الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله على لسان وصيّه الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 978-964-485-069-1
الصفحات: ٣٣٦

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

حَتّىٰ أَوْرىٰ قَبَسًا لِقٰابِسٍ ، وَأَنٰارَ عَلَمًا لِحٰابِسٍ. فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ ، وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ ، وَبَعِثُكَ نِعْمَةً ، وَرَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً. اللّٰهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ ، وَاجْزِهِ مُضٰاعَفٰاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ. اللّٰهُمَّ أَعْلِ عَلىٰ بِنٰاءِ الْبٰانِينَ بِنٰاءَهُ ، وَاكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ ، وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَتَهُ ، وَاٰتِهِ الْوَسِيلَةَ ، وَأَعْطِهِ السَّنٰاءَ وَالْفَضِيلَةَ؛ وَاحْشُرْنٰا فِى زُمْرَتِهِ غَيْرَ خَزٰايٰا ، وَلٰا نٰادِمِينَ ، وَلٰا نٰاكِبِينَ ، وَلٰا نٰاكِثِينَ وَلٰا ضٰالِّينَ ، وَلٰا مُضِلِّينَ ، وَلٰا مَفْتُونِينَ.

قوله عليه‌السلام : «حَتّىٰ أَوْرىٰ قَبَسًا لِقٰابِسٍ» ورىٰ الزند : خرجت ناره ، والزند الواري : الذي تظهر ناره سريعاً (٢).

القبس : الشعلة من النّار ، وإقتباسُها : الأخذ منها. أي أظهر نوراً من الحقّ لطالبه. والقابس : طالب النّار. قاله الجزري (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَأَنٰارَ عَلَمًا لِحٰابِسٍ» الحابس : أي الذي حبس ناقته ، ووقف لا يدري كيف يهتدى المنهج ويسلك طريق النجاة؟ والمراد أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوقد على الحابس النّار ويستنار له الطريق لكي يهتدي به الضال المتحيّر.

قوله عليه‌السلام : «فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ» الأمين : فعيل من الأمانة ، فهو إمّا بمعنى مفعول : أي مأمون من أمنه ـ كعلمه ـ إذا إستأمنه ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمون على ما أوحىٰ إليه من الكتاب الكريم وشرايع الدين القويم من التحريف والتغيير في ما اُمر بتبليغه لمكان العصمة الموجدة فيه. أو بمعنى فاعل من

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٥٣ ـ ١٥٤ ، الخطبة ١٠٦.

٢ ـ لسان العرب : ج ١٥ ، ص ٣٨٩.

٣ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٤ ، ص ٤ ، مادة «قبس».

١٠١

أمن هو ككرم فهو أمين ، وحيث أنّ من شأن الأمين قوّته على ضبط ما يستأمن عليه ، وإستعداده له ، وحفظه وصيانته عن التلف والأدناس والتبديل والزيادة والنقصان ، ولهذا سمّي نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الناس قبل بعثته بـ«محمّد الأمين» وبعد بعثته أخبر عنه سبحانه وتعالى وقال : «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» (١) ، والمأمون تأكيد للأمين ، فكان نبيّنا أميناً في أداء رسالته وقد قال تعالى في شأنه : «وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ» (٢).

أخرجه المتقي الهندي عن أبي رافع ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أما والله إنّي لأمين في السماء ، وأمين في الأرض (٣).

وقال عمّه أبو طالب فيه :

أنت الأمين أمين الله لا كذب

والصّادق القول لا لهو ولا لعب

أنت الرّسول رسول الله نعلمه

عليك ينزل من ذي العزّة الكتب

قوله عليه‌السلام : «وَشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ» الشهيد : فعيل بمعنى فاعل من شهد على الشيئ : اطّلع عليه وعاينه ، فهو شهيد وشاهد.

و «يوم الدين» أي يوم القيامة. قال تعالى : «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ» (٤) ، وقوله : «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا» (٥).

__________________

١ ـ الشعراء ١٠٧.

٢ ـ النجم : ٣ ـ ٤.

٣ ـ كنزل العمّال : ج ١١ ، ص ٤١٣ ، ح ٣١٩٣٧.

٤ ـ النحل : ٨٩.

٥ ـ النساء : ٤١.

١٠٢

قال بعض العلماء : فإن قلت : ما حقيقة هذه الشهادة وما فائدتها مع أنّ الله تعالى عالم الغيب والشهادة؟

قلت : أمّا حقيقتها : فيعود إلى إطّلاعه صلوات الله عليه على أفعال الأُمّة. وبيان ذلك : إنّ للنّفوس القدسيّة الإطّلاع على الاُمور الغيبيّة والإنتقاش بها مع كونها في جلابيب من أبدانها ، فكيف به قبل ملابستها لها وبعد مفارقتها لهذا العالم والجسم المظلم ، فإنّها إذن تكون مطّلعة على أفعال جميع الأُمم ومشاهدة لها من خير وشر.

وأمّا فائدتها : فقد علمت أنّ أكثر أحكام الناس وهميّة ، والوهم منكر للإلٰه على الوجه الذي هو الإلٰه ، فبالحري أن ينكر كونه عالماً بجزئيّات أفعال عباده ودقائق حطرات أوهامهم ، والظاهر أنّ ذلك الإنكار يستتبع عدم المبالاة بفعل القبيح والإنهماك في الاُمور الباطلة التي نهى الله تعالى عنها ، فإذا ذكر لهم أنّ عليهم شهداء ورقباء وكتّاباً لما يفعلون مع صدق كلّ ذلك بأحسن تأويل ، كان ذلك ممّا يعين العقل على كثرة النفس الأمّارة بالسوء ، وقهر الأوهام الكاذبة ، ويردع النفس عن متابعة الهوى ، وإذا كان معنى الشهادة يعود إلى إطّلاع الشاهد على ما في ذمّة المشهود عليه وعلمه بحقيقته وفائدتها حفظ ما في ذمّة المشهود عليه ، وتخوّفه إن جحد ، أولم يوصله إلى مستحقّه أن يشهد عليه الشاهد فيفضحه وينزع منه على أقبح وجه ، وكان المعنى والفائدة قائمين في شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذ بها تحفظ أوامر الله وتكاليفه التي هي حقوقه الواجبة ، يحصل الخوف للمقصّرين فيها بذكر شهادته عليهم بالتقصير فيفتضحوا في محفل القيامة ويستوفي منهم جزاء ما كلّفوا به فقصّروا فيه بالعقاب الأليم لا جرم ظهر معنى كونه شهداء الله على خلقه.

١٠٣

قوله عليه‌السلام : «وَبَعِيثُكَ نِعْمَةً» أي مبعوثك وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الخلق نعمة لهم لأجل هدايتهم به إلى الجنّة.

قوله عليه‌السلام : «وَرَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً» «الرسالة» بالكسر لغة : اسم من الإرسال وهو التوجيه ، وعرفاً : تكليف الله تعالى بعض عباده بواسطة ملك يشاهده ويشافهه أن يدعو الخلق إليه ويبلّغهم أحكامه ، وقد تطلق على نفس الأحكام المرسل به كما وقع هنا قال تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (١).

و «الرحمة» : قيل هي ميل القلب إلى الشفقة على الخلق والتلطّف بهم. وقيل هي إرادة إيصال الخير إليهم. وقال أهل العربيّة : يجوز أن تكون رحمة ، مفعولاً له أي لأجل الرحمة ، وأن تكون حالاً مبالغة في أن جعله نفس الرحمة ، وإمّا على حذف مضاف أي ذا رحمة ، أو بمعنى راحم.

وفي الحديث : «أنا نبيّ الرحمة» (٢) ، وفي آخر : «إنّما أنا رحمة مهداة» (٣).

وتفصيل هذه الرحمة من وجوه :

أحدها : أنّه الهادي إلى سبيل الرشاد ، والقائد إلى رضوان الله سبحانه ، وبسبب هدايته يكون وصول الخلق إلى المقاصد العالية ، ودخول جنّات النعيم التي هي غاية الرحمة.

الثاني : أنّ التكاليف الواردة على يديه أسهل التكاليف وأخفّها على الخلق بالنسبة إلى سائر التكاليف الواردة على أيدي الأنبياء السّابقين لاُممهم. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «بعثت بالحنيفيّة السمحة السهلة» (٤) وذلك عناية من

__________________

١ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٢ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٤ ، ص ٣٩٥.

٣ ـ مجمع البيان : ج ٧ ـ ٨ ، ص ٦٧.

٤ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٤٥١.

١٠٤

الله تعالى ورحمة اختص بها أُمّته على يديه.

الثالث : أنّه ثبت أنّ الله يعفو عن عصاة أُمّته ويرحمهم بسبب شفاعته.

الرابع : أنّه سأل الله أن يرفع عن أُمّته بعده عذاب الإستيصال ، فأجاب الله دعوته ، ورفع العذاب رحمة.

الخامس : أنّ الله وضع في شرعه الرّخص تخفيفاً ورحمة لأُمّته.

السادس : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رحم كثيراً من أعدائه كاليهود والنصارى والمجوس ، برفع السيف عنهم ، وبذل الأمان لهم ، وقبول الجزية منهم.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من آذى ذمّياً فأنا خصمه ومن كنت خصمه ، خصمته يوم القيامة» (١) ، ولم يقبل أحد من الأنبياء الجزية قبله.

السابع : إن الله تعالى أخّر عذاب من كذّبه إلى الموت ، أو القيامة كما قال الله تعالى : «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ» (٢) وكلّ نبيّ من الأنبياء قبله كان إذا كذب أهلك الله من كذّبه ، إلى غير ذلك من الوجوه التي لا تكاد تحصى كثرة.

وروي إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرئيل لما نزل عليه بقوله تعالى : «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (٣) : هل أصابك من هذه الرحمة شيئ؟

قال : نعم كنت أخشى سوء العاقبة فأمنت إن شاء الله بقوله تعالى : «ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (٤) (٥).

قوله عليه‌السلام : «اللّٰهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ» أي اللّهم بموجب عدلك إجعل له حظّاً وافراً ونصيباً كثيراً ، ومن هنا قال الله عزّوجلّ : «وَلَلْآخِرَةُ

__________________

١ ـ الجامع الصغير : ج ٢ ، ص ١٥٨.

٢ ـ الأنفال : ٣٣.

٣ ـ الأنبياء : ١٠٧.

٤ ـ التكوير : ٢٠ ـ ٢١.

٥ ـ مجمع البيان : ج ٧ ـ ٨ ، ص ٦٧ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

١٠٥

خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ» (١) ولمّا دعا عليه‌السلام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يستحقّه سئل عليه‌السلام ربّه أكثر من ذلك.

قوله عليه‌السلام : «وَاجْزِهِ مُضٰاعَفٰاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ» أي ضاعف له من الخير بفضلك وجودك ، فاستجاب الله عزّوجلّ دعاءه وقال : «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» (٢).

قوله عليه‌السلام : «اللّٰهُمَّ أَعْلِ عَلىٰ بِنٰاءِ الْبٰانِينَ بِنٰاءَهُ» أي اللّهم اجعل ما بناه صلى‌الله‌عليه‌وآله من الشريعة والهداية في الدين أعلى ممّا بنوه سائر الأنبياء من الشرائع في الدين ، قال تعالى : «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (٣).

أخرجه الترمذي ، عن اُبّي بن كعب : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مثلي في النبيّين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وجمّلها وترك منها موضع لبنة ، فجعل الناس يطوفون بالبناء ويعجبون منه ، ويقولون : لو تمّ موضع تلك اللبنة ، وأنا في النبيّين بموضع تلك اللبنة (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَاكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ» قال الجوهري : النزل : ما يهيّأ للنزيل (٥). والمراد إجعل اللّهم منزلته عندك في أعلى عليين. وإبعثه مقاماً محموداً.

قوله عليه‌السلام : «وَشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَتَهُ» أي إجعل منزلة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف المنازل عندك أي في حظيرة القدس.

__________________

١ ـ الضحى : ٤ ـ ٥.

٢ ـ الكوثر : ١ ـ ٣.

٣ ـ الصف : ٩.

٤ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٤٧ ، ح ٣٦١٣.

٥ ـ الصحاح : ج ٥ ، ص ١٨٢٨ ، مادة «نزل».

١٠٦

قوله عليه‌السلام : «وَاٰتِهِ الْوَسِيلَةَ» أخرجه الترمذي ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلوا الله لي الوسيلة. قالوا : يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال : أعلى درجة في الجنّة لا ينالها إلّا رجل واحد أرجو أن أكون أنا هو (١).

وأخرجه الشيخ الصدوق عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا سألتم الله لي فسلوه الوسيلة. فسألنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الوسيلة؟

فقال هي درجتي في الجنّة وهي ألف مرقاة ، ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر (٢) الفرس الجواد شهراً ، وهي ما بين مرقاة جوهر إلى مرقاة زبرجد إلى مرقاة ياقوت إلى مرقات الذهب إلى مرقاة فضّة فيؤتىٰ بها يوم القيامة حتّى تنصب مع درجة النبيّين فهي في درجة النبيّين كالقمر بين الكواكب فلا يبقى يومئذ نبيّ ولا صدّيق ولا شهيد إلّا قال : طوبى لمن كانت هذه الدرجة درجته ، فيأتي النداء من عند الله عزّوجلّ يسمع النبيّين وجميع الخلق : هذه درجة محمّد. الحديث (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَأَعْطِهِ السَّنٰاءَ وَالْفَضِيلَةَ» قال الطريحي : السناء بالمد : أي الرفعة.

وفي الخبر : «بّشر أُمّتى بالسّناء» أي بارتفاع القدر والمنزلة عند الله (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَاحْشُرْنٰا فِى زُمْرَتِهِ» أي في جماعته.

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٤٦ ، ح ٣٦١٢ ، وقريب منه : ص ٥٤٧ ، ح ٣٦١٤.

٢ ـ الحضر : أي العدو.

٣ ـ معاني الأخبار : ص ١١٦ ، باب معنى الوسيلة : ح ١.

٤ ـ مجمع البحرين : ج ١ ، ص ٢٣١.

١٠٧

قوله عليه‌السلام : «غَيْرَ خَزٰايٰا ، وَلٰا نٰادِمِينَ ، وَلٰا نٰاكِبِينَ ، وَلٰا نٰاكِثِينَ وَلٰا ضٰالِّينَ ، وَلٰا مُضِلِّينَ ، وَلٰا مَفْتُونِينَ» أي اللّهم أحشرنا في جماعته صلى‌الله‌عليه‌وآله غير ذليلين موهنين ، ولا نادمين على التفريط في جنب الله ، ولا منحرفين عن سبيل الله ، ولا ناقضين لعهد الله ، ولا منحرفين عن طريق المستقيم ، ولا مفتونين باللغو والأباطيل.

وقال إبن أبي الحديد في ذيل هذه الخطبة : سألت النقيب أبا جعفر رحمه الله ـ وكان منصفاً بعيداً عن الهوى والعصبيّة عن هذا الموضع ـ فقلت له : وقد وقفت على كلام الصحابة وخُطَبِهم فلم أرفيهم من يعظّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تعظيم هذا الرجل ، ولا يدعو كدعائه ، فإنّا قد وقفنا من «نهج البلاغة» ومن غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل ، تدلّ على إجلال عظيم وتبجيل شديد منه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال : ومن أين لغيره من الصحابة كلام مدوّن يتعلّم منه كيفيّة ذكرهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وهل وُجِدَ لهم إلا كلمات مبتدرة ، لاطائل تحتها!

ثم قال : إنّ عليّاً عليه‌السلام كان قوي الإيمان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتصديق له ، ثابت اليقين ، قاطعاً بالأمر ، متحقّقا له ، وكان مع ذلك يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لنسبته منه ، وتربيته له ، واختصاصه به من دون الصحابة ، وبَعْدُ ، فشرفه له ، لأنّهما نفس واحد في جسمين ، الأب واحد والدار واحدة ، والأخلاق متناسبة ، فإذا عظّمه فقد عظّم نفسه وإذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه. ولقد كان يؤدّان تطبيق دعوة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، لأنّ جمال ذلك لا حق به وعائد عليه ، فكيف لا يعظّمه ويبجّله ويجتهد في إعلاء كلمته.

١٠٨

فقلت له : قد كنت اليوم أنا وجعفر بن مكي الشاعر نتجاذب هذا الحديث.

فقال جعفر : لم ينصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد نصرة أبي طالب وبنيه له ، أمّا أبو طالب فكفّله وربّاه ، ثم حمّاه من قريش عند إظهار الدعوة ، بعد إصفاقهم وإطباقهم على قتله ، وأمّا ابنه جعفر فهاجر بجماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة ، فنشر دعوته بها ، وأمّا عليّ فإنّه أقام عماد الملّة بالمدينة ، ثم لم يمن أحد من القتل والهوان والتشريد بما مني به بنو أبي طالب ، أما جعفر فقتل يوم مؤتة ، وأمّا علي فقتل بالكوفة بعد أن شرب نقيع الحنظل ، وتمنّىٰ الموت ، ولو تأخّر قتل إبن ملجم له لمات أسفاً وكمدا ، ثم قتل إبناه بالسمّ والسيف ، وقتل بنوه الباقون مع أخيهم بالطف ، وحملت نساؤهم على الأقتاب سبايا إلىٰ الشام ، ولقيت ذريّتهم وأخلافهم بعد ذلك من القتل والصلب والتشريد في البلاد والهوان والحبس والضرب ما لا يحيط بالوصف بكنهه ، فأيّ خير أصاب هذا البيت من نصرته ، ومحبّته وتعظيمه بالقول والفعل (١)؟.

* * *

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٧ ، ص ١٧٤ ـ ١٧٥.

١٠٩

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

إِخْتٰارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيٰاءِ ، وَمِشْكٰاةِ

الضِّيٰاءِ ، وَذُؤٰابَةِ الْعَلْيٰاءِ ، وَسُرَّةِ الْبَطْحٰاءِ وَمَصٰابِيحِ الظُّلْمَةِ ، وَيَنٰابِيعِ الْحِكْمَةِ.

قوله عليه‌السلام : «إِخْتٰارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيٰاءِ» إستعار عليه‌السلام لفظ الشجرة لصنف الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ووجه المشابهة : أن الشجرة لمّا كانت ذات أغصان وثمار ، فصنف الأنبياء يكون كذلك ذا ثمر وفروع ، ففروعه يكون نفس الأشخاص ، وثمره يكون العلوم والكمالات النفسانيّة.

أخرجه إبن سعد في الطبقات الكبرىٰ بإسناده عن إبن عبّاس في قوله تعالى : «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» (٢) قال : أي من نبيّ إلى نبيّ ، ومن نبيّ إلى نبيّ حتّى أخرجك نبيّاً (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَمِشْكٰاةِ الضِّيٰاءِ» المشكاة : كوّة غير نافذة ، ذكره الراغب في المفردات (٤).

إستعار عليه‌السلام لفظ المشكاة لآل إبراهيم ، ووجه المشابهة أنّ هؤلاء قد ظهرت منهم الأنبياء وسطع من بينهم أنوار النبوّة والهداية ، كما يظهر نور المصباح من المشكاة.

قوله عليه‌السلام : «وَذُؤٰابَةِ الْعَلْيٰاءِ» الذؤابة : طائفة من شعر الرأس التي تدلى ، فاستعار عليه‌السلام لفظ الذؤابة إلى الإشارة إلى قريش ، ووجه المشابهة تدليهم في أغصان الشرف والعلوّ عن آبائهم كتدلّي ذؤابة الشعر عن

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٥٦ ، الخطبة ١٠٨.

٢ ـ الشعراء : ٢١٩.

٣ ـ الطبقات الكبرىٰ : ج ١ ، ص ٢٢.

٤ ـ المفردات : ص ٢٦٦.

١١٠

الرأس. قال الشاعر في كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة الأنبياء ، ومشكاة الضياء :

ورث الشرف جامعاً عن جامع

وشهد له نداء نداء الصوامع

هو من مضر في سويداء قلبها

ومن هاشم في سواد طرفها

أخرجه البيهقي في دلائل النبّوة : عن إبن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله عزّوجلّ قسّم الخلق قسمين فجعلني من خيرهما قسماً ، وذلك قوله : «وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ» (١) «وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ» (٢) فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا خير أصحاب اليمين ، ثم جعل القسمين أثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله تعالى : «فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ» (٣) ، «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» (٤) فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ، ثم جعل الأثلاث : قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، فذلك قول الله تعالى : «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (٥) وأنا أتقىٰ ولد آدم ، وأكرمهم على الله ولا فخر.

ثم جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني في خيرها بيتاً ، وذلك قوله عزّوجلّ : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» (٦) فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب (٧).

وروى الترمذي في حديث : إنّ الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم فرقتين ، فجعلني في خيرهم فرقة ، ثم جعلهم قبائل ،

__________________

١ ـ الواقعة : ٢٧.

٢ ـ الواقعة : ٤١.

٣ ـ الواقعة : ٨.

٤ ـ الواقعة : ١٠.

٥ ـ الحجر : ١٣.

٦ ـ الأحزاب : ٣٣.

٧ ـ دلائل النبّوة : ج ١ ، ص ١٧٠ ، وأخرجه الحسكاني في شواهد التنزيل : ج ٢ ، ص ٤٨ ، ح ٦٦٩.

١١١

فجعلني في خير هم قبيلة ، ثم جعلهم بيوتاً ، فجعلني في خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً (١).

قوله عليه‌السلام : «وَسُرَّةِ الْبَطْحٰاءِ» المراد بالبطحاء : مكة ، فسرّة البطحاء : أي وسطها من باب إستعمال المقيد في المطلق كالمشفر في شفة الإنسا ، فأشار عليه‌السلام بذلك إلى أنّ الله إختار النبيّ من أفّضل بيت في مكة.

وقال إبن أبي الحديد : وبنو كعب بن لؤى يفخرون على بني عامر بن لؤى بأنّهم سكنوا الباطح ، وسكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة ، وسكن معها بنو فهر بن مالك ، رهط أبي عبيدة بن الجراح وغيره (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَمَصٰابِيحِ الظُّلْمَةِ» إستعار عليه‌السلام لفظ المصابيح ، للأنبياء أيضاً. ووجه المشابهة كونهم مصابيح ظلمات الجهل يهتدى بهم من ظلمة الجهالة.

قوله عليه‌السلام : «وَيَنٰابِيعِ الْحِكْمَةِ» إستعار عليه‌السلام لفظ الينابيع للأنبياء أيضاً. ووجه المشابهة أنّ فيضان الحكمة يكون عنهم كما أنّ فيضان الماء يكون عن ينابيعه.

* * *

__________________

١ ـ سنن الترمذي : ج ٥ ، ص ٥٤٥ ، ح ٣٦٠٨ ، كتاب المناقب باب في فضل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد : ج ٧ ، ص ١٨٢.

١١٢

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيٰا وَصَغَّرَهٰا ، وَأَهْوَنَ بِهٰا وَهَوَّنَهٰا ، وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ زَوٰاهٰ عَنْهُ اخْتِيٰاراً ، وَبَسَطَهٰا لِغَيْرِهِ احْتِقٰارًا. فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيٰا بِقَلْبِهِ ، وَأَمٰاتَ ذِكْرَهٰا عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهٰا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلٰا يَتَّخِذَ مِنْهٰا رِيٰاشًا ، أَوْ يَرْجُوَ فِيهٰا مُقٰامًا ، بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِرًا ، ونَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِرًا ، وَدَعٰا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً ، وَخَوَّفَ مِنْ النّارِ مُحَذَّرِاً.

قوله عليه‌السلام : «قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيٰا وَصَغَّرَهٰا» أي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل الدنيا حقيرة وصغيرة ولذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يبتعد عنها وعن لذّاتها ويصبر على محنتها ومصائبها وجوعها وغير ذلك.

وفي الحديث قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الدنيا دار من لا دار لها ، ولها يجمع من لا عقل له ، وعليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعي من لا يقين له (٢).

وأخرجه إبن سعد في حديث : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مالي وللدينا ، وما أنا والدنيا؟ ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَأَهْوَنَ بِهٰا وَهَوَّنَهٰا» أي جعلها صلى‌الله‌عليه‌وآله هيّنة ذليلة في نظره.

وفي الحديث : أترون هذه السخلة هانت على أهلها حين ألقوها؟ فو الذي نفس محمّد بيده الدنيا أهون على الله من هذه السخلة

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٦٢ ، الخطبة ١٠٩.

٢ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٧ ، وأخرجه الكليني شطراً من الحديث في الكافي : ج ٨ ، ص ٢٧٤ ، ح ٨.

٣ ـ الطبقات الكبرىٰ : ج ١ ، ص ٣٦١ ، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٣٨.

١١٣

على أهلها (١).

وفي الكافي : عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجدي اُسك (٢) ملقىً على مزبلة ميّتاً ، فقال لأصحابه : كم يساوي هذا؟ فقالوا : لعلّه لو كان حيّاً لم يساو درهماً ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده الدنيا أهون على الله من هذا الجدي على أهله (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ زَوٰاهٰ عَنْهُ اخْتِيٰاراً» أي : إنّ الله عزّوجلّ إختار لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعدل من الدنيا ويطوي عنها.

وفي الحديث ما زويت الدنيا عن أحد إلّا كانت خيرةً له (٤).

قوله عليه‌السلام : «وَبَسَطَهٰا لِغَيْرِهِ احْتِقٰارًا» وفي الكافي : قال الباقر عليه‌السلام إيّاك أن تطمح بصرك إلى من هو فوقك ، فكفى بما قال الله عزّوجلّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ» (٥). وقال : «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (٦) فإن دخلك من ذلك شيئ فاذكر عيش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانّما كان قوته الشعير ، وحلوا التمر ، ووقوده السعف إذا وجد (٧).

ويشهد له أيضاً قوله تعالى : «وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا

__________________

١ ـ كنز العمّال : ج ٣ ، ص ٢١١ ، ح ٦٢٠١ ، ٦٢٠٢.

٢ ـ أسك : أي مقطوع الأذنين.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٢٩ ، ح ٩ ، وأخرجه الهندي في كنز العمّال : ج ٣ ، ص ٢١٢ ـ ٢١٣ ، ح ٦٢٠٦ ، ٦٢٠٧.

٤ ـ الجامع الصغير : ج ٢ ، ص ٤٩٧ ، ح ٧٩١٧ ، وأخرجه الهندي في كنزل العمّال : ج ٣ ، ص ١٩٦ ، ح ٦١٤١.

٥ ـ التوبة : ٥٥.

٦ ـ طه : ١٣١.

٧ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، ح ١.

١١٤

يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» (١).

قوله عليه‌السلام : «فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيٰا بِقَلْبِهِ ، وَأَمٰاتَ ذِكْرَهٰا عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهٰا عَنْ عَيْنِهِ» ولهذا نشاهد بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر عائشة بأن تحوّل الستر الذي جعلتها على الباب الذي فيه تمثال طائر عن وجهه الشريف لكي لا يذكر الدنيا كما جاء في صحيح مسلم. بإسناده عن عائشة ، قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر ، وكان الداخل إذا دخل إستقبله ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حوّلي هذا. فإنّي كلّما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا (٢).

وفي الحديث : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة (٣).

وفي كنز العمّال : الدنيا ملعونة ، ملعون ما فيها إلّا ما كان فيها لله عزّوجلّ (٤).

قوله عليه‌السلام : «لِكَيْلٰا يَتَّخِذَ مِنْهٰا رِيٰاشًا ، أَوْ يَرْجُوَ فِيهٰا مُقٰامًا» أي لا يتّخذها زينة وتجمّلاً ولا يجعلها دار قرار كما أشار بذلك مؤمن آل فرعون حيث يحكي عنه القرآن الكريم : «يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ» (٥).

وفي الحديث : الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له ، و

__________________

١ ـ الزخرف : ٣٣ ـ ٣٥.

٢ ـ صحيح مسلم : ج ٣ ، ص ١٦٦٦ ، ح ٨٨ ، وأخرجه الهندي في كنزل العمّال : ج ٣ ، ص ٢٤٢ ، ح ٦٣٥٣ و ٦٣٥٤.

٣ ـ الجامع الصغير : ج ١ ، ص ٥٦٦ ، ح ٣٦٦٢ ، وتنبيه الخواطر : ج ١ ، ص ١٣٦.

٤ ـ كنز العمّال : ج ٣ ، ص ١٨٥ ، ح ٦٠٨٣ ، وص ١٨٧ ، ح ٦٠٨٨.

٥ ـ غافر : ٣٩.

١١٥

عليها يعادي من لا علم له ، وعليها يحسد من لا فقه له ، ولها يسعي من لا يقين له (١).

قوله عليه‌السلام : «بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً» لكي لا يبقى لأحد عذر عند المخالفة. قال الله تعالى : «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (٢). وقال الله تعالى : «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ» (٣). وقال الله تعالى : «قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ» (٤).

أخرجه الكليني بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجّة الوداع ، فقال : يا أيها الناس والله ما من شيئ يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النّار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيئ يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه ، ألا وإنّ الروح الأمين نفث في روعي أنّه لن يموت نفس حتّى تستكمل رزقها ، فاتقوالله وأجملوا في الطلب ، ولا يحمل أحدكم إستبطاء شيئ من الرزق أن يطلبه بغير حلّه ، فإنّه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته (٥).

وقال الشيخ الصدوق في الخصال : في حديث : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى حين قضى مناسكه في حجّة الوداع فقال : أيّها الناس أيّ يوم هذا؟ قالوا : يوم حرام ، ثم قال : يا أيّها الناس فأيّ شهر هذا؟ قالوا : شهر حرام ، قال : أيّها الناس أيّ بلد هذا؟ قالوا : بلد حرام ، قال : فإنّ الله عزّوجلّ حرّم

__________________

١ ـ إحياء العلوم : ج ٣ ، ص ٢١٧ ، وأخرج الكليني شطراً من الحديث في الكافي : ج ٨ ، ص ٢٧٤ ، ح ٨.

٢ ـ النساء : ١٦٥.

٣ ـ الأنفال : ٤٢.

٤ ـ الأعراف : ١٧٢.

٥ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ٧٤ ، ح ٢.

١١٦

عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه ، ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم ، لا نبي بعدى ولا أُمّة بعدكم ، ثم رفع يديه حتّى أنه ليري بياض إبطيه ، ثم قال : اللّهم إشهد إنّي قد بلّغت (١).

وفي الحديث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حضر يوم وفاته مع شدّة مرضه المسجد ، وقال : أيّها الناس أنّه ليس بين الله وبين أحد شيئ يعطيه به خيراً ، أو يصرف به عنه شرّاً : إلّا العمل الصالح.

أيها الناس : لا يدّع مدّعٍ ولا يتمنّ متمنٍّ ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً لا ينجىٰ إلّا العمل مع رحمة الله ، وقال : لو عصيت لهويت ، وقال : اللّهم هل بلّغت ـ ثلاثاً ـ (٢).

قوله عليه‌السلام : «وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِرًا» اقتباس من قوله تعالى : «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ» (٣) ومن قوله تعالى : «قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ» (٤). ومن قوله تعالى : «إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا» (٥).

«نصح» : أي أرشد صلى‌الله‌عليه‌وآله أمّته إلى مصالح الدين والدنيا ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، وجلب خير الدنيا والآخرة إليهم خالصاً مخلصاً لوجه الله. ومن ثم قيل : النصيحة في وجازة لفظها وجميع معانيها كلفظ الفلاح الجامع لخير الدنيا والآخرة.

و «الاُمّة» : أي الجماعة وتأتي لمعان :

__________________

١ ـ الخصال : ص ٤٨٦ ـ ٤٨٧ ، ح ٦٣ ، أبواب الاثنىٰ عشر.

٢ ـ أعلام الورى : ص ١٣٤.

٣ ـ الرعد : ٧.

٤ ـ ص : ٦٥.

٥ ـ النازعات : ٤٥.

١١٧

الجماعة مطلقاً ، وجماعة اُرسل إليهم رسول ، ويقال لكلّ جيل من الناس والحيوان : اُمّة. ومنه : لولا أنّ الكلاب اُمّة تسبّح لأمرت بقتلها (١).

ومنه : إنّ إبراهيم عليه‌السلام كان اُمّة واحدة كما في قوله تعالى : «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً» (٢).

ومنه بمعنى حين كما قال الله : «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (٣).

هذا واُمّة النبي نوعان :

الأول : اُمّة الإجابة : وهم الذين أجابوا دعوته ، وصدّقوا نبوّته ، وآمنوا بما جاء به ، وهؤلاء هم الذين جاء مدحهم بالكتاب والسنّة كقوله تعالى : «جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (٤) وكقوله : «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» (٥) ولقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ اُمّتي يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين» (٧).

الثاني : اُمّة الدعوة : وهم الذين بعث إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من مسلم وكافر ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الاُمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي اُرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» (٨)

قوله عليه‌السلام : «وَدَعٰا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً» أي مبشراً لمن سلك سبيل الله

__________________

١ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٦٨.

٢ ـ النحل : ١٢٠.

٣ ـ يوسف : ٤٥.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

٥ ـ آل عمران : ١١.

٦ ـ سنن أبي داود : ج ٤ ، ص ٢٣٦.

٧ ـ مسند أحمد بن حنبل : ج ٢ ، ص ٤٠٠.

٨ ـ صحيح مسلم : ج ١ ، ص ١٣٤ ، ح ٢٤٠.

١١٨

ونهجه المستقيم بما أعدّ له فيها من النعيم المقيم ، ويشهد له قوله تعالى : «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ» (١) ، وقوله تعالى : «وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» (٢) ، وقوله تعالى : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ» (٣).

قوله عليه‌السلام : «وَخَوَّفَ مِنْ النّارِ مُحَذَّرِاً» أي حذّر النبيّ اُمّته من النّار التي هي أشدّ العذاب ، قال الله تعالى : «فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ» (٤) ، وقال الله تعالى : «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ» (٥) ، وقال الله تعالى : «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ» (٦) ، وقال الله تعالى : «وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ» (٧) ، وغيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم.

* * *

__________________

١ ـ التوبة : ٢١.

٢ ـ النساء : ١٣.

٣ ـ النسا : ٥٧ و ١٢٢.

٤ ـ البقرة : ٢٤.

٥ ـ البقرة : ٨٥.

٦ ـ البقرة : ٩٠.

٧ ـ البقرة : ١٨١.

١١٩

(وَمِنْ خُطْبَةٍ لَهُ عَلَيْهِ السَّلٰامُ) (١)

أَرْسَلَهُ دٰاعِياً إِلَى الْحَقِّ ، وَشٰاهِداً عَلَى الْخَلْقِ فَبَلَّغَ رِسٰالٰاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وٰانٍ وَلٰا مُقَصِّرٍ ، وَجٰاهَدَ فِى اللهِ أَعْدٰاءَهُ غَيْرَ وٰاهِنٍ وَلٰا مُعْذِّرٍ. إِمٰامُ مَنِ اتَّقىٰ ، وَبَصِيرَةٌ مَنِ اهْتَدىٰ.

قوله عليه‌السلام : «أَرْسَلَهُ دٰاعِياً إِلَى الْحَقِّ ، وَشٰاهِداً عَلَى الْخَلْقِ» اقتباس من قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا» (٢) فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشهد على اُمته لمن يصدّقه ويكذّبه ، بل يشهد على جميع الاُمم السابقة بعد ما يشهد من أنفسهم شهيداً عليهم : قال الله تعالى : «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا» (٣).

وفي الجميع : في تفسير هذه الآية : قال : إنّ الله يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على اُمّته فيشهد لهم وعليهم ، ويستشهد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله على اُمّتهم.

وفي الآية مبالغة في الحثّ على الطاعة واجتناب المعصية والزجر عن كلّ ما يُستحىٰ منه علىٰ رؤوس الأشهاد ، لأنّه يشهد للإنسان وعليه يوم القيامة شهود عدول لا يتوقّف في الحكم بشهادتهم ولا يتوقّع القدح فيهم وهم الأنبياء والمعصومون والكرام الكاتبون والجوارح والمكان والزمان كما قال الله تعالى : «وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ» (٤). وقال تعالى : «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ص ١٧٣ ، الخطبة ١١٦.

٢ ـ الأحزاب : ٤٥ ـ ٤٦.

٣ ـ النساء : ٤١.

٤ ـ البقرة : ١٤٣.

١٢٠