تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٩

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٦٩

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

علي بن محمّد الواعظ ، أنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المرورّوذي ، نا عبد الله بن سليمان.

ح وقال : وأنا [أبو طالب](١) محمّد بن علي بن إبراهيم البيضاوي ، نا أبو عمر محمّد [بن](٢) العباس الخزاز ، نا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث ، نا عمر بن شبة ، عن الأصمعي ، عن أبي عمرو بن العلاء (٣) ، عن أدهم التميمي (٤) قال :

لقيت كثيّر عزّة في البادية فقال : لقيني جميل بن معمر في هذا الموضع وأنا جائي (٥) من عند أبي بثينة صاحبته فقال : من أين يا كثيّر؟ فقلت : من عند أبي الحبيبة ، يعني صاحبته ، قال : وأين تريد؟ قلت : أريد الحبيبة ، يعني عزّة ، فقال : ارجع من حيث جئت ، وواعد بثينة ، فقلت : لا أقدر ، من عندهم جئت ، وإذا رجعت من ساعتي اتهمني أبوها ، فقال : لا بد ، فقلت : متى آخر عهدك بهم؟ قال : بالدوم (٦) وهم يرحضون أثوابا (٧) لهم ، قال : فرجعت ، فلما رآني أبو بثينة قال : يا كثيّر ، أليس كنت عندنا الآن؟ قلت : بلى ، ولكن ذكرت أبياتا قلتها في عزّة ، فأحببت أن أنشدك إياها ، قال : وما هي؟ قال : وبثينة في خيمة من وراء خيمته فأنشدته (٨) :

فقلت لها : يا عزّ أرسل صاحبي

إليّ (٩) رسولا والموكل مرسل

بأن تجعلي بيني وبينك موعدا

وأن تأمريني بالذي فيه أفعل

وآخر عهد منك يوم لقيتني

بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل

قال : فضربت بثينة يدها على الخباء ، وقالت : اخسأ. اخسأ. فقال أبوها : ما هذا يا بثينة؟ قالت : كلب يأتينا من وراء الرابية إذا نام الناس. يؤذينا. قال : فرجعت إلى جميل ، فقلت : قد وعدتك من وراء الرابية إذا نام الناس.

__________________

(١) بياض بالأصل ، والمثبت عن المطبوعة ، راجع ترجمته في تاريخ بغداد ٣ / ١٠٤.

(٢) سقطت من الأصل.

(٣) غير مقروءة بالأصل ، والمثبت عن المطبوعة.

(٤) الخبر ـ باختلاف الرواية ـ في الأغاني ٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧ والأمالي للقالي ٣ / ٢٢٠ ـ ٢٢١ (ذيل الأمالي).

(٥) كذا بالأصل.

(٦) الدوم : «واد معترض من شمالي خيبر إلى قبليها ، وهو يفصل بين خيبر والعوارض (معجم البلدان).

(٧) أي يغسلونها.

(٨) ديوان كثير (ط دار الكتاب العربي ـ بيروت) ص ١٦٢.

(٩) عجزه في الديوان : على نأي دار والرسول موكّل.

٦١

قرأت بخط بعض (١) أهل العلم لبثينة :

تواعدني قومي بقتلي وقتله

فقلت : اقتلوني وأخرجوه من الذنب

ولا تتبعوه بعد قتلي أذية

كفى بالذي يلقاه من شدة الحب

أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أنا الحسن بن عيسى بن المقتدر ، أنا أحمد بن منصور اليشكري ، أنا الصولي ، نا محمّد بن زكريا الغلّابي ، نا محمّد بن عبد الرّحمن ، عن أبيه قال : لما حضرت الوفاة جميلا بمصر قال : من يعلم بثينة (٢)؟ فقال رجل : أنا ، فلما صار إلى حي بثينة فقال (٣) :

بكر (٤) النعيّ وما (٥) كنى بجميل

وثوى بمصر ثواء غير قفول

بكر النعي بفارس ذي بهمة (٦)

بطل ، إذا حمّ اللقاء ، مذيل

سمعته بثينة فخرجت مكشوفة الرأس تقول (٧) :

وإنّ سلوّي عن جميل لساعة

من الدهر ما حانت ولا حان حينها

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا متّ بأساء الحياة ولينها

أخبرنا أبو القاسم بن السوسي ، أنا جدي أبو محمّد ، أنا أبو علي الأهوازي ، أنا أبو بكر بن أبي الحديد ، أنا أبو بكر الخرائطي ، حدّثني أبو الفضل العباس بن الفضل قال : يقال : إنه لما مات جميل بن معمر رثته بثينة بهذين البيتين ، ويقال : إنها لم تقل غيرهما :

وإن سلوي عن جميل لساعة

من الدهر ما جاءت ولا حان حينها

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا متّ بأساء الحياة ولينها

وتم وكمل ، والحمد لله وحده بحسن توفيقه ، ويليه ما بعده (٨).

__________________

(١) بالأصل : «قرأت على أهل العلم» والمثبت عن المطبوعة.

(٢) بالأصل : ببثينة.

(٣) البيتان في ديوان جميل ص ١١٩ (ط. بيروت : صادر) والأغاني ٨ / ١٥٣.

(٤) الديوان : صدع النعي.

(٥) بالأصل : «يوما» والمثبت عن الديوان.

(٦) في الديوان : ذي همة.

(٧) البيتان في الأغاني ٨ / ١٥٤.

(٨) بياض بالأصل ، وبعد البياض يقفر فورا إلى ترجمة رملة بنت أبي سفيان ، ومثله في المطبوعة. التراجم التالية نستدركها عن مختصر ابن منظور ، وسنشير إلى نهاية الاستدراك في موضعه.

٦٢

٩٣١٤ ـ بحريّة بنت هانئ بن قبيصة

ابن مسعود الشّيبانيّة ، امرأة عبيد الله بن عمر (١)

كانت حازمة عاقلة ، ووردت معه الشام ، وكانت معه بصفّين حين قتل (٢).

حدّثت بحريّة بنت هانئ :

أنها زوّجت نفسها من القعقاع بن شور (٣) ، وبات عندها ليلة ، وجاء أبوها فاستعدى عليّا فقال : أدخلت بها؟ قال : نعم ، فأجاز النّكاح.

حدّث يزيد بن يزيد بن جابر (٤) :

أنّ معاوية دعا عبيد الله بن عمر فقال : إنّ عليّا كما ترى في بكر بن وائل ، قد حامت عليه ، فهل لك أن تسير في الشهباء قال : نعم ، فرجع عبيد الله إلى خبائه فلبس سلاحه ثم إنّه فكر وخاف أن يقتل مع معاوية على حاله ، فقال له مولّى له : فداك أبي ، إنّ معاوية إنّما يقدّمك للموت ، إن كان لك الظّفر فهو يلي ، وإن قتلت استراح منك ومن ذكرك (٥) ، فأطعني واعتل ؛ قال : ويحك قد عرفت ما قلت ، فقالت له امرأته بحريّة بنت هانئ : ما لي أراك مشمّرا؟ قال : أمرني أمير المؤمنين أن أسير في الشهباء ، قالت : هو والله مثل التابوت لم يحمله أحد قطّ إلّا قتل ، أنت تقتل وهو الذي يريد معاوية ، قال : اسكتي والله لأكثرنّ من القتل في قومك اليوم ، فقالت : لا تقل هذا (٦) ، خدعك معاوية ، وغرّك من نفسك ، وثقل عليه مكانك ، قد أبرم هذا الأمر هو وعمرو بن العاص قبل اليوم فيك ، لو كنت مع عليّ أو جلست في بيتك كان خيرا لك قد فعل ذلك أخوك (٧) وهو خير منك ، قال : اسكتي ـ وهو يتبسّم ضاحكا ـ لترينّ الأسارى من قومك حول خبائك هذا ، قالت : والله لكأنّي راكبة دابّتي إلى قومي أطلب جسدك لأن أواريه ؛ إنك مخدوع ، إنّما تمارس قوما غلب الرّقاب (٨) ، فيهم

__________________

(١) تقدمت ترجمته في تاريخ مدينة دمشق ـ طبعة دار الفكر ـ ٣٨ / ٥٦ رقم ٤٤٧٣.

(٢) انظر سبب قدوم عبيد الله بن عمر إلى الشام والتحاقه بمعاوية ، وقدومه معه إلى صفين ، تاريخ مدينة دمشق ٣٨ / ٦٩ ووقعة صفين ٨٢ ـ ٨٣.

(٣) ضبطت عن تبصير المنتبه ٢ / ٧٩٢ ، وذكره.

(٤) الخبر من طريقه رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٥ / ١٧ ـ ١٨ في ترجمة عبيد الله بن عمر بن الخطاب.

(٥) بعدها في المختصر : «يقال : ابن عمر بن الخطاب» والمثبت يوافق عبارة ابن سعد.

(٦) في ابن سعد : لا يقتل هذا.

(٧) يعني عبد الله بن عمر.

(٨) يعني غليظي الرقاب.

٦٣

الحرون ، ينظرونه نظر القوم إلى الهلال (١) ، لو أمرهم ترك الطعام والشراب ما ذاقوه ؛ قال : أقصري من العذل ، فليس لك عندنا طاعة. فرجع عبيد الله إلى معاوية فضمّ إليه الشهباء ، وهم اثنا عشر ألفا ، وضمّ إليه ثمانية آلاف من أهل الشام ، فيهم ذو الكلاع في حمير ؛ فقصدوا يؤمّون عليّا ، فلمّا رأتهم ربيعة جثوا على الرّكب وشرعوا الرّماح ، حتى إذا غشوهم ثاروا إليهم ، واقتتلوا أشدّ القتال ، ليس فيهم إلّا الأسل والسيوف ؛ وقتل عبيد الله ، وقتل ذو الكلاع (٢) ؛ والذي قتل عبيد الله زياد بن خصفة التيميّ (٣) ، فقال معاوية لامرأة عبيد الله : لو أتيت قومك فكلّمتهم في جسد عبيد الله بن عمر؟ فركبت إليهم ومعها من يجيرها ، فأتتهم ، فانتسبت ، فقالوا : قد عرفناك ، مرحبا بك فما حاجتك؟ قالت : هذا الذي قتلتموه ، فأذنوا لي في حمله ، فوثب شباب من بكر بن وائل فوضعوه على بغل ، وشدّوه ، وأقبلت امرأته [إلى عسكر معاوية ، فتلقّاها معاوية بسرير فحمله عليه وحفر له وصلّى عليه ودفنه ثم جعل](٤) يبكي [و](٥) يقول : قتل ابن الفاروق في طاعة خليفتكم حيّا وميتا ، وإن كان الله قد رحمه ووفّقه للخير ، قال : تقول بحرية وهي تبكي عليه ، وبلغها ما يقول معاوية فقالت : أمّا أنت فقد عجّلت له يتم ولده وذهاب نفسه ، ثم الخوف عليه لما بعد أعظم الأمر. فبلغ مع معاوية كلامها فقال لعمرو بن العاص : ألا ترى ما تقول هذه المرأة؟ فأخبره فقال : والله لعجب لك ، ما تريد أن يقول الناس شيئا؟! فو الله لقد قالوا في خير منك ومنّا ، فلا يقولون فيك؟ أيها الرجل ، إن لم تغض عما ترى كنت في نفسك في غمّ. قال معاوية : هذا والله رأيي الذي ورثت من أبي.

٩٣١٥ ـ برق الأفق المدنيّة

قال دحمان الأشقر (٦) :

__________________

(١) في ابن سعد : الهلاك.

(٢) قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف ، كما في وقعة صفّين ص ٢٩٧.

(٣) كذا بالأصل ، وجاء في وقعة صفين ص ٢٩٨ اختلفوا في قاتل عبيد الله ، فقالت همدان : قتله هاني بن الخطاب ، وقالت حضرموت : قتله مالك بن عمرو السبيعي ، وقالت بكر بن وائل : قتله رجل منا من أهل البصرة يقال له محرز بن الصحصح من بني عائش بن مالك بن تيم اللات بن ثعلبة.

(٤) الزيادة بين معكوفتين من طبقات ابن سعد.

(٥) الزيادة عن ابن سعد.

(٦) الخبر في الأغاني ٣ / ٢٨٢ وما بعدها ضمن أخبار ابن مسجح.

٦٤

كتب (١) عامل الحجاز إلى عبد الملك بن مروان : إنّ بالحجاز رجلا يقال له ابن مسجح (٢) ، أسود يغنّي ، وقد أفسد رهبان (٣) قريش ، وأنفقوا عليه أموالهم. فكتب إليه في نفيه عن الحجاز وأخذ ماله ، فنفي ، فخرج إلى الشام في صحبة رجل له جوار مغنّيات ، فكان معه حتى بلغا دمشق ، فدخلا مسجدها ، فسألا من حضر عن أخصّ الناس بالخليفة؟ فقالوا : هؤلاء النفر من قريش وأخصّهم بنو عمه ؛ فعمد ابن مسجح إلى القرشيّين فسلّم عليهم وقال لهم : يا فتيان ، هل فيكم من يضيف رجلا غريبا من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض ، وكانوا قد تواعدوا أن يذهبوا إلى قينة يقال لها : «برق الأفق» ، فتثاقلوا به إلّا فتى منهم تذمّم (٤) فقال : أنا أضيفك ، وقال لأصحابه : انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي ، فقالوا له : لا ، بل تجيء أنت وضيفك ، فذهبوا جميعا إلى بيت القينة ؛ فلمّا أتوا بالغداء قال لهم ابن مسجح : إنّي رجل أسود ، فلعلّ فيكم من يقذرني ، فأنا أجلس ناحية ، وقام ، فاستحوا (٥) منه وبعثوا إليه بما أكل ، فلما صاروا إلى الشراب ، قال لهم مثل ذلك ، ففعلوا به ، وأخرجت لهم القينة جاريتين ، فجلستا على سرير قد وضع لهما ، فغنّتا إلى العشاء ، ثم دخلتا ، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة ، وهما معها ، فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله ؛ قال ابن مسجح : فتمثلت بهذا البيت :

فقلت أشمس أم مصابيح بيعة

بدت لك خلف السّجف أم أنت حالم

فغضبت الجارية وقالت : أيضرب لنا هذا الأسود الأمثال؟! فنظروا إليّ نظرا منكرا ، ولم يزالوا يسكتونها (٦) ، ثم غنّت صوتا فقلت : أحسنت والله ، فغضب مولاها وقال : هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عليه : قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم ، فذهبت أقوم ، فتذمّم القوم مني وقالوا : بل أقم وأحسن أدبك ، فأقمت ،

__________________

(١) كذا العبارة بالأصل ، ويفهم من عبارة الأغاني أن دحمان الأشقر كان عاملا لعبد الملك بمكة ، وأن عبد الملك كتب إليه بخبر ابن مسجح.

(٢) هو سعيد بن مسجح أبو ثمان مولى بني جمح ، من فحول المغنين وأكابرهم وأول من صنع الغناء منهم أخباره في الأغاني ٣ / ٢٧٦.

(٣) كذا ، وفي الأغاني : فتيان.

(٤) تذمم أي خشي الذم واللوم.

(٥) الأغاني : فاستحيوا منه.

(٦) الأغاني : يسكونها.

٦٥

وغنّت لحنا لي فقلت : أخطأت والله ـ أي زانية ـ وأسأت ، ثم اندفعت فغنّيت الصّوت ، فوثبت الجارية فقالت لمولاها : هذا والله أبو عثمان سعيد بن مسجح ، فقلت : إني والله أنا هو ، ولا أقيم عندكم ، فوثب القرشيّون ، فقال لي : هذا يكون عندي ، وقال هذا : لا بل يكون عندي ، فقلت : لا والله لا أقيم إلّا عند سيّدكم ـ يعني الرجل الذي أنزله ـ وسألوه عمّا أقدمه؟ فأخبرهم ، فقال له صاحب منزله : أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال : لا والله ، ولكنّي أصوغ لحنا على الحداء ، قال : فافعل ، فصنع لحنا على ألحان الحداء في هذا الشعر :

إنّك يا معاوي (١) المفضّل

إن زلزل الأقوام (٢) لم تزلزل

عن دين موسى والكتاب المنزل

تقيم أصداغ القرون الميّل

للحقّ حتى ينتحوا للأعدل

وسمعه الفتى فقال : أحسنت والله ، وأجدت ، رح معي ، فراح معه وجلس على الباب ، فلما طابت نفس عبد الملك بعث القرشيّ بغلامه إليه أن يعلو السّور ويرفع صوته بالأبيات ، وكان من أحسن الناس صوتا ، ففعل ، فلما سمع عبد الملك صوته طرب وقال : من هذا؟ قال الفتى : هذا رجل من أهل الحجاز قدم علينا ، فأحببت أن تسمع حداءه ؛ قال : هاتوه فجاءوا به ، فسمعه من قريب ، ثم قال : أتغنّي غناء الرّكبان؟ قال : نعم ، قال : فغنّ ، فغنّاه فازداد طربه واستزاده ، ثم قال له : هل تغني الغناء المتقن؟ قال : نعم ، قال : غنّ ، فغنّاه ، فاهتزّ عبد الملك طربا ، واستزاده فقال له : أقسم إنّ لك في القوم اسما كبيرا فمن أنت منهم؟ قال : أنا المظلوم المنفيّ ، المقبوض ماله ابن مسجح ، فأمر بالكتاب إلى عامله بردّ ماله ، وألّا يعرض له بسوء إذا عاد إلى وطنه. وأمر له بمائة ، وسأل القرشيّ عن خبره؟ فأخبره به ، فضحك حتى استغرب ، فقال عن الصوت الذي أخطأت فيه الجارية فغنّاه وهو للحادرة (٣)(٤) :

بكرت سميّة غدوة فتمتّع

وغدت غدوّ مفارق لم يرجع (٥)

__________________

(١) في الأغاني : إنك يا معاذ يا بن الفضّل.

(٢) الأغاني : الأقدام.

(٣) الحادرة لقب ، واسمه قطبة بن أوس بن محصن ، شاعر جاهلي ، مقلّ ، انظر أخباره في الأغاني ٣ / ٢٧٠.

(٤) الأبيات للحادرة في المفضليات للضبي ، المفضلية رقم ٨ ص ٤٣ وانظر تخريج الأبيات فيها.

(٥) في المفضليات : لم يربع.

٦٦

وتعرّضت لك فاستبتك بواضح (١)

صلت كمنتصّ (٢) الغزال الأتلع (٣)

أسميّ ما يدريك كم من فتية

باكرت لذتهم بأدكن مترع

بكروا عليّ بسحرة فصحبتهم (٤)

من عاتق كدم الذبيح مشعشع

فطرب عبد الملك ورمى إليه بمطرف كان عليه ، وقال له : كن مع الحرس ما دمت مقيما حتى نأنس بصوتك ، ففعل ، وتوسّل مولى برق الأفق إليه بصاحب منزله حتى وصل إليه فوصله صلة سنيّة ، وأخذت جاريته عنه فأكثرت ، وانصرف.

٩٣١٦ ـ بلقيس (٥) بنت شراحيل (٦) الهدهاد بن شرحبيل

وفي نسبها اختلاف ، ملكة سبأ. قيل : إنّها ملكت اليمن تسع سنين ، ثم كانت خليفة عليها من قبل سليمان بن داود أربع سنين.

قال مسلمة بن عبد الله بن ربعي :

لما أسلمت بلقيس تزوّجها سليمان بن داود ومهرها باعلبك (٧).

روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«أحد أبوي بلقيس كان جنّيّا» [١٣٧١٩].

سئل الحسن عن ملكة سبأ ، وقالوا : إنّ أحد أبويها جنّي؟ فقال الحسن : لا يتوالدون ؛ أي إنّ المرأة من الإنس لا تلد من الجن.

قال مجاهد :

__________________

(١) في المفضليات : وتصدفت حتى استبتك بواضح.

(٢) المفضليات : كمنتصب.

(٣) الأتلع : الطويل العنق.

(٤) المفضليات : فصبحتهم.

(٥) انظر أخبارها في تاريخ الطبري (الفهارس) ، والكامل لابن الأثير (الفهارس) والبداية والنهاية (الفهارس) المحبر لابن حبيب ص ٣٦٧ وجمهرة أنساب العرب ص ٤٣٩.

(٦) في ابن حزم : «ايلي أشرح» وفي الطبري : «بنت أليشرح» وقال بعضهم : ابنة ذي شرح ، وقال بعضهم : ابنة أيلي شرح.

(٧) كذا وردت في المختصر ، وفي معجم البلدان : بعلبك وهي مدينة قديمة بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وقيل اثنا عشر فرسخا من جهة الساحل. وذكر ياقوت أن بعلبك كانت مهر بلقيس (معجم البلدان : بعلبك ١ / ٤٥٤).

٦٧

كان تحت يدها اثنا عشر ألف قيل (١) ، تحت يد كلّ قيل مائة ألف (٢).

وعن مجاهد :

إن ذا القرنين ملك الأرض كلّها إلّا بلقيس صاحبة مأرب (٣) ، وإن ذا القرنين كان يلبس ثياب المساكين ثم يدخل المدائن فينظر من عورتها قبل أن يقاتل أهلها ؛ فأخبرت بلقيس بذلك ، فبعثت رسولا يصوّر لها صورته في ملكه حين يقعد ، وصورته في ثياب المساكين ، ثم جعلت كلّ يوم تطعم المساكين فتجمعهم ، فجاءها رسولها بصورته ، فجعلت إحدى صورتيه على باب بيتها ، والأخرى على باب الأصطوان ، فكانت تطعم المساكين كل يوم ، فإذا فرغوا عرضتهم واحدا واحدا حتى جاء ذو القرنين في ثياب المساكين ، فدخل مدينتها ، ثم جلس المساكين إلى طعامها ، فلما فرغوا أخرجتهم واحدا واحدا وهي تنظر إلى صورته في ثياب المساكين ، حتى مرّ ذو القرنين فنظرت إلى صورته فعرفته فقالت : احبسوا هذا ، فقال لها : لم حبستني فإنما أنا مسكين من المساكين؟ قالت : أنت ذو القرنين وهذه صورتك في ثياب المساكين ، والله لا تفارقني أو تكتب أمانا بملكي أو أضرب عنقك ؛ فلما رأى ذلك كتب لها أمانا بملكها. فلم ينج منه أحد غيرها.

وعن قتادة :

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ)(٤) قال :

بلغني أنها امرأة تسمّى بلقيس ـ أظنّه قال : بنت شراحيل ـ أحد أبويها من الجن (٥) ، مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابّة (٦) ؛ وكانت بأرض يقال لها مأرب ، على ثلاثة (٧) أيام من صنعاء.

__________________

(١) القيل بلغة أهل اليمن الملك من ملوك حمير ، يقول ما يشاء ، والجمع أقوال ، وأقيال. وقال أبو عبيدة : الأقيال ملوك باليمن دون الملك الأعظم. والقيل يكون ملكا على قومه ومخلافه ومحجره.

(٢) الكامل لابن الأثير ١ / ١٦٠.

(٣) مأرب : بهمزة ساكنة وكسر الراء ، هي بلاد الأزد باليمن ، وهي بين حضرموت وصنعاء ، بينها وبين صنعاء أربعة أيام (معجم البلدان).

(٤) سورة النمل ، الآية : ٢٣.

(٥) أمها كانت من الجن ، كما في البداية والنهاية ٢ / ٢٩.

(٦) البداية والنهاية ، قال ابن كثير : وهذا ضعيف.

(٧) كذا ، وفي معجم البلدان : أربعة أيام.

٦٨

خرج ذو رعين ملك اليمن يتصيّد ومعه العساكر ، فطاب له الصيد وانقطع عن عسكره ؛ فعطش واشتدّ عطشه ، فسار في تلك الصحراء يطلب ماء إذ رفع له خباء فقصده ، فإذا شيخ محتب بفناء الخيمة فقال : أنعم صباحا أيّها الشيخ ، قال : وأنت ، قال : اسقني ماء ، فقال الشيخ : يا حسنه اسقي عمّك ماء ، فخرجت جارية كأنها الشمس الطالعة ، أصاب الصحراء من نور وجهها ، وبيدها كأس من ياقوت أحمر ، فتعجّب الملك من جمالها وقال : في قصري ألف جارية ما فيهنّ جارية في جمالها ، ولا في مملكتي مثل هذا الكأس ؛ فأخذ الكأس من يدها فشرب حتى روي ، وانصرفت ، فقال الملك : أيّها الشيخ ما هذه الجارية منك؟ قال : ابنتي ، قال : ألها زوج؟ قال : لا ولا تزوّجت قطّ ، قال : أفتزوّجني إيّاها؟ قال : لا ، قال : ولم؟ قال : لا تصلح لك ، قال : لأيّ شيء؟ قال : لأني من الجن وأنت من الإنس ، قال الملك : قد رضيت وأنا كفؤ كريم ، أنا ذو رعين ملك اليمن بيدي والحجاز والسّند والهند ، وقد هويت ابنتك فلا تحرمني إيّاها ، فقال لها الشيخ : ما تقولين؟ قالت : إن أجابني إلى خصلة واحدة تزوجت به! قال الملك : وما هي؟ قالت : لا تسألني عن شيء أعمله لم عملته ، فإنّي لا آلوه نصحا ؛ فمتى سألني عن شيء فعلته لم فعلته فهو طلاقي ، ولا يراني أبدا ، فأجابه الملك إلى ذلك ، وأحضر الشيخ إخوانه من الجنّ وأقاربه ، وعقد نكاح ابنته ، وسار الملك إلى قصره وحملت إليه ودخل بها وجليت عليه ، فكانت كل يوم تتصوّر له في صورة جديدة ، وثياب جدد ، وحليّ جديد ، ثم حملت منه ؛ وكان للملك ذي رعين سبعون بنتا وما رزق ابنا قطّ ، وهو يشتهيه ويتمنّاه ، فلمّا تم حملها ولدت ابنا من أحسن البنين ، فبشّر الملك بذلك فسرّ سرورا عظيما وفتح بيوت الأموال للصدقات والجوائز ، وقطعت ثياب الخلع للأمراء والقوّاد ، وصنعت السروج ، وأعدّ الطعام كل ذلك الأسبوع ؛ فوثبت إلى الابن فذبحته ، وإلى الطعام فأراقته ، وإلى الخلع والسروج فضرّمت فيها النار ؛ ولما بلغ ذلك الملك غضب غضبا شديدا وهمّ بقتلها وقام ليسألها لم صنعت ذلك فقال له وزيره : كيف حبّك لها؟ قال : ما أحببت شيئا قطّ كحبّي لها ، ولو غابت عن بصري حسبت التلف على نفسي ، فقال : أيها الملك ، لا تلم إلّا نفسك إذ تزوّجت جنيّة ليست من جنسك ولا تحبّك ولا تشفق عليك ، ولعلّها تبغضك وتريد فراقك ففعلت هذا! لتسلها ، فتخرج من قصرك فيكون ابن الملك قد مات ويزول عن الملك من يحبّه ويهواه فلا يطيق فراقه ويعطيها مناها ، فقال الملك : أما بغض فما تبغضني لأني أتتني محبّتها لي وشفقتها عليّ. وتوقّف الملك عن مسألتها ، وهي مع ذلك متحنّنة على الملك غير مقصرة عن خدمته والتذلّل له ، فلمّا طهرت من نفاسها واقعها الملك فحملت ،

٦٩

فلما تمّ حملها ولدت بنتا ، ولا شيء أبغض إليه من البنات إذ له سبعون بنتا ، فلما ولدتها أرسلت إليه : أيّها الملك افتح بيوت الأموال وصدّق وهب وأعط ، وادع الأمراء والقواد ؛ فلمّا وصلت إليه الرسالة لم يملك نفسه من الغضب أن صار إليها فقال : ما هذه؟ أنا لم يجئني ابن قطّ ، فلما جاءني وسررت به ذبحته وحرمتني إياه ، فلما جاءتني ابنة وأنا لها كاره أمرتني بالفرح والسرور وهو عندي حزن ؛ فما الذي دعاك إلى ذبح ابني ومهجة قلبي؟! فلمّا قال لها ذلك أسبلت عينها بالدموع والبكاء ، ولطمت وجهها وهتكت ثيابها وحلقت شعرها وقالت : أيها الملك طلقتني بعد صحبة خمس سنين ، وما أحببت شيئا قطّ حبّي إيّاك ، فكان هذا جزائي منك أو أملي فيك! ثم قالت : أيها الملك ، اعلم أني ذبحت ابني ومهجة قلبي في هواك ومحبتك ، وذلك أنّ والدي الذي رأيته ممّن يسترق السمع من السماء ، فلما ولدت الابن عرج أبي إلى السماء فسمع الملائكة يقولون : إنّ الله قد قضى على ابنك أنّه إن عاش حتى يبلغ الحلم يذبحك على فراشك ، فمن شدّة حبّي لك آثرتك على ابني ورأيت أن أذبحه صغيرا ولا يكبر ، فيدخل قلبي من محبته ما أعاونه عليك ، ولقد وجدت عليه مثلما تجد الوالدة على ولدها ، إلّا أني رأيت أنها نار أطفئت ، كل ذلك محبة للملك ، وأما الثياب والسروج التي حرقتها والطعام الذي أهرقته فإنّ لي ابن عمّ كان مسمّى علي ، فلمّا صرت إليك حسدني وعاداني ، فلمّا ولدت الابن جاء ابن عمّي فسمّ الطعام والثياب والسروج ليهلك الملك ورجاله ؛ فلذلك فعلت الذي فعلت ، فلما ولدت هذه الابنة صعد أبي إلى السماء فاسترق السمع فسمع الملائكة يتحدّثون أنّ هذه البنت أبرك بنت ولدت على وجه الأرض ، وأشرفه وأجلّه ، وإنها وارثة ملكك بعد أن يغصبه غاصب ليس من أهله ، فهي التي ترتجّ منها البلاد ، وتملك اليمن وحضر موت والحجاز ويجلّ سلطانها ويعظم شأنها حتى يكون تحت يدها ألف أمير ، وتحت يد كل أمير ألف قائد ، تحت يد كل قائد ألف جندي ، وإنه يتزوّج بها نبيّ يكون في زمانها يقال له سليمان ، تسمع له الجنّ والإنس والشياطين والسحاب والرياح ويسخّر ذلك كلّه له ، ويسمعون ويطيعون أمره ، ويفهم كلام الوحش والطير ، فيكون بيده نصف الأرض فاستوص أيها الملك بها خيرا إذ حرمتني قربها ، وانظر كيف تكون لها بعدي ، فلن تراني أبدا لا أراك بعد يومي هذا. ثم غابت عن بصره.

وعن ابن عباس قال :

كان سليمان إذا سار في ملكه فالإنس عن يمينه ، والجنّ عن يساره ، والشياطين بين يديه ، والوحوش خلفه ، والطير تظلّه والريح تحمله ؛ وكان دليله على الماء في المفاوز

٧٠

الهدهد ، فإذا احتاجوا إلى الماء جاء الهدهد فشمّ الأرض ثم نقر بمنقاره ، فيحفر الماء على وجه الأرض ، فبينما سليمان يسير بين المشرق والمغرب في مفازة احتاج الجنود إلى الماء ، وكان الهدهد غائبا ، فشكت الجنود العطش إلى آصف ـ وكان صاحب أمر سليمان ـ فقال : أيها الملك إنّ الجنود قد عطشوا ولا ماء ، فرفع سليمان رأسه فنظر إلى الطير ففقد الهدهد فقال : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ)(١) فقالت الطير : هو من الغائبين ، فغضب سليمان فقال : بعد عني وأنا في المفازة معي الجنود (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(٢) قال : عذر مبين ، فلما سمع الطير ذلك استقبلوا الهدهد فقالوا : ويلك أين كنت (٣)؟ قد غضب عليك وحلف ليعذّبنّك أو ليذبحنّك أو لتأتينّه بعذر مبين يخرجك من ذنبك (٤) ، فلما سمع الهدهد ذلك أدبر راجعا ، فارتفع حتى أشرف على الجبال والبحور ، فبينا هو كذلك إذ أشرف على جبل سبأ ، ونظر إلى بلقيس ملكتهم وهي جالسة على عرشها ، وبين يديها ألف رجل متقلّدون السيوف ، قيام ، كلّ رجل منهم ملك على قومه ؛ فلما رأى الهدهد ذلك قال : هذا حجتي التي أرجع بها إلى سليمان ، فرجع فوقع بين يدي سليمان فسجد فقال سليمان : ما لك؟ وأين غبت؟ فقال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٥) قال : وما نبؤك؟ قال : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) إلى (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(٦) فدعا سليمان برقّ فكتب فيه بيده وطواه وختمه بخاتمه ، ولم يكتب فيه عنوانا ثم قال (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) إلى (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٧) فانطلق الهدهد بالكتاب حتى ألقاه في حجر بلقيس.

وفي رواية :

فجاء الهدهد وقد غلّقت الأبواب ، وكانت تغلق أبوابها وتضع مفاتحها تحت رأسها ،

__________________

(١) سورة النمل الآية : ٢٠. أراد ماله مفقود من هاهنا ، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٢١.

(٣) كان الهدهد قد مرّ على قصر بلقيس ، فرأى بستانا خلف قصرها ، فمال إلى الخضرة. كما في الكامل لابن الأثير ١ / ١٦١.

(٤) قيل إن عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه فلا يطير أبدا فيصير من هوام الأرض ، أو يذبحه فلا يكون له نسل أبدا.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٢٢. وقوله بنبإ يقين : يعني بخبر صادق.

(٦) سورة النمل ، الآيتان ٢٣ و ٢٤.

(٧) سورة النمل ، الآيتان ٢٧ و ٢٨.

٧١

فجاء الهدهد فدخل من الكوّة فألقى الصحيفة عليها ، ففرحت وظنّت أنه ألقي إليها من السماء فقالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ)(١) وظنّت أنّه من عند الله ، فمن هناك سمّته كريما ، فلو أنّها علمت أنّه من سليمان ما سمّته كريما ، وكانت هي أعزّ في نفسها من أن تسمّي كتاب سليمان كريما ، فلمّا فتحته قالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قالَتْ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(٢) قالوا : أيها الملكة ما أحد في الأرض أعزّ منا منعة ، ولا أقوى منا بمال ، ولا أشدّ منا بطشا ولا أبعد منا صوتا ، ولا أقهر منا عزا ، فنرى أن نسير إليهم (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ)(٣) فقالت : إن سليمان قد ادّعى أنه نبي ، فإن كان صادقا فإنّ الله معه ، ومن يكن الله معه يغلب ، وإن كان نبيّا ثم سرنا إليه أهلكنا بجنود الله ، وإن سار إلينا فوطئنا بمن معه من الجنود كان فساد بلادكم وأهل ملتكم ، ولكنّي باعثة إليه بهديّة ، فإن كان سليمان ملكا يرضى بالدنيا ويريدها (٤) ، فإنه سيرضى منّا بالهدايا واللّطف ، وإن كان نبيّا فإنه لا يرضى دون أن نأتيه مسلمين أو مقهورين ، فإن كان نبيا أتيناه مسلمين أحبّ إلينا من أن يطأ بلادنا ، فقال القوم : فأمرك عندنا طاعة ؛ فبعثت إليه بثلاث لبنات من ذهب في كلّ لبنة مائة رطل من ذهب ، وياقوتة حمراء طولها شبر ، مثقوبة ، وثلاثين وصيفا قد حلقت رءوسهم ، وثلاثين وصيفة قد حلقت رءوسهنّ ، وكتبت إليه : إنّي قد بعثت إليك بهديّة فاقبلها ؛ وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر مثقوبة فأدخل فيها خيطا ثم اختم على طرفي الخيط بخاتمك ؛ وبعثت إليك بثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة تميّز الغلمان من الجواري ولا تجرّد منهم أحدا. فلمّا فصلت الرسل (٥) من عندها جاء دمرياط ـ وكان أميرا على الشياطين ـ فقال لسليمان : إنّ بلقيس قد بعثت إليك بثلاث لبنات من ذهب ، وياقوتة حمراء ، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ؛ فقال سليمان لدمرياط : افرشوا من باب مجلسي إلى طريق القوم ثمانية أميال في ميل عرضا لبن ذهب ، فبعث دمرياط الشياطين فقطعوا من الجبال الملس ، فموّهوه بالذهب ، ففرشوا من باب

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٢٩.

(٢) سورة النمل ، الآيات ٣٠ إلى ٣٢.

(٣) سورة النمل ، الآية : ٣٣.

(٤) تعني أنه إن قبل هديتها ، فهي من الملوك أعز منه وأقوى.

(٥) بعثت الهدية مع رجل من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو انظر ما جاء من أقوال حول هديتها في أحكام القرآن ١٣ / ١٩٦.

٧٢

سليمان الطريق للرسل ثمانية أميال في ميل عرضا ، ونصبوا على جنبتي الطريق أساطين من ياقوت أحمر ، فلما جاءت الرّسل فنظروا إلى الذهب والياقوت! فقال بعضهم لبعض : أين ننطلق إلى هذا الرجل بثلاث لبنات من ذهب وعنده من الذهب ما قد فرش به الطريق!؟ فقال رئيسهم : إنما نحن رسل نبلغ ما أرسل به معنا ؛ فمضوا حتى دخلوا على سليمان ، فقرأ كتاب بلقيس ، ووضعوا اللّبنات بين يديه فقال : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) إلى (تَفْرَحُونَ)(١) قال : تفرحون بثلاث لبنات ذهب؟! انطلقوا فخذوا ما رأيتم ثلاثمائة أو ثلاثة آلاف أو ثلاثين ألفا أو ثلاث مائة ألف أو ثلاثة آلاف ألف ، فقالوا : أيّها الملك إنما نحن رسل ، فأمر بقبض اللّبنات ، ثم دعا بالياقوتة فأخذ ذرّة فربط فيها خيطا ثم أدخلها في ثقب الياقوت حتى خرجت من الجانب الآخر ، ثم جمع طرفي الخيط ثم ختم عليه ، ثم دعا بتور (٢) من ماء ، فوضعوه ، ثم أمر أولئك الوصفاء أن يتوضّئوا واحدا واحدا فميّزهم بالوضوء ، الغلمان من الجواري ثم قال : هؤلاء غلمان وهؤلاء جوار. قالت الرسل : أيّها الملك اكتب إليها بجواب كتابها ، فقال : لا ، ارجعوا إليهم (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) الآية (٣) ، فرجعت إليها الرسل فقالت : ما جئتم به من عند سليمان؟ فقالوا : ما كنت صانعة حين يأتيك الجنود فالآن. فاستقلّت ومن معها وحملت الخزائن والسلاح على سبعين فيلا ، ثم توجّهت ومعها أولئك الألف الذين بين يديها ، وخلّفت عرشها ، فلما فصلت جاء دمرياط فقال : أيها الملك إنّ بلقيس قد خرجت إليك ومعها ألف ملك قد حملت خزانها وسلاحها على سبعين فيلا ، فقال سليمان : ما فعل عرشها أمعها أم خلّفته؟ فقال : بل خلّفته ، قال سليمان : ف (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٤)؟ قال دمرياط : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)(٥) وكان سليمان يصلّي الصّبح ثم يجلس للناس إلى طلوع الشمس ، فقال : آتيك به من حين تجلس إلى حين تقوم ، فقال سليمان : أريد أعجل من ذلك ، فقال آصف (٦) : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٣٦.

(٢) التور : الإناء.

(٣) سورة النمل ، الآية : ٣٧.

(٤) سورة النمل ، الآية : ٣٨.

(٥) سورة النمل ، الآية : ٣٩.

(٦) هو آصف بن برخيا ، وكان عنده علم من الكتاب ، وكان يعرف اسم الله الأعظم ، كما في الكامل لابن الأثير ١ / ١٦٢ وهو ابن خالة سليمان ، وقيل : هو رجل من مؤمني الجان ، كما في البداية والنهاية ٢ / ٢٨.

٧٣

طَرْفُكَ)(١) قال : يرتد إليك طرفك : هو أن تنظر إلى الشيء فتتبيّن أنه حمار أو دابّة حتى ينتهي إليك أو تنتهي إليه ؛ وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف. قال : أنت؟! قال : نعم ، قال : فافعل ، فنزّل آصف قائم السيف من يده ثم رفع يده فإذا العرش موضوع بين يدي سليمان ، فكاد سليمان أن يفتتن ، فقال : ربّ سألتك ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ، ربّ فجعلت في ملك يميني وفي خولي ومن يجري عليه رزقي من قدر على هذا ولم أقدر عليه ، هذا نقصان في ملكي ، فدخلت سليمان فتنة ، ثم عصم فراجع فقال : أليس (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ، لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) الآية (٢). (قالَ : نَكِّرُوا لَها عَرْشَها)(٣) ، وكان عرشها عليه صفائح من ذهب وفضة ، قد ركّبت فيه فصوص الياقوت الأحمر والزّبرجد الأخضر والدّر واللّؤلؤ ، وكان للعرش قائمتان من زبرجد وقائمتان من ياقوت أحمر ، فكان تنكيرهم إيّاه ، أن نزعوا صفيحة الذهب ، فجعلوها مكان الفضّة ، وصفيحة الفضّة مكان الذهب ، والياقوت مكان الزّبرجد ، والدّرّ مكان اللّؤلؤ ، والقائمتين للزّبرجد مكان القائمتين للياقوت ، فجاءت بلقيس فدخلت على سليمان وقد وضع لها بين يدي سليمان كرسي ، فجلست عليه ، فقال سليمان : أنت امرأة من العرب يا بلقيس في بيت ملك ومملكة ، تعبدين الشيطان وتشركين بالله ، وتكفرين النّعم؟! فقالت : يا سليمان إنّك نبيّ مصطفى وقد انتخبك الله لنفسه ، واختارك لخلقه ، ورضي بك لعباده ، ولا ينبغي لك أن تعيّرني ، لأنّ الله تعالى يغيّر ولا يغيّر ؛ فكفّ سليمان عنها ، فأنشأت تذكر منزلتها ومجلسها ، فقال سليمان لآصف : خذ بيدها فأدخلها صرحي ، وكان صرح سليمان ميلا في ميل ، طول سقفه ثمانون ذراعا قارورة خضراء ، أرضه وجدره وسقفه ، فلما قامت بلقيس على باب الصّرح (حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) وكانت بيضاء ، كثيرة الشعر ، فنظر سليمان إلى ساقيها ثم صرف بصره فقال آصف : أرسلي ثيابك (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ، فلما مشت في الصّرح ورفعت رأسها ونظرت قالت في نفسها : لا والله ما هذا عمل الإنس ، قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٤) ، فقال سليمان لدمرياط : اصنعوا شيئا يذهب شعر بلقيس (٥) ، فقال :

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة النمل ، الآية : ٤٠.

(٣) سورة النمل ، الآية : ٤١.

(٤) سورة النمل ، الآية : ٤٤.

(٥) قيل إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان ، وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها ، وخشوا أن يتزوجها لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه (البداية والنهاية ٢ / ٢٩).

٧٤

الحلقة ، فقال سليمان : هذا يحلق ما ظهر فكيف بما بطن؟ فصنعوا النّورة (١) ، فكانت النّورة أوّل ما صنعت. فأمر سليمان ببلقيس فانطلق بها إلى النساء فهيّئت ، فتزوّجها سليمان فأحبّها ونزلت منه بمنزلة لم ينزلها أحد من نسائه.

وكان سليمان قبل أن يتزوّج بلقيس لا يدفع خاتمه إلى أحد ولا يأمن عليه أحدا ، فلمّا تزوّج بلقيس أمّنها على خاتمه ، وكان إذا دخل لحاجته جاءت بلقيس فدفع الخاتم إليها ، فإذا قضى حاجته خرج فقال لها : هاتي ماء فتوضّئه ، ثم يأخذ الخاتم منها فيخرج إلى الناس ، فبينما هو ذات يوم قد دخل لحاجته ، وقد دفع الخاتم لبلقيس ؛ إذ جاء دمرياط (٢) فدخل في صورة سليمان ثم تسوّر الحائط فخرج من باب المخرج فقال لبلقيس : هاتي ماء ، فجاءته بماء فوضّأته ، قال : هاتي الخاتم فأخذ الخاتم فلبسه فأفرغ على الخبيث بهجة الملك ؛ وكان سلطان سليمان في خاتمه ، فخرج الخبيث فجلس على عرش سليمان وبنو إسرائيل حوله جلوس لا ينكرونه ، وآصف قام على رأسه لا يعرفه ، فخرج سليمان من الحاجة ، فثارت بلقيس ، فقالت في نفسها : ما لسليمان أن دخل معه الخاتم؟! فقال لها سليمان : هاتي ماء ، فجاءته بماء ، فتوضّأ. ثم قال : هاتي الخاتم قالت : قد دفعت إليك الخاتم ، قال سليمان : يا بلقيس اتقي الله ، فإنّ الله قد هداك على يدي للإسلام ، وأخرجك من الشّرك وأهله ، وإني قد ائتمنتك على سلطان ربّي الذي وهبه لي فلا ينبغي لك أن تخونيني ، قالت بلقيس : وأنت يا سليمان فاتّق الله ، فإنّ الله قد اصطفاك وأكرمك برسالاته ، ولا ينبغي لك أن تخونني ، فإني لم أخنك ، فقال سليمان : من أخذ الخاتم؟ قالت : أنت أخذته ولا أنكرك ، فعرف سليمان أن البليّة قد نزلت ، فاطّلع إلى مجلسه فإذا دمرياط جالس على عرشه ، فطرح سليمان ثيابه ولبس ثيابا دونها ثم خرج يسيح في الأرض ، فإذا جاع دخل بعض القرى فيأتي العجوز جالسة بباب بيتها فيستطعمها فتردّه فيقول : أطعميني فإني سليمان ، فتقول : سليمان ملك الدنيا وتأخذ التراب والحجارة وترميه به وتقول : لم تكذب على سليمان؟ فلم يزل يطوف حتى انتهى إلى بحر القلزم ، فإذا صيّادون في سفينة يصيدون الحيتان ، فقال لهم سليمان : أؤاجركم على نفسي على أن تطعموني. قالوا : نعم ، فاستأجروه كلّ يوم بأربعة أرغفة وحوتين (٣) ، فكان

__________________

(١) النورة : من الحجر يحرق ويسوى منه الكلس ويحلق به شعر العانة.

(٢) الرواية باختلاف في تاريخ الطبري ١ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤ وفيه أن الشيطان صاحب البحر ، وسماه صخرا. وأن القصة كانت مع امرأة من نسائه.

(٣) في تاريخ الطبري : يعطونه كل يوم سمكتين ، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة وشوى الأخرى.

٧٥

معهم فإذا جاءت السفينة فيها حيتان أخذ سليمان مكيلا فنقل الحيتان من السفينة إلى البر ، فلم يزل مع الصيّادين.

وأنكرت بنو إسرائيل أحكامهم وأمورهم وقضاياهم ؛ ففزع بعضهم إلى بعض ولقي بعضهم بعضا ، وفزعت الأشراف إلى الفقهاء فقالوا : ما أنكرتم ما أنكرنا من أمر سليمان؟ فقال الفقهاء : بلى ، فقالوا : لئن كان هذا سليمان لقد خولط فهلكت الأرض ومن عليها ، فلقي الفقهاء آصف ، فقالوا : هل أنكرت من أمر سليمان؟ فقال : لئن كان هذا سليمان لقد هلكنا ، وكان آصف غلاما من أولاد الأنبياء ، كان في حجر سليمان قد تبنّاه ، وكان يدخل على نسائه ، فقال الفقهاء لآصف : ادخل على النساء فسلهنّ ؛ فدخل آصف على النساء فسألهنّ ، فقلن : ما هذا سليمان وبكين (١) ، وقلن : لئن كان هذا سليمان لقد هلكنا وهلكتم وهلكت الأرض ، لا والله ما هو سليمان. وكان ذلك لتسع وثلاثين ليلة من بليّة سليمان ، فخرج آصف فقال : يا معشر بني إسرائيل افعلوا ما أنتم فاعلون ، فإن هذا ليس بسليمان ، واجتمعت بنو إسرائيل وأجمعوا على أن ينهضوا بالفاسق دمرياط ؛ فبلغه ذلك فهرب ، وذهب معه بالخاتم صبيحة أربعين ليلة من بليّة سليمان حتى أتى بحر القلزم ، وكان القلزم من أبعد البحور قعرا ، فرمى بالخاتم في البحر وقال : لا يرجع إلى سليمان ملكه أبدا ، ثم أتى جزيرة من القلزم فكان فيها ، وبعث الله حوتا تدعى الملكة فالتقمت الخاتم حين طرحه الفاسق ، فانطلق الصيّادون الذين معهم سليمان فألقوا شبكتهم ، فجرّوا الشبكة وألقوا ما فيها في السفينة ، فأخذ سليمان مكيلا ينقل الحيتان على عنقه إلى الشاطئ حتى حان غداؤه ، فقال لأصحابه : هاتوا غدائي فأعطوه رغيفين ، ثم تناول بعضهم حوتا وطرحه إليه وهي الملكة ، فأخذها وشق بطنها ، فبدر الخاتم فأخذه سليمان فقبّله ووضعه في يده فجاءته الطير فأظلّته وجاءت الرّيح فحفّت به وجاءت الجنّ فطارت بجنبيه ، فنظر إليه الملّاحون فكبّروا وخرّوا سجّدا له ، فقالوا : أيها الملك إنّا لم نعرفك ، فقال سليمان : لست ألومكم على ما كان ، ولا أحمدكم على ما صنعتم ، إنما هو سلطان ربّي أعطانيه قهر به خلقه ، وسخّرهم لي.

وأمر الريح فحملته ومن معه من الجنود تزيف (٢) بهم على وجه الأرض وعلى البحور حتى أتى منزله ؛ ثم قال للشياطين عليّ بالفاسق دمرياط ؛ فطافت الشياطين حتى وجدوه في

__________________

(١) أنكر نساؤه أنه كان لا يدع امرأة منهن في دمها ، ولا يغتسل من جنابة ، قاله الطبري في تاريخه ١ / ٢٩٤.

(٢) تزيف بهم أي تسرع.

٧٦

جزيرة القلزم ، فصرخوا به فخرج ، فقالوا : يا دمرياط أجبّ سليمان ، قال : وأين سليمان؟ أليس قد هلك ، ألقيت خاتمه حيث لا يرجع ملكه إليه أبدا!؟ فقالوا : ويلك ، إنّ سليمان قد ردّ الله إليه خاتمه ورجع إليه ملكه ، فقال الفاسق : لا والله لا آتيه أبدا ، فرجعوا إلى سليمان فقالوا : إنه قد أبى ، فدعا سليمان بطينة فختمها بخاتمه ثم قال : انطلقوا بهذه الطّينة واصرخوا به ، فإذا خرج فاطرحوا الطّينة إليه فإنّه سيأتي صاغرا ، فانطلقوا فصرخوا به ، فلمّا خرج إليهم ، قالوا : انطلق إلى سليمان ، قال : لا والله ، قالوا : فانظر في هذه الطينة ، فطرحوا إليه الطّينة ، فنظر فيها ، فبكى وقال : قهرني سليمان بسلطان ربّي ، فجاء حتى عبر إليهم فأخذوه وأوثقوه ، وأتوا به سليمان ، فلمّا كلمه سليمان قال له دمرياط : لا عذر لي فاصنع ما أنت صانع. فأمر سليمان الشياطين ، فأتوه بحجر طوله أربعون ذراعا فقال : خذوا الخبيث فأدخلوه في جوفه ، ثم أمر بالقطر ـ وهو النّحاس الأحمر ـ فصبّ عليه ، ثم قال : خذوا هذه الصخرة فانطلقوا بها إلى القلزم فاطرحوه في قعرها ففعلت الشياطين (١).

قال ابن عباس :

لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ، ولكنه انشقّت له الأرض ، فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان.

وكان عرشها ثلاثة أبيات بعضها على بعض من ياقوتة حمراء ، على أربع دعائم.

قال أبو المليح :

أردت سفرا فأتيت ميمون بن مهران أودّعه فقال لي : لا تيأس أن تصيب في سفرك هذا أفضل ما طلبت ، فإنّ موسى خرج يقتبس لأهله نارا فكلّمه الله ، وإنّ صاحبة سبأ خرجت ليس شيء أحبّ إليها من ملكها فرزقها الله الإسلام.

قال همّام بن منبّه :

قدمت مكة فجلست إلى ابن الزّبير ومعه جماعة من قريش. فقال رجل من قريش : ممّن أنت؟ قلت : من اليمن. قال : ما فعلت عجوزكم؟ قلت : أيّ عجوز؟ قال : بلقيس. قلت له : عجوزنا أسلمت مع سليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعجوزكم حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

__________________

(١) في الطبري أنه جاب له صخرة ، فأدخله فيها ثم سدّ عليه بأخرى ، ثم أوثقها بالحديد والرصاص ، ثم أمر به فقذف في البحر ، وقيل : إنه أمر به فجعل في صندوق حديد ، ثم أطبق عليه ، وأقفل عليه بقفل ، وختم عليه بخاتمه ، ثم أمر به فألقي في البحر.

٧٧

روى الأوزاعيّ قال :

كسر برج من أبراج تدمر ، فأصابوا فيه امرأة حسناء ، دعجاء ، مدرجة مدمجة (١) ، كأنّ أعطافها طي الطوامير (٢) المدرجة ، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب :

بسم الله الرّحمن الرحيم ، أنا بلقيس ملكة سبأ ، زوجة سليمان بن داود ملكت الدنيا كافرة ومؤمنة ، ملكت ما لم يملكه أحد قبلي ، ولا يملكه أحد بعدي ، صار مصيري إلى الموت ، فأقصروا يا طلّاب الدّنيا.

ولما تزوّج سليمان بلقيس قالت ما مسّتني حديدة قطّ ، فقال للشياطين : انظروا أي شيء يذهب بالشعر غير الحديد ، فوضعوا له النّورة ، فكان أول من وضعها له شياطين سليمان (٣).

أسماء النساء على حرف التاء

٩٣١٧ ـ تجيفة زوج أبي عبيدة بن الجرّاح

لم تنسب ، كانت مع أبي عبيدة بدمشق ، وشهدت وفاته.

حدّث عياض بن غطيف (٤) قال (٥) :

دخلنا على أبي عبيدة بن الجرّاح نعوده ، فإذا وجهه نحو الحائط وعنده امرأته تجيفة (٦) ، فقلنا : كيف بات أبو عبيدة؟ فقالت : بات بأجر ، فالتفت إلينا ، فقال : ما بتّ بأجر. قال (٧) : فسكتنا ، فقال : ألا تسلوني عما قلت! فقلنا والله ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه. فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله ، أو عاد مريضا (٨) ، أو أماط (٩) أذى عن الطريق فحسنة بعشر أمثالها ؛ الصّوم جنّة

__________________

(١) المدمج : الشيء المدرج مع ملاسة.

(٢) الطوامير واحدها طومار وطامور ، وهو الصحيفة.

(٣) قال ابن عباس : إنه لأول يوم رئيت فيه النورة ، راجع تاريخ الطبري ١ / ٢٩٢.

(٤) تقدمت ترجمته ، تاريخ مدينة دمشق طبعة دار الفكر ٤٧ / ٢٥٧ رقم ٥٤٨٥.

(٥) تقدمت الرواية في ترجمة عياض ، تاريخ مدينة دمشق ٤٧ / ٢٥٨.

(٦) كذا بالأصل هنا ، وفي الرواية المتقدمة : «تحيفة».

(٧) في الرواية المتقدمة : فساءنا ذلك وسكتنا.

(٨) قوله : «أو عاد مريضا» ليس في الرواية السابقة.

(٩) في الرواية المتقدمة : «أو ماز أذى».

٧٨

ما لم يخرقها ، ومن ابتلاه الله ببلاء في جسده فهو له حطّة» [١٣٧٢٠].

وكان سفيان صحّف اسم امرأة أبي عبيدة فقال : حفتة بالحاء.

قال سليمان بن عامر :

لما قدم عمر بن الخطاب الجابية ، جلس في أمر الناس والقضاء بينهم حتى إذا حان الانصراف فقال : قم يا أبا عبيدة نحو منزلك. فقال : مرحبا وأهلا بأمير المؤمنين ، وتقدّم إلى منزله ، فقال لأهله : هذا أمير المؤمنين ، ثم دخل عمر ، فقالت امرأة أبي عبيدة : مرحبا بك يا أمير المؤمنين وأهلا ، قال عمر : أفلانة؟ قالت : نعم يا أمير المؤمنين. قال عمر : أما والله لأسوءنّك ، قالت : إيّاي تعني يا أمير المؤمنين؟ قال : نعم. والذي نفسي بيده لأسوءنّك ، قالت : والله ما تقدر على ذلك ، فقال عمر : لا! قالت : لا والله. فأشفق أبو عبيدة أن تبدر منه إليها بادرة ، فقال : بلى والله يا أمير المؤمنين ، إن شئت لتفعلنّ. فقالت : كلّا والله ما هو على ذلك بقادر. فقال عمر : لكأنك تدلّين! قالت : إنك لا تستطيع تسلبني الإسلام ، قال : لا والله. قالت : فو الله ما أبالي ما كان بعد ذلك. قال عمر : استغفر الله ، ثم سلّم. قال صفوان : فسألت سليمان بن عامر ما الذي أغضب عمر عليها؟ قال : بلغه أن امرأة طاعية الرّوم حين فتحت دمشق أهدت لها عقد خرز ولؤلؤ وشيء من ذهب ، لعلّه أن يساوي ثلاث مائة درهم. وقد روي أنه لما قدم عمر نزل على أبي عبيدة ، فخرجت بنت أبي عبيدة ، وهي جويرية من داخل إلى عمر ، فجعل عمر يسترسلها الكلام ، ما حليك؟ قالت : كذا وكذا ، قال عمر : حليك الذي تخرجين به؟ فسمعت أمّها من داخل البيت ، فقالت : كأنك تريد التاج ، نعم ، وقد أهدي له تاج ، فقسمه أبو عبيدة بين المسلمين ولم يجعل لنا منه شيئا.

٩٣١٨ ـ تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة (١) بن حصن (٢) بن ضمضم

ابن عديّ بن جناب بن هبل الكلبيّة زوج عبد الرّحمن بن عوف

من أهل دومة الجندل (٣) من أطراف دمشق ، سكنت المدينة ، وأدركت سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرّحمن الفقيه.

__________________

(١) ترجمتها في الإصابة ٤ / ٢٥٥.

(٢) في الإصابة ١ / ١٠٨ الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن حصين (حصن) بن ضمضم.

(٣) دومة الجندل : حصن وقرى بين الشام والمدينة ، على سبع مراحل من دمشق (معجم البلدان).

٧٩

بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل (١) فتخلّف عن الجيش حتى غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه عمامة حرقانيّة (٢) سوداء. فقال له : «ما خلّفك عن أصحابك؟» قال : أحببت أن أكون أخرهم عهدا بك ، فأجلسه ، فنقض عمامته ، وعمّمه بيده ، وأسدلها بين كتفيه قدر شبر ، وقال : «هكذا فاعتمّ يا بن عوف ، اغد باسم الله ، فجاهد في سبيل الله تقاتل من كفر بالله ، إذا لقيت شرفا (٣) فكبّر ، وإذا ظهرت فهلّل ، وإذا هبطت فاحمد واستغفر ، وأكثر من ذكري عسى أن يفتح بين يديك ، فإن فتح على يديك ، فتزوّج بنت ملكهم». وقال بعضهم : بنت شريفهم. وكان الأصبغ بن ثعلبة (٤) شريفهم ، فتزوّج بنته تماضر ، فلمّا قدم بها المدينة رغب القرشيّون في جمالها ، فجعلوا يسترشدونها ، فترشدهم إلى بنات أخواتها وبنات إخوتها.

وتماضر أوّل كلبيّة نكحها قرشي (٥) ، ولم تلد لعبد الرّحمن بن عوف غير أبي سلمة.

قال عبد الرّحمن بن عوف :

لا تسلني امرأة لي طلاقا إلّا طلّقتها ، فأرسلت إليه تماضر تسأل طلاقها ، فقال للرسولة : قولي لها إذا حضت فلتؤذني ، فحاضت ، فأرسلت إليه ، فقال للرسولة : قولي لها : إذا طهرت فلتؤذني ، فطهرت ، فأرسلت إليه في مرضه فقال : وأيضا ، وغضب ، فقال : هي طالق البتّة لا أرجع لها. فلم تمكث إلّا يسيرا حتى مات ، فقال عبد الرّحمن بن عوف : لا أورّث تماضر شيئا. فرفع ذلك إلى عثمان ، فورّثها (٦) ، وكان ذلك في العدة (٧) ، فصالحوها من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفا وما وفوها. وكنّ له أربع نسوة.

حدّث ابن أبي مليكة :

أنه سأل ابن الزّبير عن الرجل يطلّق المرأة فيبينها ثم يموت وهي في عدّتها؟ فقال عبد

__________________

(١) انظر في سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل مغازي الواقدي ٢ / ٥٦٠ وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٨٠ وطبقات ابن سعد ٢ / ٨٩ و ٣ / ١٢٩.

(٢) عمامة حرقانية أي على لون ما أحرقته النار ، وفي سيرة ابن هشام : عمامة من كرابيس سوداء.

(٣) الشرف : بالتحريك ، العلو ، والمكان العالي ، (القاموس).

(٤) كذا ورد هنا : الأصبغ بن ثعلبة» وفي مغازي الواقدي : الأصبغ بن عمرو الكلبي.

(٥) الطبقات الكبرى لا بن سعد ٣ / ١٢٨.

(٦) الإصبة ٤ / ٢٥٥.

(٧) ونقل ابن حجر في الإصابة ٤ / ٢٥٦ من طريق أيوب عن نافع وسعد بن إبراهيم أن عبد الرحمن طلقها ثلاثا فورثها عثمان بعد انقضاء العدة.

٨٠