مختصر المعاني

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]

مختصر المعاني

المؤلف:

مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: منشورات دار الفكر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمدك يا من شرح صدورنا لتلخيص البيان في ايضاح المعانى ، ونور قلوبنا بلوامع التبيان من مطالع المثاني ، ونصلي على نبيك محمد المؤيد دلائل اعجازه باسرار البلاغة ، وعلى آله واصحابه المحرزين قصبات السبق في مضمار الفصاحة والبراعة.

(وبعد) فيقول الفقير الى الله الغني ، مسعود بن عمر المدعو بسعد التفتازاني ، هداه الله سواء الطريق ، واذاقه حلاوة التحقيق ، اني قد شرحت فيما مضى تلخيص المفتاح ، واغنيته بالاصباح عن المصباح ، واودعته غرائب نكت سمحت بها الانظار ، ووشحته بلطائف فقر سبكتها يد الافكار ، ثم رأيت الجمع الكثير من الفضلاء ، والجم الغفير من الاذكياء ، يسألونني صرف الهمة نحو اختصاره ، والاقتصار على بيان معانيه وكشف استاره ، لما شاهدوا من ان المحصلين قد تقاصرت همهم عن استطلاع طوالع انواره ، وتقاعدت عزائمهم عن استكشاف خبيئات اسراره ، وان المنتحلين قد قلّبوا احداق الاخذ والانتهاب ، ومدوا اعناق المسخ على ذلك الكتاب.

وكنت اضرب عن هذا الخطب صفحا ، واطوى دون مرامهم كشحا ، علما مني بان مستحسن الطبايع باسرها ، ومقبول الاسماع عن آخرها ، امر لا يسعه مقدرة

٥

البشر ، وانما هو شأن خالق القوى والقدر ، وان هذا الفن قد نضب اليوم ماؤه فصار جدالا بلا اثر ، وذهب رواؤه فعاد خلافا بلا ثمر ، حتى طارت بقية آثار السلف ادراج الرياح ، وسالت باعناق مطايا تلك الاحاديث البطاح ، واما الاخذ والانتهاب فامر يرتاح له اللبيب ، وللارض من كأس الكرام نصيب ، وكيف ينهر عن الانهار السائلون ، ولمثل هذا فليعمل العاملون.

ثم ما زادتهم مدافعتي الا شغفا وغراما ، وظمأ في هواجر الطلب واواما ، فانتصبت لشرح الكتاب على وفق مقترحهم ثانيا ، ولعنان العناية نحو اختصار الاول ثانيا ، مع جمود القريحة بصر البليات ، وخمود الفطنة بصر صر النكبات ، وترامى البلدان بي والاقطار ، ونبوّ الاوطان عني والاوطار.

حتى طفقت اجوب كل اغبر قاتم الارجاء ، واحرر كل سطر منه في شطر من الغبراء ، يوما بالجزوى ويوما بالعقيق ويوما بالعذيب ويوما بالخليصاء ، ولما وفقت بعون الله تعالى للاتمام ، وقوضت عنه خيامه بالاختتام ، بعد ما كشفت عن وجوه خرائده اللثام ، ووضعت كنوز فرائده على طرف الثام ، سعد الزمان وساعد الاقبال ، ودنا المنى واجابت الآمال ، وتبسم في وجه رجائي المطالب ، بان توجهت تلقاء مدين المآرب حضرة من انام الانام في ظل الامان ، وافاض عليهم سجال العدل والاحسان ، ورد بسياسته القرار الى الاجفان ، وسد بهيبته دون يأجوج الفتنة طرق العدوان ، واعاد رميم الفضائل والكمالات منشورا ، ووقع باقلام الخطّيات على صحائف الصفائح لنصرة الاسلام منشورا.

وهو السلطان الاعظم ، مالك رقاب الامم ، ملاذ سلاطين العرب والعجم ، ملجأ صناديد ملوك العالم ، ظل الله على بريته ، وخليفته في خليقته ، حافظ البلاد ، ناصر العباد ، ماحي ظلم الظلم والعناد ، رافع منار الشريعة النبوية ، ناصب رايات العلوم الدينية ، خافض جناح الرحمة لاهل الحق واليقين ، مادّ سرادق الامن بالنصر العزيز والفتح المبين كهف الانام ملاذ الخلائق قاطبة ظل الاله جلال الحق والدين ، ابو المظفر السلطان محمود جاني بك خان ، خلد الله سرادق عظمته وجلاله ، وادام رواء نعيم

٦

الامال من سجال افضاله ، فحاولت بهذا الكتاب التشبث باذيال الاقبال ، والاستظلال بظلال الرأفة والافضال ، فجعلته خدمة لسدته التي هي ملتثم شفاه الاقيال ومعول رجاء الآمال ومثوى العظمة والجلال ، لا زالت محط رجال الافاضل ، وملاذ ارباب الفضائل ، وعون الاسلام وغوث الانام ، بالنبي وآله عليه وعليهم السلام ، فجاء بحمد الله كما يروق النواظر ، ويجلو صداء الاذهان ، ويرهق البصائر ، ويضيء لباب ارباب البيان ، ومن الله التوفيق والهداية ، وعليه التوكل في البداية والنهاية ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد هو الثناء باللسان على قصد التعظيم سواء تعلق بالنعمة او بغيرها ، والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما سواء كان باللسان او بالجنان او بالاركان ، فمورد الحمد لا يكون الا اللسان ومتعلقه يكون النعمة وغيرها ومتعلق الشكر لا يكون الا النعمة ومورده يكون اللسان وغيره فالحمد اعم من الشكر باعتبار المتعلق واخص منه باعتبار المورد والشكر بالعكس.

لله هو اسم للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد ، والعدول الى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والثبات ، وتقديم الحمد باعتبار انه اهم نظر الى كون المقام مقام الحمد كما ذهب اليه صاحب الكشاف في تقديم الفعل في قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) على ما سيجيء بيانه ، وان كان ذكر الله اهم نظرا الى ذاته.

(على ما انعم) اى على انعامه ، ولم يتعرض للمنعم به ايهاما لقصور العبارة عن الاحاطة به ولئلا يتوهم اختصاصه بشيء دون شيء.

وعلّم من عطف الخاص على العام رعاية لبراعة الاستهلال وتنبيها على فضيلة نعمة البيان (من البيان) بيان لقوله ما لم نعلم قدم رعاية للسجع ، والبيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير والصلاة على سيدنا محمد خير من نطق بالصواب وافضل من اوتى الحكمة هي علم الشرائع وكل كلام وافق الحق ، وترك فاعل الايتاء لان هذا الفعل لا يصلح الا لله تعالى وفصل الخطاب اي الخطاب المفصول البين الذى يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه او الخطاب الفاصل بين الحق والباطل وعلى آله اصله اهل بدليل اهيل ، خص استعماله في الاشراف واولى الخطر (الاطهار) جمع طاهر كصاحب واصحاب وصحابته الاخيار جمع خيّر بالتشديد.

(اما بعد) هو من الظروف المبنية المنقطعة عن الاضافة اي بعد الحمد والصلاة ، والعامل فيه اما لنيابتها عن الفعل ، والاصل مهما يكن من شيء بعد الحمد

٩

والصلاة ، ومهما ههنا مبتدأ والاسمية لازمة للمبتدأ ويكن شرط والفاء لازمة له غالبا فحين تضمنت اما معنى الابتداء والشرط لزمتها الفاء ولصوق الاسم اقامة للازم مقام الملزوم وابقاء لاثره في الجملة.

(فلما) هو ظرف بمعنى اذا يستعمل استعمال الشرط ويليه فعل ماض لفظا او معنى (كان علم البلاغة) هو المعانى والبيان (و) علم (توابعها) هو البديع (من اجل العلوم قدرا وادقها سرا اذبه) اي بعلم البلاغة وتوابعها لا بغيره من العلوم كاللغة والصرف والنحو (تعرف دقايق العربية واسرارها) فيكون من ادق العلوم سرا.

(ويكشف عن وجوه الاعجاز في نظم القرآن استارها) اى : به يعرف ان القرآن معجز لكونه في اعلى مراتب البلاغة لاشتماله على الدقائق والاسرار والخواص الخارجة عن طوق البشر وهذا وسيلة الى تصديق النبي عليه السلام ، وهو وسيلة الى الفوز بجميع السعادات فيكون من اجل العلوم لكون معلومه وغايته من اجل المعلومات والغايات.

وتشبيه وجوه الاعجاز بالاشياء المحتجبة تحت الاستار استعارة بالكناية واثبات الاستار لها استعارة تخييلية وذكر الوجوه ايهام او تشبيه الاعجاز بالصور الحسنة استعارة بالكناية واثبات الوجوه استعارة تخييلية ، وذكر الاستار ترشيح ونظم القرآن تأليف كلماته ، مترتبة المعانى ، متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل لا تواليها فى النطق وضم بعضها الى بعض كيف ما اتفق.

(وكان القسم الثالث من مفتاح العلوم الذي صنفه الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكي اعظم ما صنف فيه) اى فى علم البلاغة وتوابعها (من الكتب المشهورة) بيان لما صنف.

(نفعا) تميز من اعظم (لكونه) اى القسم الثالث (احسنها) اى احسن الكتب المشهورة (ترتيبا) هو وضع كل شيء فى مرتبته (و) لكونه (اتّمها تحريرا) هو تهذيب الكلام (واكثرها) اى اكثر الكتب (للاصول) هو متعلق بمحذوف يفسره قوله (جمعا) لان معمول المصدر لا يتقدم عليه والحق جواز ذلك فى الظروف لانها مما يكفيه رائحة

١٠

من الفعل.

(ولكن كان) اى القسم الثالث (غير مصون) اى غير محفوظ (عن الحشو) وهو الزائد المستغنى عنه (والتطويل) وهو الزيادة على اصل المراد بلا فائدة وستعرف الفرق بينهما فى باب الاطناب (والتعقيد) وهو كون الكلام مغلقا لا يظهر معناه بسهولة (قابلا) خبر بعد خبر اى كان قابلا (للاختصار) لما فيه من التطويل (مفتقرا) اى محتاجا (الى الايضاح) لما فيه من التعقيد (و) الى (التجريد) عما فيه من الحشو.

(الفت) جواب لما (مختصرا يتضمن ما فيه) اى فى القسم الثالث (من القواعد) جمع قاعدة وهى «حكم كلى ينطبق على جميع جزئياته ليعرف احكامها منه كقولنا كل حكم منكر يجب توكيده.

(ويشتمل على ما يحتاج اليه من الامثلة) وهى الجزئيات المذكورة لايضاح القواعد (والشواهد) وهى الجزئيات المذكورة لاثبات القواعد فهى اخص من الامثلة.

(ولم آل) من الالو وهو التقصير (جهدا) اى اجتهادا وقد استعمل الالو فى قولهم لا آلوك جهدا متعديا الى مفعولين وحذف ههنا المفعول الاول والمعنى لم امنعك جهدا (فى تحقيقه) اى فى المختصر يعنى فى تحقيق ما ذكر فيه من الابحاث (وتهذيبه) اى تنقيحه.

(ورتبته) أي المختصر (ترتيبا اقرب تناولا) اى اخذا (من ترتيبه) اى من ترتيب السكاكى او القسم الثالث اضافة للمصدر الى الفاعل او المفعول (ولم ابالغ فى اختصار لفظه تقريبا) مفعول له لما تضمنه معنى لم ابالغ اى تركت المبالغة فى الاختصار تقريبا (لتعاطيه) اى تناوله (وطلبا لتسهيل فهمه على طالبيه) والضمائر للمختصر وفى وصف مؤلفه بانه مختصر منقح سهل المأخذ تعريض بانه لا تطويل فيه ولا حشو ولا تعقيد كما فى القسم الثالث.

(واضفت الى ذلك) المذكور من القواعد وغيرها (فوائد عثرت) اى اطلعت (فى بعض كتب القوم عليها) اى على تلك الفوائد (وزوائد لم اظفر) اى لم افز (فى

١١

كلام احد بالتصريح بها) اى بتلك الزوائد (ولا الاشارة اليها) بان يكون كلامهم على وجه يمكن تحصيلها منه بالتبعية وان لم يقصدوها.

(وسميته تلخيص المفتاح) ليطابق اسمه معناه (وانا اسأل الله تعالى) قدم المسند اليه قصدا الى جعل الواو للحال (من فضله) حال من (ان ينفع به) اى بهذا المختصر (كما نفع باصله) وهو المفتاح والقسم الثالث منه.

(انه) اى الله (ولي ذلك) النفع (وهو حسبي) اى محسبي وكافى (ونعم الوكيل) اما عطف على جملة هو حسبى والمخصوص محذوف واما على حسبى اى وهو نعم الوكيل فالمخصوص هو الضمير المتقدم على ما صرح به صاحب المفتاح وغيره فى نحو زيد نعم الرجل وعلى كلا التقديرين يلزم عطف الانشاء على الاخبار.

١٢

(المقدمة)

رتب المختصر على مقدمة وثلاث فنون ، لان المذكور فيه اما ان يكون من قبيل المقاصد فى هذا الفن ، اولا. الثاني المقدمة والاول ان كان الغرض منه الاحتراز عن الخطاء فى تأدية المعنى المراد فهو الفن الاول والا فان كان الغرض منه الاحتراز عن التعقيد المعنوى فهو الفن الثانى والا فهو الفن الثالث.

وجعل الخاتمة خارجة عن الفن الثالث وهم كما سنبين ان شاء الله تعالى.

ولما انجر كلامه في آخر هذه المقدمة الى انحصار المقصود في الفنون الثلاثة ناسب ذكرها بطريق التعريف العهدي بخلاف المقدمة ، فانها لا مقتضى لايرادها بلفظ المعرفة في هذا المقام والخلاف في ان تنوينها للتعظيم او للتقليل مما لا ينبغي ان يقع بين المحصلين.

والمقدمة مأخوذة من مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منها من قدم بمعنى تقدم يقال : مقدمة العلم لما يتوقف عليه الشروع في مسائله ومقدمة الكتاب لطائفة من كلامه قدمت امام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه.

وهى هيهنا لبيان معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة فى علمي المعانى والبيان وما يلائم ذلك ولا يخفى وجه ارتباط المقاصد بذلك.

والفرق بين مقدمة العلم ومقدمة الكتاب مما خفى على كثير من الناس.

(الفصاحة)

وهي في الاصل تنبئ عن الظهور والابانة (يوصف بها المفرد) مثل كلمة فصيحة (والكلام) مثل كلام فصيح وقصيدة فصيحة.

١٣

قيل : المراد بالكلام ما ليس بكلمة ليعم المركب الاسنادي وغيره فانه قد يكون بيت من القصيدة غير مشتمل على اسناد يصح السكوت عليه مع انه يتصف بالفصاحة.

وفيه نظر لانه انما يصح ذلك لو اطلقوا على مثل هذا المركب أنه كلام فصيح ولم ينقل عنهم ذلك واتصافه بالفصاحة يجوز ان يكون باعتبار فصاحة المفردات على ان الحق انه داخل فى المفرد لانه يقال على ما يقابل المركب وعلى ما يقابل المثنى والمجموع وعلى ما يقابل الكلام ومقابلته بالكلام ههنا قرينة دالة على انه اريد به المعنى الاخير اعنى ما ليس بكلام (و) يوصف بها (المتكلم) ايضا يقال كاتب فصيح وشاعر فصيح.

(والبلاغة)

وهي تنبئ عن الوصول والانتهاء (يوصف بها الاخيران فقط) اى الكلام والمتكلم دون المفرد اذ لم يسمع كلمة بليغة والتعليل بان البلاغة انما هي باعتبار المطابقة لمقتضى الحال وهي لا تتحقق في المفرد وهم لان ذلك انما هو في بلاغة الكلام والمتكلم.

وانما قسم كلا من الفصاحة والبلاغة اولا لتعذر جمع المعاني المختلفة الغير المشتركة في امر يعمها في تعريف واحد وهذا كما قسم ابن الحاجب المستثنى الى متصل ومنقطع ثم عرف كلا منهما على حدة.

(فالفصاحة في المفرد) قدم الفصاحة على البلاغة لتوقف معرفة البلاغة على معرفة الفصاحة لكونها مأخوذة في تعريفها ثم قدم فصاحة المفرد على فصاحة الكلام والمتكلم لتوقفهما عليها (خلوصه) اى خلوص المفرد (من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس) اللغوى اى المستنبط من استقراء اللغة.

وتفسير الفصاحة بالخلوص لا يخلو عن تسامح لان الفصاحة تحصل عند

١٤

الخلوص.

(فالتنافر) وصف في الكلمة يوجب ثقلها على اللسان وعسر النطق بها (نحو) مستشزرات في قول امرئ القيس (غدائره) اى ذوائبه جمع غديرة والضمير عائد الى الفرع في البيت السابق (مستشزرات) اى مرتفعات او مرفوعات يقال واستشزر اى ارتفع (الى العلى) تضل العقاص فى مثنى ومرسل تضل : اى تغيب.

العقاص : جمع عقيصة وهى الخصلة المجموعة من الشعر والمثنى المفتول يعنى ان ذوائبه مشدودة على الرأس بخيوط وان شعره ينقسم الى عقاص ومثنى ومرسل والاول يغيب في الاخيرين.

والغرض بيان كثرة الشعر والضابط ههنا ان كل ما يعده الذوق الصحيح ثقيلا متعسر النطق به ، فهو متنافر سواء كان من قرب المخارج او بعدها او غير ذلك على ما صرح به ابن الاثير فى المثل السائر.

وزعم بعضهم ، ان منشأ الثقل في مستشزر هو توسط الشين المعجمة التى هى من المهموسة الرخوة بين التاء التى هى من المهموسة الشديدة وبين الزاء المعجمة التى هى من المجهورة ولو قال مستشرف لزال ذلك الثقل.

وفيه نظر ، لان الراء المهملة ايضا من المجهورة.

وقيل : ان قرب المخارج سبب للثقل المخل بالفصاحة ، وان في قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) ثقلا قريبا من المتناهي فيخل بفصاحة الكلمة ، لكن الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير فصيحة لا يخرج عن الفصاحة ، كما لا يخرج الكلام الطويل المشتمل على كلمة غير عربية عن ان يكون عربيا ؛ وفيه نظر ، لان فصاحة الكلمات مأخوذة في تعريف فصاحة الكلام من غير تفرقة بين طويل وقصير ، على ان هذا القائل فسر الكلام بما ليس بكلمة ، والقياس على الكلام العربي ظاهر الفساد ولم سلّم عدم خروج السورة عن الفصاحة ، فمجرد اشتمال القرآن على كلام غير فصيح بل على كلمة غير فصيحة مما يقود الى نسبة الجهل او العجز الى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

١٥

(والغرابة) كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال (نحو) مسرج فى قول العجاج ومقلة وحاجبا مزجّجا اي مدققا مطولا (وفاحما) اى شعرا اسود كالفحم (ومرسنا) اى انفا (مسرجا اى كالسيف السريجى فى الدقة والاستواء) وسريج اسم قين تنسب اليه السيوف (او كالسراج في البريق) واللمعان.

فان قلت : لم لم يجعلوه اسم مفعول من سرج الله وجهه اى بهجّه وحسنّه.

قلت : هو ايضا من هذا القبيل او مأخوذ من السراج على ما صرح به الامام المرزوقي رحمه الله تعالى حيث قال السريجى منسوب الى السراج ، ويجوز ان يكون وصفه بذلك لكثرة مائه ورونقه ، حتى كان فيه سراجا.

ومنه ما قيل : سرج الله امرك اى حسنه ونوره.

(والمخالفة) ان تكون الكلمة على خلاف قانون مفردات الالفاظ الموضوعة ، اعنى على خلاف ما ثبت عن الواضع (نحو) الاجلل بفك الادغام في قوله (الحمد لله العلي الاجلل) والقياس الاجلّ بالادغام ، فنحو آل وماء وابى يأبى وعور يعور فصيح لانه ثبت عن الواضع كذلك.

(قيل) : فصاحة المفرد خلوصه مما ذكر (ومن الكراهة في السمع) بان يكون اللفظة بحيث يمجها السمع ويتبرأ عن سماعها (نحو) الجرشي في قول ابي الطيب مبارك الاسم اغر اللقب (كريم الجرشي) اى النفس (شريف النسب) والاغر من الخيل الابيض الجبهة ثم استعير لكل واضح معروف.

(وفيه نظر) لان الكراهة في السمع انما هي من جهة الغرابة المفسرة بالوحشية ، مثل تكأكأتم وافرنقعوا ونحو ذلك.

وقيل : لان الكراهة في السمع وعدمها يرجعان الى طيب النغم وعدم الطيب لا الى نفس اللفظ.

وفيه نظر للقطع باستكراه الجرشي دون النفس مع قطع النظر عن النغم.

(و) الفصاحة (في الكلام خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها) هو حال من الضمير في خلوصه واحترز به عن مثل زيدا

١٦

جلل وشعره مستشزر وانفه مسرّج.

وقيل : هو حال من الكلمات ولو ذكره بجنبها لسلم من الفصل بين الحال وذيها بالاجنبي.

وفيه نظر لانه حينئذ يكون قيدا للتنافر لا للخلوص ويلزم ان يكون الكلام المشتمل على تنافر الكلمات الغير الفصيحة فصيحا ، لانه يصدق عليه انه خالص عن تنافر الكلمات حال كونها فصيحة فافهم.

(فالضعف) ان يكون تأليف الكلام على خلاف القانون النحوي المشهور بين الجمهور كالاضمار قبل الذكر لفظا ومعنى وحكما (نحو ضرب غلامه زيدا).

(والتنافر) ان تكون الكلمات ثقيلة على اللسان وان كان كل منها فصيحة (كقوله وليس قرب قبر حرب) وهو اسم رجل (قبر) وصدر البيت «وقبر حرب بمكان قفر» اي خال عن الماء والكلاء ، ذكر في عجائب المخلوقات ان من الجن نوعا يقال له الهاتف فصاح واحد منهم على حرب بن امية فمات فقال ذلك الجنى هذا البيت (وكقوله «كريم متى امدحه امدحه والورى معى ، واذا ما لمته لمته وحدي») والواو فى الورى للحال ، وهو مبتدأ وخبره قوله معي.

وانما مثل بمثالين لان الاول متناه فى الثقل والثانى دونه ، او لان منشأ الثقل فى الاول نفس اجتماع الكلمات وفى الثانى حروف منها ، وهو فى تكرير امدحه ، دون مجرد الجمع بين الحاء والهاء ، لوقوعه فى التنزيل ، مثل فسبحه ، فلا يصح القول بان مثل هذا الثقل مخل بالفصاحة.

وذكر الصاحب اسماعيل بن عباد انه انشد هذه القصيدة بحضرة الاستاذ ابن العميد ، فلما بلغ هذا البيت قال له الاستاذ هل تعرف فيه شيئا من الهجنة؟ قال : نعم مقابلة المدح باللوم ، وانما يقابل بالذم او الهجاء ، فقال : الاستاذ غير هذا اريد ، فقال : لا ادري غير ذلك.

فقال الاستاذ : هذا التكرير في امدحه امدحه مع الجمع بين الحاء والهاء ، وهما من حروف الحلق خارج عن حد الاعتدال نافر كل التنافر فاثنى عليه

١٧

الصاحب.

(والتعقيد) اى كون الكلام معقّدا (ان لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد لخلل) واقع (اما فى النظم) بسبب تقديم او تأخير او حذف او غير ذلك ، مما يوجب صعوبة فهم المراد (كقول الفرزدق فى خال هشام) بن عبد الملك ، وهو ابن ابراهيم بن هشام بن اسمعيل المخزومى

(وما مثله في الناس الا مملكا

ابو امه حىّ ابوه يقاربه)

اى ليس مثله فى الناس (حي يقاربه) اى احد يشبهه في الفضائل (الا مملك) اى رجل اعطى الملك والمال يعنى هشاما (ابو امه) اى ابو ام ذلك الملك (ابوه) اى ابو ابراهيم الممدوح اى لا يماثله احد الا ابن اخته وهو هشام.

ففيه فصل بين المبتدأ والخبر اعنى ابو امه ابوه بالاجنبي الذى هو حى ، وبين الموصوف والصفة ، اعنى حى يقاربه بالاجنبى الذى هو ابوه ، وتقديم المستثنى اعنى مملكا على المستثنى منه اعنى حى وفصل كثير بين البدل وهو حى والمبدل منه وهو مثله ، فقوله مثله اسم ما وفى الناس خبره والا مملكا منصوب لتقدمه على المستثنى منه.

قيل ذكر ضعف التأليف يغنى عن ذكر التعقيد اللفظى.

وفيه نظر ، لجواز ان يحصل التعقيد باجتماع عدة امور موجبة لصعوبة فهم المراد ، وان كان كل واحد منها جاريا على قانون النحوى.

وبهذا يظهر فساد ما قيل : انه لا حاجة فى بيان التعقيد فى البيت الى ذكر تقديم المستثنى على المستثنى منه ، بل لا وجه له ، لان ذلك جائز باتفاق النحاة ، اذ لا يخفى انه يوجب زيادة التعقيد وهو مما يقبل الشدة والضعف.

(واما فى الانتقال) عطف على قوله : (اما في النظم) اى لا يكون الكلام ظاهرة الدلالة على المراد ، لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الاول المفهوم بحسب اللغة الى الثانى المقصود ، وذلك بسبب ايراد اللوازم البعيدة المفتقرة الى الوسائط الكثيرة مع خفاء القرائن الدالة على المقصود (كقول الاخر) وهو عباس بن الاحنف ولم يقل

١٨

كقوله لئلا يتوهم عود الضمير الى الفرزدق.

(سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب) بالرفع ، وهو الصحيح وبالنصب وهم (عيناى الدموع لتجمدا) جعل سكب الدموع كناية عما يلزمه فراق الاحبة من الكئابة والحزن واصاب ، لكنه اخطأ فى جعل جمود العين كناية عما يوجبه دوام التلاقى من الفرح والسرور (فان الانتقال من جمود العين الى بخلها بالدموع) حال ارادة البكاء ، وهى حالة الحزن (لا الى ما قصده من السرور) الحاصل بالملاقاة.

ومعنى البيت : انى اليوم اطيب نفسا بالبعد والفراق واوطنها على مقاساة الاحزان والاشواق ، واتجرع غصصها واتحمل لاجلها حزنا يفيض الدموع من عينى لأتسبب بذلك الى وصل يدوم ومسرة لا تزول ، فان الصبر مفتاح الفرج ولكل بداية نهاية ، ومع كل عسر يسرا والى هذا اشار الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز.

وللقوم ههنا كلام فاسد اوردناه فى الشرح.

(قيل) : فصاحة الكلام خلوصه مما ذكر (ومن كثرة التكرار وتتابع الاضافاة كقوله) وتسعدنى في غمرة بعد غمرة (سبوح) : اى فرس حسن الجرى لا تتعب راكبها كأنها تجرى في الماء (لها) صفة سبوح.

(منها) حال من شواهد (عليها) متعلق بشواهد (شواهد) فاعل الظرف اعنى لها يعنى ان لها من نفسها علامات دالة على نجابتها.

قيل التكرار ذكر الشيء مرة بعد اخرى ولا يخفى انه لا يحصل كثرة بذكره ثالثا.

وفيه نظر ، لان المراد بالكثرة ههنا ما يقابل الوحدة ولا يخفى حصوله بذكره ثالثا.

(و) تتابع الاضافات مثل (قوله «حمامة جرعى حومة الجندل اسجعى) ، فانت بمرأى من سعاد ومسمع».

ففيه اضافة حمامة الى جرعى وجرعى الى حومة وحومة الى الجندل.

١٩

والجرعى تأنيث الاجرع قصرها للضرورة ، وهي : ارض ذات رمل لا تنبت شيئا ، والحومة معظم الشىء ، والجندل ارض ذات حجارة ، والسجع هدير الحمامة ونحوه.

وقوله : فانت بمرأى اى بحيث تراك سعاد وتسمع صوتك. يقال : «فلان بمرأى منى ومسمع اى بحيث اراه واسمع قوله» كذا في الصحاح.

فظهر فساد ما قيل ان معناه انت بموضع ترين منه سعاد وتسمعين كلامها وفساد ذلك مما يشهد به العقل والنقل.

(وفيه نظر) لان كلا من كثرة التكرار وتتابع الاضافات ان ثقل اللفظ بسببه على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بالتنافر والا فلا يخل بالفصاحة ، كيف وقع في التنزيل مثل دأب قوم نوح ، كذلك ذكر رحمة ربك عبده زكريا ، ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها.

(و) الفصاحة (في المتكلم ملكة) وهي كيفية راسخة في النفس والكيفية عرض لا يتوقف تعلقه على تعقل الغير ، ولا يقتضى القسمة واللاقسمة في محله اقتضاء اوليا.

فخرج بالقيد الاول الاعراض النسبية مثل الاضافة او الفعل والانفعال ونحو ذلك ، وبقولنا ، لا يقتضى القسمة الكميات ، وبقولنا واللاقسمة النقطة والوحدة ، وقولنا اوليا ليدخل فيه مثل العلم بالمعلومات المقتضية للقسمة واللاقسمة.

فقوله : ملكة اشعار بانه لو عبر عن المقصود بلفظ فصيح لا يسمى فصيحا في الاصطلاح ما لم يكن ذلك راسخا فيه.

وقوله : (يقتدر بها على التعبير عن المقصود) دون ان يقول يعبر ، اشعار بانه يسمى فصيحا اذا وجد فيه تلك الملكة ، سواء وجد التعبير او لم يوجد.

وقوله : (بلفظ فصيح) ليعم المفرد والمركب ، اما المركب فظاهر. واما المفرد فكما تقول عند التعداد دار غلام جارية ثوب بساط الى غير ذلك.

(والبلاغة في الكلام مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته) : اى فصاحة الكلام ، والحال هو الامر الداعي للمتكلم الى ان يعتبر مع الكلام الذى يؤدى به اصل

٢٠