على صدق قوله بأنّه : «نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» (٣) ولإتمام الحجّة على العباد
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٦٩ ، الخطبة ١٨٥.
٢ ـ الأحزاب : ٤٠.
٣ ـ هود : ٢.
كقوله تعالى : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (١). وكقوله تعالى : «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» (٢).
وإليك نموذجاً واحداً من معجزاته كما جاء في المناقب : أجمع المفسّرون والمحدّثون في قوله تعالى : «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ» (٣) إنّه قد إجتمع المشركون ليلة بدر إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقالوا : إن كنت صادقاً فشقّ لنا القمر فرقتين ، قال : إن فعلت تؤمنون؟ قالوا : نعم ، فأشار إليه بإصبعه فانشقّ ، رؤى حرى بين فلقيه ، وفي رواية نصفاً على أبي قبيس ، ونصفاً على فعيقان (٤).
وفي رواية نصفه على الصفاء ونصف الآخر على المروة ، فقال صلىاللهعليهوآله : إشهدوا إشهدوا ، فقال ناس : سحرنا محمّد ، فقال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلّهم. فنزلت هذه الآية : «وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ» (٥) وفي رواية جاء المسافرون من كلّ وجه وقالوا : بأنّهم رأوا مثل ما رأوا :
والقمر والبدر المنير شقّه |
|
فقيل سحر عجب لما رأى (٦) |
قوله عليهالسلام : «وَظُهُورِ الْفَلَجِ» أي لإستبانة الإنكسار والإنهيار في صفوف الأعداء ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (٧).
قوله عليهالسلام : «وَإِيضٰاحِ الْمَنْهَجِ» أي أنّ منهجه واضح ، وسلوكه قويم ،
__________________
١ ـ النساء : ١٦٥.
٢ ـ الأنفال : ٤٢.
٣ ـ القمر : ١.
٤ ـ جبل بمكة وجهه إلى أبي قبيس.
٥ ـ القمر : ٢.
٦ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٢٢ ـ ١٢٣.
٧ ـ الفتح : ٢٨.
قال الله تعالى : «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» (١).
وفي الخبر أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله كان يقول : «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (٢).
قوله عليهالسلام : «فَبَلَّغَ الرِّسٰالَةَ صٰادِعًا بِهٰا» إمتثالاً لأمره ومظهراً بها ، كما أمره تعالى في قوله : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (٣) وفي القاموس : «فاصدع بما تؤمر» أي شق جماعاتهم بالتوحيد ، أو أجهر. بالقران ، أواحكم بالحق وأفصل بالأمر (٤).
وقال إبن هشام : إن الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سنّ فيهم وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ، إنّه قد حضر هذا الموسم وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجموا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً ، ويردّ قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا أسمع؛ قالوا : نقول : كاهن ، قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة (٥) الكاهن ولا سجعه ، قالوا : فنقول : مجنون ، قال ما هو بمجون. لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، قالوا : فنقول شاعر ، قال ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ، ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر.
__________________
١ ـ يس : ٣ ـ ٤.
٢ ـ الإسراء : ٨١.
٣ ـ الحجر : ٩٤.
٤ ـ القاموس المحيط : ج ٣ ، ص ٤٩ ، مادة «صدع».
٥ ـ الزمزمة : الكلام الخفي الذي لا يسمع.
قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحّار وسحرهم فما بنفثهم ولا عقدهم (١).
قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟.
قال : والله إنّ لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق (٢) وإنّ فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلّا عرف أنّه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر ، يفرّق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرقوا عنه بذلك (٣).
وفي المناقب : لمّا قالت قريش : إنّه ساحر. علمنا أنّه قد أراهم ما لم يقدروا على مثله ، وقالوا : هذا مجنون. لما هجم منه على شيئ لم يفكّر في عاقبته منهم ، وقالوا : كاهن. لأنه أنبأ بالغائبات ، وقالوا : معلّم. لأنّه قد أنبأهم بما يكتمونه من أسرارهم ، فثبت صدقه من حيث قصدوا تكذيبه (٤).
قوله عليهالسلام : «وَحَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ» أي كان هدايته صلىاللهعليهوآله للناس مع الدليل والبرهان.
قوله عليهالسلام : «دٰالًّا عَلَيْهٰا» أي هادياً إليها ، قال تعالى : «وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ» (٥).
قوله عليهالسلام : «وَأَقٰامَ أَعْلٰامَ الْإِهْتِدٰاءِ ، وَمَنٰارَ الضِّيٰاءِ» أي نصب لهم
__________________
١ ـ إشارة إلى ما كان يفعل الساحر بأن يعقد خيطاً ثم ينفث فيه ، ومنه قوله تعالى في سورة الفلق الآية ٤ : «وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ» يعني الساحرات.
٢ ـ العذق : النخلة. شبّهه بالنخلة التي تثبت أصلها ، وقوي وطاب فرعها إذا جنى.
٣ ـ سيرة إبن هشام : ج ١ ، ص ٢٨٨ ـ ٩ / ٢.
٤ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٢٣.
٥ ـ الأنعام : ١٥٣.
أعلاماً توجب إهتدائهم ، ومناراً يستضيئون بنوره حتّى كملت الدين. قال تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» (١).
قوله عليهالسلام : «وَجَعَلَ أَمْرٰاسَ الْإِسْلٰامِ مَتِينَةً» أي وضع حبال الدين قويّة متقنة.
قوله عليهالسلام : «وَعُرَى الْإِيمٰانِ وَثِيقَةً» أي جعل عرىٰ الإيمان مستحكمة ، ينبغي أن تمسك بها كما قال الله : «فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (٢).
وفي الكافي : عن الصادق عليهالسلام قال : هي الإيمان بالله وحده لا شريك له (٣).
* * *
__________________
١ ـ المائدة : ٣.
٢ ـ البقرة : ٢٥٦.
٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٤ ، ح ١ ، باب في أنّ الصبغة هي الإسلام.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
|
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، دَعٰا إِلىٰ طٰاعَتِهِ ، وَقٰاهَرَ أَعْدٰاءَهُ جِهٰادًا عَنْ دِينِهِ ، لٰا يَثْنِيهِ عَنْ ذٰلِكَ اجْتِمٰاعٌ عَلىٰ تَكْذِيبِهِ ، وَالْتِمٰاسٌ لِإِطْفٰاءِ نُورِهِ. |
قوله عليهالسلام : «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ» (٢).
قوله عليهالسلام : «دَعٰا إِلىٰ طٰاعَتِهِ» أي بما أمره الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة قال الله : «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» (٣).
ولقد دعا اُمّته في أوّل بعثته صلىاللهعليهوآله فعن : عن إبن عبّاس ، قال : صعد رسول الله صلىاللهعليهوآله ذات يوم الصفا ، فقال : يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : مالك؟ قال أرأيتكم أن أخبرتكم أنّ العدو مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدّقوني؟ قالوا : بلى ، قال. فإنّي «نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (٤) ، فقال : أبولهب : تبّاً لك لهذا دعوتنا ، فنزلت سورة تبّت (٥).
قوله عليهالسلام : «وَقٰاهَرَ أَعْدٰاءَهُ جِهٰادًا عَنْ دِينِهِ» أي جاهد رسول الله صلىاللهعليهوآله في سبيل الله وغلب على أعدائه في حروبه وغزواته وسراياه ، وكان
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٨١ ، الخطبة ١٩٠.
٢ ـ الأحزاب : ٤٠.
٣ ـ النحل : ١٢٥.
٤ ـ سبأ : ٤٦.
٥ ـ تاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٥٤١ ـ ٥٤٢ وأخرجه إبن شهراشوب في المناقب : ج ١ ، ص ٤٦ وهكذا أخرجه إبن سعد : ج ١ ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧.
مجموع غزواته ست وعشرون ، وحروبه تسعه ، وسراياه ست وثلاثون ، وقال إبن شهراشوب : لمّا كان بعد سبعة أشهر من الهجرة نزل جبرئيل بقوله «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» (١) فقلّد في عنقه صلىاللهعليهوآله سيفاً.
وفي رواية لم يكن له غمد ، فقال : حارب بهذا قومك حتّى يقولوا : لا إلٰه إلّا الله (٢).
قوله عليهالسلام : «لٰا يَثْنِيهِ عَنْ ذٰلِكَ» أي لا يصرفه عن الدعوة والتبليغ والجهاد في سبيل الله.
قوله عليهالسلام : «اجْتِمٰاعٌ عَلىٰ تَكْذِيبِهِ» مع قلّة ناصريه وكثرة معانديه.
قوله عليهالسلام : «وَالْتِمٰاسٌ لِإِطْفٰاءِ نُورِهِ» قال الطبري : في حديث. مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب إن إبن أخيك قد سبّ آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفّه أحلامنا ، وضلّل آباءنا ، فإما أن تكفّه عنّا ، وإمّا أن تخلّي بيننا وبينه ، فبعث أبوطالب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال له : يابن أخي ، إنّ قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبو عليّ وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا عمّاه ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ، ثم استعبر رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فبكى ثم قام ، فلمّا تولّى ناداه أبوطالب ، فقال : أقبل يابن أخي ، فأقبل عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : إذهب يابن أخي ، فقل : ما أحببت ، فوالله لا أسلّمُكَ لشيئ أبداً (٣).
__________________
١ ـ المناقب لإبن شهراشوب ، ج ١ ، ص ١٨٦.
٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٨٦.
٣ ـ تاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥ ، وسيرة لإبن هشام : ج ١ ، ص ٢٨٣ ـ ٢٨٥.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
|
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَالنّٰاسُ يَضْرِبُونَ فِى غَمْرَةٍ ، وَيَمُوجُونَ فِى حَيْرَةٍ ، قَدْ قٰادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ. وَاسْتَغْلَقَتْ عَلٰى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفٰالُ الرَّيْنِ. |
قوله عليهالسلام : «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» قال الله تعالى : «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» (٢).
قوله عليهالسلام : «ابْتَعَثَهُ وَالنّٰاسُ يَضْرِبُونَ فِى غَمْرَةٍ» الضرب : السير السريع ، والغمرة : الإنهماك في الباطل ، أي الناس يسيرون في الجهل والضلالة والبطلان سيراً سريعاً.
قوله عليهالسلام : «وَيَمُوجُونَ فِى حَيْرَةٍ» أي يضطربون ويختلجون في حيرة وجهالة ، لكثرة الفتن وشدّة المصائب في أيّام الفترة من سفك الدماء والقتل والنهب فلا يعرفون سبيلاً للنجاة لهم.
قوله عليهالسلام : «قَدْ قٰادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ» أي حيث إنهمكوا في المحرمات ، وارتكبوا المعاصي فقادتهم تلك الأزمّة إلى الهلاك الأبديّة. وقد قال الله تعالى : «وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ» (٣).
قوله عليهالسلام : «وَاسْتَغْلَقَتْ عَلٰى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفٰالُ الرَّيْنِ» وفي الصحاح : الرين : الطبع والدنس ، يقال : ران على قلبه ذنبه يرين ريناً وريوناً ، أي : غلب (٤).
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٢٨٣ ، الخطبة ١٩١.
٢ ـ الفتح : ٢٩.
٣ ـ آل عمران : ١٠٣.
٤ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ٢١٢٩.
والمراد : إذا طبع دنس الذنوب على القلوب فلا يدخل أنوار الحق فيها لأنّها مغلقة ، قال الله تعالى : «بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ» (١).
وعن الباقر عليهالسلام : قال : ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادىٰ في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً (٢).
* * *
__________________
١ ـ المطفّفين : ١٤.
٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، ح ٢٠ ، باب الذنوب.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
|
وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مِنْ لَدُنْ كٰانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلٰائِكَتِهِ ، يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكٰارِمِ ، وَمَحٰاسِنَ أَخْلٰاقِ الْعٰالَمِ ، لَيْلَهُ وَنَهٰارَهُ. |
قوله عليهالسلام : «وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مِنْ لَدُنْ كٰانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلٰائِكَتِهِ» القرن : أهل زمان واحد ، واشتقافه من قرنت لاقترانهم برهة من الزمان و «الفطيم» ككريم هو الذي انتهت مدّة رضاعه ، وفطم عن الثدي. يقال فطمت الرضيع من باب ضرب فصلته عن الرضاع ، ومن الواضح أنّ علوّ شأن النبيّ صلىاللهعليهوآله وسمّوا أخلاقة في مضمار الفضيلة وكرم النفس والنبل والطهارة التي جاءت حصيلة لإعداد إلٰهي خاص توفّر لرسوله الله صلىاللهعليهوآله قبل الدعوة الإسلاميّة حتّى صار كفواً للرسالة الإلٰهيّة وتجسيداً لحقائقها وإلى هذا اللون من الإعداد الإلٰهي أشار عليهالسلام بقوله : «ولقد قرن الله ...» وذلك الملك كان أعظم من جبرئيل وميكائيل كما حدّث عنه أبو بصير عندما سأل أبا عبدالله عليهالسلام عن قول الله عزّوجلّ : «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (٢) ، قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو مع الأئمة عليهمالسلام ، وهو من الملكوت (٣).
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٣٠٠ ، الخطبة ١٩٢.
٢ ـ الإسراء : ٨٥.
٣ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٢٧٣ ، ح ٣ ، باب الروح الّتي يسدّد الله بها الأئمة عليهمالسلام وتفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٦ ، س ١٥ ، وأخرجه العياشي في تفسيره ، ج ٢ ، ص ٣١٧ ، ح ١٦١.
وفي خبر آخر عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبدالله عليهالسلام في ذيل هذه الآية : «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (١) قال : خلق عظيم أعظم من جبرئيل وميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلىاللهعليهوآله وهو مع الأئمة يسدّدهم ، وليس كلّ ما طلب وجد (٢).
وفيه ايضاً عن أسباط بن سالم ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل مع الأئمة يفقههم وهو من الملكوت (٣).
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال : سألت أبا عبدالله عليهالسلام عن قول الله تبارك وتعالى : «وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ» (٤) قال : خَلْقٌ من خلق الله عزّوجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يخبره ويسدّده وهو مع الأئمه من بعده (٥).
وفي رواية : منذ أنزل الله ذلك الروح على محمّد صلىاللهعليهوآله ما صعد إلى السماء وإنّه لفينا (٦).
قال إبن أبي الحديد : روى أن بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن على الباقر عليهالسلام سأله عن قوله الله عزّوجلّ : «إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا» (٧) فقال عليهالسلام : يوكّل الله تعالى
__________________
١ ـ الإسراء : ٨٥.
٢ ـ تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٣١٧ ، ح ١٦١. وأخرجه الكليني في الكافي : ج ١ ، ص ٢٧٣ ، ح ٥.
٣ ـ تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٣١٧ ، ح ١٦٥.
٤ ـ الشورى : ٥٢.
٥ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٢٧٣ ، ح ١ ، باب الروح الّتي يسدّد الله بها الأئمة عليهمالسلام.
٦ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٢٧٣ ، ح ٢ ، باب الروح الّتي يسدّد الله بها الأئمة عليهمالسلام.
٧ ـ الجن : ٢٧.
بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويوَدّون إليه تبليغهم الرسالة ، ووكلّ بمحمّد صلىاللهعليهوآله ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصدّه ، عن الشرّ ومساوئ الأخلاق ، وهو الذي كان يناديه : السلام عليك يا محمّد يا رسول الله ، وهو شاب لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أنّ ذلك من الحجر والأرض ، فيتأمل فلا يرى شيئاً (١).
وأخرجه الكليني بإسناده عن رفاعة ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : كان عبدالمطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره ، وكان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه ، فجاء رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو طفل يدرج حتّى جلس على فخذيه ، فأهوى بعضهم إليه لينحّيه عنه ، فقال له عبدالمطلب : عليهالسلام إبني فإنّ الملك قد أتاه (٢).
وقال إبن ميثم البحراني : وروى أنه صلىاللهعليهوآله قال : أذكر وأنا إبن سبع سنين ، وقد بنى إبن جدعان داراً بمكة ، فجئت مع الغلمان نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله فملأت حجري تراباً فانكشفت عورتي فسمعت نداءً من فوق رأسي يا محمّد صلىاللهعليهوآله أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئاً إلّا إنّنى أسمع الصوت فتماسكت ولم أرخه ، فكأنّ إنساناً ضربني على ظهري فخررت بوجهي فانحلّ إزاري فسترني وسقط التراب إلى الأرض فقمت إلىٰ دار عمّي أبي طالب ولم أعد (٣).
قوله عليهالسلام : «يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكٰارِمِ» إنّ سمّو أخلاق الرسول صلىاللهعليهوآله
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ١٣ ، ص ٢٠٧ ، وأخرجه إبن ميثم البحراني في شرحه : ج ٤ ، ص ٣١٤.
٢ ـ الكافي : ج ١ ، ص ٤٤٨ ، ح ٢٦.
٣ ـ شرح نهج البلاغة لإبن ميثم البحراني : ج ٤ ، ص ٣١٤ ، وأورده إبن أبي الحديد في شرحه : ج ١٣ ، ص ٢٠٨ ، نقلاً عن أمالي محمّد بن حبيب فراجع.
وعلوّ شأنه في مضمار الفضيلة وكرم النفس والنبل والطهارة إنّما جاءت حصيلة لإعداد إلٰهي خاص توفر لرسول الله قبل الدعوة وبسبب من تلك الرعاية الربانيّة الخاصة للرسول صلىاللهعليهوآله باينت شخصيّته صلىاللهعليهوآله جميع أبناء مجتمعه ، وصار علماً في سمّو أخلاقه وهديه ومضرباً للأمثال في فضله وعلوّ شأنه ، وقد سمّوه قومه حتّى أهل الجاهليّة بـ«الصادق الأمين». تمييزاً له عمّن سواه.
قال السروي : كان النبيّ صلىاللهعليهوآله قبل المبعث موصوفاً بعشرين خصلة من خصال الأنبياء ، لو إنفرد واحد بأحدها تدلّ على جلاله ، فكيف من اجتمعت فيه جميع هذه الخصال؟.
كان أميناً ، صادقاً ، حاذقاً ، أصيلاً ، نبيلاً ، مكيناً ، فصيحاً ، عاقلاً ، فاضلاً ، عابداً ، زاهداً ، سخيّاً ، كميّاً ، قانعاً ، متواضعاً ، حليماً ، رحيماً ، غيوراً ، صبوراً ، موافقاً ، مرافقاً. لم يخالط منجّماً ولا كاهناً ولا عيّافاً (١).
قال المسعودي : روى جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليهمالسلام قال : إنّ الله عزّوجلّ أدّب محمّداً صلىاللهعليهوآله فأحسن تأديبه ، فقال : «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (٢) فلمّا كان كذلك.
قال الله تعالى : «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (٣) فلماّ قبل من الله فوّض إليه الأمر. فقال : «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا» (٤) وكان يضمن على الله الجنّة فأجيز له ذلك (٥).
__________________
١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٢٣.
٢ ـ الأعراف : ١٩٩.
٣ ـ القلم : ٤.
٤ ـ الحشر : ٧.
٥ ـ مروج الذهب : ج ٢ ، ص ٢٩٨ ، وأخرجه الكليني في الكافي : ج ١ ، ص ٢٦٥ ، ح ١ ، وص ٢٦٦ ، ح ٤.
يَبْد أنّه لو لم يكن له معجزة سوى ما كان صلىاللهعليهوآله متّصفاً به من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة لكفى بصادقيّة نبوّته.
قال إبن شهراشوب : كان يتيماً ، فقيراً ضعيفاً ، وحيداً غريباً بلاحصار ، ولا شوكة ، كثير الأعداء ومع جميع ذلك : تعالى مكانه ، وارتفع شأنه وأضاف إبن شهراشوب في القول قائلاً : كان ثابتاً في الشدائد وهو مطلوب وصابراً على البأساء والضراء ، وهو مكروب محروب ، (١) وكان زاهداً في الدنيا ، راغباً في الآخرة ، فثبت له الملك وكان يشهد كلّ عضو منه على معجزة (٢).
وفي الكافي : عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : إن الله عزّوجلّ خصّ رسله بمكارم الأخلاق ، فامتحنوا أنفسكم ، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله ، واعلموا أنّ ذلك من خير ، وإن لا تكن فيكم فاسألوا الله وارغبوا إليه فيها ، قال : فذكرها عشرة : اليقين ، والقناعة ، والصبر ، والشكر ، والحلم ، وحسن الخلق ، والسخاء ، والغيرة ، والشجاعة ، والمروّة (٣).
وجاء في ذيل هذه الرواية زيادة : الصدق ، وأداء الأمانة ، بعد ذكر هذه الخصال العشرة (٤).
قوله عليهالسلام : «وَمَحٰاسِنَ أَخْلٰاقِ الْعٰالَمِ ، لَيْلَهُ وَنَهٰارَهُ» كان رسول الله صلىاللهعليهوآله عظيماً في فكره ووعيه ، رائداً في أساليب تعامله مع اُسرته والناس جميعاً مثاليّاً في حسم الموقف والصدق في المواطن ومواجهة المحن ، فما من فضيلة إلّا ورسول الله صلىاللهعليهوآله سابق إليها ، وما من مكرمة إلّا وهو متقلّد لها.
__________________
١ ـ المحروب : من سَلُبَ ماله.
٢ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٢٣.
٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٥٦ ، ح ٢.
٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٥٦ ، ح ٢.
ومهما قيل من ثناء على أخلاقيته السامية قديماً وحديثاً فإن ثناء الله تعالى عليه في كتابه العزيز يظل أدقّ تعبير ، وأصدق وصف لمواصفات شخصيّته العظيمة دون سواه. فقول الله تعالى : «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (١). يعجز كلّ قلم وكلّ تصوّر وبيان عن تحديد عظمته فهو شهادة من الله سبحانه وتعالى على عظمة أخلاق الرسول صلىاللهعليهوآله وسمّو سجاياه ، وعلوّ شأنه في مضمار التعامل مع ربّه ونفسه ومجتمعه بناءً على أن الأخلاق مفهوم شامل لجميع مظاهر السلوك الإنساني.
ولقد بلغ من عظمة شخصيّة رسول الله صلىاللهعليهوآله أن سئل علي بن أبي طالب عليهمالسلام عنها ، فأجاب كيف أصف أخلاق النبيّ صلىاللهعليهوآله وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال : «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (٢) (٣).
وكانت قريش معترفين بكماله في محاسن الأخلاق وأمانته ، فكانوا يسمّونه الصادق الأمين قبل نزول الوحي عليه ، ومن هنا يحدثنا التاريخ أن قريش قررت بناء الكعبة وتوسعتها بعد إغدار سيل جارف بإتجاه الكعبة فهدّمها وخرّب بناءها فشاركت القبائل البناء بعد أن تقاسمت جوانب الكعبة فيما بينها واختلفوا فيما بينهم على رفع الحجر الأسود ووضعه في موضعه بيد أنّ كلّ قبيلة تريد أن تختص بشرف رفع الحجر الأسود ووضعه في موضعه من الكعبة ، فبعد إستمرار النزاع بينهم أربعة أو خمسة أيّام إتّفقوا على أن يكون أوّل داخل على الإجتماع هو الحكم بينهم ، وتعاهدوا على الإلتزام بحكمه ، فكان أوّل داخل عليهم هو النبيّ الأعظم محمّد المصطفى صلىاللهعليهوآله فقالوا : هذا الأمين قد رضينا به ، هذا محمّد.
__________________
١ ـ القلم : ٤.
٢ ـ القلم : ٤.
٣ ـ التفسير الكبير للفخر الرازي : ج ٣٢ ، ص ٢١ ، ذيل الآية ١٠ من سورة العلق.
قام النبيّ صلىاللهعليهوآله بالتحكيم بينهم ، فكان قضاؤه أن يوضع الحجر الأسود في ردائه ، فتأخذ كلّ قبيلة من القبائل المشتركة في البناء بطرف من الرداء ، ثم يحمل الحجر الأسود بهذه الطريقة ، ويقرّب إلى موضعه من الكعبة. فرضوا بحكمه ، واستجابوا له وحين أوصلوا الحجر الأسود محمولاً بهذه الكيفيّة ، رفع الرسول صلىاللهعليهوآله الحجر الأسود بيده الشريفة ووضعه في موضعه ، ثم بنى عليه (١).
وفي الحديث عن إبن عبّاس قال : لما اُنزلت : «وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (٢) صعد رسول الله صلىاللهعليهوآله على الصفا فقال : «يا معشر قريش!» فقالت قريش : محمّد على الصفا يهتف ، فأقبلوا واجتمعوا. فقالوا : مالك يا محمّد؟ قال : أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّقونني؟
قالوا : نعم. أنت عندنا غير متّهم وماجربنّا عليك كذباً قط ، قال : «نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» (٣) يا بني عبدالمطلب يا بني عبد مناف يا بني زهرة حتّى عدد الأفخاذ من قريش ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين (٤).
* * *
__________________
١ ـ تاريخ الطبري : ج ١ ، ص ٥٢٦.
٢ ـ الشعراء : ٢١٤.
٣ ـ سبأ : ٤٦.
٤ ـ الطبقات الكبرى : ج ١ ، ص ١٥٦.
(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ لَمّٰا أَتٰاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقٰالُوا لَهُ : يٰا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيمًا لَمْ يَدَّعِهِ اٰبٰاؤُكَ وَلٰا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ ، وَنَحْنُ نَسأَلُكَ أَمْرًا إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنٰا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنٰاهُ عَلِمْنٰا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ ، وَإِنْ لَمْ تفْعَلْ عَلِمْنٰا أَنَّكَ سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ. فَقٰالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ : وَمٰا تَسْأَلُونَ؟ قٰالُوا : تَدْعُوا لَنٰا هٰذِهِ الشَّجَرَةَ حَتّٰى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهٰا وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقٰالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ : إِنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ، فَإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذٰلِكَ أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ. قٰالُوا : نَعَمْ. قٰالَ : فَإِنِّى سَأُرِيكُمْ مٰا تَطْلُبُونَ ، وَإِنِّى لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لٰا تَفِيؤُنَ إِلىٰ خَيْرٍ ، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِى الْقَلِيبِ ، وَمَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزٰابَ. ثُمَّ قٰالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ : يٰا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَتَعْلَمِينَ أَنِّى رَسُولُ اللهِ فَانْقَلِعِى بِعُرُوقِكِ حَتّىٰ تَقِفِى بَيْنَ يَدَىَّ بِإِذْنِ اللهِ! فَوَ الَّذِى بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهٰا وَجٰاءَتْ وَلَهٰا دَوِىٌّ شَدِيدٌ وَقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ ، حَتّىٰ وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ مُرَفْرِفَةً ، وَأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلىٰ عَلىٰ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ ، وَبِبَعْضِ أَغْصٰانِهٰا عَلىٰ مَنْكِبِى ، وَكُنْتُ عَنْ يَميِينِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ. فَلَمّٰا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلىٰٰ ذٰلِكَ قٰالُوا عُلُوٍّا واسْتِكْبٰارًا : فَمُرْهٰا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهٰا وَيَبْقىٰ نِصْفُهٰا. فَأَمَرَهٰا بِذٰلِكَ ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهٰا كَأَعْجَبِ إِقْبٰالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيًّا ، فَكٰادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ. فَقٰالُوا كُفْرًا وَعُتُوًّا : فَمُرْ هٰذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلىٰ نِصْفِهِ كَمٰا كٰانَ. فَأَمَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ فَرَجَعَ. فقُلْتُ أَنَاَ : لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللهُ ، إِنِّى أَوَّلُ مُؤْمِنٍ
__________________
١ ـ نهج البلاغة : ص ٣٠١ ـ ٣٠٢ ، الخطبة ١٩٢.
بِكَ يٰا رَسُولَ اللهِ ، وأَوَّلُ مَنْ اٰمَنَ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مٰا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعٰالىٰ تَصْديِقًا بِنُبُوَّتِكَ وَإِجْلٰالًا لِكَلِمَتِكَ. فَقٰالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ : بَلْ سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ! وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِى أَمْرِكَ إِلّٰا مِثْلُ هٰذٰا؟! (يَعْنُونَنِى).
قوله عليهالسلام : «وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَاٰلِهِ لَمّٰا أَتٰاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقٰالُوا لَهُ : يٰا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيمًا لَمْ يَدَّعِهِ اٰبٰاؤُكَ وَلٰا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ» إشارة إلى بعض معجزاته ، فقد ذكر منها أربعاً.
أحدها : مجيئ الشجرة إليه ، والثانية إخباره صلىاللهعليهوآله بعدم تصديقهم له بعد رؤيته الآية والمعجزة ، والثالثة : من يقتل منهم في بدر ، ويطرح في بئر كعتبة وشيبة إبني ربيعة ، وأبي جهل ، وأميّه بن عبد شمس ، والوليد بن المغيرة ، وغيرهم. الرابعه : أنّ فيهم من يحزّب الأحزاب عليه : نحو أبوسفيان بن حرب ، وعمروبن ود ، وصفوان بن أُميّه ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهل بن عمرو وغيرهم.
وذكر السروي : أنّ للنبيّ صلىاللهعليهوآله أربعة آلاف وأربعماءة وأربعين معجزة ، وقد ذكرت منها : ثلاثة آلاف تنقسم إلى أربعة أقسام :
قسم قبل ميلاده ، وقسم بعد ميلاده قبل بعثته ، وقسم بعد بعثته ، وقسم بعد وفاته (١).
وقال الجزري : وقد صنّف العلماء في معجزات النبيّ صلىاللهعليهوآله كتباً كثيرة ذكروا فيها كلّ عجيبة (٢).
وفي تفسير العسكري عليهالسلام : قال عليهالسلام : قلت لأبي علي بن محمّد عليهماالسلام :
__________________
١ ـ المناقب لإبن شهراشوب : ج ١ ، ص ١٤٤.
٢ ـ الكامل في التاريخ : ج ٢ ، ص ٤٧.
هل كان النبيّ صلىاللهعليهوآله يناظر اليهود والنصارى والمشركين إذ عانتوه ويحاجهم؟.
قال : بلى ، مراراً كثيرة منها : ما حكى الله تعالى من قولهم : «وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَىٰ إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا» (١) وقولهم : «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (٢) وقولهم : «وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا» (٣).
ثم قيل له في آخر ذلك : لو كنت نبيّاً كموسى لنزّلت علينا الصاعقة فى مسألتنا إيّاك ، لأن مسألتنا أشدّ من مسألة قوم موسى لموسى؟.
وأضاف في القول قائلاً : وذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان قاعداً ذات يوم بمكة بفناء الكعبة إذ إجتمع جماعة من رؤساء قريش منهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، وأبوالبختري بن هشام ، وأبوجهل بن هشام ، والعاص بن وائل السهمي ، وعبدالله بن أبي اُميّه المخزومي ، وكان معهم جمع ممّن يليهم كثير ، ورسول الله صلىاللهعليهوآله في نفر من أصحابه يقرأ عليهم كتاب الله ، ويؤدّي إليهم عن الله أمره ونهيه.
__________________
١ ـ الفرقان : ٧ ـ ٨.
٢ ـ الزخرف : ٣١.
٣ ـ الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.
فقال المشركون بعضهم لبعض : لقد استفحل أمر محمّد ، وعظم خطبه فتعالوا نبدأ بتقريعه وتبكيده وتوبيخه ، والإحتجاج عليه ، وإبطال ما جاء به ليهون خطبه على أصحابه ، ويصغر قدره عندهم ، فلعلّه ينزع عمّا هو فيه من غيّه وباطله وتمرّده وطغيانه ، فإن إنتهى وإلّا عاملناه بالسيف الباتر.
قال أبو جهل : فمن الذي يلي كلامه ومجادلته؟
قال عبد الله بن أبي اُميّة المخزومي : أنا إلى ذلك ، أفما ترضاني له قرناً حسيباً ومجادلاً كفيّاً؟
قال أبوجهل : بلى فأتوه بأجمعهم فإبتدأ عبدالله بن اُميّه المخزومي فقال : يا محمّد لقد إدّعيت دعوى عظيمة ، وقلت : مقالاً هائلاً ، زعمت أنّك رسول الله ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسولاً له ، بشر مثلنا يأكلّ كما نأكلّ ، ويمشي في الأسواق كما نمشي ، فهذا ملك الروم ، وهذا ملك الفرس لا يبعثان رسولاً إلّا كثير المال ، عظيم الحال ، له قصور ودور وبساتين وفساطيط وخيام وعبيد وخدّام ، وربّ العالمين فوق هؤلاء كلّهم أجمعين ، فهم عبيده ، ولو كنت نبيّاً لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده ، بل لو أراد الله أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكاً ، لا بشراً مثلنا ، ما أنت يا محمّد إلّا مسحوراً ولست بنبيّ.
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : هل بقي من كلامك شيئ يا عبدالله؟.
قال : بلى ، لو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعث أجلّ من فيما بيننا مالاً ، وأحسنه حالاً ، فهلّا أنزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك