علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

المخاطب بمضمون الخبر أو شكه فيه أو إنكاره له هو ما يقتضيه الظاهر. ولكن إيراد الكلام أو الخبر لا يكون دائما وأبدا جاريا على مقتضى الظاهر ، فقد تجدّ اعتبارات تدعو المتكلم إلى أن يورد الكلام أو الخبر على صورة تخالف الظاهر ، أو على صورة تخرج به عن مقتضى الظاهر كما يقول البلاغيون.

ومن الاعتبارات التي يلحظها المتكلم وتدعوه إلى الخروج بالكلام عن مقتضى الظاهر ما يلي :

١ ـ أن ينزّل خالي الذهن منزلة المتردد الشاكّ إذا تقدم في الكلام ما يشير إلى حكم الخبر ومضمونه. ومن هذا الضرب من الكلام قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ).

فالمتأمل في هذه الآية الكريمة يجد أن المخاطب بها خالي الذهن من الحكم أو من مضمون قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ،) ولكن هذا الحكم لما كان مسبوقا بجملة (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ،) وهي في مضمونها تشير إلى أن النفس محكوم عليها بشيء غير محبوب أو مرغوب فيه ، أصبح المخاطب بقوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) متطلعا إلى نوع هذا الحكم ، الذي يجهله ولا يدري حقيقته ، ومن أجل ذلك نزّل هذا المخاطب منزلة المتردد الشاكّ ، وألقي إليه الخبر مؤكدا استحسانا.

ومن أمثلة هذا النوع من التنزيل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وقوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقوله تعالى أيضا : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

ومن أمثلته في الشعر قول عنترة :

لله درّ بني عبس لقد نسلوا

من الأكارم ما قد تنسل العرب

وقول أبي الطيب المتنبي :

ترفق أيها المولى عليهم

فإن الرفق بالجاني عتاب

٦١

٢ ـ أن يجعل غير المنكر كالمنكر لظهور أمارات الإنكار عليه. ومثال ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ؛) فالمخاطبون بهذه الآية الكريمة لا ينكرون حقيقة الموت بالنسبة للإنسان ، وأنه مهما طال أجله فإن مصيره إلى الموت والفناء ، وعلى ما يقتضيه الظاهر كان يجب أن يلقى الكلام إليها خاليا من التأكيد ، ولكننا مع ذلك نرى أن الكلام قد خرج عن مقتضى الظاهر وألقي إليهم مؤكدا. فما السبب في ذلك؟.

السبب ظهور أمارات الإنكار عليهم ، فإن نسيانهم للموت وتكالبهم على مطالب العيش كأنهم مخلدون أبدا ، وعدم بذلهم في الحياة الدنيا ما ينفعهم في الآخرة ، كل هذه بوادر منهم تدل على إنكارهم لحقيقة الموت ، ومن أجل ذلك نزّلوا منزلة المنكرين ، وألقي الخبر إليهم مؤكدا بمؤكدين هما «إن» و «لام الابتداء».

ومثال ذلك أيضا قولك لمن يعقّ والديه ولا يطيعهما : «إن برّ الوالدين لواجب» ، فالمخاطب بهذا الكلام لا ينكر أن برّ الوالدين واجب ولا يداخله شك في ذلك. وكان مقتضى الظاهر أن يلقى إليه الخبر غير مؤكد ، ولكن عقوقه لوالديه ، وغلظته في معاملتهما ، وعدم إطاعتهما ، كل ذلك اعتبر من علامات الإنكار ، ولذلك نزّل منزلة الجاحد المنكر وألقي الخبر إليه مؤكدا بمؤكدين وجوبا ، خروجا عن مقتضى الظاهر :

ومثاله أيضا من الشعر قول حجل بن نضلة القيسيّ :

جاء شقيق عارضا رمحه

إن بني عمك فيهم رماح

فشقيق هذا الرجل لا ينكر رماح بني عمه ، ولكنه مع ذلك يأتي إليهم عارضا شاهرا رمحه مدلّا بنفسه وشجاعته عليهم كأنه يعتقد أنهم عزل من السلاح. فمجيئه على هذه الحال علامة على إنكاره وجود السلاح مع بني عمه ، ولذلك أنزل منزلة المنكر ، وبالتالي ألقي الخبر إليه مؤكدا وقيل له : إن بني عمك فيهم رماح.

٦٢

٣ ـ أن يجعل المنكر كغير المنكر ، إن كان لديه شواهد وأدلّة لو تأملها لعدل عن إنكاره.

ومثال ذلك قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ففي هذه الآية الكريمة نرى الله جلّ شأنه يوجه الخطاب إلى المنكرين لوحدانيته ، وكان مقتضى الظاهر يوجب إلقاء الخبر على المنكرين مؤكدا ، ولكننا نرى الخبر في الآية قد خرج عن مقتضى الظاهر ، فألقي إلى المنكرين مجردا من التوكيد ، كما يلقى إلى غير المنكرين ، فما السبب في ذلك؟

السبب أن بين أيدي المنكرين لوحدانية الله من الأدلة الساطعة والشواهد المقنعة ما لو تدبّروه وعقلوه لزال إنكارهم ولحل محله اليقين والاقتناع بوحدانية الله. ولذلك لم يكترث الله بإنكارهم عند توجيه الخطاب إليهم ، وأنزل هؤلاء المنكرين منزلة غير المنكرين لوجود الدلائل التي لو تأملها المنكر لاقتنع وكفّ عن إنكاره.

وأمثلة هذا النوع كثيرة ، كأن تقول لمن يجحد فضل العلم : «العلم نافع» ، ولمن ينكر ضرر الجهل : «الجهل ضار» ولمن ينكر ما يسبّبه الفراغ من الفساد والإفساد : «الفراغ مفسدة» ، وهكذا ...

وبعد فلعلنا نرى في الأمثلة الكثيرة التي أوردناها عن أضرب الخبر وعن خروج الكلام عن مقتضى الظاهر ما يوضح لنا القيمة البلاغية لأساليب الخبر المختلفة ، تلك القيمة التي تستمد عناصرها دائما من «مطابقة الكلام لحال المخاطبين».

* * *

أغراض الخبر البلاغية :

عرفنا مما سبق أن الأصل في الخبر أن يلقى لغرضين هما : فائدة الخبر ، ولازم الفائدة ، كما عرفنا أن المتكلم في كل منهما يهدف من وراء الخبر إلى إعلام المخاطب شيئا لا يعرفه ، سواء أكان هذا الشيء هو مضمون الخبر أو علم المتكلم بمضمونه.

٦٣

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخبر ليس مقصورا على هذين الغرضين الأصليين ؛ فالواقع أنه بالإضافة إليهما قد يلقى الخبر لأغراض أخرى بلاغية تفهم من السياق وقرائن الأحوال. ومن هذه الأغراض التي يخرج الخبر عن غرضيه الأصليين إليها :

١ ـ إظهار الضعف : وذلك نحو قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ،) وقول الشاعر :

إن الثمانين ، وبلّغتها ،

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

وقول المتنبي في وصف مرضه :

عليل الجسم ممتنع القيام

شديد السكر من غير المدام (١)

وقول شاعر مريض يقارن بين حاله وحال آخر معافّى من المرض :

الخطى عندك ، إذ تقصرها ، وثب وقفز

والخطى عندي إذ أوسعها ، ضعف وعجز

٢ ـ الاسترحام والاستعطاف : نحو قول إبراهيم بن المهدي مخاطبا المأمون :

أتيت جرما شنيعا

وأنت للعفو أهل

فإن عفوت فمنّ

وإن قتلت فعدل

وقول المتنبي وهو في محبسه مستعطفا السلطان :

دعوتك عند انقطاع الرجا

ء والموت منّي كحبل الوريد

دعوتك لما براني البلاء

وأوهن رجليّ ثقل الحديد

وقول شاعر آخر :

فمالي حيلة إلا رجائي

لعفوك إن عفوت وحسن ظنّي

يظن الناس بي خيرا وإني

لشر الناس إن لم تعف عنّي

__________________

(١) أي أنه سكران من غير خمر ، وإنما من الضعف والهموم.

٦٤

٣ ـ إظهار التحسر على شيء محبوب : نحو قول المتنبي في رثاء جدته :

أتاها كتابي بعد يأس وترجة

فماتت سرورا بي فمت بها غمّا

حرام على قلبي السرور فإنني

أعدّ الذي ماتت به بعدها سمّا

وقوله في رثاء أبي شجاع فاتك :

الحزن يقلق والتجمّل يردع

والقلب بينهما عصيّ طيّع

يتنازعان دموع عين مسهّد

هذا يجيء بها وهذا يرجع!

وقول آخر يرثى عزيزا عليه :

وأيقظت أجفانا وكان لها الكرى

ونامت عيون لم تكن قبل تهجع

وقول أبي فراس الحمداني عند ما سمع بمرض أمه وهو في الأسر :

عليلة بالشآم مفردة

بات بأيدي العدا معلّلها

تمسك أحشاءها على حرق

تطفئها والهموم تشعلها

تسأل عنا الركبان جاهدة

بأدمع ما تكاد تمهلها!

٤ ـ المدح : نحو قول زهير بن أبي سلمى :

وأبيض فيّاض يداه غمامة

على معتفيه (١) ما تغبّ فواضله

تراه إذا ما جئته متهلّلا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وقول المتنبي مادحا سيف الدولة :

أرى كل ذي ملك إليك مصيره

كأنك بحر والملوك جداول

إذا مطرت منهم ومنك سحائب

فوابلهم طلّ وطلك وابل (٢)

__________________

(١) على معتفيه : على طالبي معروفه وفضله وكرمه. ما تغب فواضله : ما ينقطع إحسانه وأياديه الجميلة.

(٢) الوابل : المطر الغزير. الطل : المطر الضعيف.

٦٥

٥ ـ الفخر : نحو قول الفرزدق :

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا

وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا

وقول جرير :

إذا غضبت عليك بنو تميم

رأيت الناس كلهم غضابا

ولآخر في الفخر بكثرة العدد :

ما تطلع الشمس إلّا عند أوّلنا

ولا تغيّب إلّا عند آخرنا

وللشريف الرضي :

لغير العلى منّي القلى والتجنب

ولو لا العلى ما كنت في العيش أرغب

وقور : فلا الألحان تأسر عزمتي

ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب

ولا أعرف الفحشاء إلّا بوصفها

ولا أنطق العوراء والقلب مغضب

٦ ـ الحث على السعي والجد : كقول شوقي :

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قوم منال

إذا الإقدام كان لهم ركابا

وقوله :

أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا

وفاز بالحق من لم يأله طلبا

وقول ابن نباتة السعدي :

يفوت ضجيع الترّهات طلابه

ويدنو إلى الحاجات من بات ساعيا

فإذا نظرنا إلى كل مثال من الأمثلة السابقة وجدنا أن المتكلم لا يقصد منه فائدة الخبر ولا لازم الفائدة ، وإنما خرج به عن هذين الغرضين إلى غرض آخر بلاغي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال ، كغرض المدح أو الفخر ، أو الاسترحام ، أو إظهار التحسر ، أو إظهار الضعف ، أو الحث على السعي والجد.

وقد ذكرنا من قبل أن أحمد بن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه

٦٦

اللغة» عقد بابا خاصا لمعاني الكلام العشرة عند أهل العلم وعدّ منها «الخبر» الذي سبق أن أوردنا تعريفه له مع تعاريف بعض العلماء الآخرين.

ولعل من المفيد ونحن بصدد الكلام عن أغراض الخبر الأصلية وأغراضه الأخرى التي تفهم من سياق الكلام أن نستكمل البحث هنا بذكر المعاني التي يحتملها الخبر كما جاءت في كتاب «الصاحبي».

قال أحمد بن فارس : «والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر كثيرة. فمنها «التعجب» نحو : ما أحسن زيدا ، و «التمني» نحو : وددتك عندنا ، و «الإنكار» نحو : ما له عليّ حق ، و «النفي» نحو : لا بأس عليك ، و «الأمر» نحو قوله جلّ ثناؤه : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١) ، و «النهي» نحو قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ،) و «التعظيم» نحو : سبحان الله ، و «الدعاء» ، نحو : عفا الله عنه ، و «الوعد» نحو قوله جلّ وعزّ : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ ،) و «الوعيد» نحو قوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرط وجزاء نحو قوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) فظاهره خبر ، والمعنى إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومثله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ،) المعنى من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرّحها بإحسان.

والذي ذكرناه في قوله جل ثناؤه : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الحكيم هو تبكيت. وقد جاء في الشعر مثله. وقال شاعر يهجو جريرا :

أبلغ جريرا وأبلغ من يبلّغه

أني الأغرّ وأني زهرة اليمن

فقال جريرا مبكتا له :

ألم تكن في وسوم قد وسمت بها

من حان موعظة يا زهرة اليمن؟

__________________

(١) يتربصن : ينتظرن. قروء : جمع تكسير مفرده قرء بضم القاف أو فتحها ، ويطلق على الطهر الحاصل بين الحيضتين للمرأة.

٦٧

ويكون اللفظ خبرا والمعنى دعاء وطلب ، نحو : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) معناه فأعنا على عبادتك. ويقول القائل : أستغفر الله ، والمعنى «اللهم اغفر». قال الله جل ثناؤه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ). ويقول الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل (١)

مما تقدم نرى أن ابن فارس قد أورد من المعاني التي يحتملها لفظ الخبر أحد عشر معنى ، وأن إيراده لهذه المعاني إما على سبيل المثال أو على أنها أهم معاني الخبر التي يكثر تداولها في الكلام. نقول ذلك لأن المعاني التي يحتملها لفظ الخبر ويدل عليها لا حصر لها ، وأنها أكثر من أن تستقصى.

__________________

(١) كتاب الصاحبي لابن فارس ص ١٧٩.

٦٨

الإنشاء

مقدمة

في البحث السابق عرضنا للخبر فاستوفينا القول عنه من حيث مفهومه ، وأضربه ، وأغراضه الأصلية ، ومؤكداته ، وأغراضه الأخرى التي يحتملها لفظه. والآن ننتقل إلى قسيم الخبر ، أو إلى القسم الثاني من الكلام ، وهو «الإنشاء» فنفصل القول فيه.

وإذا كان الإنشاء قسيم الخبر ، وكان الخبر هو ما يحتمل الصدق والكذب ، فإن الإنشاء إذن هو الكلام الذي لا يحتمل الصدق والكذب لذاته ، وذلك لأنه ليس لمدلول لفظه قبل النطق به وجود خارجي يطابقه أو لا يطابقه.

فالمعري مثلا عند ما يقول :

لا تظلموا الموتى وإن طال المدى

إني أخاف عليكم أن تلتقوا

قد استعمل أحد أساليب الإنشاء وهو أسلوب النهي في قوله : «لا تظلموا الموتى». ونحن لا يمكننا هنا أن نقول إن المعري صادق أو كاذب في

٦٩

نهيه عن ظلم الموتى ، وذلك لأنه لا يعلمنا بحصول شيء أو عدم حصوله ، وليس لمدلول لفظه قبل النطق به وجود خارجي يمكن أن يقارن به ، فإن طابقه قيل : إنه صادق ، أو خالفه قيل : إنه كاذب.

ومثل هذا القول ينطبق على سائر أساليب الإنشاء من أمر واستفهام وتمن ونداء ، فليس لمدلول أي لفظ منها قبل النطق به وجود خارجي يعرض عليه مدلوله ويقارن به ، فإن طابقه قيل : إنه صادق ، أو خالفه قيل : إنه كاذب.

وعدم احتمال الأسلوب الإنشائي للصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الأسلوب بغض النظر عما يستلزمه ، وإلا فإن كل أسلوب إنشائي يستلزم خبرا يحتمل الصدق والكذب.

فقول القائل : «اجتهد» يستلزم خبرا هو «أنا طالب منك الاجتهاد» ، وقوله : «لا تكسل» يستلزم خبرا هو : «أنا طالب منك عدم الكسل» وهكذا ...

فالخبر الذي يستلزمه الأسلوب الإنشائي ليس مقصودا ولا منظورا إليه ، وإنما المقصود والمنظور إليه هو ذات الأسلوب الإنشائي ، وبذلك يكون عدم احتمال الإنشاء الصدق والكذب إنما هو بالنظر إلى ذات الإنشاء.

أقسام الإنشاء :

والإنشاء قسمان : طلبي وغير طلبي.

أ ـ فالإنشاء الطلبي : هو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب. وهو خمسة أنواع على الوجه التالي :

١ ـ الأمر : نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا).

٧٠

٢ ـ النهي : نحو قوله تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

٣ ـ الاستفهام : نحو قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟)

٤ ـ التمني : نحو قوله تعالى : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.)

٥ ـ النداء : نحو قوله تعالى : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا).

هذه هي أساليب الإنشاء الطلبي الخمسة ، وكل واحد منها لا يحتمل صدقا ولا كذبا ، وإنما يطلب به حصول به شيء لم يكن حاصلا وقت الطلب ، ولذلك يسمى الإنشاء فيها طلبيا.

ب ـ أما الإنشاء غير الطلبيّ : فهو ما لا يستدعي مطلوبا. وله أساليب وصيغ كثيرة منها :

١ ـ صيغ المدح والذم من مثل : نعم وبئس ، وحبذا ولا حبذا.

وفيما يلي أمثله لهذه الصيغ :

قال زهير :

نعم امرأ هرم لم تعر نائبة

إلا وكان لمرتاع لها وزرا

وقال تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ ، بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ.)

وقال حرير :

يا حبذا جبل الريّان من جبل

وحبذا ساكن الريّان من كانا

وحبذا نفحات من يمانية

تأتيك من قبل الريان أحيانا

وقال شاعر :

ألا حبذا عاذري في الهوى

ولا حبذا العاذل الجاهل

٢ ـ التعجب : وهو تفضيل شخص من الأشخاص أو غيره على أضرابه في وصف من الأوصاف. والتعجب يأتي قياسيا بصيغتين : «ما أفعله» و «أفعل به».

٧١

فمن الصيغة الأولى قول شقران الهزيمي :

أولئك قوم بارك الله فيهم

على كل حال ، ما أعف وأكرما!

ومن الصيغة الثانية : قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا).

٣ ـ القسم : ويكون بأحرف ثلاثة تجر ما بعدها وهي «الباء ، والواو والتاء» ، كما يكون بالفعل «أقسم» أو ما في معناه من مثل «أحلف».

«فالباء» هي الأصل في أحرف القسم الثلاثة ، وهي تدخل على كل مقسم به ، سواء أكان اسما ظاهرا أو ضميرا ، نحو «أقسم بالله» و «أقسم بك».

و «الواو» فرع عن الباء ، وتدخل على الاسم الظاهر فقط ، نحو قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى).

و «التاء» فرع من الواو ، بمعنى أنها لا تدخل على كل الأسماء الظاهرة ، وإنما تدخل على اسم الله تعالى فقط ، نحو قوله تعالى : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

ومن صيغ القسم التي ترد كثيرا في الأساليب العربية «لعمر» مضافة إلى اسم ظاهر أو ضمير مثل «لعمر الله» و «لعمرك» والتقدير : لعمر الله ، ولعمرك قسمي أو يميني أو ما أحلف به ، وذلك نحو قول معن بن أوس :

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

على أينا تعدو المنية أول

وقول ابن الرومي :

لعمرك ما الدنيا بدار إقامة

إذا زال عن نفس البصير غطاؤها

وكيف بقاء العيش فيها وإنما

ينال بأسباب الفناء بقاؤها؟

٤ ـ الرجاء : ويكون بحرف واحد هو «لعلّ» ، وبثلاثة أفعال هي :

عسى ، وحرى ، واخلولق.

٧٢

و «لعل» التي تعد من صيغ الإنشاء غير الطلبي هي التي تفيد الرجاء ، نحو قول ذي الرمّة :

لعل انحدار الدمع يعقب راحة

من الوجد أو يشفي شجيّ البلابل (١)

أما «لعل» التي تكون بمعنى «كي» نحو قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، و (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، و (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) أي كي تتقوا ، وكي تتذكروا ، وكي يتذكر ، وكذلك «لعل» التي بمعنى «ظنّ» نحو قول امرىء القيس :

وبدلت قرحا داميا بعد صحة

لعل منايانا تحولنّ أبؤسا

فإن «لعل» في هاتين الحالين لا تفيد الرجاء ، وبالتالي لا تعد من صيغ الإنشاء غير الطلبي.

ومن أمثلة أفعال الرجاء قوله تعالى : عسى (اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ،) وقول الشاعر :

عسى فرج يأتي به الله إنه

له كلّ يوم في خليقته أمر

وقول الأعشى :

إن يقل هنّ من بني عبد شمس

فحرى أن يكون ذاك ، وكانا

ونحو «اخلوقت السماء أن تمطر» بمعنى «عسى».

٥ ـ صيغ العقود : من نحو قولك : بعت ، واشتريت ، ووهبت ، وقولك لمن أوجب لك الزواج «قبلت هذا الزواج».

والفرق بين الإنشاء الطلبي وغير الطلبي ، أن الإنشاء الطلبي هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه ، فإذا أمرت الأم ولدها قائلة : «اغسل يديك وفمك قبل الأكل وبعده» فإن لفظ الأمر «اغسل» قد سبق إلى الوجود قبل وجود معناه ، أي قبل قيام المأمور ، بتنفيذ ما أمر به وهو «غسل اليدين

__________________

(١) الشجي : الحزين ، والبلابل : جمع بلبال وهو الهم ووسواس الصدر. والمراد بشجي البلابل المحزون الذي امتلأ صدره حزنا وهما.

٧٣

والفم». ومن هنا قيل إن الإنشاء الطلبي هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه ، أو هو ما يسبق وجود لفظه على وجود معناه.

أما الإنشاء غير الطلبي فهو ما يقترن فيه الوجودان ، بمعنى أن يتحقق وجود معناه في الوقت الذي يتحقق فيه وجود لفظه ، أي في الوقت الذي يتم اللفظ به. فإذا قال شخص لآخر زوجتك ابنتي ، فقال الآخر : «قبلت هذا الزواج» فإن معنى الزواج أو وجوده يتحقق في وقت التلفظ بكلمة القبول.

والإنشاء غير الطلبي ليس من مباحث علم المعاني ، وذلك لقلة الأغراض البلاغية التي تتعلق به من ناحية ، ولأن أكثر أنواعه في الأصل أخبار نقلت إلى معنى الإنشاء من ناحية أخرى.

أما الإنشاء الذي هو موضع اهتمام البلاغيين ، لاختصاصه بكثير من الدلالات البلاغية فهو «الإنشاء الطلبيّ» والذي ننتقل الآن لدراسته بشيء من التفصيل.

* * *

الإنشاء الطلبي

عرفنا مما سبق أن الإنشاء قسيم الخبر ، وإذا كان الخبر هو كل كلام يحتمل الصدق والكذب ، فإن الإنشاء على عكسه هو ما لا يحتمل الصدق والكذب من الكلام.

وعلى حد تعريف البلاغيين هو ما يستدعي مطلوبا غير حاصل في وقت الطلب ، أو هو كما يقولون بعبارة أخرى : ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه.

وأهم أنواع الإنشاء الطلبيّ ، كما ذكرنا آنفا ، خمسة : «الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، والتمني ، والنداء». نقول ذلك لأن من أنواع الإنشاء الطلبيّ أيضا «العرض والتحضيض (١)» ، ولكن الأنواع الخمسة الأولى أكثر

__________________

(١) «العرض» بفتح العين وسكون الراء ، وأداته «ألا» بتخفيف اللام ، و «التحضيض» أداته

٧٤

استعمالا وحملا لشتى الدلالات واللطائف البلاغية ولذلك نقصر الحديث عليها.

أولا ـ الأمر :

وهو طلب الفعل على وجه الاستعلاء والإلزام. ويقصد بالاستعلاء أن ينظر الآمر لنفسه على أنه أعلى منزلة ممن يخاطبه أو يوجه الأمر إليه ، سواء أكان أعلى منزلة منه في الواقع أم لا.

وللأمر أربع صيغ تنوب كل منها مناب الأخرى في طلب أي فعل من الأفعال على وجه الاستعلاء والإلزام. وهذه هي :

أ ـ فعل الأمر : نحو قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وقوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها).

ونحو قول الشاعر :

ذريني فإن البخل لا يخلد الفتى

ولا يهلك المعروف من هو فاعله

وقول شاعر آخر يطلب من شباب العروبة أن يعملوا لمجد قومهم :

وانشر لقومك ما انطوى من مجدهم

وأعد فخار جدودك القدماء

هم ورثوك المجد أبيض زاهرا

فاحمله مثل الشمس للأبناء

__________________

«هلا» بتشديد اللام ، ويجمعهما التنبيه على الفعل ، إلا أن في التحضيض زيادة توكيد وحث. وبين العرض والتحضيض اجتماع وافتراق : فهما يجتمعان في أن كل واحد منهما طلب ، على معنى أن المتكلم طالب من المخاطب أن يحدث الفعل الذي بعد أداة العرض والتحضيض ، وهما يختلفان في أن العرض طلب مع لين ورفق ، والتحضيض مع حث وإزعاج ، ولكل منهما مواضع تليق به. فمثال العرض قول الشاعر :

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك ، فما راء كمن سمعا؟

ويأتي التحضيض في مثل قول عبيد بن الأبرص الأسدي ردا على امرىء القيس عند ما هدد وأنذر قبيلة عبيد لقتلها حجرا والده قال عبيد بن الأبرص :

يا ذا المخوفنا بقت

ل أبيه إذلالا وحينا

هلا على حجر بن أم

قطام تبكي لا علينا؟

هلا سألت جموع كن

دة يوم ولوا : أين أينا؟

٧٥

ب ـ المضارع المقرون بلام الأمر : نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

ونحو قول أبي الطيب المتنبي في مدح سيف الدولة :

كذا فليسر من طلب الأعادي

ومثل سراك فليكن الطلاب (١)

وقول أبي تمام راثيا بني حميد الطوسي :

كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

ج ـ اسم فعل الأمر : ومنه «عليكم» اسم فعل أمر بمعنى «الزموا» نحو قوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ،) ونحو قول الأخطل التغلبي :

فعليك بالحجاج لا تعدل به

أحدا إذا نزلت عليك أمور

ومنه «بله» بمعنى «دع» كقول الشاعر في صفة السيوف :

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكفّ كأنها لم تخلق

ومنه «رويده» بمعنى : أمهله ، كقول الشاعر :

رويد الذي محضته الود صافيا

إذا ما هفا حتى يظل أخا لكا

د ـ المصدر النائب عن فعل الأمر : نحو قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) بمعنى وأحسنوا إلى الوالدين إحسانا ، ونحو قوله تعالى أيضا : و (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فضرب الرقاب (٢) ، ونحو : أيها القوم استجابة

__________________

(١) السرى : السير ليلا.

(٢) أصله فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف فعل الأمر وقدم المصدر فناب عنه مضافا إلى المفعول ، وضرب الرقاب عبارة عن القتل ، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته.

٧٦

لصوت الواجب ، وتلبية لنداء الضمير ، وإقداما في مواقف الشجاعة ، ودفاعا عن الوطن بكل ما أوتيتم من قوة.

ونحو قول قطري بن الفجاءة :

فصبرا في مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع

* * *

خروج الأمر عن معناه الأصلي :

ولكن الأمر قد يخرج عن معناه الحقيقي ، وهو طلب الفعل من الأعلى للأدنى على وجه الوجوب والإلزام ، للدلالة على معان أخرى يحتملها لفظ الأمر وتستفاد من السياق وقرائن الأحوال. ومن هذه المعاني :

١ ـ الدعاء : وهو الطلب على سبيل الاستغاثة والعون والتضرع والعفو والرحمة وما أشبه ذلك. ويسميه ابن فارس «المسألة» ، وهو يكون بكل صيغة للأمر يخاطب بها الأدنى من هو أعلى منه منزلة وشأنا ، نحو قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ).

ونحو قول المتنبي مخاطبا سيف الدولة :

أخا الجود أعط الناس ما أنت مالك

ولا تعطين الناس ما أنا قائل

وقوله :

أجزني إذا أنشدت شعرا فإنما

بشعري أتاك المادحون مردّدا

ودع كل صوت غير صوتي فإنما

أنا الطائر المحكي والآخر الصدى

٢ ـ الالتماس : وهو طلب الفعل الصادر عن الأنداد والنظراء المتساوين قدرا ومنزلة ، نحو قول الشاعر محمود سامي البارودي :

يا نديمي من «سرنديب» كفّا

عن ملامي وخلياني لما بي

يا خليليّ خلّياني وما بي

أو أعيدا إليّ عهد الشباب

٧٧

ونحو قول شاعر يوجه الخطاب إلى صاحبته :

يا مزاجا من رقة الزهر والفج

ر ومن روعة الضحى والمساء

بلبليّ التغريد صوتك يسري

في خيالي منوّرا كالرجاء

شجعيني على الجهاد تريني

أنطق الصخر أرتقي للسماء

علميني معنى الطلاقة والخلد

مقيما يا ربّة الإيحاء

طهّريني بفيض قدسك ما اسطع

ت ، وألقي عليّ ثوب الرضاء

وارفعيني إلى سمائك أنشد

لك شعرا يموج موج الضياء

وأفيضي عليّ بالوحي أبدع

كلّ لحن معبّر عن وفائي

فالأمر في كل هذه الأبيات قد خرج عن معناه الحقيقي إلى الالتماس لأن الشاعر وصاحبته رفيقان يستويان قدرا ومنزلة.

٣ ـ التمني : وهو طلب الأمر المحبوب الذي يرجى وقوعه إما لكونه مستحيلا ، وإما لكونه ممكنا غير مطموع في نيله ، نحو قول عنترة العبسيّ :

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي (١)

وقول امرىء القيس :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح ، وما الإصباح منك بأمثل

وقول أبي العلاء المعري :

فيا موت زر إن الحياة ذميمة

ويا نفس جدّي إن دهرك هازل

٤ ـ النصح والإرشاد : وهو الطلب الذي لا تكليف ولا إلزام فيه ، وإنما هو طلب يحمل بين طيّاته معنى النصيحة والموعظة والإرشاد ، نحو قول أحد الحكماء لابنه : «يا بنيّ استعذ بالله من شرار الناس ، وكن من خيارهم على حذر». ومنه قول الشاعر محمود سامي البارودي :

__________________

(١) عبلة : صاحبة الشاعر. والجواء : واد في ديار بني عبس ، وعمي صباحا : انعمي.

٧٨

فانهض إلى صهوات المجد معتليا

فالباز لم يأو إلّا عالي القلل (١)

وكن على حذر تسلم ، فربّ فتى

ألقى به الأمن بين اليأس والوجل

ودع من الأمر أدناه لأبعده

في لجة البحر ما يغني عن الوشل (٢)

واخش النميمة واعلم أنّ صاحبها

يصليك من حرّها نارا بلا شعل

ومن الأمر الذي خرج إلى النصح والإرشاد أيضا الأبيات التالية :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم

فطالما استعبد الإنسان إحسان

شاور سواك إذا نابتك نائبة

يوما ، وإن كنت من أهل المشورات

واخفض جناحك إن منحت إمارة

وارغب بنفسك عن ردى اللذات

فاربأ بنفسك أن يضيمك ضائم

وافعل كفعل الفتية القدراء

٥ ـ التخيير : وهو أن يطلب من المخاطب أن يختار بين أمرين أو أكثر ، مع امتناع الجمع بين الأمرين أو الأمور التي يطلب إليه أن يختار بينها ، نحو : «تزوج بثينة أو أختها» ؛ فالمخاطب هنا مخيّر بين زواج بثينة أو أختها ، ولكن ليس له أن يجمع بينهما.

ومن هذا الأمر الذي يستفاد منه التخيير قول بشار بن برد :

فعش واحدا أو صل أخاك فإنه

مقارف ذنب مرة ومجانبه (٣)

وقول مهيار الديلميّ :

وعش أمّا قرين أخ وفيّ

أمين الغيب أو عيش الوحاد

٦ ـ الإباحة : وتكون الإباحة حيث يتوهم المخاطب أن الفعل محظور عليه ، فيكون الأمر إذنا له بالفعل ، ولا حرج عليه في الترك ، وذلك نحو

__________________

(١) الباز والبازي : الصقر وهو من أشد الحيوانات زهوا ، والقلل : جمع قلة ، وهي قمة الجبل.

(٢) الوشل بتحريك الواو والشين : الماء القليل يتحلب من جبل أو صخرة قليلا قليلا من غير اتصال.

(٣) مقارف الذنب : مرتكبه.

٧٩

قوله تعالى في شأن الصائمين : (كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ).

ومن الأمر الذي خرج المعنى فيه إلى الإباحة قول أبي فراس معاتبا سيف الدولة من قصيدة بعث بها إليه وهو أسير في بلاد الروم :

فدت نفسي الأمير ، كأنّ حظي

وقربي عنده ما دام قرب

فلما حالت الأعداء دوني

وأصبح بيننا بحر و «درب»

ظللت تبدل الأقوال بعدي

ويبلغني اغتيابك ما يغب (١)

فقل ما شئت فيّ فلي لسان

مليء بالثناء عليك رطب

وعاملني بإنصاف وظلم

تجدني في الجميع كما تحب

٧ ـ التعجيز : وهو مطالبة المخاطب بعمل لا يقوى عليه ، إظهارا لعجزه وضعفه وعدم قدرته ، وذلك من قبيل التحدي ، نحو قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ،) ونحو قوله تعالى في شأن من يرتابون في نزول القرآن على الرسول :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فليس المراد طلب إتيانهم بسورة من مثل القرآن الكريم لأنه محال عليهم أن يأتوا بسورة من نوعه ، وإنما المراد هو تحديهم وإظهار عجزهم.

ومن الأمر الذي خرج إلى التعجيز قول الطغرائي :

حب السلامة يثني همّ صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا

في الأرض ، أو سلّما في الجو فاعتزل

وقول آخر :

أروني بخيلا طال عمرا ببخله

وهاتوا كريما مات من كثرة البذل

٨ ـ التهديد : ويكون باستعمال صيغة الأمر من جانب المتكلم في

__________________

(١) ما يغب : ما ينقطع ، بمعنى اغتيابك لا يتأخر عني يوما بل يصل إلي كل يوم.

٨٠