علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

١
٢

٣
٤

مقدّمة

هذه محاضرات في علم المعاني ألقيتها على طلبة الصف الأول في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة بيروت العربية.

والقسم الأول من هذه المحاضرات يتضمن بحثا في مفهوم كل من البلاغة والفصاحة لدى علماء البلاغة العربية ، مع بيان اتفاقهما واختلافهما.

والقسم الثاني منها عرض تاريخي لنشأة علم المعاني ومراحل التطور والنمو التي مر بها في العصور المختلفة حتى صار علما مستقلا بذاته على يد عبد القاهر الجرجاني والبلاغيين من بعده ، مع بيان أثر هذا العلم في بلاغة الكلام.

أما القسم الثالث والأخير فيشتمل على دراسة تفصيلية لمباحث علم المعاني وفنونه ، مع الإكثار من الأمثلة والشواهد التي توضحها وتيسرها للطالبين.

وإني لآمل أن يجد الدارس في هذا البحث ما يعينه على تذوق جانب من البلاغة العربية والإفادة منه ، وما يكشف له كذلك عن دور علم المعاني في فن القول وبلاغته.

المؤلف

٥
٦

الفصل الأوّل

بين البلاغة والفصاحة

البلاغة مأخوذة من قولهم : بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلّغتها غيري ، والمبالغة في الأمر : أن تبلغ فيه جهدك وتنتهي إلى غايته ، وقد سميت البلاغة بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب سامعه فيفهمه. ويقال بلغ الرجل بلاغة ، إذا صار بليغا ، ورجل بليغ : حسن الكلام ، يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه (١) ، ويقال أبلغت في الكلام إذا أتيت بالبلاغة فيه. والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم ، وتسميتنا المتكلم بأنه بليغ نوع من التوسع ، وحقيقته أن كلامه بليغ ، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ، كما تقول : فلان رجل محكم وتعني أن أفعاله محكمة. قال الله تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) فجعل البلاغة صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم ، إلا أن كثرة الاستعمال جعلت تسمية المتكلم بأنه بليغ كالحقيقة ، كما أن كثرة الاستعمال أيضا جعلت تسمية كلمة مثل المزادة (٢) راوية كالحقيقة ،

__________________

(١) قد يعبر عن العقل بالقلب. قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ).

(٢) المزادة : القربة التي يحمل فيها الماء.

٧

وكان الراوية في الأصل حامل المزادة ، وهو البعير وما يجري مجراه ، ولهذا سمي حامل الشعر راوية.

ذلك مفهوم البلاغة لغة ، وقديما اختلف أهل العلم في مفهومها ووصفها بيانيا ، وقد أورد ابن رشيق القيراوني في كتابه العمدة (١) طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها من وردت هذه الأقوال على ألسنتهم ، بيد أن النظر في كل قول من هذه الأقوال لا يعطينا مفهوما جامعا مانعا للبلاغة ، ولكن ربما التمس مفهوم البلاغة المنشود من ثنايا بعض هذه الأقوال ، فلنحاول. سئل بعض البلغاء : ما البلاغة؟ فقال : قليل يفهم وكثير لا يسأم. وسئل آخر فقال : معان كثيرة في ألفاظ قليلة.

وقيل لأحدهم : ما البلاغة؟ فقال : إصابة المعنى وحسن الإيجاز. وسئل بعض الأعراب : من أبلغ الناس؟ فقال : أسهلهم لفظا ، وأحسنهم بديهة.

وقال خلف الأحمر : البلاغة لمحة دالة.

وقال الخليل بن أحمد : البلاغة كلمة تكشف عن البقية.

وقال المفضل الضبي : قلت لأعرابي : ما البلاغة عندكم؟ فقال : الإيجاز من غير عجز ، والإطناب من غير خطل.

وكتب جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي إلى عمرو بن مسعدة : إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا ، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيا.

وقيل لبعضهم : ما البلاغة؟ فقال : إبلاغ المتكلم حاجته بحسن إفهام السامع ، ولذلك سميت بلاغة.

وقثال آخر : البلاغة معرفة الفصل من الوصل.

وقيل البلاغة : حسن العبارة ، مع صحة الدلالة.

__________________

(١) كتاب العمدة ج : ١ ص ٢١٣. وابن رشيق : هو أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني (٣٨٥ ـ ٤٦٥ ه‍).

٨

وقيل البلاغة : القوة على البيان مع حسن النظام.

وقالوا : البلاغة ضد العيّ ، والعيّ : العجز عن البيان.

وقيل لأرسطاطاليس : ما البلاغة؟ قال : حسن الاستعارة.

وقيل لخالد بن صفوان : ما البلاغة؟ قال : إصابة المعنى والقصد إلى الحجة.

وقيل لإبراهيم الإمام : ما البلاغة؟ قال : الجزالة والإطالة.

وقال البحتري يمدح محمد بن عبد الملك بن الزيات حين استوزر ويصف بلاغته :

ومعان لو فصّلتها القوافي

هجّنت شعر جزول (١) ولبيد

حزن مستعمل الكلام اختيارا

وتجنبن ظلمة التعقيد

وركبن اللفظ القريب فأدركن

به غاية المراد البعيد

وقال العتابي : قيّم الكلام العقل ، وزينته الصواب ، وحليته الإعراب ، ورائضه اللسان ، وجسمه القريحة ، وروحه المعاني. وسئل ابن المقفع : ما البلاغة؟ فقال : اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة : فمنها ما يكون في السكوت ، ومنها يكون في الاستماع ، ومنها ما يكون في الإشارة ، ومنها ما يكون شعرا ، ومنها ما يكون سجعا ، ومنها ما يكون ابتداء ، ومنها ما يكون جوابا ، ومنها ما يكون في الحديث ، ومنها ما يكون في الاحتجاج ، ومنها ما يكون خطبا ، ومنها ما يكون رسائل ، فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى ، والإيجاز هو البلاغة.

وقال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني : أصل البلاغة الطبع ، ولها مع ذلك آلات تعين عليها وتوصل للقوة فيها ، وتكون ميزانا لها ، وفاصلة بينها وبين غيرها وهي ثمانية أضرب : الإيجاز ، والاستعارة ، والتشبيه ، والبيان ، والنظم ، والتصرف ، والمشاكلة ، والمثل.

__________________

(١) الشاعر الحطيئة.

٩

وقال عبد الله بن محمد بن جميل المعروف بالباحث : البلاغة الفهم والإفهام ، وكشف المعاني ، ومعرفة الإعراب ، والاتساع في اللفظ ، والسداد في النظم ، والمعرفة بالقصد ، والبيان في الأداء ، وصواب الإشارة ، وإيضاح الدلالة ، والمعرفة بالقول ، والاكتفاء بالاختصار عن الإكثار ، وإمضاء العزم على حكومة الاختيار ... قال : وكل هذه الأبواب محتاج بعضها إلى بعض ، كحاجة بعض أعضاء البدن إلى بعض : لا غنى لفضيلة أحدها عن الآخر ، فمن أحاط معرفة بهذه الخصال فقد كمل كل الكمال ، ومن شذ عنه بعضها لم يبعد من النقص بما اجتمع فيه منها ... قال : والبلاغة تخير اللفظ في حسن إفهام.

تلك طائفة من أقوال البلغاء في تحديد مفهوم البلاغة كما تصوّرها كل واحد منهم ، ومنها يمكن تحديد مفهوم البلاغة بأنها : وضع الكلام في موضعه من طول وإيجاز ، وتأدية المعنى أداء واضحا بعبارة صحيحة فصيحة ، لها في النفس أثر خلاب ، مع ملاءمة كل كلام للمقام الذي يقال فيه ، وللمخاطبين به.

ولعل تعريف عبد الله بن محمد بن جميل للبلاغة هو الأقرب إلى هذا التعريف ، كما أن مفهوم أبي الحسن الرماني للبلاغة متصل أكثر بأصلها ومباحثها.

ولكن البلاغة قبل هذا وبعد هذا فن قولي يعتمد على الموهبة وصفاء الاستعداد ، ودقة إدراك الجمال ، وتبين الفروق الخفية بين شتى الأساليب. ولا بد لطالب البلاغة من أمرين : قراءة عميقة متصلة لروائع الأدب وحفظ ما يستجيده منه ، ومران على التعبير من وقت لآخر عن بعض ما يجول في الخاطر وتحبش به النفس. ولا شك أن تضافر هذين الأمرين معا يعينان على تكوين الذوق الأدبي ونقد الأعمال الأدبية والحكم عليها.

ومن السهل أيضا أن نلتمس في أقوال البلغاء السابقة عناصر

١٠

البلاغة ، وهذه العناصر هي : اللفظ ، والمعنى ، وتأليف الألفاظ على نحو يمنحها قوة وتأثيرا حسنا ، ثم الدقة في اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ، وموضوعاته ، وحال السامعين ، والنزعة النفسية التي تسيطر عليهم.

وعلى هذا فلا بد للبليغ من التفكير في المعاني التي تموج في نفسه على أن تكون صادقة قوية يتجلى فيها أثر الابتكار وسلامة الذوق في تنسيقها وحسن ترتيبها ، فإذا تحقق له ذلك اختار لها من الألفاظ الواضحة المؤثرة ما يتلاءم وطبيعتها ويعبر عنها أجمل تعبير. ومع ذلك ينبغي أن نتذكر دائما أن البلاغة ليست في اللفظ وحده ، وليست في المعنى وحده ، وإنما هي في الارتباط العضوي بينهما ، وأثر لازم لسلامتهما وانسجامهما.

هذا عن البلاغة ، أما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ، ومقتضى الحال مختلف تبعا لتفاوت مقامات الكلام ، فمقام كل من التنكير ، والإطلاق ، والتقديم ، والذكر يباين عكسه من التعريف ، والقصر ، والتأخير ، والحذف ، ومقام الفصل يباين مقام الوصل ، ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب ومقام المساواة.

وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول يكون بمطابقته للاعتبار المناسب ، وانحطاط شأن الكلام يكون بعدم ذلك. فمقتضى الحال إذن هو الاعتبار المناسب.

وللبلاغة طرفان : طرف أعلى وهو حد الإعجاز وما يقرب منه ، وطرف أسفل وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات ، وبين هذين الطرفين مراتب كثيرة.

ولعلنا ندرك من كل ما تقدم أن البلاغة مرجعها إلى أمرين : تمييز الفصيح من غيره ، والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد.

أما تمييز الفصيح من غيره فمنه ما يبين في علم متن اللغة ، أو الصرف ، أو

١١

النحو ، أو يدرك بالحس ، وأما الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد فيكون عن طريق علم المعاني باستثناء المعنوي الذي يحترز عنه بعلم البيان.

الفصاحة :

وإذا ما انتقلنا من البلاغة إلى الفصاحة فإننا نرى أن الفصاحة في أصل الوضع اللغوي : الظهور والبيان ، فهي من قولهم : أفصح فلان عما في نفسه إذا أظهره ، والدليل على ذلك قول العرب : أفصح الصبح إذا ظهر وأضاء ، وأفصح اللبن إذا انجلت عنه رغوته فظهر ، وأفصح الأعجمي إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين ، وفصح اللحّان ، أي كثير اللحن والخطأ ، إذا عبر عما في نفسه وأظهره على جهة الصواب دون الخطأ.

وإذا كان الأمر كذلك فالفصاحة والبلاغة ترجعان إذن إلى معنى واحد وإن اختلف أصلاهما ، لأن كل واحد منهما إنما هو الإبانة عن المعنى وإظهاره.

ويذكر أبو هلال العسكري نقلا عن بعض علماء العربية ، أن الفصاحة تمام آلة البيان ، فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحا ، إذ كانت الفصاحة تتضمن معنى الآلة ، ولا يجوز على الله تعالى الوصف بالآلة ، وإنما يوصف كلامه بالفصاحة ، لما يتضمن من تمام البيان.

والدليل على ذلك عنده أن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف. وسمي الشاعر الأموي زياد بن سليمان مولى عبد القيس «زيادا الأعجم» لنقصان آلة نطقه عن إقامة الحروف (١). فقد كان كسائر الأعاجم لا يستطيع لفظ العين والخاء ، والصاد ، فكان ينطق كلمات مثل «الحمار» «الهمار» و «دعوتك» «دأوتك» و «تصنع»

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص : ٧ ـ ٨.

١٢

«تسنأ». ومع ما في هذه الألفاظ من القبح واللكنة فهو أعجم وشعره فصيح لتمام بيانه ، كقوله في رثاء المهلب بن المغيرة :

قل للقوافل والقريّ إذا قروا

والباكرين وللمجدّ الرائح (١)

إن المروءة والسماحة ضمنا

قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم الهجان وكل طرف سابح (٢)

فعلى هذا ـ كما يقول أبو هلال العسكري ـ تكون الفصاحة والبلاغة مختلفتين ، وذلك أن الفاصحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ ، لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى ، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب ، فكأنها مقصورة على المعنى.

وقد استدل أبو هلال على أن الفصاحة تتضمن اللفظ والبلاغة تتناول المعنى بالببغاء ، فالببغاء يسمى فصيحا ولا يسمى بليغا ، إذ هو مقيم الحروف ، وليس له قصد إلى المعنى الذي يؤديه.

ويرى أبو هلال كذلك أنه يجوز أن يسمى الكلام الواحد فصيحا بليغا إذا كان واضح المعنى ، سهل اللفظ ، جيد السبك ، غير مستكره فجّ ولا متكلف وخم ، ولا يمنعه من أحد الاسمين شيء ، لما فيه من إيضاح المعنى وتقويم الحروف.

ويذهب قوم إلى أن الكلام لا يسمى فصيحا حتى يجمع مع نعوت الجودة فخامة وشدة جزالة ، فإذا جمع الكلام نعوت الجودة ولم يكن فيه فخامة وفضل جزالة سمي بليغا ولم يسم فصيحا ، ويضربون لذلك مثلا قول إبراهيم بن العباس الصولي :

__________________

(١) القري : كل شيء على طريق واحد. إذا قروا : إذا ساروا في الأرض.

(٢) العقر : قطع قوائم الفرس أو البعير أو الشاة بالسيف تمكينا من نحرها وذبحها. وكان العرب يعقرون الإبل على قبور الموتى ، أي ينحرونها ، ويقولون : إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كوم الهجان : الإبل الكريمة البيضاء الضخمة السنام. الطرف : الكريم من الخيل.

١٣

تمر الصبا صفحا بساكنة الغضى

ويصدع قلبي أن يهب هبوبها (١)

قريبة عهد بالحبيب وإنما

هوى كل نفس حيث حل حبيبها

فالبيت الأول عندهم فصيح وبليغ لاشتماله على نعوت الجودة مع الفخامة والجزالة ، والبيت الثاني بليغ وليس بفصيح ، لتضمنه نعوت الجودة دون الفخامة والجزالة.

وربما كان ضياء الدين بن الأثير (٢) أكثر من غيره تصورا وفهما لمعنى الفصاحة ، وذلك حيث يقول : «لم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول في الفصاحة والبحث عنها ، ولم أجد من ذلك ما يعوّل عليه إلا القليل ، وغاية ما يقال من هذا الباب أن الفصاحة هي الظهور والبيان في أصل الوضع اللغوي ، يقال : أفصح الصبح إذا ظهر ، ثم إنهم يقفون عند ذلك ولا يكشفون عن السر فيه ، وبهذا القول لا تبين حقيقة الفصاحة ، لأنه يعترض عليه بوجوه من الاعتراضات :

أحدها أنه إذا لم يكن اللفظ ظاهرا بينا لم يكن فصيحا ، ثم إذا ظهر وتبين صار فصيحا.

الوجه الآخر أنه إذا كان اللفظ الفصيح هو الظاهر البين فقد صار ذلك بالنسب والإضافات إلى الأشخاص ، فإن اللفظ قد يكون ظاهرا لزيد ولا يكون ظاهرا لعمرو ، فهو إذن فصيح عند هذا غير فصيح عند هذا ، وليس الأمر كذلك بل الفصيح هو الفصيح عند الجميع ، لا خلاف فيه بحال من الأحوال ، لأنه إذا تحقق حد الفصاحة وعرف ما هي ، لم يبق في اللفظ الذي يختص به خلاف.

الوجه الأخير أنه إذا جيء بلفظ قبيح ينبو عنه السمع ، وهو مع ذلك ظاهر بيّن ينبغي أن يكون فصيحا ، وليس كذلك لأن الفصاحة وصف حسن

__________________

(١) الصبا : الريح تهب من مطلع الشمس. الغضى : شجر من نبات الرمل. يصدع : يشق.

(٢) كتاب المثل السائر لابن الأثير ص ٢٦ ـ ٢٧.

١٤

للفظ لا وصف قبح. فهذه الاعتراضات الثلاثة واردة على قول القائل : «إن اللفظ الفصيح هو الظاهر البين من غير تفصيل» ثم يستطرد ابن الأثير فيقول : «ولما وقفت على أقوال الناس في هذا الباب ملكتني الحيرة ولم يثبت عندي منها ما أعول عليه. ولكثرة ملابستي هذا الفن ومعاركتي إياه انكشف لي السر فيه ، وسأوضحه في كتابي هذا وأحقق القول فيه فأقول : إن الكلام الفصيح هو الظاهر البين ، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة ، لا يحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة. وإنما كانت بهذه الصفة لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم والنثر دائرة في كلامهم ، وإنما كانت مألوفة في الاستعمال دائرة في الكلام دون غيرها من الألفاظ لمكان حسنها ، وذلك أن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها وسبروا ... فاختاروا الحسن من الألفاظ فاستعملوه ، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه ، فحسن الاستعمال سبب استعمالها دون غيرها ، واستعمالها دون غيرها سبب ظهورها وبيانها ، فالفصيح إذن من الألفاظ هو الحسن».

«فإن قيل : من أي وجه علم أرباب النظم والنثر الحسن من الألفاظ حتى استعملوه ، وعلموا القبيح منها حتى نفوه ولم يستعملوه؟.

قلت في الجواب : إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدها من نفسها ، لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات ، فالذي يستلذه السمع منها ويميل إليه هو الحسن ، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبيح. ألا ترى أن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشحرور ويميل إليهما ، ويكره صوت الغراب وينفر عنه ، وكذلك يكره نهيق الحمار ولا يجد ذلك في صهيل الفرس؟».

«والألفاظ جارية هذا المجرى ، فإنه لا خلاف في أن لفظة المزنة (١) والديمة حسنة يستلذها السمع وأن لفظة البعاق قبيحة يكرهها السمع ،

__________________

(١) المزنة : السحابة ذات الماء.

١٥

وهذه اللفظات الثلاثة من صفة المطر ، وهي تدل على معنى واحد ، ومع هذا فإنك ترى لفظتي المزنة والديمة وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال ، وترى لفظ البعاق وما جرى مجراه متروكا لا يستعمل ، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة أو من ذوقه غير سليم ...

وإذن ثبت أن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين ، وإنما كان ظاهرا بينا لأنه مألوف الاستعمال ، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه ، وحسنه مدرك بالسمع ، والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف.

فما استلذه السمع منه فهو الحسن ، وما كرهه فهو القبيح ، والحسن هو الموصوف بالفصاحة ، والقبيح غير موصوف بفصاحة لأنه ضدها لمكان قبحه.

وقد مثلت ذلك في المتقدم بلفظة المزنة والديمة ولفظة البعاق ، ولو كانت الفصاحة أمرا يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء ، ليس منها حسن وليس منها قبيح ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن «الفصاحة» تخص اللفظ دون المعنى.

وليس لقائل ههنا أن يقول : لا لفظ إلا بمعنى ، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى؟ فإني لم أفصل بينهما وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له ، والمعنى يجيء ضمنا وتبعا».

وتدعيما لرأيه السابق في قضية الحسن والقبح في اللفظ ، وردا على من ينكر ذلك ويزعم أن كل الألفاظ حسن وأن الواضع لم يضع إلا حسنا ، يقول ابن الأثير (١) في موضع آخر من كتابه : «ومن له أدنى بصيرة يعلم أن للألفاظ في الأذن نغمة لذيذة كنغمة أوتار وصوتا منكرا كصوت حمار ، وأن لها في الفم أيضا حلاوة كحلاوة العسل ومرارة كمرارة الحنظل ، وهي على

__________________

(١) المثل الثائر ص ٥٩.

١٦

ذلك تجري مجرى النغمات والطعوم».

«ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج (١) ، وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط (٢) ، وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل ، وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس (٣) ، فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب ، ولا يجاوب بجواب ، بل يترك وشأنه».

* * *

ولعل من المفيد أن نفرق منذ البدء بين البلاغة العربية والنقد الأدبي حيث لكل منهما ميدانه الخاص وفلكه الذي يدور فيه. فالبلاغة العربية تقف عند حدود البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل ، أما البحث في القيمة الجمالية للنص الأدبي المتكامل في أي صورة من صوره ، فهذا من وظيفة النقد الأدبي.

وعلى هذا المفهوم فإن البلاغة العربية تقدم بنظرياتها للناقد أهم الأدوات التي تعينه على تقييم الأعمال الأدبية والحكم عليها.

وما دام ميدان البلاغة العربية قاصرا على البحث في مظاهر الجمال الحسي والمعنوي في المفردات والجمل ، وما دمنا نحاول دراسة علم المعاني الذي هو أحد علوم البلاغة العربية ، فإن الأمر يستأدينا قبل الانتقال إلى مباحث هذا العلم تفصيلا أن نستكمل الكلام عن الفصاحة والبلاغة.

* * *

لقد عرفنا مما سبق حد كل من الفصاحة والبلاغة ، وخلاصته أن الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم ، فيقال : لفظة فصيحة ، وكلام فصيح ، ورجل فصيح. أما البلاغة فيوصف بها الكلام والمتكلم فقط ، فيقال : كلام بليغ ، ورجل بليغ. وبين الاثنين عموم وخصوص مطلق ،

__________________

(١) العسلوج : الغصن الناعم لسنته.

(٢) الإسفنط : اسم من أسماء الخمر فارسي معرب ، وقيل رومي معرب.

(٣) الفدوكس : الأسد.

١٧

فالفصاحة أعم والبلاغة أخص ، فكل فصيح بليغ ، وليس كل بليغ فصيحا.

وتتمثل فصاحة اللفظ أو المفرد في خلوه من ثلاثة أمور : تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس.

فتنافر الحروف هو في مثل لفظة «مستشزرات» من قول امرىء القيس :

غدائره مستشزرات إلى العلا

تضل العقاص في مثنّى ومرسل

فالشاعر هنا يصف غزارة شعر حبيبته ، فيقول : إن حبيبته لكثرة شعرها بعضه مرفوع ، وبعضه مثنى ، وبعضه مرسل ، وبعضه معقوص ملوى بين المثنى والمرسل.

وموضع الشاهد على التنافر هنا هو لفظة «مستشزرات» بمعنى «مرتفعات» فهي لفظة مستكرهة لثقلها على اللسان وعسر النطق بها. فتنافر الحروف فيها أدى إلى ثقلها وصعوبة التلفظ بها ، وهذا بدوره أنقص من فصاحتها وقلل من فصاحة البيت وجماله. ولا ضابط لمعرفة الثقل والصعوبة في اللفظ سوى الذوق السليم المكتسب بطول النظر في كلام البلغاء وممارسة أساليبهم.

وغرابة اللفظ أو المفرد مثل لفظة «مسرجا» بتشديد الراء التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج يقول فيها :

والسخط قطاع رجاء من رجا

أزمان أبدت واضحا مفلّجا

أغر براقا وطرفا أبرجا

ومقلة وحاجبا مزججا

وفاحما ومرسنا مسرّجا

وكفلا وعثا إذا ترجرجا

فالفاحم هنا الأسود ، وأراد به الشاعر شعرا أسود فاحما ، والمرسن الأنف الذي يشد بالرسن ثم استعير لأنف الإنسان ، أما مسرجا وهي اللفظة الغريبة هنا فمختلف في تخريجها ، فقيل من سرّجه تسريجا ، أي

١٨

حسّنه وبهّجه ، وقيل من قولهم : سيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له سريج ، شبه بها (السيوف) الأنف في الدقة والاستواء ، وقيل من السراج ، وهو قريب من قولهم : سرج وجهه بكسر الراء أي حسن ، والزجج دقة الحاجبين.

والمعنى أن لهذه المرأة الموصوفة ثنايا بيضاء مفلجة ، ومقلة واسعة حسنة سوداء ، وحاجبا مدققا مقوسا ، وشعرا أسود فاحما ، وأنفا كالسيف السريجي في دقته واستوائه ، أو كالسراج في بريقه وضيائه. وشاهد الغرابة فيه هو في لفظة «مسرجا» للاختلاف في تخريجها. فاللفظة إذا دلت على أكثر من معنى ، واختلف في تحديد المعنى المراد منها في موضعها فإنها تكتسب بذلك صفة الغرابة التي تنتقص من درجة فصاحتها.

أما مخالفة القياس فمثل لفظة «الأجلل» التي وردت في بيت من أرجوزة طويلة أيضا لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي ، أحد رجاز الإسلام والتي منها :

الحمد لله العلي الأجلل

الواهب الفضل الوهوب المجزل

أعطى فلم يبخل ولما يبخل

فالشاهد هنا هو مخالفة القياس اللغوي في قوله «الأجلل» إذ القياس القياس «الأجل» بالادغام. هذا كله بالنسبة إلى فصاحة المفرد.

أما فصاحة الكلام أو التركيب فتتمثل في خلوصه ، وسلامته من ثلاثة أمور أيضا هي : ضعف التأليف ، وتنافر الألفاظ ، والتعقيد لفظيا ومعنويا مع فصاحة المفردات التي يتألف منها.

فضعف التأليف في الكلام خروجه عن قواعد اللغة المطردة كرجوع الضمير على متأخر لفظا ورتبة في قول حسان بن ثابت :

ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا

من الناس أبقى مجده الدهر مطعما

١٩

فالضمير في «مجده» يعود إلى «مطعما» وهو متأخر في اللفظ كما نرى في البيت ، وفي الرتبة لأنه مفعول به ، ورتبة المفعول متأخرة على رتبة الفاعل.

فالبيت لهذا غير فصيح.

وتنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب ، يعني أن يسبب اتصال بعض ألفاظ الكلام ببعض ثقلا على السمع وصعوبة في النطق بها ، لأن النطق بالحروف المتقاربة في مخارجها أشبه بالمشي المقيد. ومثال ذلك قول الشاعر :

وقبر حرب بمكان قفر

وليس قرب قبر حرب قبر

ويقال إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد هذا البيت ثلاث مرات متواليات دون أن يتعتع (١) ، أي يتلعثم. والسبب بطبيعة الحال واضح ، لأن اجتماع كلمات البيت وقرب مخارج حروفها ، يحدثان ثقلا ظاهرا على اللسان والسمع معا ، مع أن كل لفظة أو مفردة منه لو أخذت وحدها كانت غير مستكرهة ولا ثقيلة.

ومن تنافر الألفاظ في الكلام أو التركيب أيضا قول أبي تمام ، حبيب ابن أوس الطائي ، من قصيدة له يمدح بها أبا الغيث موسى بن إبراهيم ويعتذر إليه :

كريم متى أمدحه أمدحه والورى

معي ، وإذا ما لمته لمته وحدي

فالتنافر هنا قد ولّده ما في قوله «أمدحه» من الثقل لقرب مخرج الحاء ، من مخرج الهاء ، لأن مخارج الحروف كلما قربت كانت الألفاظ مكدودة قلقة غير مستقرة في أماكنها ، وإذا بعدت كانت بعكس الأول. ولهذا لم يوجد في كلام العرب اجتماع العين مع الغين ولا مع الحاء ولا مع الخاء ، ولا اجتماع الطاء مع التاء حذرا من عسر النطق. وفي البيت أيضا ثقل آخر من جهة التكرار في «أمدحه» و «لمته».

ومن قبيح التنافر الناشىء عن التكرار قول الشاعر :

__________________

(١) انظر شرح شواهد التلخيص ص : ١٣.

٢٠