علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

مقام عدم الرضا منه بقيام المخاطب بفعل ما أمر به تخويفا وتحذيرا له. ويسميه ابن فارس «الوعيد» ، نحو قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ،) فالأمر هنا موجه لمن يلحدون في آيات الله ، وكقوله أيضا : (فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ،) وقوله : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ).

ومن أمثلته شعرا :

إذا لم تخش عاقبة الليالي

ولم تستحي فاصنع ما تشاء

٩ ـ التسوية : وتكون في مقام يتوهم فيه أن أحد الشيئين أرجح من الآخر ، نحو قوله تعالى : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) فقد يظن أو يتوهم أن الإنفاق طوعا من جانب المأمورين هنا أرجح في القبول من الإنفاق كرها ، ولذلك سوّي بينهما في عدم القبول. ونحو قوله تعالى أيضا : اصبروا (أَوْ لا تَصْبِرُوا ،) فليس المراد في الآيتين الأمر بالإنفاق أو الصبر ، وإنما المراد هو التسوية بين الأمرين.

ومثله من الشعر قول المتنبي :

عش عزيزا أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود

فالمعيشة العزيزة والموت الكريم كلاهما سواء ، ولا أحد من الأمرين يرجح الآخر.

١٠ ـ الإهانة والتحقير : ويكون بتوجيه الأمر إلى المخاطب بقصد استصغاره والإقلال من شأنه والإزراء به وتبكيته ، نحو قوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) وقوله تعالى على لسان موسى مخاطبا السحرة : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ).

ومثله من الشعر قول جرير في هجاء الفرزدق :

خذوا كحلا ومجمرة وعطرا

فلستم يا فرزدق بالرجال

وشمّوا ريح عيبتكم فلستم

بأصحاب العناق ولا النزال (١)

__________________

(١) العيبة بفتح العين : وعاء من أدم يكون فيه المتاع.

٨١

تلك أهم المعاني التي يتحملها لفظ الأمر ويخرج عن معناه الأصليّ للدلالة عليها ، ولكن ابن فارس قد ذكر في كتابه الصاحبي بعض معان أخرى يتحملها لفظ الأمر وإن كانت قليلة الاستعمال ، وفيما يلي إشارة إليها :

١ ـ التكوين : ويسميها بعض البلاغيين «التسخير» ، وذلك حيث يكون المأمور مسخرا منقادا لما أمر به ، نحو قوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ،) أي صاغرين مطرودين ، فما أمروا به ، وهو أن يكونوا قردة ، لم يكن في مقدورهم أن يفعلوه ولكنهم وجدوا قدرة الله قد تسلطت عليهم فحولتهم من أناسيّ إلى قردة دون أن يكون لهم يد فيما حلّ بهم. وذلك هو معنى التكوين والتسخير.

٢ ـ التلهيف أو التحسير : كقول القائل : «مت بغيظك ، ومت بدائك» ونحو قوله تعالى : (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ،) وكما قال جرير :

موتوا من الغيظ غمّا في جزيرتكم

لن تقطعوا بطن واد دونه مضر

٣ ـ التعجب : نحو قوله جل ثناؤه : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ).

وقول الشاعر :

أحسس بها خلّة لو أنها صدقت

موعودها ، ولو أنّ النصح مقبول

٤ ـ الندب : بأن تكون صيغة الفعل أمرا ومعناه الندب ، بمعنى أن المخاطب في حل من فعله أو عدم فعله ، نحو قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).

وقول شاعر : «فقلت لراعيها انتشر وتبقّل (١)».

٥ ـ التسليم : حيث يكون اللفظ أمرا والمعنى تسليم وتفويض بأن يصنع ما يشاء ، نحو قوله تعالى : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي اصنع ما أنت

__________________

(١) تبقل : التمس البقل للماشية واطلبه. والبقل من النبات «بفتح الباء وسكون القاف» : ما ينبت في بزره ولا ينبت في أرومة ثابتة.

٨٢

صانع ، وكقوله تعالى : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ؛) أي اعملوا ما أنتم عاملون.

٦ ـ الوجوب : وذلك بأن يكون اللفظ أمرا والمعنى الوجوب ، نحو قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

٧ ـ الخبر : وقد يكون اللفظ أمرا والمعنى خبر ، نحو قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ،) فالمعنى أنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا.

ثانيا ـ النهي :

ومن أنواع الإنشاء الطلبيّ النهي ، وهو : طلب الكف عن الفعل أو الامتناع عنه على وجه الاستعلاء والإلزام.

وللنهي صيغة واحدة وهي المضارع المقرون ب «لا» الناهية الجازمة نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا)(١) وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ، وقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ)(٢). وقوله تعالى أيضا : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

ومن أمثلة أسلوب النهي في الشعر :

لا تخلني أرضى الهوان لنفسي

الرضا بالهوان عجز صريح

لا تقولوا حطّنا الدهر فما

هو إلّا من خيال الشعراء

لا تحذ حذو عصابة مفتونة

يجدون كل قديم شيء منكرا

__________________

(١) حتى تستأنسوا : حتى تستأذنوا ، وقيل : حتى تجدوا أناسا.

(٢) لا تلمزوا أنفسكم : اللمز الطعن في الغير خفية ، بالإشارة ، أو بالعين أو اللسان مثلا.

وقد يطلق على كل إلصاق عيب بالغير ولو بالباطل. ولا تنابزوا بالألقاب : لا يلقب بعضكم بعضا بألقاب قبيحة مكروهة.

٨٣

من كل ماض في القديم وهدمه

وإذا تقدّم للبناية قصّرا

* * *

خروج النهي عن معناه الحقيقي :

عرفنا أن النهي الحقيقيّ في أصل الوضع هو طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. ولكن الذي يتأمل صيغة النهي في أساليب شتى يجد أنها قد تخرج عن معناها الحقيقي للدلالة على معان أخرى تستفاد من السياق وقرائن الأحوال ، كما كان الشأن بالنسبة إلى الأمر.

ومن المعاني الأخرى التي تحملها صيغة النهي وتستفاد من السياق وقرائن الأحوال :

١ ـ الدعاء : وذلك عند ما يكون صادرا من الأدنى إلى الأعلى منزلة وشأنا ، نحو قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً)(١) كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ.

ومن أمثلته شعرا قول المتنبي في مدح علي بن منصور الحاجب :

أمهجّن الكرماء والمزري بهم

وتروك كلّ كريم قوم عاتبا

خذ من ثناي عليك ما أسطيعه

لا تلزمنّي في الثناء الواجبا (٢)

وقول أبي فراس من قصيدتين مخاطبا سيف الدولة :

فلا تحمل على قلب جريح ...

به لحوادث الأيام ندب

فلا تعدلنّ ـ فداك ابن عمّ

ك ، لا بل غلامك ـ عمّا يجب

وقوله أيضا :

__________________

(١) الإصر : أصله الحمل الثقيل الذي يأصر صاحبه أي يلزمه مكانه ، والمراد التكاليف الشاقة.

(٢) المهجن : المقبح. والقصيدة التي منها هذان البيتان تدعى «القصيدة الدينارية» لأن الممدوح ، كما يقال ، لم يعط الشاعر عليها إلا دينارا واحدا

٨٤

فإن يمكنك يا مولاي وصلي

فلا تبخل بشيء من صلاحي

ولا تعجل إلى تسريح روحي

فموتي فيك أيسر من سراحي

وقول النابغة في النعمان بن المنذر :

فلا تتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليّ به القار أجرب

وقول شاعر معاصر يبتهل إلى الله :

لا تكلني إلى الزمان فإني

بفجاج الزمان غير خبير

٢ ـ الالتماس : وذلك عند ما يكون النهي صادرا من شخص إلى آخر يساويه قدرا ومنزلة ، نحو قوله تعالى على لسان هارون يخاطب أخاه موسى : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي).

ومنه شعرا قول أبي فراس ، والخطاب لمن يساويه قدرا :

فلا تصفنّ الحرب عندي فإنها

طعامي مذ بعت الصّبا وشرابي

وقول المتنبي في سيف الدولة ، والخطاب لصديقين متخيلين :

فلا تبلغاه ما أقول فإنه

شجاع متى يذكر له الطعن يشتق

وقول شاعر معاصر من قصيدتين :

لا تحسبوا البعد ينسيني مودتكم

هيهات هيهات أن تنسى على الزمن

لا تقولي : «هتفت باسمك في اللي

ل» فما طاف بي النداء الحبيب

٣ ـ التمني : عند ما يكون النهي موجّها إلى ما لا يعقل نحو قول شاعر معاصر :

ايه يا طير لا تضن بلحن

ينقذ النفس من هموم كثيرة

وقوله :

يا قلب لا تنثر أساك ولا تطف

بالذكريات وجوّهنّ المحرق

لا تنهض الأوجاع من أوكارها ...

سوداء تنهش كالمغيظ المحنق

٨٥

وقوله أيضا :

يا لياليّ ... وانجلي لا تعودي

ه بما تحسنينه من عزاء

يا أماسيّ ... وانطوي لا تعيشي

بين دنياه عذبة الإيحاء

يا أغانيّ ... واصمتي لا تسرّي

ه بما تحملينه من غنائي

يا أمانيّ ... واهدئي لا تماشي

ه ولا تشغليه بالأشقياء

يا مآسيّ ... واسكتي لا تضجي

ودعيه يعيش كالأحياء

وقول الخنساء في رثاء أخيها صخر :

أعينيّ جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى؟

٤ ـ النصح والإرشاد : وذلك عند ما يكون النهي يحمل بين ثناياه معنى من معاني النصح والإرشاد ، نحو قول المتنبي :

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

وقول أبي العلاء المعري :

ولا تجلس إلى أهل الدنايا

فإن خلائق السفهاء تعدي

وقول الطغرائي :

لا تطمحنّ إلى المراتب قبل أن

تتكامل الأدوات والأسباب

وقول شوقي :

لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم

فمصيبة الإسلام من جهاله (١)

وقوله :

لا تهجعنّ إلى الزمان

فقد ينبّه من هجع (٢)

لا تخل من أمل إذا

ذهب الزمان فكم رجع

٥ ـ التوبيخ : عند ما يكون المنهيّ عنه أمرا لا يشرف الإنسان ولا يليق

__________________

(١) المرجفون : من يخوضون في الأخبار السيئة ليوقعوا في الناس الاضطراب.

(٢) الهجوع : النوم.

٨٦

أن يصدر عنه ، نحو قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ).

ونحو قول المتنبي :

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا

وقول أبي الأسود الدؤلي :

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك ، إذا فعلت ، عظيم

٦ ـ التحقير : عند ما يكون الغرض من النهي الإزراء بالمخاطب والتقليل من شأنه وقدراته ، وفيما يلي أمثلة لذلك :

لا تطلب المجد واقنع

فمطلب المجد صعب

لا تحسبوا من قتلتم كان ذا رمق

فليس تأكل إلّا الميتة الضّبع

لا تطلب المجد إن المجد سلّمه

صعب ، وعش مستريحا ناعم البال

ومنه قول الحطيئة في الزبرقان بن بدر :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

ومنه قول أبي هلال العسكري :

انظر إليهم ولا تعجبك كثرتهم

فإنما الناس قلّوا كلما زادوا

ولا يهولنك من دهمائهم عدد

فليس للناس في التحصيل أعداد

ومنه قول ابن الرومي :

فلا تخش من أسهمي قاصدا

ولا تأمننّ من العائر (١)

ولكن وقاك معرّاتها

تضاؤل قدرك في الخاطر

٧ ـ التيئيس : ويكون في حال المخاطب الذي يهمّ بفعل أمر لا يقوى عليه أو لا نفع له فيه من وجهة نظر المتكلم ؛ كأن تقول لشخص يحاول نظم

__________________

(١) السهم العائر : الذي لا يدرى من رمى به ، والمعرات : جمع معرة وهي المساءة والاثم والعيب.

٨٧

الشعر وليس لديه ملكة الشعر وأدواته : «لا تحاول نظم الشعر» ، ونحو قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ).

ومنه شعرا قول المتنبي في مدح سيف الدولة :

لا تطلبنّ كريما بعد رؤيته

إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا

وقول آخر :

لا تعرضنّ لجعفر متشبّها

بندى يديه فلست من أنداده

٨ ـ التهديد : وذلك عند ما يقصد المتكلم أن يخوّف من هو دونه قدرا ومنزلة عاقبة القيام بفعل لا يرضى عنه المتكلم ؛ كأن تقول لمن هو دونك : «لا تقلع عن عنادك» أو «لا تكفّ عن أذى غيرك».

* * *

ثالثا ـ الاستفهام :

من أنواع الإنشاء الطلبي الاستفهام : وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل بأداة خاصة. وأدوات الاستفهام كثيرة منها : الهمزة ، وهل.

ولنبدأ بإيراد أمثلة لهاتين الأداتين للتوصل عن طريق مناقشتها إلى الفرق بينهما معنى واستعمالا.

أمثلة للهمزة :

١ ـ أخالد فاز بالجائزة أم أسامة؟

٢ ـ أكاتب أنت أم شاعر؟

٣ ـ أمبكرا حضرت إلى الجامعة أم متأخرا؟

٤ ـ أقلما أهديت إلى صديقك أم كتابا؟

٥ ـ أأسبوعا قضيت في الجبل أم أكثر من أسبوع؟

فهذه الجمل جميعها تفيد الاستفهام الذي هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل ، وأداة الاستفهام في كل منها هي الهمزة.

٨٨

وبالتأمل في هذه الأمثلة نجد المتكلم أو السائل في كل مثال منها يعرف النسبة التي تضمنها الكلام ، ولكنه يتردد في شيئين ويطلب تعيين أحدهما.

فهو في المثال الأول يعرف أن الفوز بالجائزة قد وقع فعلا وأنه منسوب إلى واحد من اثنين : خالد وأسامة ، ولذلك فهو لا يطلب معرفة النسبة لأنها معروفة ، وإنما يطلب معرفة مفرد ، وينتظر من المسؤول أن يعين له ذلك المفرد ويدله عليه ، ومن أجل ذلك يكون جوابه بالتعيين ، فيقال له : خالد مثلا.

وفي المثال الثاني يعلم السائل أن واحدا من شيئين : الكتابة أو الشعر قد نسب إلى المخاطب فعلا ، ولكنه متردد بينهما ، فلا يدري أهو الكتابة أم الشعر ، فهو إذن لا يطلب معرفة النسبة لأنها معروفة له ، ولكنه يسأل عن مفرد ويطلب تعيينه ، ولهذا يجاب بالتعيين ، فيقال له في الجواب : شاعر مثلا.

وفي المثال الثالث يعلم المستفهم أن حضور المخاطب إلى الجامعة قد وقع فعلا ، ولكنه متردد في الحالة التي كان عليها المخاطب عند حضوره إلى الجامعة ، فلا يدري أهي حالة تبكير أم تأخير. فهو إذن لا يطلب معرفة النسبة لأنها معروفة له ، وإنما يستفهم عن مفرد ويطلب تعيينه ، ولهذا يجاب بتعيين إحدى الحالين ، فيقال له في الجواب : مبكرا مثلا ، وهكذا يقال في بقية الأمثلة.

من ذلك نرى أن همزة الاستفهام يطلب بها معرفة مفرد ، وتسمى معرفة المفرد تصورا. إذن فالهمزة من استعمالاتها أنه يطلب بها التصور ، وهو إدراك المفرد.

ويلاحظ من الأمثلة أيضا أن الهمزة التي للتصور تكون متلوة بالمسؤول عنه دائما ويذكر له في الغالب معادل بعد «أم».

٨٩

أمثلة أخرى للهمزة :

١ ـ أتصهر النار الأحجار؟

٢ ـ أيزرع القطن في الجزائر؟

٣ ـ أينزل الثلج شتاء في الصحراء؟

وإذا نظرنا في أمثلة هذه الطائفة التي فيها أداة الاستفهام الهمزة أيضا فإننا نجد الحال على خلاف ما كانت عليه في الأمثلة السابقة.

فالسائل : «أتصهر النار الأحجار؟» متردد بين ثبوت صهر النار للأحجار ونفيه ، فهو يجهل هذه النسبة ، ولذلك يسأل عنها ويطلب معرفتها. وفي سؤاله : «أيزرع القطن في الجزائر؟» يتردد السائل بين ثبوت زراعة القطن في الجزائر ونفيها عن الجزائر ، ولذلك يطلب معرفة هذه النسبة. وفي سؤاله كذلك : «أينزل المطر شتاء في الصحراء؟» يتردد السائل بين ثبوت نزول المطر شتاء في الصحراء ونفيه عنها ، ومن أجل ذلك يطلب معرفة هذه النسبة أيضا.

وفي جميع هذه الأمثلة وأشباهها يكون الجواب ب «نعم» إن أريد الإثبات ، وب «لا» إن أريد النفي. وإذا تأملنا هذه الأمثلة لم نجد للمسؤول عنه وهو «النسبة» معادلا.

ومن كل ما تقدم يتضح أن لهمزة الاستفهام استعمالين ، أحدهما : أن يكون المعلوم هو النسبة والمجهول هو المفرد ، فيطلب بها معرفة المفرد ، والثاني : أن يكون المجهول هو النسبة فيطلب بها معرفة النسبة. وتسمى معرفة المفرد «تصورا» ، ومعرفة النسبة «تصديقا».

أمثلة «هل» :

١ ـ هل تنام الطيور في الليل؟

٢ ـ هل تحب الموسيقى؟

٣ ـ هل يتألم الحيوان؟

٩٠

وإذا تأملنا هذه الأمثلة حيث أداة الاستفهام فيها هي «هل» وجدنا أن السائل في كل منها لا يتردد في معرفة مفرد من المفردات ، ولكنه متردد في معرفة النسبة ؛ فلا يدري أمثبتة هي أم منفية ، فهو يسأل عنها ، ولذلك يجاب عليه ب «نعم» إن أريد الإثبات ، وب «لا» إن أريد النفي.

وكذلك يكون الشأن في جميع الأسئلة التي تكون أداة الاستفهام فيها «هل» ، أعني أن المطلوب بها هو معرفة النسبة ليس غير. وعلى ذلك لا تستعمل «هل» إلا لطلب التصديق فقط ، ويمتنع معها ذكر المعادل.

وتلخيصا لكل ما ذكرناه عن الاستفهام حتى الآن نقول :

١ ـ من أنواع الإنشاء الطلبي الاستفهام : وهو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل بأداة خاصة.

٢ ـ وأدوات الاستفهام كثيرة منها : الهمزة ، وهل.

٣ ـ الهمزة ـ يطلب بها أحد أمرين :

أ ـ التصوّر : وهو إدراك المفرد ، أي تعيينه ، وفي هذه الحال تأتي الهمزة متلوّة بالمسؤول عنه ، ويذكر له في الغالب معادل بعد «أم».

ب ـ التصديق : وهو إدراك النسبة ، أي تعيينها ، وفي هذه الحال يمتنع ذكر المعادل.

٤ ـ هل ـ ويطلب بها التصديق ليس غير ، أي إدراك النسبة ، ويمتنع معها ذكر المعادل.

وإتماما للكلام عن «الهمزة وهل» تجدر الإشارة إلى بعض نقاط تتصل بهما أو بأحدهما.

النقطة الأولى أن «أم» إن جاءت بعد همزة التصور ، نحو :

أتفاحا اشتريت أم برتقالا؟ فإنها تكون متصلة ، بمعنى أن ما بعدها يكون داخلا في حيز الاستفهام السابق عليها. وقد يستغنى عن ذكر المعادل

٩١

نحو قوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) ويقدر المعادل في الآية : أم غيرك؟

أما إذا جاءت «أم» بعد همزة التصديق ، نحو قول جرير :

أتصحو؟ أم فؤادك غير صاح

عشية همّ قومك الرواح

أو بعد «هل» التي للتصديق فقط نحو قول الشاعر :

ألا ليت شعري هل تغيرت الرحى

رحى الحرب؟ أم أضحت بفلج كماهيا (١)

فإن «أم» في هاتين الحالين : حالة همزة التصديق ، وهل ، تقدر منقطعة ، وتكون بمعنى «بل» التي تكون للانتقال من كلام إلى آخر لا يمتد تأثير الاستفهام السابق إليه. وبعبارة أخرى يكون الكلام الذي يلي «أم» المنقطعة خبريا لا إنشائيا.

النقطة الثانية أن «هل» قسمان :

١ ـ بسيطة : إن استفهم بها عن وجود شيء أو عدمه ، نحو : هل يصدأ الذهب؟ فالمطلوب هنا هو معرفة ثبوت الصدأ للذهب أو نفيه عنه ، ولذلك يجاب في الإثبات بنعم ، وفي النفي بلا. ومن أمثلتها أيضا : هل الحركة موجودة؟

٢ ـ مركبة : إن استفهم بها عن وجود شيء لشيء أو عدمه ، نحو : هل نهر النيل يصب في البحر الأبيض؟ فالعلم بوجود نهر النيل أمر لا شك فيه ، ولكن المجهول عنه والمطلوب معرفته هو ثبوت صبه في البحر الأبيض أو نفيه عنه. ولهذا يجاب عنه أيضا في الإثبات بنعم وفي النفي بلا. ومن أمثلتها أيضا : هل الحركة دائمة؟ وهذا التقسيم ليس مقصورا على «هل» وإنما تشترك معها فيه الهمزة التي للتصديق ، فقد تكون هي الأخرى بسيطة

__________________

(١) الفلج لغة : الظفر والفور ، والفلج نهر صغير ، والفلج اسم بلد ، وواد بطريق البصرة إلى مكة.

٩٢

إن استفهم بها عن وجود الشيء أو عدمه ، وقد تكون مركبة إن استفهم بها عن وجود شيء لشيء.

والنقطة الثالثة أن المسؤول عنه بالهمزة التي للتصور يلي الهمزة مباشرة ، سواء أكان هو :

١ ـ المسند إليه نحو : أأنت الذي جاء لزيارتي أمس أم غيرك؟

٢ ـ أو المسند نحو : أمسافر أنت في الصيف أم مقيم؟

٣ ـ أو مفعولا به نحو : أكتابا قرأت في الأدب أم أكثر من كتاب؟

٤ ـ أو حالا نحو : أماشيا تغدو إلى عملك أم راكبا؟

٥ ـ أو زمانا نحو : أساعة أمضيت في زيارة صديقك أم ساعتين؟

٦ ـ أو غير ذلك من المتعلقات نحو : أإلى الشعر تميل أم إلى الأدب القصصي؟

* * *

بقية أدوات الاستفهام :

عرفنا من أدوات الاستفهام حتى الآن : الهمزة وهل ، ولكن للاستفهام أدوات أخرى غير هاتين الأداتين ، وهي : من وما ومتى وأيان وكيف وأين وأنى وكم وأيّ.

وهذه الأدوات يطلب بها التصور فقط ، ولذلك يكون الجواب معها بتعيين المسؤول عنه.

وطبيعي أن المطلوب تعيينه أو تصوره بكل منها يخالف المطلوب تعيينه وتصوره بأداة أخرى ، ولذلك يقتضي الأمر التعرّف على حقيقة المسؤول عنه والمطلوب تعيينه وتصوره بكل أداة من هذه الأدوات. وفيما يلي بيان ذلك :

١ ـ من : ويطلب بها تعيين العقلاء.

وتعيين العاقل يحصل بالعلم (١) ، أي بذكر اسم المسؤول عنه ، كقولنا

__________________

(١) العلم بفتح العين واللام.

٩٣

في جواب : من هذا؟ هذا محمد أو عليّ مثلا ، كما يحصل بالصفة ، أي بذكر صفة من صفات المسؤول عنه ، كقولنا في جواب السؤال السابق : من هذا؟ هذا معلم أو طبيب أو صديق مثلا.

٢ ـ ما : ويطلب بها شرح الاسم أو ماهية المسمى.

فشرح الاسم يراد به بيان مدلوله لغة ، أي بيان المعنى الذي وضع له في اللغة ، نحو : ما الكبرياء؟ فيكون الجواب : إنها العظمة والملك والتجبر. وما التواضع؟ فيكون الجواب : إنه التذلل والخشوع.

أما ماهيّة المسمى فهي حقيقته التي هو بها هو ، ويراد بها الحقيقة الوجودية التي تتحقق بها أفراد الشيء بحيث لا يزاد في الخارج عليها إلا العوارض كأن يقال : ما الإنسان؟ فيكون الجواب إنه الحيوان الناطق.

فأفراد الإنسان لا تزيد عن هذه الحقيقة إلا بالعوارض أي الصفات التي تميز فردا من الإنسان على الآخر. وكأن يقال : ما الحركة؟ أي ما حقيقة مسمى هذا اللفظ فيجاب بإيراد ذاتياته.

قال السكاكي : «يسأل بما عن الجنس» ، تقول : ما عندك؟ بمعنى أي أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه : كتاب ونحوه. كذلك يسأل بما عن الوصف ، تقول : ما زيد؟ أي ما صفة زيد؟ وجوابه : الكريم؟ ونحوه.

ويدخل عنده في السؤال بما عن الجنس ، السؤال عن الماهية أي الحقية ، نحو : ما الكلمة؟ بمعنى أي أجناس الألفاظ هي ، وجوابه : إنها لفظ مفرد موضوع.

٣ ـ متى : ويطلب بها تعيين الزمان ماضيا كان أو مستقبلا. فتقول :

متى جئت؟ والجواب : صباحا أو مساء مثلا. وتقول : متى تأتي؟ ويكون الجواب : آتي بعد شهر مثلا.

٤ ـ أيان : ويطلب بها تعيين الزمان المستقبل خاصة ، وأكثر ما تكون في مواضع التفخيم ، أي في المواضع التي يقصد فيها تعظيم المسؤول عنه

٩٤

والتهويل بشأنه ، نحو قوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ ،) و (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟).

٥ ـ كيف : ويطلب بها تعيين الحال ، فإذا قيل : كيف أحمد؟ فجوابه : هو صحيح أو سقيم أو شج (١) أو جذلان وما أشبه ذلك.

٦ ـ أين : ويطلب بها تعيين المكان ، فإذا قيل : أين الطبيب؟ فجوابه : هو في المستشفى أو في عيادته مثلا.

٧ ـ أنّى : وتأتي لمعان عدّة ، وتفصيل ذلك أنها تستعمل تارة بمعنى «كيف» نحو : أنى يتوقع المرء النجاح في عمله وهو لا يعمل له؟ وتارة تستعمل بمعنى «من أين» نحو : أنى لك هذا؟ وتارة تستعمل بمعنى «متى» نحو : أنى جئت؟ أو أنى تجيء؟

٨ ـ كم : ويطلب بها تعيين العدد ، نحو قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ؟) وقوله تعالى : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟).

٩ ـ أيّ : ويطلب بها تعيين أحد المتشاركين في أمر يعمهما ، نحو قوله تعالى : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً؟) أي أنحن أم أصحاب محمد؟.

وعلى هذا يسأل «بأيّ» عن العاقل وغير العاقل ، وعن الزمان والمكان والحال والعدد ـ على حسب ما تضاف إليه. فإن أضيفت إلى زمان أو مكان أو عدد مثلا أعطيت حكم متى أو أين أو كم على التوالي ، وهكذا ...

* * *

المعاني التي تستفاد من الاستفهام بالقرائن :

عرفنا أن الاستفهام في الأصل هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل بأداة خاصة. ولكن أدوات الاستفهام قد تخرج عن معانيها الأصلية إلى معان أخرى على سبيل المجاز تفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال.

__________________

(١) شج أو جذلان : حزين أو فرحان.

٩٥

ومن هذه المعاني الأخرى الزائدة التي تحتملها ألفاظ الاستفهام وتستفاد من سياق الكلام :

١ ـ النفي : وذلك عند ما تجيء لفظة الاستفهام للنفي لا لطلب العلم بشيء كان مجهولا.

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ؟ ،) وقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟) وقوله : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟ ،) وقوله : و (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟).

فظاهر هذه الآيات الكريمة الاستفهام ، والمعنى : لا هادي لمن أضل الله. وليس جزاء الإحسان إلا الإحسان. ولست تنقذ من في النار. ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه.

ومن الشعر الذي خرج فيه الاستفهام إلى النفي قول الفرزدق :

أين الذين بهم تسامي دارما؟

أم من إلى سلفي طهيّة تجعل؟

وقول أبي فراس في رثاء أمه :

إلى من أشتكي؟ ولمن أناجي

إذا ضاقت بما فيها الصدور؟

بأيّ دعاء داعية أوقى؟

بأيّ ضياء وجه استنير؟

بمن يستدفع القدر الموفى؟

بمن يستفتح الأمر العسير؟

وقول المتنبي من قصائد مختلفة :

ومن لم يعشق الدنيا قديما؟

ولكن لا سبيل إلى الوصال.

يفنى الكلام ولا يحيط بفضلكم

أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟

وهل تفنى الرسائل في عدوّ

إذا ما لم يكنّ ظبا (١) رقاقا؟

كيف الرجاء من الخطوب تخلّصا

من بعد ما أنشبن فيّ مخالبا؟

__________________

(١) الظبا : جمع ظبة بضم الظاء وباء مخففة وهي حد السيف. والمعنى لا يشتفى من العدو إلا بالقتل.

٩٦

وقول البحتري :

هل الدهر إلّا غمرة وانجلاؤها

وشيكا ، وإلا ضيقة وانفراجها؟

وقول آخر :

فما ترجى النفوس من زمن

أحمد حاليه غير محمود؟

فالاستفهام في جميع هذه الأبيات قد خرج عن معناه الأصلي إلى النفي الذي يستفاد من سياق الكلام.

٢ ـ التعجب :

كقوله تعالى : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟) وقوله تعالى على لسان سليمان عليه‌السلام : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ؟ ،) فالغرض من هذا السؤال هو التعجب ، لأن الهدهد كان لا يغيب عن سليمان إلا بإذنه ، فلما لم يبصره تعجب من حال نفسه وعدم رؤيته. والمتعجب منه في الحقيقة هو غيبة الهدهد من غير إذن. ووجه خروج الاستفهام إلى التعجب أن السؤال عن السبب في عدم الرؤية يستلزم الجهل بذلك السبب ، والجهل بسبب عدم الرؤية يستلزم التعجب.

ومن أمثلته في شعر المتنبي ، قوله حينما صرع بدر بن عمار أسدا :

أمعفّر الليث الهزبر بسوطه

لمن ادخرت الصارم المسلولا؟ (١)

وقوله وقد أصابته الحمّى :

أبنت الدهر عندي كل بنت

فكيف وصلت أنت من الزحام؟

وقوله في سيف الدولة وقد أصابته علّة :

وكيف تعلّك الدنيا بشيء

وأنت لعلة الدنيا طبيب؟

وكيف تنوبك الشكوى بداء

وأنت المستغاث لما ينوب؟

وقوله أيضا :

__________________

(١) عفره : مرغه في التراب ، والليث الهزبر : الأسد الشديد ، والصارم : السيف القاطع ، يقول : إذا كنت تصرع الأسد القوي بالسوط فلمن إذن أعددت سيفك القاطع؟

٩٧

خليليّ إني لا أرى غير شاعر

فلم منهم الدعوى ومني القصائد؟

فلا تعجبا أن السيوف كثيرة

ولكن سيف الدولة اليوم واحد

وقول إحدى نساء العرب تشكو ابنها :

أنشا يمزّق أثيابي يؤدبني

أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا!

وقول شوقي :

ما أنت يا دنيا؟ أرؤيا نائم؟

أم ليل عرس؟ أم بساط سلاف؟

٣ ـ التمني :

وذلك عند ما يكون السؤال موجها إلى من لا يعقل.

ومن أمثلته :

هل الحدث الحمراء تعرف لونها؟

وتعلم أيّ الساقيين الغمائم (١)

هل بالطلول لسائل رد؟

أم هل لها بتكلم عهد؟

أيدري الربع أيّ دم أراقا؟

وأيّ قلوب هذا الركب شاقا؟

أما تغلط الأيام فيّ بأن أرى

بغيضا تنائى أو حبيبا تقرب؟

فيا ليلة قد رجعنا بها

سعيدين ، من لي بأن تقبلي؟

وقول أبي العتاهية في مدح الأمين :

تذكر أمين الله حقي وحرمتي

وما كنت توليني لعلك تذكر

فمن لي بالعين التي كنت مرة

إليّ بها في سالف الدهر تنظر؟

وقول شاعر معاصر من قصائد مختلفة :

يا طيور المساء هل من سبيل

تصل النفس بالليالي الشهيدة؟

هو هذا أنا من لي بصوت

يمنع الناس أن يطيلوا الملاما؟

ألا ليالي بيضا كالتي سلفت

أنسى بها كل ما عانيت من محن؟

وقوله مخاطبا بلاده :

__________________

(١) الحدث : قلعة بناها سيف الدولة في بلاد الروم.

٩٨

أما فيك من قلبه أمة

ومن عزمه الجيش أو أصلب؟

٤ ـ التقرير : حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه إثباتا ونفيا لغرض من الأغراض ، على أن يكون المقرّر به تاليا لهمزة الاستفهام ، فتقول : أفعلت؟ إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه ، وتقول : أأنت فعلت؟ إذا أردت أن تقرره بأنه الفاعل ، وتقول : أشعرا نظمت؟ إذا أردت أن تقرره بأن منظومه شعر ، وهكذا.

ومن الاستفهام التقريري قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟) وقوله : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً؟ ،) وقوله تعالى على لسان قوم إبراهيم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) وقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى؟ وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى؟).

ومن أمثلته شعرا :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح؟

ألست المرء تجبي كلّ حمد

إذا ما لم يكن للحمد جاب؟ (١)

ألست أعمّهم جودا وأزكا

هم عودا وأمضاهم حساما؟ (٢)

٥ ـ التعظيم : وذلك بالخروج بالاستفهام عن معناه الأصلي واستخدامه في الدلالة على ما يتحلّى به المسؤول عنه من صفات حميدة كالشجاعة والكرم والسيادة والملك وما أشبه ذلك.

ومن أمثلته :

من فيكم الملك المطاع كأنه

تحت السوابغ تبّع في حمير؟

أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر؟

من للمحافل والجحافل والسّرى؟

فقدت بفقدك نيرا لا يطلع

ومن اتخذت على الضيوف خليفة؟

ضاعوا ، ومثلك لا يكاد يضيّع

__________________

(١) تجبى : تجمع.

(٢) أزكاهم عودا : أقواهم جسما.

٩٩

إذا القوم قالوا : من فتى لعظيمة؟

فما كلهم يدعى ولكنه الفتى

إذا القوم قالوا : من فتى؟ خلت أنني

دعيت ، فلم أكسل ولم أتبلّد

٦ ـ التحقير : عند ما يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي للدلالة على ضآلة المسؤول عنه وصغر شأنه مع معرفة المتكلم أو السائل به ، نحو «من هذا؟». والعلاقة أن المحتقر من شأنه أن يجهل لعدم الاهتمام به فيسأل عنه والاحتقار فيه إظهار حقارة المخاطب وإظهار اعتقاد صغره ، ولذلك يصح في غير العاقل نحو : «ما هذا؟» ، أي هو شيء حقير قليل.

ومما ورد منه في القرآن قوله تعالى على لسان الكفار : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً؟ ،) ومن أمثلته شعرا :

فدع الوعيد فما الوعيد بضائري

أطنين أجنحة الذباب يطير؟

أتظن أنك للمعالي كاسب

وخبيّ أمرك شرّة وشنار؟ (١)

من أية الطرق يأتي مثلك الكرم؟

أين المحاجم يا كافور والجلم؟ (٢)

أيشتمنا عبد الأراقم ضلّة؟

فما ذا الذي تجدي عليك الأراقم (٣)

٧ ـ الاستبطاء : وهو عدّ الشيء بطيئا في زمن انتظاره وقد يكون محبوبا منتظرا ، ولهذا يخرج الاستفهام فيه عن معناه الأصلي للدلالة على بعد زمن الإجابة عن بعد زمن السؤال ، وهذا البعد يستلزم الاستبطاء ، نحو قولك لمخاطب دعوته فأبطأ في الاستجابة لك : «كم دعوتك؟» فليس المراد هنا الاستفهام عن عدد مرات الدعوة أو النداء ، وإنما المراد أنّ تكرر الدعوة قد باعد بين زمن الإجابة وزمن السؤال ، وفي ذلك إبطاء ، ولهذا جاء

__________________

(١) الشرة بكسر الشين : الشر والحدة والحرص ، والشنار بفتح الشين : أقبح العيب.

(٢) المحاجم : جمع محجمة بكسر الميم وهي الوعاء الذي يجمع فيه دم الحجامة عند المص ، والجلم : أحد شقي المشرط. قيل إن كافورا كان عبدا لحجام بمصر ثم اشتراه الإخشيد.

(٣) الأراقم : حي من تغلب ، وعبد الأراقم : كناية عن الأخطل ، والضلة بكسر الضاد : ضد الهدى.

١٠٠