مختصر المعاني

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

مختصر المعاني

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات دار الفكر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

خاتمة

الفن الثالث (فى السرقات الشعرية وما يتصل بها) مثل الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح (وغير ذلك) مثل القول فى الابتداء والتخلّص والانتهاء.

وانما قلنا ان الخاتمة من الفن الثالث دون ان نجعلها خاتمة للكتاب خارجة عن الفنون الثلاثة كما توهّمه غيرنا لان المصنف قال فى الايضاح فى آخر بحث المحسنات اللفظية.

هذا ما تيسر لى باذن الله جمعه وتحريره من اصول الفن الثالث وبقيت اشياء يذكرها فى علم البديع بعض المصنفين وهو قسمان.

احدهما ما يجب ترك التعرض له لعدم كونه راجعا الى تحسين الكلام او لعدم الفائدة فى ذكره لكونه داخلا فيما سبق من الابواب والثانى مما لا بأس بذكره لاشتماله على فائدة مع عدم دخوله فيما سبق مثل القول فى السرقات الشعرية وما يتصل بها (اتفاق القائلين) على لفظ التثنية (ان كان فى الغرض على العموم كالوصف بالشجاعة والسخاء) وحسن الوجه والبهاء ونحو ذلك (فلا يعدّ) هذا الاتفاق (سرقة) ولا استعانة ولا اخذا ونحو ذلك مما يؤدى هذا المعنى (لتقرره) اى لتقرر هذا الغرض العام في (العقول والعادات) فيشترك فيه الفصيح والاعجم والشاعر والمفحم (وان كان) اتفاق القائلين (في وجه الدلالة) اى طريق الدلالة على الغرض (كالتشبيه والمجاز والكناية وكذكر هيئات تدل على الصفة لاختصاصها بمن هى له) اى لاختصاص تلك الهيئات بمن ثبت تلك الصفة له (كوصف الجواد بالتهلل عند ورود العفاة) اى السائلين جمع عافى (و) كوصف (البخيل بالعبوس) عند ذلك (مع سعة ذات اليد اى المال.

واما العبوس عند ذلك مع قلة ذات اليد فمن اوصاف الاسخياء (فان اشترك الناس فى معرفته) اى فى معرفة وجه الدلالة (لاستقراره فيهما) اى فى العقول

٣٠١

والعادات (كتشبيه الشجاع بالاسد والجواد بالبحر فهو كالاول) اى فالاتفاق في هذا النوع من وجه الدلالة كالاتفاق فى الغرض العام فى انه لا يعد سرقة ولا اخذا (والا) اى وان لم يشترك الناس فى معرفته (جاز ان يدعى فيه) اى فى هذا النوع من وجه الدلالة (السبق والزيادة) بان يحكم بين القائلين فيه بالتفاضل وان احدهما فيه اكمل من الاخر وان الثانى زاد على الاول او نقص عنه.

(وهو) اى ما لا يشترك الناس فى معرفته من وجه الدلالة على الغرض (ضربان) احدهما (خاصى فى نفسه غريب) لا ينال الا بفكر (و) الاخر (عامى تصرف فيه بما اخرجه من الابتذال الى الغرابة كما مر) فى باب التشبيه والاستعارة من تقسيمهما الى الغريب الخاصى والمبتذل العامى الباقى على ابتذاله والمتصرف فيه بما يخرجه الى الغرابة (فالاخذ والسرقة) اى ما يسمى بهذين الاسمين (نوعان ظاهر وغير ظاهر.

اما الظاهر فهو ان يؤخذ المعنى كله اما) حال كونه (مع اللفظ كله او بعضه او) حال كونه (وحده) من غير اخذ شىء من اللفظ (فان اخذ اللفظ كله من غير تغيير لنظمه) اى لكيفية الترتيب والتأليف الواقع بين المفردات (فهو مذموم لانه سرقة محضة ويسمى نسخا وانتحالا كما حكى عن عبد الله بن الزبير انه فعل ذلك بقول معن ابن اوس اذا انت لم تنصف اخاك) اى لم تعطه النصفة ولم توفه حقوقه (وجدته ، على طرف الهجران) اى هاجرا لك متبدّلا بك وباخوتك (ان كان يعقل ويركب حد السيف) اى يتحمل الشدائد تؤثر فيه تأثير السيوف وتقطعه وتقطيعها (من ان تضيمه ،) اى بدلا من ان تظلمه (اذا لم يكن عن شفرة السيف) اى عن ركوب حد السيف وتحمل المشاق (مزحل) اى مبعد.

فقد حكى ان عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشده هذين البيتين فقال له معاوية لقد شعرت بعدى يا ابا بكر ولم يفارق عبد الله المجلس حتى دخل معن بن اوس المزنىّ فانشد قصيدته التى اولها :

لعمرك ما ادرى وانى لاوجل

على اينا تغدو المنية اوّل

٣٠٢

حتى اتمها وفيها هذان البيتان فاقبل معاوية على عبد الله بن الزبير وقال الم تخبرنى انهما لك فقال اللفظ له والمعنى له وبعد فهو اخى من الرضاعة وانا احق بشعره.

(وفى معناه) اى فى معنى ما لم يغيّر فيه النظم (ان يبدل بالكلمات كلها او بعضها ما يرادفها) يعنى انه ايضا مذموم وسرقة محضة كما يقال فى قول الحطية :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فانك انت الطاعم الكاسي

ذر الماثر لا تذهب بمطلبها

واجلس فانك انت الآكل اللابس

كما قال امرىء القيس :

وقوفا بها صحبى علّى مطيهم

يقولون لا تهلك اسى وتجمل

فاورده طرفة فى داليّته الا انه اقام تجلد مقام تجمل (وان كان) اخذ اللفظ كله (مع تغيير لنظمه) اى نظم اللفظ (او اخذ بعض اللفظ) لا كله (سمىّ) هذا الاخذ (اغارة ومسخا) ولا يخلو اما ان يكون الثانى ابلغ من الاول او دونه او مثله (فان كان الثانى ابلغ) من الاول (لاختصاصه بفضيلة) لا توجد فى الاول كحسن السبك او الاختصار او الايضاح او زيادة معنى (فممدوح) اى فالثانى مقبول كقول بشار من راقب الناس) اى حاذرهم (لم يظفر بحاجة وفاز بالطيبات الفاتك اللهج) اى الشجاع القتال الحريص على القتل (وقول سلم) الخاسر بعده (من راقب الناس مات غما) اى حزنا وهو مفعول له او تمييز (وفاز باللذة الجسور) اى الشديد الجرئة فبيت سلم اجود سبكا واخصر لفظا (وان كان) الثانى (دونه) اى دون الاول فى البلاغة لفوات فضيلة توجد فى الاول (فهو) اى الثانى (مذموم كقول ابى تمام) فى مرثية محمد بن حميد (

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

ان الزمان بمثله لبخيل)

وقول ابى الطيب اعدى الزمان سخاؤه) يعنى لعلم الزمان منه السخاء وسرى سخاؤه الى الزمان (فسخا به) واخرجه من العدم الى الوجود ولو لاسخاؤه الذى استفاده منه لبخل به على اهل الدنيا واستبقى لنفسه كذا ذكره ابن جنى وقال ابن

٣٠٣

فورجه هذا تأويل فاسد لان سخاء غير موجود لا يوصف بالعدوى وانما المراد سخا به على وكان بخيلا به على فلما اعداه سخاؤه اسعدنى بضمى اليه وهدايتى له لما اعداه سخاؤه (ولقد يكون به الزمان بخيلا) فالمصراع الثانى مأخوذ من المصراع الثانى لابى تمام على كل من تفسيرى ابن جنى وابن فورجة اذ لا يشترط فى هذا النوع من الاخذ عدم تغاير المعنيين اصلا كما توهمه البعض والا لم يكن مأخوذا منه على تأويل ابن جنى ايضا لان ابا تمام علق البخل بمثل المرثى وابا الطيب بنفس الممدوح هذا ولكن مصراع ابى تمام اجود سبكا لان قول ابى الطيب.

ولقد يكون بلفظ المضارع لم يقع موقعه اذا المعنى على المضى.

فان قيل المراد فقد يكون الزمان بخيلا بهلاكه اى لا يسمح بهلاكه قط لعلمه بانه سبب صلاح العالم والزمان وان سخا بوجوده وبذله للغير لكن اعدامه وافناؤه باق بعد فى تصرفه.

قلنا هذا تقدير لا قرينة عليه وبعد صحته فمصراع ابى تمام اجود لاستغنائه عن مثل هذا التكلف (وان كان) الثانى (مثله) اى مثل الاول (فابعد) اى فالثانى ابعد (من الذم والفضل للاول كقول ابى تمام لو حار) اى تحير فى التوصل الى اهلاك النفوس (مرتاد المنية) اى الطالب الذى هو المنية على انها اضافة بيان (لم يجد ، الا الفراق على النفوس دليلا وقول ابى الطيب لو لا مفارقة الاحباب ما وجدت ، لها المنايا الى ارواحنا سبلا) الضمير في لها لمنية وهو قال من سبلا او المنايا فاعل وجدت وروى يد المنايا فقد اخذ المعنى كله مع لفظ المنية والفراق والوجدان وبدل النفوس بالارواح وان اخذ المعنى وحده سمى) هذا الاخذ (الماما) من الّم اذا قصد واصله من الم بالمنزل اذا نزل به (وسلخا) وهو كشط الجلد عن الشاة ونحوها فكأنه كشط عن المعنى جلد او البسه جلدا آخر فان اللفظ للمعنى بمنزلة اللباس (وهو ثلاثة اقسام كذلك) اى مثل ما يسمى اغارة ومسخا لان الثانى اما ابلغ من الاول او دونه او مثله (اولها) اى اول الاقسام وهو ان يكون الثانى ابلغ من الاول (كقول ابى تمام هو) الضمير للشان (الصنع) اى الاحسان والصنع مبتدأ خبره الجملة الشرطية اعنى قوله

٣٠٤

(إن تعجل فخير وان ترث ،) اى تبطأ (فالريث فى بعض المواضع أنفع) والاحسن ان يكون هو فيه عائدا الى حاضر فى الذهن وهو مبتدأ خبره الصنع والشرطية ابتداء كلام ، وهذا كقول ابى العلاء هو الهجر حتى ما يلم خيال ، وبعض صدود الزائرين وصال ، وهذا نوع من الاعراب لطيف لا يكاد يتنبهه الا الاذهان الراقية من ائمة العرب (وقول ابى الطيب ومن الخير بطوء سيبك) اى تأخر عطائك (عنّى ، اسرع السحب فى المسير الجهام) اى السحاب الذى لا ماء فيه.

واما ما فيه ماء فيكون بطيئا ثقيل المشى فكذا حال العطاء ففى بيت ابى الطيب زيادة بيان لاشتماله على ضرب المثل بالسحاب (وثانيها) اى ثانى الاقسام وهو ان يكون الثانى دون الاول (كقول البحترى واذ تألق) اى لمع (فى الندى) اى فى المجلس (كلامه المصقول) المنقح (خلت) اى حسبت (لسانه من عضبه) اى سيفه القاطع وقول ابى الطيب :

كأنّ السنهم فى النطق قد جعلت

على رماحهم فى الطعن خرصانا

جمع خرص بالضم والكسر هو السنان يعنى ان السنهم عند النطق فى المضاء والنفاذ تشابه اسنتهم عند الطعن فكأن السنهم جعلت اسنة على رماحهم فبيت البحترى ابلغ لما فى لفظى تألق والمصقول من الاستعارة التخييلية فان التألق والصقالة للكلام بمنزلة الاظفار للمنية ولزم من ذلك تشبيه كلامه بالسيف هو استعارة بالكناية.

(وثالثها) اى ثالث الاقسام وهو ان يكون الثانى مثل الاول (كقول الاعرابى) ابى زياد (ولم يك اكثر الفتيان مالا ، ولكن ارحبهم ذراعا) اى اسخاهم ، يقال فلان رحب الباع والذراع ورحبتهما اى سخى (وقول الشجع ليس) اى الممدوح يعنى جعفر بن يحيى (باوسعهم) الضمير للملوك (فى الغنى ولكن معروفه) اى احسانه (اوسع) فالبيتان متماثلان هذا ولكن لا يعجبنى معروفه اوسع (واما غير الظاهر فمنه ان يتشابه المعنيان) اى معنى البيت الاول ومعنى البيت الثانى (كقول جرير فلا يمنعك من ارب) اى حاجة (لحاهم) جمع لحية يعنى كونهم فى صورة (الرجال

٣٠٥

سواء ذو العمامة والخمار) يعنى ان الرجال منهم والنساء سواء فى الضعف.

وقول ابى الطيب :

ومن فى كفه منهم قناة

كمن فى كفه منهم خضاب

) واعلم انه يجوز فى تشابه المعنيين اختلاف البيتين نسيبا ومديحا وهجاء وافتخارا او نحو ذلك.

فان الشاعر الحاذق اذا قصد الى المعنى المختلس لينظمه احتال فى اخفائه فغير لفظه وصرفه عن نوعه ووزنه وقافيته والى هذا اشار بقوله.

(ومنه) اى من غير الظاهر (ان ينقل المعنى الى محل آخر كقول البحترى سلبوا) اى ثيابهم (واشرقت الدماء عليهم ، محمرة فكانهم لم يسلبوا) لان الدماء المشرقة كانت بمنزلة الثياب لهم (وقول ابى الطيب يبس النجيع عليه) اى على السيف (وهو مجرد عن غمده فكأنما هو مغمد) لان الدم اليابس بمنزلة غمد له فنقل المعنى من القتلى والجرحى الى السيف.

(ومنه) اى من غير الظاهر (ان يكون معنى الثانى اشمل) من معنى الاول (كقول جرير اذا غضبت عليك بنو تميم ، وجدت الناس كلهم غضابا) لانهم يقومون مقام كلهم (وقول ابى نؤاس

ليس من الله بمستنكر

ان يجمع العالم فى واحد

) فانه يشمل الناس وغيرهم فهو اشمل من معنى بيت جرير.

(ومنه) اى من غير الظاهر (القلب وهو ان يكون معنى الثانى نقيض معنى الاول كقول ابى الشيص

جد الملامة فى هواك لذيذة

حبا لذكرك فليلمنى اللّوم

وقول ابى الطيبءاحبّه) الاستفهام للانكار باعتبار القيد الذى هو الحال اعنى قوله (واحبّ فيه ملامة ،) كما يقال اتصلى وانت محدث على تجويز واو الحال فى المضارع المثبت كما هو راى البعض او على حذف المبتدا اى وانا احب.

ويجوز ان يكون الواو للعطف والانكار راجع الى الجمع بين الامرين اعنى محبته

٣٠٦

ومحبة الملامة فيه (ان الملامة فيه من اعدائه) وما يصدر عن عدو المحبوب يكون مبغوضا لا محبوبا وهذا نقيض معنى بيت ابى الشيص لكن كل منهما باعتبار آخر ولهذا قالوا الاحسن فى هذا النوع ان يبين السبب.

(ومنه) اى من غير الظاهر (ان يؤخذ بعض المعنى ويضاف اليه ما يحسّنه كقول الافوه فترى الطير على آثارنا ، راى عين) يعنى عيانا (ثقة) حال اى واثقة او مفعول له مما يتضمنه قوله على آثارنا اى كائنة على آثارنا لوثوقها (ان ستمار) اى ستطعم من لحوم من نقتلهم (وقول ابى تمام وقد ظلّلت) اى القى عليها الظل وصارت ذوات ظل (عقبان اعلامه ضحى ، بعقبان طير فى الدماء نواهل) من نهل اذا روى نقيض عطش (اقامت) اى عقبان الطير (مع الرايات) اى لاعلام وثوقا بانها ستطعم لحوم القتلى (حتى كلها من الجيش الا انها لم تقاتل ، (فان ابا تمام لم يلم بشىء من معنى قول الافوه راى عين) الدال على قرب الطير من الجيش بحيث ترى عيانا لا تخيّلا.

وهذا مما يؤكد شجاعتهم وقتلهم الاعادى (ولا) بشىء من معنى (قوله ثقة ان ستمار) الدال على وثوق الطير بالمبرة لاعتيادها بذلك وهذا ايضا مما يؤكد المقصود قيل ان قول ابى تمام وقد ظلّلت المام بمعنى قوله راى عين لان وقوع الظل على الرايات مشعر بقربها من الجيش.

وفيه نظر اذ قد يقع ظل الطير على الراية وهو فى جو السماء بحيث لا يرى اصلا.

نعم لو قيل ان قوله حتى كانها من الجيش المام بمعنى قوله راى عين فانما تكون من الجيش اذا كانت قريبا منهم مختلطا بهم لم يبعد عن الصواب (لكن زاد) ابو تمام (عليه) اى على الافوه زيادات محسنة للمعنى المأخوذ من الافوه اعنى تساير الطير على آثارهم (بقوله الا انها لم تقاتل وبقوله فى الدماء نواهل وباقامتها مع الرايات حتى كانها من الجيش وبها) اى وباقامتها مع الرايات حتى كانها من الجيش (تيم حسن الاول) يعنى قوله الا انها لم تقاتل لانه لا يحسن الاستدراك الذى

٣٠٧

هو قوله الا انها لم تقاتل ذلك الحسن الا بعد ان يجعل الطير مقيمة مع الرايات معدودة فى عداد الجيش حتى يتوهم انها ايضا من المقاتلة ، هذا هو المفهوم من الايضاح.

وقد قيل معنى قوله وبها اى بهذه الزيادات الثلاث يتم حسن معنى البيت الاول (واكثر هذه الانواع) المذكورة لغير الظاهر (ونحوها مقبولة) لما فيها من نوع تصرف.

(ومنها) اى من هذه الانواع (ما يخرجه حسن التصرف من قبيل الاتباع الى حيز الابتداع وكل ما كان اشد خفاء) بحيث لا يعرف كونه مأخوذا من الاول الا بعد مزيد تأمل (كان اقرب الى القبول) لكونه ابعد عن الاتباع وادخل فى الابتداع (هذا) اى الذى ذكر فى الظاهر وغيره من ادعاء سبق احدهما واخذ الثانى منه وكونه مقبولا او مردودا وتسمية كل بالاسامى المذكورة (كله) انما يكون (اذا علم ان الثانى اخذ من الاول) بان يعلم انه كان يحفظ قول الاول حين نظم او بان يخبر هو عن نفسه انه اخذ منه والا فلا يحكم بشىء من ذلك (لجواز ان يكون الاتفاق) فى اللفظ والمعنى جميعا او فى المعنى وحده (من قبيل توارد الخواطر) اى مجيئه (على سبيل الاتفاق من غير قصد الى الاخذ) كما يحكى عن ابن ميّادة انه انشد لنفسه ، مفيد ومتلاف اذا ما اتيته ، تهلل واهتز اهتزاز المهنّد فقيل له اين يذهب بك هذا للحطيئة ، فقال الان علمت انى شاعر اذا وافقته على قوله ولم اسمعه (فاذا لم يعلم) ان الثانى اخذ من الاول.

(قيل قال فلان كذا وقد سبقه اليه فلان فقال كذا) ليغتنم بذلك فضيلة الصدق ويسلم من دعوى علم الغيب ونسبة النقص الى الغير (ومما يتصل بهذا) اى بالقول فى السرقات (القول فى الاقتباس والتضمين والعقد والحل والتلميح) بتقديم اللام على الميم من لمحه اذا ابصره وذلك لان فى كل منها اخذ شىء من الاخر (اما الاقتباس فهو ان يضمّن الكلام) نظما كان او نثرا (شيئا من القرآن او الحديث لا على انه منه) اى لا على طريقة ان ذلك الشىء من القرآن او الحديث يعنى على وجه لا يكون فيه اشعار بانه منه كما يقال فى اثناء الكلام قال الله تعالى كذا وقال

٣٠٨

النبى عليه السلام كذا ونحو ذلك فانه لا يكون اقتباسا.

ومثل للاقتباس باربعة امثلة لانه اما من القرآن او الحديث وكل منهما اما فى النثر او فى النظم.

فالاول (كقول الحريرى فلم يكن الا كلمح البصر او هو اقرب حتى انشد واغرب ،).

والثانى مثل (قول الاخر ان كنت ازمعت) اى عزمت (على هجرنا ، من غير ما جرم فصبر جميل ، وان تبدّلت بنا غيرنا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل و) الثالث مثل (قول الحريرى قلنا شاهت الوجوه) اى قبحت وهو لفظ الحديث على ما روى انه لما اشتد الحرب يوم حنين اخذ النبى صلّى الله تعالى عليه وسلم كفا من الحصاء فرمى به وجوه المشركين وقال شاهت الوجوه (وقبح) على المبنى للمفعول اى لعن من قبحه الله بالفتح اى ابعده عن الخير (اللكع) اى لعن اللئيم.

(و) الرابع مثل (قول ابن عباد قال) اى الحبيب (لى ان رقيبى سىء الخلق فداره ،) من المداراة وهى الملاطفة والمجاملة وضمير المفعول للرقيب (قلت دعنى وجهك الجنة حفت بالمكاره) اقتباسا من قوله عليه السلام حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات اى احيطت يعنى لابد لطالب جنة وجهك من تحمل مكاره الرقيب كما انه لا بد لطالب الجنة من مشاق التكاليف.

(وهو) اى الاقتباس (ضربان) احدهما (ما لم ينقل فيه المقتبس عن معناه الاصلى كما تقدم) من الامثلة (و) الثانى (خلافه) اى ما نقل فيه المقتبس عن معناه الاصلى (كقول ابن الرومى لئن اخطأت فى مدحك ما اخطأت فى منعى ، لقد انزلت حاجاتى بواد غير ذى زرع) هذا مقتبس من قوله تعالى (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) لكن معناه فى القرآن واد لا ماء فيه ولا نبات وقد نقله ابن الرومى الى جناب لا خير فيه ولا نفع (ولا بأس بتغيير يسير) فى اللفظ المقتبس (للوزن او غيره كقوله) اى كقول بعض المغاربة (قد

٣٠٩

كان) اى وقع (ما خفت ان يكونا ، انا الى الله راجعونا) وفى القرآن (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (واما التضمين فهو ان يضمن الشعر شيئا من شعر الغير) بيتا كان او ما فوقه او مصراعا او مادونه (مع التنبيه عليه) اى على انه من شعر الغير (ان لم يكن ذلك مشهورا عند البلغاء).

وبهذا يتميز عن الاخذ والسرقة (كقوله) اى كقول الحريرى يحكم ما قاله الغلام الذى عرضه ابو زيد للبيع (على انى سأنشد عند بيعى ، اضاعونى واى فتى اضاعوا) المصراع الثانى للعرجى ، ونمامه ليوم كريهة وسداد ثغر اللام فى ليوم لام التوقيت والكريهة من اسماء الحرب وسداد الثغر بكسر السين لا غير سدّه بالخير والرجال والثغر موضع للمخافة من فروج البلدان اى اضاعونى فى وقت الحرب وزمان سد الثغور ولم يراعوا حقى احوج ما كانوا الى واى فتى اى كاملا من الفتيان اضاعوا.

وفيه تنديم وتخطئة لهم وتضمين المصراع بدون التنبيه لشهرته كقول الشاعر قد قلت لما اطلعت وجناته ، حول الشقيق الغض روضة آس ، اعذاره السارى العجول توقفا ، ما فى وقوفك ساعة من بأس المصراع الاخير لابى تمام (واحسنه) اى احسن التضمين (مازاد على الاصل) اى شعر الشاعر الاول (بنكتة) لا توجد فيه (كالتورية) اى الايهام (والتشبيه فى قوله اذا الوهم ابدى) اى اظهر (لى لماها) اى سمرة شفتيها (وثغرها ، تذكرت ما بين العذيب وبارق ويذكرنى) من الاذكار (من قدّها ومدامعى ، مجرّ عوالينا ومجرى السوابق) انتصب مجر على انه مفعول ثان ليذكرنى وفاعله ضمير يعود الى الوهم.

وقوله تذكرت ما بين العذيب وبارق ، مجر عوالينا ومجرى السوابق مطلع قصيدة لابى الطيب ، والعذيب وباريق موضعان وما بين ظرف للتذكر او للمجر والمجرى قدم اتساعا فى تقديم الظرف على عامله المصدر او ما بين مفعول تذكرت ومجر بدل عنه والمعنى انهم كانوا نزولا بين هذين الموضعين وكانوا يجرون الرماح عند مطارده الفرسان ويسابقون على الخيل.

٣١٠

فالشاعر الثانى اراد بالعذيب تصغير العذب يعنى به شفة الحبيبة ويبارق ثغرها الشبيهة بالبرق وبما بينهما ريقها.

وهذا تورية وشبه تبختر قدها بتمايل الرمح وتتابع دموعه بجريان الخيل السوابق (ولا يضر) فى التضمين (التغيير اليسير) لما قصد تضمينه ليدخل فى معنى الكلام كقول الشاعر فى يهودى به داء الثعلب اقول لمعشر غلطوا وغضوا ، من الشبخ الرشيد وانكروه ، هو ابن جلا وطلّاع الثنايا ، متى يضع العمامة يعرفوا ، البيت لسحيم بن وشيل واصله اما ان جلا على طريقة التكلم فغيره الى طريقة الغيبة ليدخل فى المقصود.

(وربما سمعى تضمين البيت فيما زاد على البيت استعانة وتضمين المصراع فما دونه ايداعا) كانه اودع شعره شيئا قليلا من شعر الغير (ورفوا) كانه رفا خرق شعره بشىء من شعر الغير.

(واما العقد فهو ان ينظم نثرا) قرآنا كان او حديثا او مثلا او غير ذلك (لا على طريق الاقتباس) يعنى ان كان النثر قرآنا او حديثا فنظمه انما يكون عقدا اذا غير تغييرا كثيرا او اشير الى انه من القرآن او الحديث وان كان غير القرآن او الحديث فنظمه عقد كيف ما كان اذ لا دخل فيه للاقتباس.

(كقوله ما بال من اوله نطفة ، وجيفة آخره يفخر) الجملة حال اى ما باله مفتخرا (عقد قول) على رضى الله عنه وما لابن آدم الفخر وانما اوّله نطفة وآخره جيفة (واما الحل فهو ان ينثر نظما) وانما يكون مقبولا اذا كان سبكه مختارا لا يتقاصر عن سبك النظم وان يكون حسن الموقع غير قلق (كقول بعض المغاربة فانه لما قبحت فعلاته وحنظلت نخلاته) اى صارت ثمار نخلاته كالحنظل فى المرارة (لم يزل سوء الظن يقتاده) اى يقوده الى تخيلات فاسدة وتوهمات باطلة (ويصدق) هو (توهمه الذى يعتاده) من الاعتياد (حل قول ابى الطيب

اذا ساء فعل المرء سائت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهم

يشكو سيف الدولة واستماعه لقول اعدائه.

٣١١

(واما التلميح) صح بتقديم اللام على الميم من لمحه اذا ابصره ونظر اليه وكثيرا ما تسمعهم يقولون لمح فلان هذا البيت فقال كذا وفى هذا البيت تلميح الى قول فلان واما التلميح بتقديم الميم على اللام بمعنى الاتيان بالشىء المليح كما مر فى التشبيه والاستعارة فهو ههنا غلط محض وان اخذ مذهبا (فهو ان يشار) فى فحوى الكلام (الى قصة او شعر) او مثل سائر (من غير ذكره) اى ذكر كل واحد من القصة او الشعر وكذا المثل فالتلميح اما فى النظم او فى النثر والمشار اليه فى كل منهما اما ان يكون قصة او شعرا او مثلا تصير ستة اقسام والمذكور فى الكتاب مثل التلميح فى النظم الى القصة والشعر (كقوله فو الله ما ادرى أحلام نائم ، المت بنا ام كان فى الركب يوشع) وصف لحوقه بالاحبة المرتحلين وطلوع شمس وجه الحبيب من جانب الخدر فى ظلمة الليل.

ثم استعظم ذلك واستغرب وتجاهل تحيرا وتدّلها وقال ا هذا حلم اراه فى النوم ، ام كان فى الركب يوشع ، النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.

فرد الشمس (اشارة الى قصة يوشع عليه السلام واستيقافه الشمس) على ما روى من انه قاتل الجبارين يوم الجمعة فلما ادبرت الشمس خاف ان تغيب قبل ان يفرغ منهم ويدخل السبت فلا يحل له قتالهم فيه فدعا الله تعالى فرد له الشمس حتى فرغ من قتالهم (وكقوله لعمرو) واللام للابتداء وهو مبتدأ (مع الرمضاء) اى الارض الحارة التى ترمض فيها القدم اى تحترق حال من الضمير فى ارقّ (والنار) مرفوع معطوف تعلى عمروا او مجرور معطوف على الرمضاء (تلتظى) حال منها وما قيل انها صلة على حذف الموصول اى النار التى تلتظى تعسف لا حاجة اليه (ارقّ) خبر المبتدأ من رق له اذا رحمه.

(واخفى) من خفى عليه تلطف وتشقّق (منك فى ساعة الكرب ، اشار الى البيت المشهور) وهو قوله (المستجير) اى المستغيث (بعمر وعند كربته) الضمير للموصول اى الذى يستغيث عند كربته بعمرو (كالمستجير من الرمضاء بالنار) وعمرو هو جساس بن مرة وذلك لانه لما رمى كليبا ووقف فوق رأسه قال له كليب يا

٣١٢

عمرو اغثنى بشربة ماء فاجهز عليه فقيل المستجير بعمرو البيت.

٣١٣
٣١٤

فصل

من الخاتمة فى حسن الابتداء والتخلص والانتهاء (ينبغى للمتكلم) شاعرا كان او كاتبا (ان يتأنق) اى يتبع الانق والاحسن يقال تأنق فى الروضة اذا وقع فيها متتبعا لما يونقه اى يعجبه (فى ثلاثة مواضع من كلامه حتى تكون) تلك المواضع الثلاثة اعذب لفظا) بان تكون فى غاية البعد عن التنافر والثقل (واحسن سبكا) بان تكون فى غاية البعد عن التعقيد والتقديم والتأخير الملبس وان تكون الالفاظ متقاربة فى الجزلة والمتانة والرقة والسلاسة وتكون المعانى مناسبة لا لفظها من غير ان تكتسى اللفظ الشريف المعنى السخيف او على العكس بل يصاغان صياغة تناسب وتلاؤم (واصح معنى) بان يسلم من التناقض والامتناع والابتذال ومخالفة العرف ونحو ذلك.

(احدها الابتداء) لانه اول ما يقرع السمع فان كان عذبا حسن السبك صحيح المعنى اقبل السامع على الكلام فوعى جميعه والا عرض عنه وان كان الباقى فى غاية الحسن فالابتداء الحسن فى تذكار الاحبة والمنازل (كقوله

قفانبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل)

السقط منقطع الرمل حيث يدقه واللوى رمل معوج ملتوى والدخول وحومل موضعان والمعنى بين اجزاء الدخول (و) فى وصف الدال (كقوله :

قصر عليه تحية وسلام

خلعت عليه جمالها الايام)

خلع عليه اى نزع ثوبه وطرحه عليه.

(و) ينبغى (ان يجتنب فى المديح مما يتطير به) اى يتشأم به (كقوله موعدا حبابك بالفرقة غد) ، مطلع قصيدة لابن مقاتل الضرير أنشدها للداعى العلوى فقال له الداعى موعد أحبابك يا اعمى ولك المثل السوء (واحسنه) اى أحسن الابتدا (ما ناسب المقصود) بأن يشتمل على إشارة إلى ما سبق الكلام لأجله ،

٣١٥

(ويسمى) كون الإبتداء مناسبا للمقصود (براعة الاستهلال) من برع الرّجل : إذا فاق أصحابه في العلم أو غيره (كقوله فى التهنئة : بشرى فقد أنجز الاقبال ما وعدا) وكوكب المجد في افق العلى صعدا مطلع قصيدة لأبي محمّد الخازن يهنّئ الصاحب بولد لا بنته.

(وقوله فى المرثية هى الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار) اى احذر (من بطشى) اى أخذي الشديد (وفتكى) أى قتلي فجأة مطلع قصيدة لأبي الفرج الساوي يرثي فخر الدولة (وثانيها) أى ثاني المواضع التي ينبغي للمتكلّم أن يتأنق فيها (التخلص) أي الخروج (مما شببّ الكلام به) أى ابتدأ وافتتح قال الإمام الواحدي رحمه الله معنى التشبيب ذكر أيّام الشباب واللهو والغزل وذلك يكون فى ابتداء قصائد الشعر فسمى ابتداء كل امر تشبيبا وان لم يكن فى ذكر الشباب (من تشبيب) الى وصف للجمال (وغيره) كالأدب والافتخار والشكاية وغير ذلك (الى المقصود مع رعاية الملائمة بينهما) اى بين ما شبب به الكلام وبين المقصود واحترز بهذا عن الاقتضاب وأراد بقوله التخلّص معناه اللغوي وإلا فالتخلّص فى العرف هو الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة.

وإنّما ينبغي أن يتأنّق في التخلص لأنّ السامع يكون مترقبا الانتقال من الافتتاح إلى المقصود كيف يكون ، فان كان حسنا متلائم الطرفين حرّك من نشاطه وأعان على اصغاء ما بعده وإلا فبالعكس فالتخلّص الحسن. (كقوله يقول فى قومس) اسم موضع قومى وقد اخذت منا السرى اى اثر فينا السير بالليل ونقصّ من قوانا (وخطى المهرية) عطف على السرى لا على المجرور في منا كما سبق إلى بعض الأوهام وهي جمع خطوة وأراد بالمهرية الابل المنسوبة الى مهر ابن حيدان أبي قبيلة (القود) أي الطويلة الظهور والاعناق جمع اقود اي اثرت فينا مزاولة السرى ومسايرة المطايا بالخطى ومفعول يقول هو قوله (امطلع الشمس تبغى) أي تطلب (ان تؤم) أي تقصد (بنا فقلت كلا) ردع للقوم وتنبيه (ولكن مطلع الجود وقد ينتقل منه) او مما شبب به الكلام (الى ما لا يلائمه ويسمى) ذلك الانتقال (الاقتضاب)

٣١٦

وهو في اللغة الاقتطاع والارتجال (وهو) أى الاقتضاب (مذهب العرب الجاهلية ومن يليهم من المخضرمين) بالخاء والضاد المعجمتين أي الذين أدركوا الجاهليّة والاسلام مثل لبيد. قال في الأساس ناقة مخضرمة أي جذع نصف اذنها ومنه المخضرم الذي أدرك الجاهلية والاسلام كأنما قطع نصفه حيث كان في الجاهلية (كقوله لو رأى الله ان فى الشيب خيرا ، جاورته الابرار فى الخلد شيبا) جمع أشيب وهو حال من الابرار ، ثمّ انتقل من هذا الكلام إلى ما لا يلائمه فقال :

(كل يوم تبدى) أى تظهر (صروف الليالى ، خلقا من أبى سعيد غريبا) ثمّ كون الاقتضاب مذهب العرب والمخضرّمين أى دأبهم وطريقتهم لا ينافي أن يسلكه الاسلاميون ويتبعونهم في ذلك فانّ البيتين المذكورين لأبي تمام وهو من الشعراء الإسلامية في الدولة العباسيّة ، وهذا المعنى مع وضوحه قد خفى على بعضهم حتى اعترض على المصنف بأن أبا تمام لم يدرك الجاهليّة فكيف يكون من المخضرّمين.

(ومنه) أي من الاقتضاب (ما يقرب من التخلص) في أنّه يشوبه شيىء من المناسبة (كقولك بعد حمد الله اما بعد) فانّه كان كذا وكذا فهو اقتضاب من جهة الانتقال من الحمد والثناء إلى كلام آخر من غير رعاية ملائمة بينهما لكنه يشبه التخلّص حيث لم يأت بالكلام الآخر فجأة من غير قصد إلى ارتباط وتعليق بما قبله بل قصد نوع من الربط على معنى مهما يكون من شيىء بعد الحمد والثناء فانّه كان كذا وكذا (قيل وهو) أى قولهم بعد حمد الله أما بعد.

هو (فصل الخطاب) قال ابن الأثير والذي اجمع عليه المحققون من علماء البيان ان فصل الخطاب هو اما بعد لأنّ المتكلّم يفتتح كلامه في كلّ امر ذي شأن بذكر الله وتحميده فاذا أراد أن يخرج منه إلى الغرض المسوق له فصلّ بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله اما بعد ، وقيل فصل الخطاب معناه الفاصل من الخطاب أي الذي يفصل بين الحق والباطل على أنّ المصدر بمعنى الفاعل ، وقيل المفصول من الخطاب وهو الذي يتبينه من يخاطب به أي يعلمه بيّنا لا يلتبس عليه فهو بمعنى المفعول.

(وكقوله) تعالى عطف على قوله كقولك بعد حمد الله يعنى من الاقتضاب

٣١٧

القريب من التخلّص ما يكون بلفظ هذا كما في قوله تعالى بعد ذكر اهل الجنة (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) فهو اقتضاب فيه نوع مناسبة وارتباط لأنّ الواو للحال ولفظ هذا اما خبر مبتدأ محذوف (اى الامر هذا) والحال كذا (او) مبتدأ محذوف الخبر اى (هذا كما ذكر) وقد يكون الخبر مذكورا (مثل قوله تعالى) بعد ما ذكر جمعا من الانبياء عليهم السلام وأراد أن يذكر بعد ذالك الجنة واهلها (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) باثبات الخبر اعنى قوله ذكر وهذا مشعر بأنه في مثل قوله تعالى (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) مبتدأ محذوف الخبر ، قال ابن الاثير لفظ هذا في هذا المقام من الفصل الذي هو احسن من الوصل وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر ، (ومنه) أي من الاقتضاب القريب من التخلّص (قول الكاتب) هو مقابل للشاعر عند الانتقال من حديث إلى آخر (هذا باب) فان فيه نوع ارتباط حيث لم يبتدئ الحديث الآخر بغتة.

(وثالثها) اى ثالث المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنّق فيها (الانتهاء) لانّه آخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس فان كان حسنا مختارا تلقاء السمع واستلذه حتى جبر ما وقع فيما سبقه من التقصير وإلا لكان على العكس حتّى ربما أنساه المحاسن الموردة فيما سبق فالانتهاء الحسن (كقوله وانى جدير) اى خليق (اذ بلغتك بالمنى) أي جدير بالفوز بالاماني (وانت بما املت منك جدير ، فان تولنى) اي تعطني (منك الجميل فاهله) أي فأنت أهل لاعطاء ذلك الجميل (والا فاني عاذر) اياك عمّا صدر عنى من الابرام (وشكور) لما صدر عنك من الاصغاء إلى المديح أو من العطايا السالفة.

(واحسنه) أي أحسن الانتهاء (ما اذن بانتهاء الكلام) حتى لا يبقى للنفس تشوّق إلى ما وراءه (كقوله بقيت بقاء الدهر يا كهف اهله ، وهذا دعاء للبرية شامل) لأن بقاءك سبب لنظام امرهم وصلاح حالهم ، وهذه المواضع الثلاثة مما يبالغ المتأخرون في التأنق فيها واما المتقدمون فقد قلّت عنايتهم بذلك (وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأكملها) من البلاغة لما فيها من التفنن

٣١٨

وأنواع الاشارة وكونها بين أدعية ووصايا ومواعظ وتحميدات وغير ذلك مما وقع موقعه وأصاب نحره بحيث تقصر عن كنه وصفه العبارة وكيف لا وكلام الله سبحانه وتعالى في الرتبة العليا من البلاغة والغاية القصوى من الفصاحة ، ولما كان هذا المعنى مما قد يخفى على بعض الأذهان لما في بعض الفواتح والخواتم من ذكر الاهوال والافزاع وأحوال الكفار وأمثال ذلك اشار إلى إزالة هذا الخفاء بقوله (يظهر ذلك بالتامل مع التذكر لما تقدم) من الاصول والقواعد المذكورة في الفنون الثلاثة التي لا يمكن الاطلاع على تفاصيلها وتفاريقها الا لعلّام الغيوب فانه يظهر بتذكّرها ان كلا من ذلك وقع موقعه بالنظر إلى مقتضيات الاحوال وان كلا من السور بالنسبة إلى المعنى الذي يتضمنه مشتملة على لطف الفاتحة ومنطوية على حسن الخاتمة ختم الله تعالى لنا بالحسن ويسر لنا الفوز بالذخر الاسنى بحق النبي وآله الأكرمين والحمد لله ربّ العالمين.

٣١٩
٣٢٠