إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ١

الشيخ علي اليزدي الحائري

إلزام النّاصب في إثبات الحجّة الغائب عجّل فرجه - ج ١

المؤلف:

الشيخ علي اليزدي الحائري


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

وفيه عن أبي جعفر عليه‌السلام : إن حديثكم هذا لتشمئزّ منه قلوب الرجال فمن أقرّ به فزيدوه ومن أنكره فذروه ، إنّه لا بدّ من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة حتّى يسقط فيها من يشق الشعر بشعرتين ، حتى لا يبقى إلّا نحن وشيعتنا (١).

وفيه عن منصور الصيقل قال : كنت أنا والحارث بن مغيرة وجماعة من أصحابنا جلوسا ، وأبو عبد الله يسمع كلامنا فقال لنا : في أي شيء أنتم؟ هيهات هيهات لا والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتّى تغربلوا ، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تمحّصوا ، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تميّزوا ، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم إلّا بعد إياس ، لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى يشقى من يشقى ويسعد من يسعد (٢).

أقول : والشاهد على كلامه عليه‌السلام حكاية نوح في إكمال الدين عن جعفر بن محمد : لمّا أظهر الله نبوّة نوح وأيقن الشيعة بالفرج واشتدّت البلوى وعظمت العزيمة ، إلى أن آل الأمر إلى شدّة شديدة نالت الشيعة ، والوثوب على نوح بالضرب المبرح حتّى مكث عليه‌السلام في بعض الأوقات مغشيا عليه ثلاثة أيّام ، يجري الدم من اذنه ثمّ أفاق ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة من مبعثه ، وهو في خلال ذلك يدعوهم ليلا ونهارا فيهربون ، ويدعوهم سرّا فلا يجيبون ، ويدعوهم علانية فيولّون ، فهمّ بعد ثلاثمائة سنة بالدعاء عليهم ، وجلس بعد صلاة الفجر للدعاء فهبط إليه وفد من السماء السابعة وهم ثلاثة أملاك فسلّموا عليه ثمّ قالوا : يا نبي الله لنا حاجة. قال : وما هي؟ قالوا : تؤخّر الدعاء على قومك فإنّها أوّل سطوة لله عزوجل في الأرض. قال : أخّرت الدعاء عليهم ثلاثمائة سنة اخرى.

وعاد إليهم فصنع ما كان يصنع ويفعلون ما كانوا يفعلون حتّى انقضت ثلاثمائة سنة ، ويئس من إيمانهم جلس وقت الضحى والنهار للدعاء فهبط إليه وفد من السماء السادسة وهم ثلاثة أملاك فسلّموا عليه فقالوا : نحن وفد من السماء السادسة خرجنا بكرة وجئناك ضحوة ، ثمّ سألوه ما سأله وفد السماء السابعة ، فأجابهم مثل ما أجاب اولئك إليه وعاد عليه‌السلام إلى قومه يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا ، حتّى انقضت ثلاثمائة سنة اخرى فتمّت تسعمائة سنة.

__________________

(١) الكافي : ١ / ٣٧٠ ح ٥.

(٢) الكافي : ١ / ٣٧٠ ح ٦.

٢٤١

فصارت إليه الشيعة وشكوا ما ينالهم من العامّة والطواغيت ، وسألوه الدعاء بالفرج فأجابهم إلى ذلك وصلّى ودعا فهبط جبرئيل فقال له : إنّ الله تبارك وتعالى أجاب دعوتك فقل للشيعة يأكلون التمر ويغرسون النوى ويراعونه حتّى يثمر فإذا أثمر خرجت عنهم ، فحمد الله وأثنى عليه فعرّفهم ذلك فاستبشروا به ، فأكلوا التمر وغرسوا النوى وراعوه حتّى أثمر ، ثمّ صاروا إلى نوح بالثمر وسألوه أن ينجز لهم الوعد ، فسأل الله عزوجل في ذلك فأوحى الله إليه : قل لهم : كلوا هذا التمر واغرسوا النوى فإذا أثمر فرجت عنكم ، فلمّا ظنّوا أنّ الخلف قد وقع عليهم ارتدّ منهم الثلث وثبت الثلثان ، فأكلوا التمر وغرسوا النوى حتّى إذا أثمر أتوا به نوحا فأخبروه وسألوه أن ينجز لهم الوعد ، فسأل الله عزوجل في ذلك فأوحى الله إليه : قل لهم : كلوا هذا الثمرة واغرسوا النوى ، فارتدّ الثلث الآخر وبقي الثلث ، فأكلوا التمر وغرسوا النوى فلمّا أثمر أتوا به نوحا عليه‌السلام فقالوا : لم يبق منّا إلّا القليل ونحن نتخوّف على أنفسنا بتأخّر الفرج أن نهلك ، فصلّى نوح عليه‌السلام فقال : يا ربّ لم يبق من أصحابي إلّا هذه العصابة ، وإنّي أخاف عليهم الهلاك إن تأخّر عنهم الفرج ، فأوحى الله عزوجل إليه قد أجبت دعاءك فاصنع الفلك ، وكان بين إجابة الدعاء وبين الطوفان خمسون سنة (١).

وفي إثبات الهداة عن علي بن الحسين عليهما‌السلام قال : إنّ للقائم عجل الله فرجه منّا غيبتين إحداهما أطول من الاخرى ـ إلى أن قال : وأمّا الاخرى فيطول أمدها حتّى يرجع عن هذا الأمر أكثر من يقول به ، فلا يثبت عليه إلّا من قوي يقينه وصحّت معرفته ، ولم يجد في نفسه حرجا ممّا قضينا وسلّم لنا أهل البيت (٢).

وفي العوالم : والذي نفسي بيده ما ترون ما تحبّون حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض وحتّى يسمّي بعضكم بعضا كذّابين (٣).

وفي غيبة النعماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لتكسّرن تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعاد فيعود ، والله لتكسّرن تكسّر الفخار وإنّ الفخار ليتكسرن ولا يعود كما كان ، وو الله لتغربلن وو الله لتميزن وو الله لتمحصن حتّى لا يبقى منكم إلّا الأقلّ ، وصفر كفّه (٤).

__________________

(١) كمال الدين : ١٣٣ ح ٢ باب ٢.

(٢) إثبات الهداة : ٣ / ٤٦٧ ح ١٢٨ باب ٣٢ ، وكمال الدين : ٣٢٤.

(٣) غيبة النعماني : ٢٦.

(٤) غيبة النعماني : ٢٠٨ ح ١٣ باب ١٢.

٢٤٢

فتبيّنوا يا معشر الشيعة هذه الأحاديث المروية عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن بعده الأئمّة واحذروا ما حذروكم وتأمّلوا ما جاء عنهم تأمّلا شافيا وتفكّروا فيه تفكّرا ، فلو لم يكن في التحذير شيء أبلغ من قولهم : إنّ الرجل يصبح على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها ، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها ، أليس هذا دليلا على خروج من نظام الإمامة وترك ما كان يعتقد منها إلى بنيّات الطريق؟ وفي قوله عليه‌السلام : والله لتكسّرن تكسّر الزجاج ، وإنّ الزجاج ليعاد فيعود كما كان ، والله لتكسّرن تكسّر الفخار فإنّ الفخار ليكسّر فلا يعود كما كان ، فضرب ذلك مثلا لمن يكون على مذهب الإمامية فيعدل عنه إلى غيره بالفتنة التي تعرض له ، ثمّ تلحقه السعادة بنظرة من الله فيتبيّن ظلمة ما دخل فيه وصفيّ ما خرج منه ، فيبادر قبل موته بالتوبة والرجوع إلى الحقّ ، فيتوب الله عليه ويعيده إلى حاله في الهدى ، كالزجاج الذي يعاد بعد تكسيره فيعود كما كان. ولمن يكون على هذا الأمر فيخرج عنه ويتمّ على الشقاء بأن يدركه الموت وهو على ما هو عليه غير تائب منه ، [وغير] عائد إلى الحقّ فيكون مثله كمثل الفخار الذي يكسر فلا يعاد إلى حاله ؛ لأنّه لا توبة له بعد الموت ولا في ساعته. نسأل الله الثبات على ما منّ به علينا وأن يزيد في إحسانه إلينا فإنّما نحن له ومنه.

وفيه عن أبي جعفر عليه‌السلام : لتمحصن يا شيعة آل محمّد تمحيص الكحل في العين ، وإنّ صاحب الكحل يدري متى ما يقع الكحل في عينه ، ولا يعلم متى يخرج منها ، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا ويمسي وقد خرج منها ، ويمسي على شريعة من أمرنا ويصبح وقد خرج منها (١).

وفيه عن إبراهيم بن هليل قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك مات أبي على هذا الأمر وقد بلغت من السنين ما قد ترى ، أموت ولا تخبرني بشيء ، فقال : يا أبا إسحاق أنت تعجل.

فقلت : إي والله أعجل ، وما لي لا أعجل وقد بلغت أنا من السن ما قد ترى؟ قال : أما والله يا أبا إسحاق ما يكون ذلك حتّى تميّزوا وتمحّصوا وحتى لا يبقى منكم إلّا الأقل ثمّ صفر كفّه(٢).

وفيه عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتّى تمحّصوا

__________________

(١) غيبة النعماني : ٢٠٦ ح ١٢ باب ١٢.

(٢) غيبة النعماني : ٢٠٨ ح ١٤ باب ١٢.

٢٤٣

وتميّزوا وحتّى لا يبقى منكم إلّا الأندر (١).

وفي إثبات الهداة للشيخ الحرّ العاملي عامله الله بالخير عن الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي بعثني بالحقّ بشيرا ليغيبنّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي حتّى يقول أكثر الناس : ما لله في آل محمّد حاجة ، ويشكّ آخرون في ولادته ، فمن أدرك زمانه فليتمسّك بدينه ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا بشكّه فيزيله عن ملّتي ويخرجه عن ديني ، فقد أخرج أبويكم من الجنّة من قبل ، وإنّ الله عزوجل جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (٢).

في العوالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أما إنّه لو قد قام لقال الناس : أنّى يكون هذا وقد بليت عظامه ، هذا كذا وكذا (٣).

وفي الغيبة النعمانية عن أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : كونوا كالنحل في الطير ، ليس شيء من الطير إلّا وهو يستضعفها ، ولو علمت الطير ما في أجوافها من البركة لم تفعل بها ذلك ، خالطوا الناس بألسنتكم وأبدانكم وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم ، فو الذي نفسي بيده ما ترون ما تحبّون حتّى يتفل بعضكم في وجوه بعض ، وحتّى يسمّي بعضكم بعضا كذّابين وحتّى لا يبقى منكم ـ أو قال : من شيعتي ـ إلّا كالكحل في العين والملح في الطعام ، وسأضرب لكم مثلا وهو مثل رجل كان له طعام فنقّاه وطيّبه ثمّ أدخله بيتا وتركه فيه ما شاء الله ، ثمّ عاد إليه فإذا هو قد أصابه السوس فأخرجه ونقاه وطيّبه ثمّ أعاده إلى البيت فتركه ما شاء الله ، ثمّ عاد إليه فإذا هو قد أصابته طائفة من السوس فأخرجه ونقّاه وطيّبه وأعاده ، ولم يزل كذلك حتّى بقيت رزمة كرزمة الأندر ، لا يضرّه السوس شيئا ، وكذلك أنتم تميّزون حتّى لا يبقى منكم إلّا عصابة لا تضرّها الفتنة شيئا (٤).

وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : لو قد قام القائم لأنكره الناس ؛ لأنّه يرجع إليهم شابّا موفقا ، لا يثبت عليه إلّا مؤمن قد أخذ الله ميثاقه في الذرّ الأوّل (٥).

وفي هذا الحديث عبرة للمعتبر وذكرى للمتذكّر المتبصّر وهو قوله : يخرج إليهم شابّا

__________________

(١) غيبة النعماني : ٢٠٨ ح ١٥ باب ١٢.

(٢) كمال الدين : ٥١ ، وإثبات الهداة : ٣ / ٤٥٩ ح ٩٧.

(٣) كمال الدين : ٣٢٦.

(٤) غيبة النعماني : ٢١.

(٥) غيبة النعماني : ٢١٢ ح ٢٠ باب ١٢.

٢٤٤

موفقا لا يثبت عليه إلّا مؤمن قد أخذ الله ميثاقه في الذرّ الأوّل. فهل يدلّ هذا إلّا على أنّ الناس يستبعدون مدّة العمر ، ويستطيلون المدى في ظهوره وينكرون تأخّره وييأسون منه ، فيطيرون يمينا وشمالا كما قالوا : تتفرّق بهم المذاهب وتنشعب لهم طرق الفتن ، ويغترّون بلمع السراب من كلام المفتونين ، فإذا ظهر بعد السنّ الذي يوجب مثلها فيمن بلغه الشيخوخة والكبر وحنوّ الظهر وضعف القوى ، شابّا موفقا أنكره من كان في قلبه مرض وثبت عليه من سبقت له من الله الحسنى ، بما وفّقه الله إليه وقدّمه إليه من العلم بحاله وأوصله إلى هذه الروايات من قول الصادقين عليهم‌السلام فصدقها وعمل بها ، وتقدّم علمه بما يأتي من أمر الله وتدبيره فارتقبه غير شاكّ ولا مرتاب ولا متحيّر ولا مغترّ بزخارف إبليس وأشياعه؟

والحمد لله الذي جعلنا ممّن أحسن إليه وأنعم عليه ، وأوصله من العلم إلى ما لا يوصل إليه غيره إيجابا للمنّة واختصاصا بالموهبة ، حمدا يكون لنعمه كفاء ولحقه أداء (١).

وفي البحار عن محمد بن الحنفية في حديث : إنّ لبني فلان ملكا مؤجّلا حتّى إذا أمنوا واطمأنوا ، وظنّوا أنّ ملكهم لا يزول صيح فيهم صيحة فلم يبق لهم راع يجمعهم ولا داع يسمعهم وذلك قول الله عزوجل (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) قلت : جعلت فداك هل لذلك وقت؟ قال : لا ، لأنّ علم الله غلب علم الموقّتين ، إنّ الله وعد موسى ثلاثين ليلة وأتمّها بعشر لم يعلمها موسى ولم يعلمها بنو إسرائيل ، فلمّا جاز الوقت قالوا : غرّنا موسى فعبدوا العجل ، ولكن إذا كثرت الحاجة والفاقة في الناس وأنكر بعضهم بعضا فعند ذلك توقّعوا أمر الله صباحا ومساء (٣).

وفيه عن مفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أما والله ليغيبنّ إمامكم سنينا من دهركم ، وليمحصن حتّى يقال : مات أو قتل وهلك ، بأيّ واد سلك؟ ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تكفأ السفن في أمواج البحر ، فلا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيّده بروح منه ولترفعنّ اثنا عشر راية مشتبهة لا يدرى أي من أي. قال : فبكيت ثمّ

__________________

(١) غيبة النعماني : ٢١٢ ح ٢٠ باب ١٢.

(٢) سورة يونس : ٢٤.

(٣) البحار : ٥٢ / ١٠٤ وغيبة الطوسي : ٤٢٧.

٢٤٥

قلت : فكيف نصنع؟ قال : فنظر إلى شمس داخلة في الصفة قال : يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس؟ قلت : نعم ، فقال : والله لأمرنا أبين من هذه الشمس (١).

وفيه عن زرارة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قلت : فلم؟ قال : يخاف ، وأومى بيده ـ يعني القتل ـ إلى بطنه ، ثمّ قال : يا زرارة وهو المنتظر وهو الذي يشكّ في ولادته منهم من يقول : مات أبوه بلا خلف ، ومنهم من يقول : حمل ، ومنهم من يقول : إنّه ولد قبل موت أبيه بسنتين وهو المنتظر ، غير أنّ الله يحبّ أن يمتحن الشيعة فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة قلت : جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل؟ قال : يا زرارة إذا أدركت ذلك الزمان فادع بهذا الدعاء : اللهمّ عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك ، اللهمّ عرفني رسولك فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك ، اللهمّ عرّفني حجّتك فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني ، ثمّ قال عليه‌السلام : يا زرارة لا بدّ من قتل غلام بالمدينة ، قلت : جعلت فداك أليس يقتله جيش السفياني؟ قال : لا ، ولكن يقتله جيش آل بني فلان ، أي بني الحسن ، يجيء حتّى يدخل المدينة فيأخذ الغلام فيقتله ، فإذا قتله بغيا وعدوانا وظلما لا يمهلون فعند ذلك توقّع الفرج إن شاء الله (٢).

وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يفقد الناس إمامهم ، يشهد الموسم ـ أي موسم الحج ـ فيراهم ولا يرونه (٣).

عن الأصبغ بن نباتة قال : أتيت أمير المؤمنين عليه‌السلام فوجدته متفكّرا ينكت في الأرض فقلت : يا أمير المؤمنين ما لي أراك متفكّرا تنكت في الأرض ، رغبة منك فيها؟ فقال : لا والله ما رغبت فيها ولا في الدنيا يوما قط ، ولكن فكّرت في مولود يكون من ظهري الحادي عشر من ولدي هو المهدي الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما ، يكون له غيبة وحيرة ، تضلّ فيها أقوام ويهتدي فيها آخرون. فقلت : يا أمير المؤمنين وكم تكون الحيرة والغيبة؟ قال : ستّة أيّام أو ستّة أشهر أو ست سنين ، فقلت : وإنّ هذا لكائن؟ قال : نعم ، كما أنّه مخلوق ، وأنّى لك بهذا الأمر يا أصبغ؟ اولئك خيار هذه الأمّة مع خيار أبرار هذه العترة. فقلت : ثمّ ما يكون بعد ذلك؟ فقال : ثمّ يفعل الله ما يشاء فإنّ له بداءات وإرادات وغايات

__________________

(١) الكافي : ١ / ٣٣٦ ح ٣ ، والبحار : ٥٢ / ٢٨١ ح ٩.

(٢) البحار : ٥٢ / ١٤٦ ح ٧٠ والكافي : ١ / ٣٣٧ ح ٥.

(٣) كمال الدين : ٣٥١ ح ٤٨.

٢٤٦

ونهايات (١).

يمكن أن يكون المراد أنّ آحاد مدّة الغيبة هذا القدر ، وكان ظهوره في السابع سواء كان مع العشرات أو المئات أو الالوف ، ويمكن أن يكون المراد هذا القدر محتوما ، وربّما يزيده الله تعالى بالبداء ويمكن أن يكون هذا القدر الذي قدره الله تعالى للغيبة الصغرى.

وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام : للقائم غيبتان : إحداهما قصيرة والاخرى طويلة ، والاولى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصّة شيعته ، والاخرى لا يعلم بمكانه فيها إلّا خاصة مواليه (٢).

وفيه عنه عليه‌السلام : لصاحب هذا الأمر غيبتان : إحداهما يرجع منها إلى أهله والاخرى يقال:هلك ، في أيّ واد سلك؟ قلت : كيف نصنع إذا كان كذلك؟ قال : إذا ادّعاها مدّع فاسألوه عن أشياء يخيب فيها مثله (٣).

وفيه عن أبي حمزة : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال : لا ، فقلت : فولدك؟ فقال : لا ، فقلت له : فولد ولدك هو؟ فقال : لا. فقلت : فولد ولد ولدك؟ فقال : لا. فقلت : من هو؟ قال : الذي يملأها عدلا كما ملئت ظلما وجورا على فترة من الأئمّة ، إنّ رسول الله بعث على فترة من الرسل (٤).

في غيبة النعماني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأل نوح ربّه أن ينزل على قومه العذاب ، فأوحى الله إليه أن يغرس نواة من النخل فإذا بلغت وأثمرت وأكل منها أهلك قومه وأنزل عليهم العذاب ، فغرس نوح النواة وأخبر أصحابه بذلك فلما بلغت النخلة وأثمرت واجتنى نوح منها وأكل وأطعم أصحابه قالوا له : يا نبي الله ، الوعد الذي وعدتنا ، فدعا نوح ربّه وسأل الوعد الذي وعده فأوحى إليه أن يعيد الغرس ثانية حتّى إذا بلغ النخل وأثمر وأكل منه أنزل عليهم العذاب ، فأخبر نوح أصحابه بذلك فصاروا ثلاث فرق : فرقة ارتدت وفرقة نافقت وفرقة ثبتت ، ففعل نوح ، حتّى إذا بلغت النخلة وأثمرت وأكل منها وأطعم أصحابه قالوا : يا نبي الله ، الوعد الذي وعدتنا ، فدعا نوح ربّه فأوحى الله إليه أن يغرس ثالثة فإذا بلغ وأثمر أهلك قومه فأخبر أصحابه ، فافترقت الفرقتان ثلاث فرق : فرقة ارتدّت وفرقة نافقت وفرقة

__________________

(١) الكافي : ١ / ٣٣٨ ح ٧ ، والبحار : ٥١ / ١٣٤ ح ١.

(٢) البحار : ٥٣ / ٣٢٤ والكافي : ١ / ٣٤٠ ح ١٩.

(٣) البحار : ٥٣ / ٣٢٤ و: ٥٠ / ٢١ ح ٧ والكافي : ١ / ٣٤٠ ح ٢٠.

(٤) الكافي : ١ / ٣٤١ ، البحار : ٥١ / ٣٩ ح ١٩.

٢٤٧

ثبتت معه ، حتّى فعل ذلك نوح عليه‌السلام عشر مرّات ، وفعل الله ذلك بأصحابه الذين يبقون معه فيفترقون كلّ فرقة ثلاث فرق على ذلك ، فلمّا كان في العاشرة جاء إليه رجال من أصحابه الخلّص المؤمنين فقالوا : يا نبي الله فعلت بنا ما وعدت أو لم تفعل فأنت صادق نبي مرسل لا نشكّ فيك ، ولو فعلت ذلك بنا. قال : فعند ذلك أهلكهم الله لقول نوح ، وأدخل الخاص معه في السفينة فنجّاهم الله تعالى ونجّى نوحا معهم بعد ما صفّوا وهذّبوا وذهب الكدر منهم (١).

وفيه عن سليمان بن صالح رفعه إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : إنّ حديثكم هذا لتشمئزّ منه قلوب الرجال فانبذوه إليهم نبذا ، فمن أقرّ به فزيدوه ومن أنكره فذروه ، إنّه لا بدّ أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة ووليجة حتّى يسقط من يشقّ الشعرة بشعرتين حتّى لا يبقى إلّا نحن وشيعتنا (٢).

وفيه أنّه دخل على أبي عبد الله بعض أصحابه فقال له : جعلت فداك ، إنّي والله احبّك واحبّ من يحبّك يا سيدي ما أكثر شيعتكم. فقال عليه‌السلام : اذكرهم؟ فقال : كثير. فقال : تحصيهم؟فقال : هم أكثر من ذلك. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أما لو كملت العدّة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون ، ولكن شيعتنا من لا يعدو صوته سمعه ولا شجاؤه (٣) ، ولا يمدح بنا غاليا ولا يخاصم بنا واليا ولا يجالس لنا عائبا ولا يحدث لنا ثالبا ولا يحبّ لنا مبغضا ولا يبغض لنا محبّا. فقلت : فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنّهم يتشيّعون؟ فقال : فيهم التمييز وفيهم التمحيص وفيهم التبديل ، يأتي عليهم سنون تفنيهم وسيف يقتلهم واختلاف يبددهم ، إنّما شيعتنا من لا يهرّ هرير الكلب ولا يطمع طمع الغراب ولا يسأل الناس بكفّه وإن مات جوعا. قلت : جعلت فداك ، فأين أطلب هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة؟ فقال : اطلبهم في أطراف الأرض ، اولئك الخشن عيشهم ، المنتقلة دارهم ، الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا ، وإن مرضوا لم يعادوا وإن خطبوا لم يزوّجوا وإن ماتوا لم يشهدوا ، اولئك الذين في أموالهم يتواسون وفي قبورهم يتزاورون ، ولا تختلف أهواؤهم وإن اختلفت بهم البلدان (٤).

__________________

(١) غيبة النعماني : ٢٨٦ ح ٦ باب ١٥.

(٢) غيبة النعماني : ٢٠٢ ح ٣ باب ١٢.

(٣) في نسخة ثانية : شحناؤه.

(٤) غيبة النعماني : ٢٠٣ ح ٤ باب ١٢.

٢٤٨

الثمرة الثانية

في القيام عند ذكر لقب القائم عليه‌السلام

عن تنزيه الخواطر : سئل الصادق عليه‌السلام عن سبب القيام عند ذكر لفظ القائم من ألقاب الحجّة. قال : لأنّ له غيبة طولانية ، ومن شدّة الرأفة إلى أحبّته ينظر إلى كلّ من يذكره بهذا اللقب المشعر بدولته والحسرة بغربته ، ومن تعظيمه أن يقوم العبد الخاضع لصاحبه عند نظر المولى الجليل إليه بعينه الشريفة ، فليقم وليطلب من الله جل ذكره تعجيل فرجه.

وروي أيضا عن الرضا عليه‌السلام في مجلسه بخراسان أنّه قام عند ذكر لفظة القائم ، ووضع يديه على رأسه الشريف وقال : اللهمّ عجّل فرجه وسهّل مخرجه. وذكر من خصائص دولته (١).

ذكر المحدّث النوري طاب ثراه في كتابه النجم الثاقب ما ترجمته بالعربية : هذا القيام والتعظيم خصوصا عند ذكر ذلك اللقب المخصوص سيرة تمام أبناء الشيعة في كل البلاد من العرب والعجم والترك والهند والديلم وغيرها ، بل وعند أبناء أهل السنّة والجماعة أيضا (٢).

وعن العالم المتبحّر الجليل السيّد عبد الله سبط المرحوم العلّامة الجزائري في بعض تصانيفه أنّه رأى هذه الرواية المنسوبة إلى الصادق عليه‌السلام ، وعند أهل السنّة هذه السنّة جارية (٣). وروى أنّه اجتمع عند الإمام السبكي جمع من علماء عصره فإذا قرأ أحد الشعراء :

قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب

على ورق من خط أحسن من كتب

وأن نهض (٤) الأشراف عند سماعه

قياما صفوفا أو جثيّا على الركب

__________________

(١) لم أجد هذا الكتاب ولا الرواية في المصادر المتوفّرة.

(٢) النجم الثاقب : ٦٠٥ باب ٩ ، والنسخة الفارسية.

(٣) النجم الثاقب : ٦٠٥.

(٤) في النجم الثاقب : تنهض.

٢٤٩

فإذا قاموا كلّهم تعظيما (١).

وفي علل الشرائع : سئل الباقر عليه‌السلام : يا بن رسول الله أفلستم كلّكم قائمين بالحقّ؟ قال : بلى. قيل : فلم سمّي القائم قائما؟ قال : لمّا قتل جدّي الحسين ضجّت الملائكة إلى الله عزوجل بالبكاء والنحيب قالوا : إلهنا وسيّدنا أتغفل عمّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحى الله عزوجل إليهم : قرّوا ملائكتي ، فو عزّتي وجلالي لأنتقمنّ منهم ولو بعد حين ، ثمّ كشف الله عزوجل عن الأئمّة من ولد الحسين للملائكة فسرّت الملائكة بذلك ، فإذا أحدهم قائم يصلّي فقال الله عزوجل : بذلك القائم أنتقم منهم (٢).

__________________

(١) النجم الثاقب : ٦٠٦.

(٢) علل الشرائع : ١٦٠ باب العلّة التي سمّي علي أمير المؤمنين باب ١٢٩ ح ١.

٢٥٠

الثمرة الثالثة

في النهي عن التسمية

في الكافي عن أبي الحسن العسكري عليه‌السلام يقول : الخلف من بعدي الحسن فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت : ولم جعلني الله فداك؟ قال : إنّكم لا ترون شخصه ولا يحلّ لكم ذكره باسمه. فقلت : وكيف نذكره؟ فقال : قولوا الحجّة من آل محمّد (١).

وفيه عن أبي عبد الله الصالحي قال : سألني أصحابنا بعد مضيّ أبي محمد أن أسأل عن الاسم والمكان ، فخرج الجواب : إن دللتهم على الاسم أذاعوه وإن عرفوا المكان دلّوا عليه (٢).

وفيه سئل الرضا عليه‌السلام عن القائم فقال : لا يرى جسمه ولا يسمّى اسمه (٣).

وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : صاحب هذا الأمر لا يسمّيه باسمه إلّا كافر (٤).

وفيه عن محمد بن عثمان العمري قدّس روحه : خرج توقيع بخط أعرفه : من سمّاني في مجمع من الناس باسمي فعليه لعنة الله (٥).

وفي البحار : خرج في توقيعات صاحب الزمان : ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس (٦).

وفيه عن موسى بن جعفر عليه‌السلام أنّه قال عند ذكر القائم عجل الله فرجه : يخفى على الناس ولادته ، ولا تحلّ لهم تسميته حتّى يظهره الله عزوجل فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (٧).

__________________

(١) الكافي : ١ / ٣٢٨ ح ٣.

(٢) الكافي : ١ / ٣٣٣ ح ٢.

(٣) الكافي : ١ / ٣٣٣ ح ٣.

(٤) الكافي : ١ / ٣٣٣ ح ٤.

(٥) اعلام الورى : ٤٢٣ باب ٣ فصل ٣.

(٦) وسائل الشيعة : ١١ / ٤٨٨ باب ٣٣ ح ١٢ والبحار : ٥١ / ٣٣.

(٧) البحار : ٥١ / ٣٢ ح ٥.

٢٥١

الغصن الرابع

في إمكان الغيبة وعدم استبعادها ومن اتّفقت

لهم الغيبة من الأنبياء والأولياء والأوصياء

وذكر جمع من المعمّرين

مشتمل على فرعين :

الفرع الأوّل

في إمكان الغيبة ومن اتّفقت لهم

الأوّل : إدريس النبي عليه‌السلام ، فقد غاب عن شيعته حتّى آل الأمر إلى أن تعذّر عليهم القوت ، وقتل الجبّار من قتل منهم وأفقر وأخاف باقيهم ، ثمّ ظهر فوعد شيعته بالفرج وبقيام القائم من ولده وهو نوح ، ثمّ رفع الله عزوجل إدريس فلم تزل الشيعة يتوقّعون قيام نوح قرنا بعد قرن وخلفا عن سلف ، صابرين من الطواغيت على العذاب المهين حتّى ظهرت نبوّة نوح (١).

الثاني : صالح عليه‌السلام فقد غاب عن قومه زمانا وكان يوم غاب عنهم كهلا ، فلمّا رجع إليهم لم يعرفوه من طول المدّة (٢).

الثالث : إبراهيم عليه‌السلام فإنّ غيبته تشبه غيبة مولانا القائم عليه‌السلام ، لأنّ الله سبحانه قد غيّب أثر إبراهيم وهو في بطن أمّه حتّى حوّله عزوجل بقدرته من بطنها إلى ظهرها ، ثمّ أخفى أمر ولادته إلى وقت بلوغ الكتاب أجله ، وذلك أنّ منجم نمرود أخبره بأنّ مولودا يولد في أرضنا فيكون هلاكنا على يده وكان فيما اوتي المنجم من العلم : سيحرق بالنار ولم يكن اوتي أنّ الله سينجيه ، فحجب النساء عن الرجال ، فلمّا حملت أمّ إبراهيم به بعث القوابل إليها فلم يعرفن شيئا من الحمل ، فلمّا ولد ذهبت به أمّه إلى غار ثمّ وضعته وجعلت على الباب

__________________

(١) راجع كمال الدين : ١٢٧.

(٢) كمال الدين : ١٣٦ غيبة صالح.

٢٥٢

صخرة ثمّ انصرفت عنه ، فجعل الله عزوجل رزقه في إبهامه فجعل يمصّها ويشرب لبنا ، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ، فجعل يكبر في الغار ويشبّ حتّى قام بأمر الله تعالى. وقد غاب غيبة اخرى سار فيها في البلاد بعد نجاته من النار. ونقل أنّه كانت له غيبة اخرى حين هاجر إلى الشام.

وكذا ورد أنّ لموسى غيبة اخرى في التيه. وغيبة يونس بن متى حين التقطه الحوت. وكذا غاب سليمان حين أخذ الماء خاتمه. ونقل بعض أهل التواريخ أنّ مريم هربت بعيسى عن اليهود إلى مصر اثنتي عشرة سنة. (١).

وفي نهج المحجّة روي عن الصادق عليه‌السلام : غيبة إلياس في الجبل عن الملك أجب سبع سنين إلى أن رفعه الله إليه واستخلف اليسع على بني إسرائيل (٢).

الرابع : غيبة يوسف عليه‌السلام فإنّها كانت عشرين سنة ، وكان هو بمصر ويعقوب عليه‌السلام بفلسطين وبينهما مسيرة تسعة أيّام فاختلفت الأحوال عليه في غيبته حتّى إنّه روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قدم أعرابي على يوسف يشتري منه طعاما فباعه فلمّا فرغ قال له يوسف : أين منزلك؟

قال : بموضع كذا. فقال له : إذا مررت بوادي كذا وكذا فقف فناد : يا يعقوب يا يعقوب ، فإنّه سيخرج إليك رجل عظيم جميل جسيم وسيم فقل له : رأيت رجلا بمصر وهو يقرئك السلام ويقول لك : إنّ وديعتك عند الله عزوجل لن تضيع. قال : فمضى الأعرابي حتّى انتهى إلى الموضع فقال لغلمانه : احفظوا عليّ الإبل ثمّ نادى : يا يعقوب يا يعقوب ، فخرج إليه رجل أعمى طويل جميل يتّقي الحائط بيده حتّى أقبل فقال الرجل : أنت يعقوب؟ فقال : نعم ، فأبلغه ما قال يوسف ، فسقط مغشيا عليه ثمّ أفاق فقال : يا أعرابي ألك حاجة إلى الله تعالى عزوجل؟ فقال : نعم ، إنّي رجل كثير المال ولي بنت عمّ وليس لي ولد منها فاحبّ أن تدعوا الله عزوجل يرزقني ولدا ، فتوضّأ يعقوب وصلّى ركعتين ثمّ دعا الله عزوجل فرزقه الله أربعة أبطن أو قال : ستّة أبطن في كلّ بطن ابنان. وكان يعقوب يعلم أنّ يوسف حيّ لا يموت وأنّ الله تعالى ذكره سيظهره له بعد غيبته.

والدليل عليه : أنّه لمّا رجع إليه بنوه يبكون قال لهم : يا بني ما لكم تبكون وتدعون بالويل

__________________

(١) كمال الدين : ١٣٧.

(٢) غيبة إلياس راجع منار الهدى : ٦٣٢.

٢٥٣

والثبور؟ وما لي لا أرى فيكم حبيبي يوسف؟ قالوا : يا أبانا إنّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين ، وهذا قميصه قد أتيناك به. قال : ألقوه إلي ، فألقوه على وجهه فخرّ مغشيّا عليه ، فلمّا أفاق قال لهم : يا بنيّ ألستم تزعمون أنّ الذئب أكل حبيبي يوسف؟ قالوا : نعم ، قال : ما لي لا أشمّ ريح لحمه وما لي أراه صحيحا ، هبوا أنّ القميص انكشف من أسفله ، أرأيتم ما كان في منكبه وعنقه كيف خلص عنه الذئب من غير أن يخرقه؟ إنّ هذا الذئب مكذوب عليه ، وإنّ ابني لمظلوم ، بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، فتولّى عنهم ليلتهم تلك لا يكلّمهم وأقبل يرثي يوسف ويقول : حبيبي يوسف الذي كنت أؤثره على جميع أولادي فاختلس منّي ، حبيبي يوسف الذي كنت أرجوه من بين أولادي ، فاختلس منّي ، حبيبي يوسف الذي كنت أوسده يميني وأدثّره بشمالي ، فاختلس منّي ، حبيبي يوسف الذي كنت أؤمن به وحشتي وأصل به وحدتي ، فاختلس منّي ، حبيبي يوسف ، ليت شعري في أيّ الجبال طرحوك؟ أو في أيّ البحار أغرقوك؟ حبيبي يوسف ليتني كنت معك فيصيبني الذي أصابك (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : قال يعقوب عليه‌السلام لملك الموت : الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرّقة؟

فقال : بل متفرّقة. فقال : هل قبضت روح يوسف في جملة ما قبضت من الأرواح؟ قال : لا. فعند ذلك قال لبنيه (٢) : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) (٣).

فحال العارفين في وقتنا هذا بصاحب الزمان حال يعقوب في معرفته بيوسف وغيبته ، وحال الجاهلين به وبغيبته والمعاندين في أمره حال اخوة يوسف الذين من جهلهم بأمر يوسف وغيبته قالوا لأبيهم يعقوب (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٤).

الخامس : غيبة موسى فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته وأهل بيته ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ حدّثهم شدّة تنالهم ، يقتل فيها الرجال وتشقّ فيها بطون الحبالى وتذبح الأطفال حتّى يظهر الحقّ من ولد لاوي بن يعقوب ، وهو رجل أسمر طويل ، ونعته لهم بنعته ، فتمسّكوا بذلك ، ووقعت الغيبة والشدّة على بني إسرائيل وهم منتظرون

__________________

(١) كمال الدين : ١٤١.

(٢) روضة الكافي : ٨ / ١٩٩.

(٣) يوسف : ٨٧.

(٤) يوسف : ٩٥.

٢٥٤

قيام القائم أربعمائة سنة حتّى إذا بشّروا بولادته ورأوا علامات ظهوره واشتدّت البلوى عليهم وحمل عليهم بالحجارة والخشب ، وطلب الفقيه الذي كانوا يستريحون إلى أحاديثه فاستتر ، فراسلوه وقالوا : كنّا مع الشدّة نستريح إلى حديثك ، فخرج بهم إلى بعض الصحاري وجعل يحدّثهم حديث القائم ونعته وقرب الأمر وكانت له فترة ، فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم موسى ، وكان في ذلك الوقت حدث السنّ ، وخرج من عند فرعون يظهر النزهة فعدل عن موكبه وأقبل إليهم وتحته بغلة وعليه طيلسان خزّ ، فلمّا رآه الفقيه عرفه بالنعت فقام إليه وأكبّ على قدمه ثمّ قال : الحمد لله الذي لم يمتني حتّى رأيتك ، فلمّا رأى الشيعة ذلك علموا أنّه صاحبهم فأكبّوا على الأرض شكرا لله عزوجل ، فلم يزدهم على أن قال : أرجو أن يعجّل الله فرجكم ، ثمّ غاب بعد ذلك وخرج إلى مدينة مدين فأقام عند شعيب ما أقام ، فكانت الغيبة الثانية أشدّ من الأولى ، وكانت نيفا وخمسين سنة ، اشتدّت البلوى عليهم واستتر الفقيه ، فبعثوا إليه بأنّه لا صبر لنا على استتارك عنّا ، فخرج إلى بعض الصحاري واستدعاهم وطيّب نفوسهم وأعلمهم أنّ الله عزوجل أوحى إليه أنّه مفرّج عنهم بعد أربعين سنة ، فقالوا بأجمعهم : الحمد لله. فأوحى الله عزوجل إليه : قل لهم قد جعلتها ثلاثين سنة لقولهم الحمد لله.

فقالوا : كلّ نعمة من الله ، فأوحى الله : قد جعلتها عشرين سنة. فقالوا : لا يأتي بالخير إلّا الله ، فأوحى الله عزوجل إليه : قل لهم لا يرجعوا ، فقد أذنت في فرجهم ، فبينما هم كذلك إذ طلع موسى راكبا حمارا فأراد الفقيه أن يعرف الشيعة ما يستبصرون به فيه ، وجاء موسى حتّى وقف عليهم فسلّم فقال الفقيه : ما اسمك؟ قال : موسى ، فقال : ابن من؟ فقال : ابن عمران. قال : ابن من؟ قال : ابن قاهب بن لاوي بن يعقوب. قال : بما ذا جئت؟ قال : بالرسالة من عند الله عزوجل. فقام إليه فقبّل يده ثمّ جلس بينهم وطيّب نفوسهم ثمّ أمرهم ثمّ فرّقهم ، وكان بين ذلك الوقت وبين فرجهم لغرق فرعون لعنه الله أربعون سنة (١).

السادس : غيبة أوصياء موسى : أوّلهم يوشع بن نون فإنّه قام بالأمر بعد موته صابرا من طواغيت زمانه على الجهد والبلاء حتّى مضى منه ثلاث طواغيت فقوي بعدهم أمره ،

__________________

(١) كمال الدين : ١٤٥.

٢٥٥

فخرج عليه رجلان من منافقي قوم موسى بصفراء بنت شعيب امرأة موسى في مائة ألف رجل فقاتلوا يوشع بن نون فغلبهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزم الباقين بإذن الله تعالى ، وأسر صفراء بنت شعيب ثمّ قال لها : قد عفوت عنك في الدنيا إلى أن تلقي نبي الله موسى فأشكو ما لقيت منك ومن قومك. فقالت صفراء : وا ويلاه والله لو ابيحت لي الجنّة لاستحييت أن أرى فيها رسول الله وقد هتك حجابه علي وخرجت على وصيّه بعده (١).

واعلم أنّه قد وقع مثل هذا في هذه الامّة حذو النعل بالنعل ، فإنّ وصي نبي هذه الامّة إنّما استقلّ بالأمر بعد مضي الثلاثة ، ولمّا استقل خرجت عليه اخت صفيراء ـ وهي حميراء ـ أخرجها المنافقان إلى أن أسرها علي عليه‌السلام في حرب البصرة ، ولكن الفرق بين الامرأتين أنّ الاولى ندمت على ما فعلته والثانية لم تندم.

ثمّ إنّ الأئمّة قد استتروا بعد يوشع إلى زمان داود أربعمائة سنة وكانوا أحد عشر ، فكان قوم كلّ واحد منهم يختلفون إليهم ويأخذون معالم دينهم حتّى انتهى الأمر إلى آخرهم ، فغاب عنهم ثمّ ظهر وبشّرهم بداود وأخبرهم أنّ داود هو الذي يأخذ الملك من جالوت وجنوده ، ويكون فرجهم في ظهوره وكانوا ينتظرونه ، فلمّا كان زمان داود كان له أربعة اخوة ، وكان لهم أب شيخ كبير ، وكان داود من بينهم خامل الذكر وهو أصغرهم ، فخرجوا إلى قتال جالوت وخلفوا داود يرعى الغنم تحقيرا لشأنه فلمّا اشتدّت الحرب وأصاب الناس جهد رجع أبوه وقال لداود عليه‌السلام : احمل إلى إخوتك طعاما ، فخرج داود والقوم متقاربون فمرّ داود على حجر فناداه : يا داود خذني واقتل بي جالوت فإنّي خلقت لقتله ، فأخذه ووضعه في مخلاته التي كانت فيها حجارته التي يرعى بها غنمه ، فلمّا دخل العسكر رآهم يعظمون أمر جالوت فقال : تعظمون من أمره فو الله لئن أتيته لأقتلنّه ، فأدخلوه على طالوت فقال له : يا بني ما عندك من القوّة؟ قال : قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه وأفكّ لحييه عن الشاة واخلّصها من فيه ، وكان أوحى الله إلى طالوت أنّه لا يقتل جالوت إلّا من لبس درعك فملأها ، فدعا بدرعه فلبسها داود فاستوى عليه فراع ذلك طالوت ومن حضره من بني إسرائيل ، فلمّا أصبحوا والتقى الناس قال داود عليه‌السلام : أروني جالوت ، فلمّا رآه أخذ الحجر

__________________

(١) راجع كمال الدين : ٢٦.

٢٥٦

فرماه فصك بين عينيه وقتله وقال الناس : قتل داود عليه‌السلام جالوت ، فاجتمعت عليه بنو إسرائيل وأنزل الله عليه الزبور وليّن له الحديد وأمر الجبال والطير أن تسبّح معه ، وأعطاه صوتا لم يسمع بمثله حسنا وأقام في بني إسرائيل نبيّا (١).

وهكذا يكون سبيل القائم عجل الله فرجه فإنّ له سيفا مغمدا ، إذا حان وقت خروجه اقتلع ذلك السيف من غمده وأنطقه الله عزوجل فناداه السيف : اخرج يا ولي الله فلا يحلّ لك أن تقعد عن أعداء الله ، فيخرج فيقتلهم.

ثمّ إنّ داود أراد أن يستخلف سليمان لأنّ الله عزوجل أوحى إليه يأمره بذلك ، فلمّا أخبر بني إسرائيل ضجّوا من ذلك وقالوا : تستخلف علينا حدثا وفينا من هو أكبر منه ، فدعا أسباط بني إسرائيل وقال لهم : قد بلغتني مقالتكم فأروني عصيّكم فأيّ عصا أثمرت فصاحبها ولي الأمر من بعدي. فقالوا : رضينا. قال : ليكتب كلّ واحد منكم اسمه على عصاه ، فكتبوا ، ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه ، ثمّ ادخلت بيتا واغلق الباب وحرسته رءوس أسباط بني إسرائيل ، فلمّا أصبح فتح الباب فأخرج عصيهم وقد أورقت عصا سليمان وأثمرت فسلّموا ذلك لداود فقال : إنّ هذا خليفتي من بعدي.

ثم اخفي سليمان بعد ذلك وتزوّج بامرأة استتر في بيتها عن شيعته ما شاء الله ، ثمّ إنّ امرأته قالت له ذات يوم : بأبي أنت وأمّي ما أكمل خصالك وأطيب ريحك ، ولا أعلم لك خصلة أكرهها إلّا أنّك في مئونة أبي ، فلو دخلت السوق فتعرّضت لرزق الله رجوت أن لا يخيبك. فقال لها سليمان : إنّي والله ما عملت عملا قط ولا احسنه ، فدخل السوق يومه ذلك فرجع ولم يصب شيئا فقال لها : ما أصبت شيئا؟ قالت : لا عليك إن لم يكن اليوم كان غدا. فلمّا كان من الغد خرج إلى السوق فجال يومه فلم يقدر على شيء فرجع فأخبرها فقالت : غدا يكون إن شاء الله ، فلمّا كان اليوم الثالث مضى حتّى انتهى إلى ساحل البحر فإذا هو بصيّاد فقال له : هل لك أن أعينك وتعطيني شيئا؟ قال : نعم ، فأعانه فلمّا فرغ أعطاه الصياد سمكتين. فأخذهما وحمد الله ، ثمّ إنّه شقّ بطن إحداهما فإذا هو بخاتم في بطنها فأخذه وصيّره في ثوبه ، وحمد الله عزوجل وأصلح السمكتين وجاء بهما إلى منزله وفرحت امرأته

__________________

(١) بحار الأنوار : ١٣ / ٣٦٦ و ٤٤٥.

٢٥٧

بذلك فرحا شديدا وقالت له : إنّي أريد أن تدعو والديّ حتّى يعلما أنّك قد كسبت ، فدعاهما فأكلا معه فلمّا فرغوا قال لهم : هل تعرفوني؟ قالوا : لا والله إلّا أنّا لم نر منك إلّا خيرا.

قال : فأخرج خاتمه فلبسه وخرّ عليه الطير والريح وغشيه الملك ، وحمل الجارية ووالديها إلى بلاد اصطخر واجتمعت إليه الشيعة واستبشروا به ، ففرّج الله عنهم ممّا كانوا فيه من حيرة غيبته ، فلمّا حضرته الوفاة أوحى إلى آصف بن برخيا بأمر الله تعالى ، فلم يزل بينهم تختلف إليه الشيعة ويأخذون منه معالم دينهم.

ثمّ غيّب الله تعالى آصف غيبة طال أمدها ، ثمّ ظهر لهم فبقي بين قومه ما شاء الله ، ثمّ إنّه ودّعهم فقالوا له : أين الملتقى؟ قال : على الصراط ، فغاب عنهم ما شاء الله فاشتدّت البلوى على بني إسرائيل بغيبته ، وتسلّط عليهم بخت نصر فجعل يقتل من يظفر به منهم ويطلب من يهرب ويسبي ذراريهم ، فاصطفى من السبي من أهل بيت يهودا أربعة نفر فيهم دانيال ، واصطفى من ولد هارون عزيرا ، وهم حينئذ صبية صغار فمكثوا في يده ، وبنو إسرائيل في العذاب المهين ، والحجّة دانيال اسر في يد بخت نصر لعنه الله تسعين سنة ، فلمّا عرف فضله وسمع أنّ بني إسرائيل ينتظرون خروجه ويرجون الفرج من ظهوره وعلى يده ، أمر أن يجعل في جبّ عظيم واسع ويجعل معه أسد ليأكله ، فلم يقربه وأمر أن لا يطعم ، وكان الله تبارك وتعالى يأتيه بطعامه وشرابه على يدي نبي من أنبيائه ، فكان دانيال يصوم النهار ويفطر بالليل على ما يدلى إليه من الطعام.

واشتدّت البلوى على شيعته وقومه المنتظرين لظهوره وشكّ أكثرهم في الدين لطول الأمد ، فلمّا تناهى البلاء بدانيال وقومه رأى بخت نصر لعنه الله في المنام كأنّ ملائكة السماء هبطت إلى الأرض أفواجا إلى الجبّ الذي فيه دانيال مسلّمين عليه يبشّرونه بالفرج ، فلمّا أصبح ندم على ما أتى إلى دانيال ، فأمر بأن يخرج من الجبّ فلمّا أخرج اعتذر إليه ممّا ارتكب منه ، ثمّ فوّض إليه النظر في امور ممالكه والقضاء بين الناس ، فظهر من كان مستترا من بني إسرائيل ، ورفعوا رءوسهم واجتمعوا إلى دانيال موقنين بالفرج ، فلم يثبت إلّا القليل على ذلك الحال حتّى مات ، وأفضى الأمر بعده إلى عزير فكانوا يجتمعون إليه ويأنسون به ويأخذون منه معالم دينهم ، فغيّب الله تعالى عنهم شخصه مائة عام ثمّ بعثه

٢٥٨

وغابت الحجج بعده واشتدّت البلوى على بني إسرائيل حتّى ولد يحيى بن زكريا وترعرع ، فظهر وله تسع سنين فقام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكّرهم بأيّام الله عزوجل ، وأخبرهم أنّ محن الصالحين إنّما كانت لذنوب بني إسرائيل وأنّ العاقبة للمتّقين ، ووعدهم الفرج بقيام المسيح بعد نيف وعشرين سنة من هذا القول ، فلمّا ولد المسيح أخفى الله ولادته وغيّب الله شخصه ؛ لأنّ مريم لما حملته انتبذت به مكانا قصيا ، ثمّ إنّ زكريا وخالتها أقبلا يقصّان أمرها حتّى هجما عليها وقد وضعت ما في بطنها وهي تقول : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (١) فأطلق الله تعالى ذكره لسانه بعذرها وإظهار حجّتها ، فلمّا ظهر اشتدّت البلوى والطلب على بني إسرائيل وأكبّ الجبابرة والطواغيت عليهم حتّى كان من أمر المسيح ما قد أخبر الله تعالى به.

واستتر شمعون بن حمون والشيعة ، ثمّ أفضى بهم الاستتار إلى جزيرة من جزائر البحر فأقاموا بها ففجّر الله لهم فيها العيون العذبة ، وأخرج لهم من كل الثمرات وجعل لهم فيها الماشية ، وبعث إليهم سمكة تدعى القمل لا لحم لها ولا عظم وإنّما هي جلد ودم فخرجت من البحر ، فأوحى الله عزوجل إلى النحل أن يركبها فركبها فأتت بالنحل إلى تلك الجزيرة ، ونهض النحل وتعلّق بالشجر فعرس وبنى وكثر العسل ، ولم يكونوا يفقدون من أخبار المسيح شيئا (٢).

فقد روي أنّ له غيبات يسيح فيها في الأرض فلا يعرف قومه وشيعته خبره ، ثمّ ظهر فأوحى إلى شمعون بن حمون ، فلمّا مضى شمعون غاب الحجج بعده واشتدّ الطلب وعظمت البلوى ودرس الدين واميتت الفروض والسنن ، وذهب الناس يمينا وشمالا لا يعرفون أيّا من أي ، فكانت الغيبة مائتين وخمسين سنة (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : كان بين عيسى وبين محمّد خمسمائة عام ، منها مائتان وخمسون عاما ليس فيها نبي ولا عالم ظاهر. قيل : فما كانوا؟ قال : كانوا متمسّكين بدين عيسى (٤).

__________________

(١) مريم : ٢٣.

(٢) بطوله في كمال الدين : ١٥٩ ح ١٧ ، وبحار الأنوار : ١٣ / ٤٤٩.

(٣) كمال الدين : ١٦٠.

(٤) كمال الدين : ١٦١.

٢٥٩

وأمّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فغيبته المشهورة كانت في الغار وكل المسلمين أطبقوا على أنّ غيبته في الغار إنّما كانت تقية عن المشركين وخوفا على نفسه ، حتّى أنّه لو لم يذهب إلى الغار لقتلوه ؛ لأنّهم مهّدوا له القتل وسوّل لهم الشيطان وعلّمهم لطائف الحيل في قتله ، وأخذ معه أبا بكر خوفا منه أيضا لئلّا يدلّ الناس عليه كما قالوه في كتبهم ، واستشهد العامّة بهذا بأنّه فوق الصحابة ، وجوابه هو الذي أجاب به إمام زماننا في سؤالات سعد بن عبد الله وذكرناه بعيد هذا في الفرع التاسع من الغصن الخامس في عداد التوقيعات.

أقول : الثامن ممّن غاب سليمان بن داود. والتاسع آصف بن برخيا غاب عن قومه مدّة طال أمدها ثمّ رجع إليهم. والعاشر دانيال. والحادي عشر عزير. والثاني عشر مسيح (١).

وغيبة نبيّنا ثلاث سنين في شعب أبي طالب حين حاصر قريش بني هاشم ، وله غيبة اخرى قبلها ، بمعنى اختفائه بالدعوة خمس سنين وذلك بعد البعثة حتّى أنزل الله عزوجل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٢) وله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيبة اخرى في الغار (٣).

__________________

(١) راجع لذلك كمال الدين : ١٣٦ باب ٧ ح ١٧ وما بعده.

(٢) الحجر : ٩٤.

(٣) كما تقدّم.

٢٦٠