علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

والمنايا مواثل وأنو شر

وان يزجي الصفوف تحت الدرفس (١)

في اخضرار من اللباس على أص

فر يختال في صبيغة ورس (٢)

فقوله «على أصفر» ، أي : على فرس أصفر ، وهذا مفهوم من قرينة الحال ، لأنه لما قال : «على أصفر» علم بذلك أنه أراد فرسا أصفر ، كما أن «يختال» قرينة لفظية ، لأن الاختيال من صفات الخيل الحسنة.

٤ ـ ما يكون المحذوف صفة : ولا يسوغ هذا الحذف إلا في صفة تقدمها ما يدل عليها أو تأخر عنها أو فهم ذلك من شيء خارج عنها. أما الصفة التي تقدمها ما يدل عليها فنحو قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ،) فحذف الصفة ، أي : كان يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. ويدل على المحذوف قوله : «فأردت أن أعيبها» فإن عيبه إياها لم يخرجها عن كونها سفينة ، وإنما المأخوذ هو الصحيح دون المعيب. فحذفت الصفة هنا لأنه تقدمها ما يدل عليها.

وأما الصفة المحذوفة التي تأخر عنها ما يدل عليها فقول يزيد بن الحكم الثقفي :

كل امرىء ستئيم من

ه العرس أو منها يئيم (٣)

يريد : كل امرىء متزوج ، إذ دل عليه ما بعده من قوله : «ستئيم منه أو منها يئيم» إذ لا تئيم هي إلا من زوج ، ولا يئيم هو إلا من زوجة. فجاء بعد الموصوف ما دل عليه ، ولو لا ذلك ما صح معنى البيت ، إذ ليس كل

__________________

(١) الدرفس : العلم الكبير.

(٢) الورس : نبات يصبغ به.

(٣) آمت المرأة من زوجها تئيم أيما : إذا مات عنها زوجها أو قتل وأقامت لا تتزوج. وكذلك آم الرجل من زوجته يئيم : إذا ماتت عنه زوجته ولم يتزوج بعدها. والمعنى كل امرىء متزوج سيأتي عليه يوم تفقده فيه زوجته ، وكذلك كل امرأة متزوجة سيأتي عليها يوم يفقدها فيه زوجها.

١٨١

امرىء يئيم من عرس ولا تئيم منه عرس إلا إذا كان متزوجا.

وأما ما يفهم منه حذف الصفة فيه من شيء خارج عن الكلام فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» فإنه قد علم جواز صلاة جار المسجد في غير المسجد من غير هذا الحديث. فعلم حينئذ أن المراد به الفضيلة والكمال ، أي : لا صلاة أفضل أو أكمل لجار المسجد إلا في المسجد. وهذا شيء لم يعلم من نفس اللفظ وإنما علم من شيء خارج عنه.

٥ ـ ما يكون المحذوف القسم أو جوابه : فأما حذف القسم فنحو قولك : «لأفعلن» أي : والله لأفعلن ، أو غير ذلك من الأقسام المحلوف بها.

وأما حذف جواب القسم فنحو قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ ،) فإن معناه : ق والقرآن المجيد لتبعثن. والشاهد على ذلك ما بعده من ذكر البعث في قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ).

وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيرا ، كقوله تعالى في سورة النازعات : (وَالنَّازِعاتِ)(١) غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ، فجواب القسم ههنا محذوف تقديره : لتبعثن أو لتحشرن. ويدل على ذلك ما أتى به من ذكر القيامة في قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ،) وكذلك إلى آخر السورة.

__________________

(١) النازعات غرقا : الكواكب التي تجري وتغرق وتبالغ في الجري ، والناشطات نشطا : الكواكب المتنقلات من برج إلى برج ، والسابحات سبحا : الكواكب التي تسير في الجو سيرا هينا ، السابقات سبقا : الكواكب التي تتم دورتها في مدة أقل من غيرها ، كالقمر الذي يتم دورته كل شهر ، مع أن الشمس تتمها كل عام ، والمدبرات أمرا : أي المتسببات في حدوث الأمور المترتبة على سيرها من اختلاف الفصول ومعرفة عدد السنين والحساب.

١٨٢

٦ ـ ما يكون المحذوف لو وشرطها ، أو جوابها فقط : وذاك من ألطف ضروب الإيجاز وأحسنها. فأما حذف لو وشرطها معا كقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) إذن (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) تقدير ذلك : إذ لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق ...

وكذلك ورد قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) إذن (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) تقديره : إذ لو فعلت ذلك لارتاب المبطلون.

ومما جاء من ذلك شعرا قول قريط بن أنيف :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذا لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

ف «لو» في البيت الثاني محذوفة لأنها في البيت الأول قد استوفت جوابها بقوله : «لم تستبح إبلي» ، ثم حذفها في الثاني وتقدير حذفها : إذ لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن ، أو إذ لو كانوا قومي لقام بنصري معشر خشن.

وأما حذف جواب «لو» فكثير شائع نحو : «لو زرتنا أو لو ألممت بنا» معناه : لأحسنا إليك أو لأكرمناك أو ما جرى هذا المجرى.

ومنه قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أراد : لكان هذا القرآن. فحذف الجواب اختصارا لعلم المخاطب بأن الشرط المذكور لا بد له من جواب.

* * *

هذا عن القسم الأول من أقسام إيجاز الحذف وهو حذف مفرد أو كلمة. وهذا النوع من الحذف يتصرف على أربعة عشر ضربا أتينا هنا على

١٨٣

ستة أضرب منها على سبيل المثال (١).

أما القسم الثاني من أقسام إيجاز الحذف وهو حذف جملة أو أكثر ، فمن أمثلته قوله تعالى في حكاية موسى عليه‌السلام مع اب ابنتي شعيب :

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). فالمحذوف هنا جمل عدة ، ونظم الكلام من غير حذف أن يقال : فذهبتا إلى أبيهما وقصتا عليه ما كان من أمر موسى ، فأرسل إليه ، (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ).

ومن أمثلة الإيجاز بحذف أكثر من جملة أيضا قوله تعالى في قصة سليمان وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس : (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ. اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ ...).

فالمحذوف هنا أكثر من جملة ونظم الكلام من غير حذف أن يقال : فأخذ الهدهد الكتاب وذهب به إلى بلقيس فلما ألقاه إليها وقرأته قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ...).

والمحذوف إذا كان كذلك دل عليه الكلام دلالة ظاهرة ، لأنه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحذف وسطه ظهر المحذوف لدلالة الحاشيتين عليه.

وبعد ... فلما كان سبب الإيجاز في جميع ما أوردناه هنا من أمثلة هو الحذف ، سواء أكان حذف مفردات أو جمل ، سمي «إيجاز حذف».

وتلخيصا لقواعد الإيجاز التي فصلنا القول فيها نقول :

١ ـ الإيجاز : جمع المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة مع الإبانة والإفصاح.

__________________

(١) من أراد استيفاء الأضرب فليرجع إليها في كتاب المثل السائر لابن الأثير ص ٢٠٣ ـ ٢١٣

١٨٤

٢ ـ الإيجاز نوعان :

أ ـ إيجاز قصر : ويكون بتضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة من غير حذف.

ب ـ إيجاز حذف : ويكون بحذف مفرد أو جملة أو أكثر مع قرينة تعيّن المحذوف.

* * *

١٨٥

الإطناب

عرض الجاحظ للإطناب فقال : «وقد بقيت ـ أبقاك الله ـ أبواب توجب الإطالة وتحوج إلى الإطناب. وليس بإطالة ما لم يجاوز مقدار الحاجة ، ووقف عند منتهى البغية (١).

فالإطناب والإطالة في رأي الجاحظ مترادفان ومقابلان للإيجاز ، وهما عنده : كل ما جاوز مقدار الحاجة من الكلام ولم يقف عند منتهى البغية (٢).

وأشار أبو هلال العسكري إلى الإطناب في معرض كلامه عن الحاجة إلى الإيجاز والإطناب فقال : «والقول القصد أن الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما في جميع الكلام وكلّ نوع منه ، ولكل واحد منهما موضع ، فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه. فمن أزال التدبير في ذلك عن جهته ، واستعمل الإطناب في موضع الإيجاز ، واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ (٣)».

وأبو هلال متأثر في هذا الرأي بأقوال السابقين في البلاغة كقول القائل : «البلاغة الإيجاز في غير عجز والإطناب في غير خطل».

وإذا كانت الإطالة عند الجاحظ مرادفة للإطناب فإنها عند أبي هلال مقابلة لها وفي ذلك يقول : «فالإطناب بلاغة والتطويل عيّ ، لأن التطويل

__________________

(١) كتاب الحيوان ج ٦ ص ٧.

(٢) كتاب الصناعتين ص ١٩٠.

١٨٦

بمنزلة سلوك ما يبعد جهلا بما يقرب ، والإطناب بمنزلة سلوك طريق بعيد نزه يحتوي على زيادة فائدة (١)».

أما ضياء الدين بن الأثير فيقرر أولا أن علماء البيان قد اختلفوا في الإطناب ، وأن منهم من ألحقه بالتطويل الذي هو ضد الإيجاز.

بعد ذلك يعرض ابن الأثير لتحديد مفهوم «الإطناب» كما يراه هو فيقول : «إذا رجعنا إلى الأسماء واشتقاقاتها وجدنا هذا الاسم ـ الإطناب ـ مناسبا لمسماه. وهو في الأصل مأخوذ من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه ، ويقال أطنبت الريح إذا اشتدت في هبوبها ، وأطنب في السير إذا اشتد فيه. وعلى هذا فإن حملناه على مقتضى مسماه كان معناه : المبالغة في إيراد المعاني. وهذا لا يختص بنوع واحد من أنواع البيان وإنما يوجد فيها جميعا ، إذ ما من نوع منها إلا ويمكن المبالغة فيه. وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يفرد هذا النوع من بينها ، ولا يتحدد إفراده إلا بذكر حده الدال على حقيقته».

ثم يخلص من ذلك إلى تحديد مفهومه الاصطلاحي أو البلاغي فيقول : «الإطناب هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة» ، وعنده إن هذا الحد هو الذي يميزه عن التطويل ، إذا التطويل : «هو زيادة اللفظ عن المعنى لغير فائدة» ، كما يميزه عن التكرير الذي هو : «دلالة اللفظ على المعنى مكررا ، كقولك لمن تستدعيه : أسرع أسرع ، فإن المعنى مردد واللفظ واحد».

ثم لبيان التكرير الذي يدخل في باب الإطناب ، والتكرير الذي يخرج من باب الإطناب ويدخل في باب التطويل يقول ابن الأثير : «وإذا كان التكرير : هو إيراد المعنى مرددا ، فمنه ما يأتي لفائدة ، ومنه ما يأتي لغيره فائدة. فأما الذي يأتي لفائدة فإنه جزء من الإطناب وهو أخص منه ، فيقال حينئذ : إن كل تكرير يأتي لفائدة فهو إطناب ، وليس كل إطناب تكريرا يأتي لفائدة. وأما الذي يأتي من التكرير لغير فائدة فإنه جزء من التطويل ، وهو

__________________

(١) المرجع نفسه ص ١٩١.

١٨٧

أخص منه ، فيقال حينئذ : إن كل تكرير يأتي لغير فائدة تطويل ، وليس كل تطويل تكريرا يأتي لغيره فائدة».

ثم يذيّل ابن الأثير على تعريفه لكل من الإيجاز والإطناب والتطويل بقوله : «إنّ مثال الإيجاز والإطناب والتطويل مثال مقصد يسلك إليه في ثلاثة طرق ، فالإيجاز هو أقرب الطرق الثلاثة إليه ، والإطناب والتطويل هما الطريقان المتساويان في البعد إليه ، إلا أن طريق الإطناب تشتمل على منزه من المنازه لا يوجد في طريق التطويل (١)». ومع جمال هذا التمثيل ووضوحه فإنه متأثر فيه بكلام أبي هلال العسكري السابق عن الإطناب.

أما السكاكي فعرف الإطناب بقوله : «الإطناب أداء المقصود بأكثر من عبارة المتعارف (٢)». والخطيب القزويني عرفه بقوله : «الإطناب تأدية أصل المراد بلفظ زائد عليه لفائدة (٣)».

ومن جميع التعريفات السابقة التي تلتقي في الغالب مضمونا وتختلف لفظا يمكن اعتماد تعريف ابن الأثير للإطناب تعريفا له وهو : «الإطناب زيادة اللفظ على المعنى لفائدة».

* * *

والإطناب كما أوضح البلاغيون يأتي في الكلام على أنواع مختلفة لأغراض بلاغية منها :

١ ـ الإيضاح بعد الإبهام : وهذا النوع من الإطناب يظهر المعنى في صورتين مختلفتين : إحداهما مجملة مبهمة والأخرى مفصلة موضحة. وهذا من شأنه أن يزيد المعنى تمكنا من النفس. فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل

__________________

(١) يرجع في كل ما قيل عن الإطناب عند ابن الأثير إلى كتابه المثل السائر ص ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) التلخيص ص ٢١٠.

(٣) الإيضاح للقزويني ص ١٢٨.

١٨٨

والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك. فإذا ألقي كذلك تمكن فيها فضل تمكن ، وكان شعورها به أتم ولذتها بالعلم به أكمل.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ،) فإن قوله تعالى : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) إيضاح للإبهام الذي تضمنه لفظ «الأمر» ، وذلك لزيادة تقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين : مرة على طريق الإجمال والإبهام ، ومرة على طريق التفصيل والإيضاح.

ومن هذا النوع من الإطناب أيضا قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟ ،) فقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) كلام مجمل مبهم فصله ووضحه الكلام الذي جاء بعده.

ومنه كذلك قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) فإن ذكر الأنعام والبنين توضيح لما أبهم قبل ذلك في قوله : (بِما تَعْلَمُونَ).

ومن الإيضاح بعد الإبهام التوشيع ـ وهو أن يؤتى في عجز الكلام غالبا بمثنى مفسر باسمين أحدهما معطوف على الآخر ، وذلك كقول الرسول : «يشيب ابن آدم وتشيب معه خصلتان : الحرص وطول الأمل».

ومنه شعرا قول البحتري :

لما مشين بذي الارك تشابهت

أعطاف قضبان به وقدود

في حلتي حبر وروض فالتقى

وشيان : وشي ربى ووشي برود

وسفرن فامتلأت عيون راقها

وردان : ورد جنى وورد خدود

ومتى يساعدنا الوصال ويومنا

يومان : يوم نوى ويوم صدود؟ (١)

__________________

(١) ديوان البحتري ص ٨ ، والحبر بكسر الحاء وفتح الباء : جمع الحبرة بفتح الحاء والباء ضرب من الثياب اليمانية المنمرة ، والوشي : النقش ، والبرود بضم الباء : جمع برد بضم وسكون ، وهو الثوب الموشى ، والجنى : ما يجنى من الشجر ما دام غضا طريا.

١٨٩

وقد يأتي التوشيع في وسط الكلام كقول شوقي :

ودخلت في ليلين : فرعك والدجى

ولثمت كالصبح المنور فاك

وقد يأتي التوشيع جمعا لا مثنى وفي ابتداء الكلام كقول محمد ابن وهب :

ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها

شمس الضحا وأبو إسحاق والقمر

* * *

٢ ـ ذكر الخاص بعد العام : والغرض البلاغي من هذا النوع من الإطناب هو التنبيه على فضل الخاص وزيادة التنويه بشأنه ، حتى كأنه ليس من جنس العام.

ومن أمثلته قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ،) فقد خص الله (الصَّلاةِ الْوُسْطى) أي صلاة العصر بالذكر مع أنها داخلة في عموم الصلوات تنبيها على فضلها الخاص حتى كأنها لفضلها جنس آخر مغاير لما قبلها. فالغرض البلاغي من هذا الإطناب هو التنويه بشأن الخاص.

ومنه قوله تعالى في وصف ليلة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ،) فقد خص الله سبحانه وتعالى «الروح» بالذكر وهو جبريل مع أنه داخل في عموم الملائكة تكريما له وتعظيما لشأنه كأنه جنس آخر. ففائدة الزيادة هنا أيضا التنويه بشأن الخاص.

ومنه كذلك قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخلان في عموم الدعوة إلى الخير ولكن الله خصهما مرة ثانية بالذكر تنويها بشأنهما الخاص. وقد أورد المعنى هنا في صورتين مختلفتين إيهاما وإيضاحا ليكون ذلك أوقع في نفس السامع.

* * *

١٩٠

٣ ـ ذكر العام بعد الخاص : والغرض من ذلك هو إفادة العموم مع العناية بشأن الخاص ، نحو قوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ). فلفظ «لي ولوالدي» زائد في الآية لدخول معناه في عموم المؤمنين والمؤمنات ، فهذان اللفظان «المؤمنين والمؤمنات» لفظان عامان يدخل في عمومهما من ذكر قبل ذلك ، أي (لِي وَلِوالِدَيَ) لإفادة العموم مع العناية بالخاص لذكره مرتين : مرة وحده ومرة مندرجا تحت العام.

* * *

٤ ـ التكرير لداع : والمراد به تكرير المعاني والألفاظ ، وحدّه هو دلالة اللفظ على المعنى مردّدا. وقد سبقت الإشارة إلى رأي ابن الأثير في الفرق بينه وبين الإطناب والتطويل ، ومتى يلحق بأيّ من هذين.

والتكرير المفيد يأتي في الكلام تأكيدا له وتشديدا من أمره ، وإنما تفعل ذلك للدلالة على العناية بالشيء الذي كررت فيه كلامك إما مبالغة في مدحه أو ذمه أو غير ذلك.

ودواعي الإطناب بالتكرير كثيرة منها :

أ ـ تأكيد الإنذار : نحو قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) فقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) الأولى هي زجر وإنذار لهؤلاء الذين ألهاهم التكاثر في الدنيا عن العمل للآخرة. وفي تكرير قوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) تأكيد لهذا الإنذار. وهذا هو المعنى الزائد الذي أفاده إطناب التكرير هنا.

ب ـ التحسر : كقول الحسين بن مطير يرثى معن بن زائدة :

فيا قبر معن أنت أول حفرة

من الأرض خطت للسماحة موضعا

ويا قبر معن كيف واريت جوده

وقد كان منه البر والبحر مترعا

فالغرض من تكرير «يا قبر معن» هو إظهار الأسى والتحسر على معن.

١٩١

ج ـ طول الفصل : كما في قوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما) أوتوا (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فكرر «لا تحسبنهم» لطول الفصل بين الأول ومتلعقه وهو (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) وخشية أن يكون الذهن قد غفل عما ذكر أولا.

وقول الشاعر :

لقد علم الحي اليمانون أنني

إذا قلت أما بعد أني خطيبها

وقول الحماسي :

وإن امرأ دامت مواثيق عهده

على مثل هذا إنه لكريم

ففي البيت الأول كررت «أني» لطول الفصل بين اسم «أنني» الأولى وخبرها. وفي البيت الثاني كررت «إنه» لذات السبب ، أي لطول الفصل بين اسم «إن» الأولى وخبرها.

والإطناب بالتأكيد كما يظهر أيضا في الخطابة وفي مواطن الفخر والمدح والإرشاد والتلذذ ، والاستيعاب.

* * *

٥ ـ الإيغال : وهو ختم البيت بكلمة أو عبارة يتم المعنى بدونها ولكنها تعطيه قافيته وتضيف إلى معناه التام معنى زائدا.

ومن أمثلة ذلك قول الخنساء في أخيها صخر :

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فإن معنى البيت يتم عند قولها : «كأنه علم» ولكن الخنساء لم تكتف في تشبيه أخيها الذي يأتم الهداة به بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية ، ولكنها أوغلت بذكر «في رأسه نار» فأعطت البيت بذلك قافيته ، ثم أضافت بهذه الزيادة على معنى البيت التام معنى جديدا ، وهو أن أخاها لا يشبه الجبل المرتفع فقط ولكنه يشبه الجبل الذي فوق قمته نار.

ومن الإطناب بالإيغال قول مروان بن أبي حفصة :

١٩٢

هم القوم : إن قالوا أصابوا وإن دعوا

أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

فقوله «وأجزلوا» إيغال أعطى البيت قافيته وأضاف إلى معناه التام معنى جديدا هو أنهم عند ما يعطون يعطون الطيب الجزيل.

* * *

٦ ـ الاحتراس : والإطناب بالاحتراس يكون حينما يأتي المتكلم بمعنى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم ، فيفطن لذلك ويأتي بما يخلصه منه.

والاحتراس الذي يؤتى به في الكلام لتخليصه مما يوهم خلاف المقصود قد يكون في وسط الكلام كقول طرفة بن العبد :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي

فقوله : «غير مفسدها» احتراس وتحرز من المقابل وهو محو معالمها.

وقول ابن المعتز في وصف فرس :

صببنا عليها ـ ظالمين ـ سياطنا

فطارت بها أيد سراع وأرجل

فالاحتراس هو كلمة «ظالمين» فلو حذفت لتوهم السامع أن فرس ابن المعتز كانت بليدة تستحق الضرب. وهذا خلاف ما يقصده الشاعر.

وقول نافع الغنوي :

رجال إذا لم يقبل الحق منهمو

ويعطوه عاذوا بالسيوف القواضب

فقوله : «ويعطوه» احتراس لولاه لفهم أن هؤلاء الرجال يلجئون إلى سيوفهم لمجرد عدم قبول الحق منهم ، على حين أن المعنى بالاحتراس يفيد أنهم لا يفزعون إلى سيوفهم إلا في حالة عدم قبول الحق منهم وامتناع العدو عن إعطائهم إياه. والفرق كبير بين المعنيين.

وقول صفي الدين الحلي :

فوفّني غير مأمور وعودك لي

فليس رؤياك أضغاثا من الحلم

فالاحتراس في «غير مأمور» فإن لفظة «وفني» في البيت فعل أمر ،

١٩٣

ومرتبة الآمر فوق مرتبة المأمور فاحترس بقوله : «غير مأمور».

وقد يكون الاحتراس في آخر الكلام نحو قوله تعالى : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ،) فإن المعنى بدون قوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) موهم أن يكون ذلك البياض لمرض كالبرص أو سوء أصاب اليد ، ولهذا أتى بقوله : (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لدفع هذا الإيهام.

ونحو قول الشاعر :

وما بي إلى ماء سوى النيل غلّة

ولو أنه ـ أستغفر الله ـ زمزم

فالشاعر أتى بجملة «أستغفر الله» ـ للاحتراس ، لأنه أراد أن يقول : «ولو أنه زمزم» ، ففطن لما قد يتوهمه السامع فيه من الاستخفاف بأمر زمزم وهو الماء المبارك المقدس ، فسارع إلى دفع هذا الوهم وقال : «أستغفر الله».

فهذه الزيادات التي وردت في الأمثلة السابقة سواء كانت في وسط الكلام أو آخره هي إطناب بالاحتراس ، وكذلك كل زيادة تجيء لدفع ما يوهمه الكلام مما ليس مقصودا.

* * *

٧ ـ الاعتراض : وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لفائدة غير دفع الإبهام. ومن هذا يفهم أن الإطناب باعتراض يؤتى به في الكلام لفائدة أو لغرض يقصد إليه البليغ. ومن أغراض الإطناب البلاغية بالاعتراض :

أ ـ التنزيه : وذلك كقوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ ـ سُبْحانَهُ ـ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ). فجملة «سبحانه» في الآية الكريمة معترضة في أثناء الكلام لغرض بلاغي هو المسارعة إلى تنزيه المولى جل شأنه وتقديسه عما ينسبون إليه.

ب ـ الدعاء ومن أمثلته قول عوف بن محلم الشباني يشكو كبره وضعفه :

١٩٤

إن الثمانين «وبلغتها»

قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

فقوله «وبلغتها» جملة معترضة بين اسم إن وخبرها قصد الشاعر بها الدعاء لمن يخاطبه استدرارا لعطفه عليه. ويجدر التنبيه إلى أن «الواو» السابقة للجملة الاعتراضية ليست واو الحال ولا العطف ، وإنما هي «واو» الاعتراض.

ومن أمثلة الإطناب بالاعتراض أيضا قول عباس بن الأحنف :

إن تم ذا الهجر يا ظلوم «ولا

تم» فمالي في العيش من أرب

فجملة «ولا تم» معترضة بين الشرط وجوابه. وغرض الشاعر من وراء هذا الاعتراض هو المسارعة إلى دعاء الله بألا يقدر وقوع هذا الهجر والتقاطع بينه وبين حبيبته.

ومنه قول أبي الطيب المتنبي :

وتحتقر الدنيا احتقار مجرب

يرى كل ما فيها «وحاشاك» فانيا

فقوله : «وحاشاك» إطناب بالاعتراض للدعاء كذلك وهو حسن في موضعه.

ج ـ التنبيه على أمر من الأمور : ومنه قول أبي خراش الهذلي يذكر أخاه عروة :

تقول أراه بعد عروة لاهيا

وذلك رزء «لو علمت» جليل

فلا تحسبي أني تناسيت عهده

ولكن صبري «يا أميم» جميل

ففي البيت الأول اعترض الشاعر بين الصفة والموصوف بقوله : «لو علمت» والغرض من الاعتراض هنا التنبيه على عظم المصاب وشدة تأثيره في نفسه وذلك لأن مفعول «علمت» محذوف تقديره : لو علمت مبلغ هذا الرزء وعظيم تأثيره في نفسي. وفي البيت الثاني اعترض بجملة النداء «يا أميم» بين اسم «لكن» وخبرها لتنبيه المخاطبة إلى جمال صبره.

١٩٥

ومن هذا النوع أيضا قول الشاعر :

واعلم «فعلم المرء ينفعه»

أن سوف يأتي كل ما قدرا

فقوله : «فعلم المرء ينفعه» جملة اعتراضية بين الفعل «اعلم» ومفعوله. وقد أتى الشاعر بهذا الاعتراض لينبه على فضل العلم وعظيم نفعه للإنسان. والمعنى هنا أن المقدر آت لا محالة وإن وقع فيه تأخير. والفاء السابقة للجملة الاعتراضية هي فاء الاعتراض.

ومنه قول كثير عزة :

لو أن الباخلين «وأنت منهم»

رأوك تعلموا منك المطالا

فالإطناب باعتراض هنا هو «وأنت منهم» وقد بادر به الشاعر للتنبيه على بخل المخاطبة وأن الباخلين وهي واحدة منهم جديرون بأن يتعلموا منها المطال.

د ـ التحسر : ومنه قول إبراهيم بن المهدي في رثاء ابنه :

وإني «وإن قدّمت قبلي» لعالم

بأني «وإن أخّرت» منك قريب

ففي البيت هنا إطناب بالاعتراض في كل من شطريه ، هو في الشطر الأول «وإن قدمت قبلي» ، وهو في الثاني «وإن أخرت» ، والغرض البلاغي الذي قصد إليه الشاعر من وراء هذين الاعتراضين هو إظهار الأسى والتحسر على أن الموت سبق إلى ولده.

ه ـ التعظيم : نحو قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ). فموضع الإطناب بالاعتراض في الآية الكريمة هو قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ ـ لَوْ تَعْلَمُونَ ـ عَظِيمٌ). وهذا الاعتراض هو في الواقع اعتراضان : أولهما «وإنه لقسم عظيم» والثاني هو (لَوْ تَعْلَمُونَ). والغرض البلاغي منهما هو تعظيم القسم بمواقع النجوم وتفخيم أمره ، وفي ذلك تعظيم للمقسم عليه وتنويه برفعة شأنه ، وهو القرآن الكريم.

١٩٦

ومن الإطناب المعجز ما ورد في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ـ وَلَنْ تَفْعَلُوا ـ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ،) فاعتراض بقوله (وَلَنْ تَفْعَلُوا) يفيد استحالة معارضة القرآن والإتيان بسورة من نوعه.

فالإطناب باعتراض كما يبدو من الأمثلة السابقة وعلى اختلاف أغراضه لا يكمّل المعنى فحسب ، وإنما يضفي عليه ظلالا من الحسن. ويمكن إدراك هذه الحقيقة في أي مثال من هذه الأمثلة إذا ما قارنا بين معناه باعتراض ومعناه مجردا منه.

* * *

٨ ـ التذييل : والإطناب بالتذييل هو تعقيب الجملة بجملة أخرى تشتمل على معناها للتوكيد.

وقد تحدث أبو هلال العسكري عن أثر التذييل في الكلام وموقعه منه فقال : «وللتذييل في الكلام موقع جليل ، ومكان شريف خطير ؛ لأن المعنى يزداد به انشراحا والمقصد اتضاحا. والتذييل هو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه ، حتى يظهر لمن لا يفهمه ، ويتوكد عند من فهمه ... وينبغي أن يستعمل في المواطن الجامعة ، والمواقف الحافلة ، لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم ، والبعيد الذهن ، والثاقب القريحة ، والجيد الخاطر ، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عنه الذهن اللقن ، وصح للكليل البليد» (١).

أقسام التذييل :

والإطناب بالتذييل قسمان :

أ ـ تذييل جار مجرى المثل ، وذلك إن استقل معناه واستغنى عما

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٣٧٣ ، ولقن الكلام بكسر القاف يلقنه بفتحها : فهمه ، واللقن بكسر القاف : الفهم بكسر الهاء ، والاسم اللقانة بمعنى الفهم بسكون الهاء.

١٩٧

قبله ، نحو قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ،) فجملة قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) تشتمل على معنى الجملة السابقة : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) وقد عقب بها عليها توكيدا لمعناها. وإذا تأملنا جملة التذييل وهي (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وجدناها مستقلة بمعناها لا يتوقف فهمها على فهم ما قبلها. ومن أجل ذلك يقال لهذا النوع من الإطناب بالتذييل إنه «جار مجرى المثل».

ومنه أيضا قوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ،) فجملة (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) تعقيب على الجملة السابقة تشتمل على معناها توكيدا لها ، وهي في الوقت ذاته مستقلة بمعناها لا يتوقف فهمها على فهم ما قبلها. ولهذا يقال إنها إطناب بالتذييل جار مجرى المثل.

ومما ورد شعرا من هذا النوع قول إبراهيم بن المهدي في رثاء ابنه :

تبدل دارا غير داري وجيرة

سواي ، وأحداث الزمان تنوب

فجملة «أحداث الزمان تنوب» إطناب بالتذييل جار مجرى المثل ، لأنه كلام مستقل بمعناه ومستغن عما قبله.

ومنه قول الشاعر :

فإن أك مقتولا فكنت أنت قاتلي

فبعض منايا القوم أكرم من بعض

فالشطر الثاني من البيت جاء تأكيدا للأول لاشتماله على معناه ، وهو في ذات الوقت كلام مستقل بمعناه ومستغن عما قبله في فهمه ، ولهذا فهو إطناب بالتذييل جار مجرى المثل.

ومنه قول أبي نواس :

عرم الزمان على الذين عهدتهم

بك قاطنين وللزمان عرام (١)

__________________

(١) عرم الزمان بفتح الراء : اشتد وشرس بكسر السين ، والعرام بضم العين : الشدة والشراسة والأذى.

١٩٨

فقول أبي نواس «للزمان عرام» تأكيد للمعنى السابق لاشتماله على معناه ، وهو مستقل عنه بمعناه ، فهو لهذا إطناب بالتذييل جار مجرى المثل.

ومنه قول الحطيئة :

نزور فتى يعطي على الحمد ماله

ومن يعط أثمان المكارم يحمد

فالشطر الثاني إطناب بالتذييل للشطر الأول جار مجرى المثل لأنه مستقل بمعناه ولا يتوقف فهمه على فهم ما قبله.

ب ـ تذييل غير جار مجرى المثل : هذا هو القسم الثاني من أقسام الأطناب بالتذييل ، وهو الكلام الذي لا يستقل بمعناه ، ولا يفهم الغرض منه إلا بمعونة ما قبله.

ومن أمثلته قوله تعالى : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ؟) فقوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ؟) تذييل لقوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) وقد جاء هذا التذييل توكيدا لما قبله لاشتماله على معناه ، ولكنه هو غير مستقل بمعناه ولا يفهم الغرض منه إلا بمعونة ما قبله. ومن أجل ذلك يقال له : إطناب بالتذييل غير جار مجرى المثل ، إذ المعنى : وهل نجازي ذلك الجزاء الذي ذكرناه إلا الكفور؟.

ومنه أيضا قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟) فقوله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟ ،) تذييل لقوله (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ). وهو إطناب بالتذييل غير جار مجرى المثل ، لأنه غير مستقل في معناه عما قبله.

ومنه شعرا قول ابن نباتة السعدي :

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

فالشطر الثاني من البيت إطناب بالتذييل غير جار مجرى المثل للشطر الأول. فهو تأكيد له لاشتماله على معناه ، ولكنه غير مستقل بمعناه ، إذ لا

١٩٩

يفهم الغرض منه إلا بمعونة ما قبله.

ومنه قول عنترة :

فدعوا نزال فكنت أول نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل؟

فالشاعر استوفى المعنى في الشطر الأول وذيل بالشطر الثاني وهذا إطناب بالتذييل غير جار مجرى المثل ، فهو تأكيد لمعنى سابقه لاشتماله على معناه ، ولكنه هو غير مستقل بمعناه ، إذ لا يفهم الغرض منه إلا بمعونة ما قبله.

* * *

ذلك هو الإطناب مقابل الإيجاز ، وفيما يلي تلخيص لكل قواعده التي سبق شرحها وتفصيل القول فيها.

أ ـ الإطناب زيادة اللفظ على المعنى لفائدة.

ب ـ والإطناب يأتي في الكلام على أنواع شتى منها :

١ ـ الإيضاح بعد الإبهام ، لتقرير المعنى وتمكينه في ذهن السامع.

٢ ـ ذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص.

٣ ـ ذكر العام بعد الخاص ، لإفادة العموم مع الاهتمام بشأن الخاص.

٤ ـ التكرير لداع : كتأكيد الإنذار ، وكالتحسر ، وكطول الفصل.

٥ ـ الإيغال : وهو ختم البيت بكلمة أو عبارة يتم المعنى بدونها ، ولكنها تعطيه قافيته ، وتضيف إلى معناه التام معنى زائدا.

٦ ـ الاحتراس : ويكون حينما يأتي المتكلم بمعنى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم ، فيفطن لذلك ويأتي بما يخلصه منه.

٧ ـ الاعتراض : وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لفائدة سوى دفع الإبهام.

ومن هذه الفوائد التنزيه ، والدعاء ، والتنبيه على أمر من الأمور ، والتحسر والتعظيم.

٢٠٠