علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

وازورّ من كان له زائرا

وعاف عافي العرف عرفانه (١)

كذلك يشترط في فصاحة الكلام أو التركيب أن يسلم من التعقيد اللفظي الذي يترتب عليه خفاء الدلالة على المعنى المراد في الكلام بسبب تأخير الكلمات أو تقديمها عن مواطنها الأصلية ، أو بالفصل بين الكلمات التي يجب أن تتجاوز ويتصل بعضها ببعض ، وذلك كقول الفرزدق من قصيدة يمدح بها إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان :

ما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حيّ أبوه يقاربه

فالبيت كما ترى غير فصيح لضعف تأليفه الناشىء عن تعقيد ألفاظه وصعوبة استخلاص معناه. فالمعنى الذي حاول الفرزدق أن يعبر عنه في هذا البيت هو : وما مثله ـ يعني الممدوح ـ في الناس حي يقاربه ـ أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا ـ يعني هشام بن عبد الملك بن أخت الممدوح ـ أبو أمه ـ أي أبو أم هشام ـ أبوه ـ أي أبو الممدوح. فالضمير في «أمه» للمملّك ، وفي «أبوه» للمدوح.

فالشاعر في البيت قد فصل بين «أبو أمه» وهو مبتدأ ، و «أبوه» وهو خبر المبتدأ بأجنبي وهو «حي». وكذلك فصل بين النعت والمنعوت «حي يقاربه» بأجنبي وهو «أبوه» ، ثم قدم المستثنى وهو «مملكا» على المستثنى منه ، وهو «حي يقاربه».

فنظم البيت كما نرى في غاية التعقيد اللفظي ، وكان من حق الناظم أن يقول : وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه. فالخلل في نظم كلمات البيت بالتقديم والتأخير ، وبالفصل بين الكلمات التي يجب تجاورها واتصال بعضها ببعض قد جعل الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد.

__________________

(١) ازور عن الشيء : انحرف عنه وعدل. عاف : كره. عافي العرف : المحتاج إلى المعروف.

العرف والعرفان : المعروف.

٢١

وكما يشترط في فصاحة الكلام أن يسلم من التعقيد اللفظي فإنه يشترط فيه كذلك أن يسلم من التعقيد المعنوي ، وهو استعمال الكلمات عند إرادة التعبير عن معنى خاص في غير معانيها الحقيقية ، وبذلك يضطرب التعبير ، ويصعب الوصول إلى المعنى المراد. مثال ذلك قول العباس ابن الأحنف :

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا

وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

فالمعنى الذي قصد الشاعر التعبير عنه في هذا البيت هو : أطلب وأريد البعد عنكم أيها الأحبة لتقربوا ، إذ من عادة الزمان الإتيان بضد المراد ، فإذا أريد البعد يأتي الزمان بالقرب ، وكذلك أطلب الحزن الذي هو لازم البكاء ليحصل السرور بما هو من عادة الزمان.

فالشاعر أراد هنا أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود ، لظنه أن الجمود هو خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر. وقد أخطأ الشاعر في مراده إذ جمود العين هو خلوها من الدمع أو بخلها بالدمع الذي هو لازم البكاء عند إرادة البكاء منها ، كقول أبي عطاء يرثى ابن هبيرة :

ألا إن عينا لم تجد يوم واسط

عليك بجاري دمعها لجمود

إذن فالجمود لا يكون كناية عن السرور بل عن البخل ، وبهذا يكون الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع ، لا إلى ما قصده الشاعر من السرور.

فالشاعر ، كما نرى ، استعمل الكلمات في غير معانيها الحقيقية ، أو بعبارة أخرى لم يكن موفقا في اختيار الكلمات المعبرة عن معناه تعبيرا جليا واضحا ، ومن ثم عقد المعنى أو وقع في التعقيد المعنوي الذي أخلّ بفصاحة البيت.

ولعلنا أدركنا على ضوء هذا الشرح كيف أن فصاحة الكلام لا تتأتى

٢٢

إلا إذا سلم من ضعف التأليف ، وتنافر الكلمات ، والتعقيد اللفظي والمعنوي. أما الفصاحة في المتكلم فملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح.

* * *

٢٣
٢٤

الفصل الثاني

علم المعاني ـ نشأته وتطوّره

علم المعاني هو أحد علوم البلاغة الثلاثة المعروفة : المعاني والبيان والبديع. وقد كانت البلاغة العربية في أول الأمر وحدة شاملة لمباحث هذه العلوم بلا تحديد أو تمييز. وكتب المتقدمين من علماء العربية خير شاهد على ذلك ، ففيها تتجاور مسائل علوم البلاغة ويختلط بعضها ببعض من غير فصل بينها.

وشيئا فشيئا أخذ المشتغلون بالبلاغة العربية ينحون بها منحى التخصص والاستقلال ، كما أخذت مسائل كل فن بلاغيّ تتبلور وتتلاحق واحدة بعد الأخرى. وظل الأمر كذلك حتى جاء عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري «٤٧١ ه‍» ووضع نظرية علم المعاني في كتابه «دلائل الإعجاز» ونظرية علم البيان في كتابه «أسرار البلاغة» ، كما وضع ابن المعتز من قبله أساس علم البديع.

عبد القاهر الجرجاني إذن هو واضع أصول علمي المعاني والبيان ومؤسسهما في العربية ، وقد جعل من مباحث كلا العلمين وحدة يمكن النظر فيها نظرة شاملة.

٢٥

والعجيب أنه لم يحدث بعده تغيير يذكر في هذين العلمين ، لأنه استطاع أن يستنبط من ملاحظات البلاغيين قبله كل القواعد البلاغية فيهما ، وكان ذلك إيذانا بأن تتحول تلك القواعد من بعده إلى قوانين جامدة. وقد فتن البلاغيون بعمله فراحوا يرددون كلامه ويقفون عنده لا يتجاوزونه إلى عمق أو ابتكار ، كأنما البحث في البلاغة قد انتهى بعبد القاهر الجرجاني.

نقول ذلك لأن جهود البلاغيين من بعده انحصرت في جمع قواعد علوم البلاغة التي وضعها ، وفي ترتيب أبوابها ، واختصارها. وكان هذا الاختصار يصل أحيانا من الغموض والصعوبة إلى حيث يحتاج إلى شرح يوضح غامضه ، ويذلل صعابه ، فيقبل عليه الشراح ، ومنهم من يتوسع في الشرح إلى الحد الذي يجعل الإلمام بحقائق العلم أمرا عسيرا. وهكذا وصلت البلاغة نتيجة لذلك إلى أقصى ما يمكن من اختصارات وأقصى ما يمكن من شروح.

ومن أوائل من اتجهوا إلى الاختصار والتلخيص الفخر الرازي «٦٠٦ ه‍» في كتابه «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» ، فقد اختصر فيه كتابي «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة» لعبد القاهر. وفي ذلك يقول : «لما وفقني الله لمطالعة كتابي دلائل الإعجاز ، وأسرار البلاغة ، التقطت منهما معاقد فوائدهما ، وجمعت متفرقات الكلم / في الضوابط العقلية».

وظهر بجانب الرازي وفي عصره عالم ضرب بسهم وافر في الفلسفة والمنطق وأصول الفقه والاعتزال واللغة والبلاغة ، وكان له تأثير خطير على البلاغة العربية.

ذلك العالم هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦ للهجرة ، صاحب كتاب «مفتاح العلوم» الذي جعله أربعة أقسام : قسما في علم الصرف ، وقسما في علم النحو ، وقسما في علوم البلاغة ، وقسما في علم الشعر.

٢٦

لقد سارت دراسة البلاغة قبل السكاكي على منهاج من عدم الفصل بين فنونها ، لما في ذلك من خدمة الأدب وإمداده بأسباب القوة والجمال والوضوح. وكان لهذا المنهاج أثره وقيمته في إيقاظ المواهب وإرهاف الملكات الفنية لصناعة الأدب ، وإقدار أصحابها على التذوق الأدبي والتمييز بين جيد الكلام ورديئه.

ذلك كان مسار الدراسات البلاغية قبل السكاكي : تنبيه إلى مواطن الحسن والجمال من الكلام ، وشحذ لملكات صنّاعه الفنية ، ومحاولات للكشف عن العناصر الجمالية في البيان العربي ، وتربية لملكة الذوق ، وتمكين كل ذي موهبة أدبية من أن يقرأ ويفهم ، ويستحسن ويستقبح ، ويوازن ويفضل ، أو بعبارة أخرى من أن ينقد العمل الأدبي ويحكم عليه. في هذا المنهاج لم تكن محاولة الاهتداء إلى العناصر الجمالية في البيان العربي غاية في حد ذاتها بمقدار ما كانت وسيلة لشحذ الملكات ، وتنمية الذوق ، وإرهاف الحس ، وتكوين البلغاء والنقاد.

وعلى العكس من ذلك كان منهاج السكاكي في دراسة البلاغة ، فقد أصّل منهاجه فيها على أسس منطقية حولت البلاغة من فن إلى علم له قواعده ونظرياته التي إن نجحت في تكوين طبقات من البلاغيين فقد فشلت في تكوين البلغاء.

ومن هنا كانت خطورة منهاج السكاكي الذي يعد في تاريخ البلاغة بداية طور الجمود في دراستها. لقد خيل إليه أنه بمنهاجه المنظم المقنن يصلح من شأن البلاغة فإذا به من حيث لا يدري يفسدها ويسيء إليها.

وشهرة السكاكي في البلاغة مصدرها القسم الثالث من كتابه «مفتاح العلوم» ، فقد أفرد هذا القسم من كتابه للكلام عن علمي المعاني والبيان ولواحقهما من البلاغة والفصاحة والمحسنات البديعية بنوعيها اللفظي والمعنوي.

فمن خلال مجهودات البلاغيين من قبله وبخاصة عبد القاهر

٢٧

الجرجاني «٤٧١ ه‍» ، والزمخشري محمود بن عمر «٥٣٨ ه‍» والفخر الرازي «٦٠٦ ه‍» استطاع السكاكي تحقيق أمرين : أحدهما أن ينفذ إلى عمل ملخص دقيق لما نثره أولئك البلاغيون في كتبهم من آراء ، وكذلك لما توصل إليه هو من أفكار ، وثانيهما أن يصوغ كل ذلك في صيغ مضبوطة محكمة ، مستعينا فيها بقدرته المنطقية في التعليل والتعريف والتقسيم والتفريع والتشعيب. وبهذا تحولت البلاغة في مفهومه أولا وفي تلخيصه ثانيا إلى علم بأدق المعاني لكلمة علم ، فهي عنده قوانين وقواعد صبت في قوالب منطقية جافة باعدت بينها وبين وظيفتها الأساسية من إمتاع النفس ، وإرهاف الحس ، وتنمية الذوق ، والتمكين لذوي المواهب الأدبية من القدرة على الخلق والإبداع.

وقد عرّف السكاكي علم المعاني بقوله : «إنه تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ، ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره».

وهذا التعريف وحده نموذج لتأليف السكاكي الذي أفرغه في أسلوب علمي منطقي بعيد كل البعد عن جلاء العبارة ووضوح التأليف عند من تقدموه من البلاغيين.

فهو مثلا في هذا التعريف لا يقصد «بتراكيب الكلام» مطلق تراكيب ، وإنما يقصد تراكيب البلغاء لا التراكيب الصادرة عمن لا حظ لهم من البلاغة. وهو كذلك يقصد «بخواص التراكيب» ما يسبق إلى الفهم منها عند سماعها لكونها صادرة عن البليغ ، كما يقصد أيضا «بالإفادة» «الفهم» من قبل ذي الفطرة السليمة.

فالتعريف كما ترى لا يجود بمعناه في سهولة ويسر ، وإنما هو بعنّي طالبه عناء شديدا حتى يصل إليه ، إن وصل. ومن أجل هذا كثر شراح السكاكي وملخصو بلاغته كما سنبين فيما بعد ، وكأن البلاغة عند كل من تصدى لشرح أو تلخيص ما ورد عنها في كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي أقول كان

٢٨

البلاغة عند أولئك الشراح والملخصين أصبحت تنحصر في أمرين : أحدهما الالتزام ببلاغة السكاكي على أنها ختام البلاغة والذروة التي ليس بعدها مجال لمستزيد أو مجتهد. وثاني الأمرين إظهار المقدرة والبراعة في شرح كتاب «المفتاح» أو تلخيصه.

ويمكن حصر موضوعات علم المعاني التي وردت في القسم الثالث من كتاب «المفتاح» للسكاكي على النحو التالي :

١ ـ الخبر والطلب.

٢ ـ الإسناد الخبري باختلاف السامع من حيث خلو الذهن ، أو الشك ، أو الإنكار.

٣ ـ الإسناد ، وبيان أحوال المسند إليه والمسند ، من حيث : الحذف والذكر ، والتنكير والتعريف ، والتقديم والتأخير ، والتخصيص والمقتضيات البلاغية لذلك.

٤ ـ الفعل ومتعلقاته.

٥ ـ الفصل والوصل.

٦ ـ الإيجاز والإطناب ، وبيان كيف أنهما نسبيان.

٧ ـ القصر ، وأنواعه ، وطرقه.

٨ ـ الطلب ، ويندرج تحته :

أ ـ مقدمة عن الطلب مستمدة من كلام المناطقة عن التصور والتصديق وما يحصل في الذهن ، وما يحصل في الخارج.

ب ـ أنواع الطلب الخمسة : التمني ، والاستفهام ، والأمر ، والنهي ، والنداء ، وأدوات كل نوع منها ، ووظائفها.

ج ـ الأغراض البلاغية أو المعاني الإضافية التي يخرج الطلب عن معانيه الأصلية من أجل الدلالة عليها ، وذلك مثل : التعجب ، والإنكار ، والاستبطاء ، والنفي.

ولما كانت عنايتنا في هذا البحث مقصورة على علم المعاني وحده ،

٢٩

فتلك هي موضوعاته كما وردت في كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي ، أو بمعنى أدق كما وردت في القسم الثالث منه ، والذي تكلم فيه عن علمي المعاني والبيان ، ولواحقهما من البلاغة والفصاحة ، والمحسنات البديعية بنوعيها اللفظي والمعنوي.

وكما قلت آنفا لقد نال هذا الكتاب شهرة فائقة في ميدان البلاغة بالذات ، ولقد فتن العلماء به إلى الحد الذي جعلهم ينسون أنفسهم وينكرون ملكاتهم. ولهذا ظلوا قرابة خمسة قرون ابتداء من القرن السابع الهجري عاكفين على شرحه وتلخيصه ، وكأنه لم يؤلف في البلاغة العربية غير هذا الكتاب الذي استأثر باهتمامهم وعنايتهم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر هنا بعض من توفروا على كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي شرحا وتلخيصا. فممن عنوا بشرحه :

١ ـ قطب الدين محمود الشيرازي «٧١٠ ه‍» شرحه في كتاب سماه «مفتاح المفتاح».

٢ ـ محمد بن مظفر الخلخالي «٧٤٥ ه‍» شرحه في كتاب سماه «شرح المفتاح».

٣ ـ السيد الشريف الجرجاني «٨١٦ ه‍» شرح القسم الثالث من المفتاح.

٤ ـ ابن كمال باشا «٩٤٠ ه‍» ألف شرح المفتاح.

وممن عنوا بتلخيصه :

١ ـ بدر الدين بن مالك «٦٦٨ ه‍» ، اختصره في كتاب سماه «المصباح في اختصار المفتاح». وقد نال هذا المختصر شهرة واسعة لدى طلاب البلاغة في بلاد المغرب.

٢ ـ أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني «٧٣٩ ه‍» ، وقد اختصره في كتاب سماه «تلخيص المفتاح».

٣ ـ عبد الرحمن الشيرازي «٧٥٦ ه‍» وسمى تلخيصه لكتاب المفتاح

٣٠

«الفوائد الغياثية في علوم المعاني والبيان والبديع».

ولعل أوسع هذه الكتب أو التلخيصات شهرة بين المشارقة في كل العصور هو كتاب «تلخيص المفتاح» في المعاني والبيان والبديع للخطيب القزويني الآنف الذكر.

فهذا الكتاب قد تنوع اهتمام العلماء به ، فمنهم من شرحه ، ومن نظمه ، ومن لخصه. فممن شرحه :

١ ـ الخطيب القزويني نفسه ، فقد وضع له شرحا سماه «إيضاح التلخيص» قصد به إيضاح ما أبهم واستغلق منه كما ضم إليه بعض ما فاته في التلخيص مما تضمنه المفتاح ، وبعض زيادات أخرى من كتابي عبد القاهر «دلائل الإعجاز» و «أسرار البلاغة».

٢ ـ محمد بن مظفر الخلخالي «٧٤٥ ه‍» وضع له شرحا سماه «مفتاح تلخيص المفتاح».

٣ ـ بهاء الدين السبكي «٧٧٣ ه‍» وضع له شرحا سماه «عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح».

٤ ـ محمد بن يوسف ناظر الجيش «٧٧٨ ه‍» وضع له شرحا سماه «شرح تلخيص القزويني».

٥ ـ محمد البايرتي «٧٨٦ ه‍» ، وشمس الدين القونوي «٧٨٨ ه‍» وضع له كل منهما شرحا سماه «شرح تلخيص المفتاح للقزويني».

٦ ـ سعد الدين التفتازاني «٧٩٢ ه‍» وضع له شرحين : الشرح الكبير ، والشرح الصغير للتلخيص.

٧ ـ ابن يعقوب المغربي «١١١٠ ه‍» صاحب كتاب «مواهب المفتاح في شرح تلخيص المفتاح».

وممن نظموه شعرا : خضر بن محمد مفتي أماسية ، وسمى نظمه «أنبوب البلاغة» ، وجلال الدين السيوطي ، وسمى نظمه «عقود الجمان» ،

٣١

ثم عاد فوضع لمنظومته شرحا ، وعبد الرحمن الأخضري ، وسمى نظمه «الجوهر المكنون في الثلاثة الفنون».

وممن قام باختصاره : عز الدين بن جماعة ، وأبرويز الرومي ، وزكريا الأنصاري.

وتلك الشروح والتلخيصات والمنظومات إن دلت على شيء فعلى جمود الفكر البلاغي وعقمه منذ عصر السكاكي. نقول ذلك لأن كل ما ظهر من شروح وتلخيصات لكتاب المفتاح لا تخرج عن كونها ترديدا وتكرارا لمادته ، ومحاولات قصد بها الإيضاح بالشرح أو التقريب والتبسيط عن طريق الإيجاز والتلخيص والنظم ، وإذا هي من حيث لا يريد ولا يدري أصحابها قد زادت المفتاح صعوبة على صعوبة.

وإنه ليخيل لمن يقرأ هذه الشروح والمتون أن واضعيها لم يكونوا علماء في البلاغة بمقدار ما كانوا معلمين لها ، يذكرون الكلمة أو العبارة من الأصل ثم يتبعونها بشرح المراد منها ، ولا يتجاوزون ذلك. كلهم في ذلك سواء ، وصدق فيهم بهاء الدين السبكي : «يتناولون المعنى الواحد بالطرق المختلفة ، ويتناوبون المشكل والواضح على أسلوب واحد ... لا يخالف المتأخر المتقدم إلا بتغيير العبارة ، ولا يجد له على حل ما استشكل على غيره جسارة ... قصارى أحدهم أن يعزو أبياتا من الشواهد لقائليها ، ويوسع الدائرة بما لا يقام له وزن من تكميل ناقصها ، وإنشاد ما قبلها وما يليها ... فلو نطق «التلخيص» لتلا ما جئتم به؟ «هذه بضاعتنا ردت إلينا».

فهذه الكتب الكثيرة التي أريد بها خدمة البلاغة والنقد قد عجزت عن أن تعلم نقدا أو بلاغة ، وهي إن دلت على شيء فعلى جمود عقول أصحابها وفقدانها القدرة على التجديد والابتكار.

والمقارنة بين ما كانت عليه البلاغة العربية في العصور الأولى وما صارت إليه في العصور المتأخرة ترينا كيف ازدهرت وتوهجت شعلتها على

٣٢

أيدي علمائها الأوائل ، ثم كيف جفّت وخبت شعلتها على أيدي المتأخرين منهم.

وقد ظل أمرها هكذا جمودا على جمود حتى قيّض لها من أدباء العربية وعلمائها في العصر الحديث من يعملون على إحيائها ونهضتها.

* * *

٣٣
٣٤

الفصل الثالث

علم المعاني وأثره في بلاغة الكلام

بعد أن فصّلنا القول عن البلاغة والفصاحة وأوجه اتفاقهما واختلافها ، وبعد الكلام عن نشأة علم المعاني ، وبيان كيف كانت أساليبه المختلفة مختلطة في أول الأمر بأساليب علمي البيان والبديع ، وكيف كان ينظر إليها جميعا على أنها وحدة تؤلف بمجموعها أصول البلاغة العربية ، وبعد أن عرفنا كيف أخذت كل هذه الأساليب على مر العصور تتبلور وتنحو منحى التميز والاستقلال ، حتى صارت أساليب البديع علما على يد ابن المعتز ، والأساليب المتصلة بكل من المعاني والبيان علما واضح المعالم والمباحث على يد كل من عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي ... أقول بعد ذلك كله نحاول الآن أن نتبين أثر علم المعاني في بلاغة الكلام.

وتوطئة للحديث عن هذا الموضوع يجدر بنا أن نتذكر أن الباحثين في البلاغة العربية منذ صدر الإسلام لم يكونوا مدفوعين إلى ذلك بباعث الشغف العلمي والبحث النظري المجرد في البلاغة ، وإنما حفزهم في الواقع إلى الاشتغال بها رغبة ملحة في تحقيق هدفين : هدف خاص وآخر عام.

أما الهدف الخاص فكان هدفا دينيا يرمي إلى معرفة إعجاز كتاب

٣٥

الله ، ومعرفة معجزة رسوله الذي أوتي جوامع الكلم وكان أفصح من نطق بالضاد.

وذلك الهدف يدل على مدى الأثر الذي خلفته الدراسات الأولى في البلاغة ، وهو البحث في أسرار الإعجاز وأسبابه ، واعتبارها مكملة للإيمان بالنبي ورسالته.

وقد أشار إلى ذلك عبد القاهر في كتابه دلائل الإعجاز بقوله : «إن الجهة التي منها قامت الحجة بالقرآن وظهرت ، وبانت وبهرت ، هي أنه كان على حد من الفصاحة تقصر عنه قوى البشر ، ومنتهيا إلى غاية لا يطمح إليها بالفكر ، وكان محالا أن يعرف كونه كذلك إلا من عرف الشعر الذي هو ديوان العرب وعنوان الأدب ، والذي لا يشك أنه كان ميدان القوم إذا تجاروا في الفصاحة والبيان ... ثم بحث عن العلل التي بها كان التباين في الفضل ، وزاد بعض الشعر على بعض» (١).

أما الهدف العام فلا يتعلق به غرض ديني ، وإنما هو محاولة الاطلاع على أسرار البلاغة والفصاحة في غير القرآن ، من كلام العرب شعره ونثره ، وذلك لأن من لا علم له بأوجه البلاغة يعجز عن التمييز بين الفصيح والأفصح ، والبليغ والأبلغ.

ويحضرنا هنا في معرض الكلام عن الهدف العام رأي فيه لأبي هلال العسكري مضمونه أن التهاون في طلب البلاغة من جانب صاحب العربية أيا كان قصور في الفهم وتأخر في المعرفة والعلم. وتفصيل ذلك الرأي كما يقول هو : «إن صاحب العربية إذا أخل بطلبه وفرط في التماسه ، ففاتته فضيلته ، وعلقت به رذيلة فوته ، عفي على جميع محاسنه ، وعمى سائر فضائله ، لأنه إذا لم يفرق بين كلام جيد وكلام رديء ، ولفظ حسن وآخر قبيح ، وشعر نادر وآخر بارد ، بان جهله وظهر نقصه. وهو أيضا إذا أراد أن

__________________

(١) دلائل الإعجاز : ص ٦ ـ ٧.

٣٦

يصنع قصيدة أو ينشىء رسالة ـ وقد فاته هذا العلم ـ مزج الصفو بالكدر ... واستعمل الوحشيّ العكر ، فجعل نفسه مهزأة للجاهل وعبرة للعاقل ... وإذا أراد أيضا تصنيف كلام منثور أو تأليف شعر منظوم ، وتخطى هذا العلم ، ساء اختياره له ، وقبحت آثاره فيه ، فأخذ المرذول وترك الجيد المقبول ، فدل على قصور فهمه ، وتأخر معرفته وعلمه» (١).

على هدى من هذه التوطئة التي توضح الهدفين اللذين كانا ـ ولم يزالا ـ منشودين من وراء الدراسات البلاغية نتقدم إلى بيان أثر علم المعاني في بلاغة الكلام.

ويمكن القول من البدء أن الأثر الذي يحدثه علم المعاني في بلاغة القول يتولد في الواقع من أمرين اثنين : بيان وجوب مطابقة الكلام لحال السامعين والمواطن التي يقال فيها ، والمعاني المستفادة من الكلام ضمنا بمعونة القرائن.

* * *

وتوضيحا للأمر الأول نقول : إن مباحث علم المعاني من شأنها أن تبين لنا وجوب مطابقة الكلام لحال السامعين والمواطن التي يقال فيها ، كما ترينا أن القول لا يكون بليغا كيفما كانت صورته حتى يلائم المقام الذي قيل فيه ، ويناسب حال السامع الذي ألقي عليه.

فللمخاطب الذي يلقى إليه خبر من الأخبار مثلا ثلاث حالات : ففي الحالة الأولى قد يكون خالي الذهن من الحكم الذي هو مضمون الخبر ، وعندئذ تقتضي مطابقة الكلام لحاله أن يلقى إليه الخبر مجردا عن أي تأكيد.

وفي الحالة الثانية قد يكون المخاطب على علم ما بالخبر ، ولكن علمه به يمتزج بالشك وله تطلع إلى معرفة الحقيقة ، وفي هذه الحالة وطبقا

__________________

(١) كتاب الصناعتين : ص ٢ ـ ٣.

٣٧

لمقتضيات البلاغة يحسن توكيد الخبر له إزالة للشك وتمكينا للخبر من نفسه.

وفي الحالة الثالثة قد يكون المخاطب على علم بالخبر ولكنه منكر جاحد له ، وعندئذ يجب أن يلقى الخبر مؤكدا بمؤكد أو أكثر تبعا لدرجة إنكاره قوة وضعفا.

على هذا الأساس إذا ألقي الخبر إلى خالي الذهن منه بالصورة التي يجب أن يلقى بها إلى المنكر له ، كان في ذلك خروج على مقتضيات البلاغة من جهة وجوب مطابقة الكلام لحال السامع الذي هو أصل من أصول علم المعاني.

كذلك من أصول علم المعاني أن يخاطب كل إنسان على قدر استعداده في الفهم وحظه من اللغة والأدب ، فلا يجوز أن يخاطب العامي بما ينبغي أن يخاطب به الأديب. فعكس الأمر هنا بلا داع فيه إخلال بما تتطلبه بلاغة المعنى ، لانعدام الملاءمة بين الكلام ومقامه.

ولعل فيما رواه صاحب الأغاني من حديث أحمد بن خلاد عن أبيه ما يوضح بالمثال هذا الأصل القائل بأن البلاغة هي في مخاطبة كل إنسان على قدر استعداده في الفهم وحظه من اللغة والأدب.

«قال أحمد بن خلاد : حدثني أبي قال : قلت لبشار : إنك لتجيء بالشيء الهجين (١) المتفاوت! قال : وما ذاك؟ قال : قلت : بينما تقول شعرا يثير النقع ، وتخلع به القلوب ، مثل قولك :

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما

إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة

ذرى منبر صلى علينا وسلما

تقول :

ربابة ربة البيت

تصب الخل في الزيت

لها عشر دجاجات

وديك حسن الصوت!

__________________

(١) الهجين من القول : ما يلزمك منه العيب.

٣٨

فقال بشار : لكلّ وجه وموضع ، فالقول الأول جدّ ، وهذا قلته في ربابة جاريتي ، وأنا لا آكل البيض من السوق ، وربابة لها عشر دجاجات وديك ، فهي تجمع لي البيض ، فهذا عندها من قولي أحسن من «قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل» عندك» (١).

وتتمثل مطابقة الكلام لمقتضى الحال أيضا فيما يتصرف فيه القائل من إيجاز وإطناب ، حيث لكل من الإيجاز والإطناب مقاماته التي تقتضيها حال السامع ومواطن القول.

فالذكي الذي تكفيه اللمحة أو الإشارة يحسن له الإيجاز ، والغبي أو المكابر يجمل عند خطابه الإطناب في القول.

فالبلاغة تقتضي استخدام أسلوب الإيجاز مع الذكي اعتمادا على سرعة فهمه وقدرته على استيعاب ما تحمله الألفاظ القليلة من المعاني الكثيرة ، وكذلك الشأن بالنسبة لأسلوب الإطناب ، فبلاغته تستلزم الإسهاب بالشرح والإيضاح ، إما طلبا لتمكين المخاطب من الفهم إن كان غبيا ، وإما لتنزيله منزلة قصار العقول إن كان قد تجاوز الحد في المكابرة والعناد.

وتأييدا لما ذكرنا عن الإيجاز والإطناب نورد هنا كلمتين توضح كل منهما رأي صاحبها في ذلك :

روي عن جعفر بن يحيى أنه قال مع إعجابه بالإيجاز : «متى كان الإيجاز أبلغ كان الإكثار عيّا ، ومتى كانت الكناية في موضع الإكثار كان الإيجاز تقصيرا».

وأمر يحيى بن خالد بن برمك اثنين أن يكتبا كتابا في معنى واحد ، فأطال أحدهما واختصر الآخر ، فقال للمختصر ـ وقد نظر في كتابه ـ : ما

__________________

(١) كتاب الأغاني : ج ٣ ص : ٦٠.

٣٩

أرى موضع زيادة ، وقال للمطيل : ما أرى موضع نقصان (١).

* * *

أما الأمر الثاني الذي يبحث فيه علم المعاني فهو دراسة ما يستفاد من الكلام ضمنا بمعونة القرائن.

فالكلام يفيد بأصل وضعه معنى نطلق عليه المعنى الحقيقي أو الأصلي ، ولكنه قد يخرج أحيانا عن المعنى الذي وضع له أصلا ليؤدي إلينا معنى جديدا يفهم من السياق وترشد إليه الحال التي قيل فيها.

فالغرض مثلا من إلقاء الخبر إلى المخاطب في أصل الوضع هو ، إمّا إفادته الحكم الذي تضمنه الخبر ، وإمّا إفادته أن المتكلم عالم بالحكم. كقولك : «كان عمر بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئا» ، وكقولك : «لقد كنت في مطار بيروت أمس».

ففي المثال الأول تريد إفادة السامع بما لم يكن يعرفه عن عمر بن عبد العزيز من الفقه والزهد في مال المسلمين. وفي المثال الثاني لا تريد إفادة السامع مضمون الكلام لأن ذلك معلوم له قبل أن تعلمه أنت ، فالسامع في هذه الحال لم يستفد علما بالخبر نفسه ، وإنما استفاد أنك عالم به.

ذلك هو الغرض من إلقاء الخبر في أصل الوضع ، إما إفادة المخاطب بالحكم ، وإما إفادته أن المتكلم عالم به. ولكن الخبر قد يخرج عن هذين المعنيين ليؤدي إلينا معنى جديدا يفهم من السياق.

تأمل مثلا قول أبي فراس الحمداني :

ومكارمي عدد النجوم ومنزلي

مأوى الكرام ومنزل الأضياف

وكذلك قول أبي العتاهية في رثاء ولده عليّ :

بكيتك يا عليّ بدمع عيني

فما أغنى البكاء عليك شيا

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص : ١٩٠.

٤٠