علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

عادة الأيام لا أنكرها

فرح تقرنه لي بترح

وقد قصر علماء المعاني عنايتهم في هذا الباب على البحث في عطف الجمل «بالواو» دون بقية حروف العطف كما أشرت سابقا ، لأن «الواو» هي الأداة التي تخفى الحاجة إليها ويتطلب فهم العطف بها دقة في الإدراك.

وسبب ذلك أنها لا تدل إلا على مطلق الجمع والاشتراك ، أما غيرها من أحرف العطف فتفيد مع الاشتراك معاني زائدة كالترتيب مع التعقيب في الفاء ، والترتيب مع التراخي في «ثم» وهلم جرا. فإذا عطفت بواحد منها ظهرت الفائدة وسهل إدراك موطنها.

وبعد ... فلكل من الفصل والوصل بالواو في الكلام مواضع خاصة تدعو إليها الحاجة ويقتضيها المقام. والآن نعرض بالشرح والتفصيل لهذه المواضع بادئين بالفصل.

مواضع الفصل

يجب الفصل في ثلاثة مواضع :

١ ـ أن يكون بين الجملتين اتحاد تام ، وذلك بأن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى ، أو بيانا لها ، أو بدلا منها. ويقال حينئذ إن بين الجملتين «كمال الاتصال».

أ ـ فمن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية توكيدا للجملة الأولى قول الشاعر :

يهوى الثناء مبرّز ومقصر

حب الثناء طبيعة الإنسان

فالبيت هنا يشتمل على جملتين ، وإذا تأملناهما وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى ، فالجملة الثانية وهي «حب الثناء طبيعة الإنسان». لم تجيء إلا توكيدا للأولى وهي جملة «يهوى الثناء مبرز ومقصر» ، فإن معنى الجملتين واحد.

ومن أمثلة هذا النوع أيضا قول المتنبي :

١٦١

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا

فإذا تدبرنا جملتي البيت وجدنا بينهما كذلك اتحادا تاما في المعنى ، فالجملة الثانية وهي «إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا» لم تجيء في الواقع إلا توكيدا للجملة الأولى وهي «وما الدهر إلا من رواة قصائدي» لأن معنى الجملتين واحد.

ب ـ ومن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية بيانا للجملة الأولى قول الشاعر :

كفى زاجرا للمرء أيام دهره

تروح له بالواعظات وتغتدي

فإذا تدبرنا جملتي البيت وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى ، فالجملة الثانية وهي «تروح له بالواعظات وتغتدي» لم تجيء في الواقع إلا لإيضاح إبهام جملة «كفى زاجرا للمرء أيام دهره» فهي بيان لها.

ومن أمثلة هذا النوع كذلك قول الشاعر :

الناس للناس من بدو وحاضرة

بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم

فإذا تأملنا جملتي هذا البيت وجدنا بينهما اتحادا تاما في المعنى ، فالجملة الثانية وهي «بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم» لم تأت إلا لإيضاح إبهام الأولى وهي «الناس للناس من بدو وحاضرة» فهي بيان لها.

ج ـ ومن أمثلة الفصل الذي تكون فيه الجملة الثانية بدلا من الجملة الأولى قوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

فالتأمل في الآية الكريمة يظهر أن بين جملة (أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) وجملة (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) كمال الاتصال ، ذلك لأن الجملة الثانية بدل بعض من كل من الجملة الأولى ، إذ الأنعام والبنون والجنات والعيون بعض ما يعلمون.

ومن أمثلة هذا النوع أيضا قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ

١٦٢

يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ). فالجملة الثانية هنا وهي (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) بدل بعض من كل من الأولى لأن تذبيح الأبناء بعض ما يسومونهم ويحمّلونهم إياه من سوء العذاب.

فالجملة الثانية في كل مثال من الأمثلة السابقة مفصولة عن الجملة الأولى ، ولا سبب لهذا الفصل سوى ما بينهما من تمام التآلف وكمال الاتحاد. ومن أجل ذلك يقال إن بين الجملتين «كمال الاتصال».

* * *

٢ ـ والموضع الثاني من المواضع التي يجب فيها الفصل بين الجمل هو : أن يكون بين الجملتين «تباين تام» ، وذلك بأن تختلفا خبرا وإنشاء ، أو بألا تكون بينهما مناسبة ما ، ويقال حينئذ إن بين الجملتين «كمال الانقطاع».

أ ـ فمن الأمثلة التي يجب فيها الفصل بين الجملتين لاختلافهما خبرا وإنشاء قول الشاعر :

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

فبين الجملة الثانية والأولى في هذا البيت تمام التباين وغاية الابتعاد ، لاختلافهما خبرا وإنشاء ، وذلك لأن الجملة الأولى إنشائية والثانية خبرية ، ومن أجل ذلك تعين الفصل بينهما.

ومن أمثلة هذا النوع أيضا قول الشاعر :

لست مستمطرا لقبرك غيثا

كيف يظمأ وقد تضمن بحرا؟

فالجملة الأولى هنا خبرية والثانية إنشائية ، فبينهما تمام التباين ومنتهى الابتعاد ، ولهذا تعين الفصل بينهما لاختلافهما خبرا وإنشاء.

ب ـ ومن الأمثلة التي يجب فيها الفصل بين الجملتين لعدم وجود مناسبة بينهما قول القائل : «كفى بالشيب داء صلاح الإنسان حفظ الوداد» فبين الجملتين كما ترى تباين تام ، إذ لا مناسبة بينهما في المعنى.

١٦٣

وهذا الحكم ينطبق على كل جملتين لا تكون بينهما مناسبة ما كقولك : «السماء ممطرة عليّ يغدو إلى عمله مبكرا» ، وكقول الشاعر :

وإنما المرء بأصغريه

كل امرىء رهن بما لديه (١)

فبين الجملة الثانية هنا والجملة الأولى تمام التباين ومنتهى الابتعاد ، لأنه لا مناسبة بينهما مطلقا ، إذ لا رابطة في المعنى بين قوله : «وإنما المرء بأصغريه» وقوله : «كل امرىء رهن بما لديه» ففي جميع هذه الأمثلة والأمثلة التي تختلف فيها الجملتان خبرا وإنشاء نجد الجملة الثانية مفصولة عن الجملة الأولى ، ولا سر لذلك إلا كمال التباين وشدة التباعد ، ولذلك يقال في هذا الموضع من مواضع الفصل إن بين الجملتين «كمال الانقطاع».

* * *

٣ ـ والموضع الثالث من المواضع التي يجب فيها الفصل بين الجملتين هو أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى ، ويقال حينئذ إن بين الجملتين «شبه كمال الاتصال».

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ)(٢) ، ففي هذه الآية الكريمة فصلت جملة (قالُوا لا تَخَفْ) عن جملة (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لأن بينهما شبه كمال الاتصال ، إذ الثانية جواب لسؤال يفهم من الأولى ، كأن سائلا سأل : فماذا قالوا له حين رأوه قد أحس منهم خوفا؟ فأجيب «قالوا لا تخف».

ومن أمثلة هذا النوع من الفصل أيضا قول الشاعر :

يقولون إني أحمل الضيم عندهم

أعوذ بربي أن يضام نظيري (٣)

__________________

(١) الأصغران : القلب واللسان ، ورهن بما لديه : يجازى بما عمل.

(٢) أوجس منهم خيفة : أحس منهم خوفا.

(٣) الضيم : الذل ، وضامه يضيمه بفتح ياء المضارعة : أذله يذله.

١٦٤

فبين جملة «أعوذ بربي أن يضام نظيري» وجملة «يقولون إني أحمل الضيم عندهم» شبه كمال الاتصال ، لأن الثانية جواب عن سؤال نشأ من الأولى ، فكأن الشاعر بعد أن أتى بالشطر الأولى من البيت أحس أن سائلا يقول له : «وهل ما يقولونه من أنك تتحمل الضيم صحيح؟» فأجاب بالشطر الثاني.

ففي هذين المثالين نرى أن الجملة الثانية في كليهما مفصولة من الأولى ، ولا سبب لهذا الفصل إلا قوة الرابطة المعنوية بين الجملتين ، فإن الجواب شديد الارتباط بالسؤال ، فأشبهت الحال هنا من بعض الوجوه حال «كمال الاتصال» السابقة الذكر. ومن أجل ذلك يقال إن بين الجملتين «شبه كمال الاتصال».

* * *

تلك هي مواضع الفصل الثلاثة بين الجمل في الكلام ، وفيما يلي تجميع للقواعد التي تحكمها.

أ ـ الوصل عطف جملة على أخرى بالواو ، والفصل ترك هذا العطف.

ب ـ يجب الفصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع :

١ ـ أن يكون بين الجملتين اتحاد تام ، وذلك بأن تكون الجملة الثانية توكيدا للأولى ، أو بيانا لها ، أو بدلا منها. وفي هذه الأحوال الثلاثة يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «كمال الاتصال».

٢ ـ أن يكون بين الجملتين تباين تام ، وذلك بأن يختلفا خبرا وإنشاء ، أو بألا تكون بينهما أي مناسبة معنوية. وفي هاتين الحالتين يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «كمال الانقطاع».

٣ ـ أن تكون الجملة الثانية جوابا عن سؤال يفهم من الأولى.

وفي هذه الحالة يقال إن موجب الفصل بين الجملتين هو «شبه كمال الاتصال».

١٦٥

وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة الفصل يستطيع الدارس أن يتبين مواضعها وموجبات الفصل فيها على ضوء الشرح السابق.

١ ـ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بربهم (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

٢ ـ وقال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ.)

٣ ـ وقال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.)

٤ ـ وقال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً).

٥ ـ أصون عرضي بمالي لا أدنسه

لا بارك الله بعد العرض في المال

٦ ـ أعلمت من حملوا على الأعواد؟

أعلمت كيف خبا ضياء النادي؟

٧ ـ الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

٨ ـ حسب الخليلين نأي الأرض بينهما

هذا عليها وهذا تحتها بالي (١)

٩ ـ يا من يقتّل من أراد بسيفه

أصبحت من قتلاك بالإحسان

١٠ ـ لا يعجبنك إقبال يريك سنا

إن الخمود لعمري غاية الضرم (٢)

١١ ـ لا تسأل المرء عن خلائقه

في وجهه شاهد من الخبر

١٢ ـ أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا

وإلا فكن في السر والجهر مسلما

١٣ ـ قال لي : كيف أنت؟ قلت : عليل

سهر دائم وحزن طويل

١٤ ـ يا واردا سؤر عيش كلّه كدر

أنفقت عمرك في أيامك الأول (٣)

١٥ ـ إن نيوب الزمان تعرفني

أنا الذي طال عجمها عودي (٤)

__________________

(١) حسب الخليلين : كفاهما ، والنأي : البعد ، والبالي : الفاني والممزق ، يقول : كفاني وأخي حيلولة الأرض بيننا ، فأنا حي فوقها ، وهو بالي الجسم تحتها ، وهذا نهاية البعد. البيت قاله النابغة في رثاء أخ له.

(٢) السنا : ضوء البرق ، وخمود النار : سكون لهبها ، والضرم : اشتعال النار والتهابها.

(٣) سؤر العيش : بقيته.

(٤) عجم العود : عضه ليعرف أصلب هو أم رخو.

١٦٦

١٦ ـ لا الدمع غاض ولا فؤادك سال

دخل الحمام عرينة الرئبال (١)

١٧ ـ وما أنا بالباغي على الحب رشوة

ضعيف هوى يبغى عليه ثواب

١٨ ـ ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا

إن السماء ترجى حين تحتجب (٢)

١٩ ـ من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

٢٠ ـ لا تنكري عطل الكريم من الغنى

السيل حرب للمكان العالي

٢١ ـ بعيد عن الخلان في كل بلدة

إذا عظم المطلوب قلّ المساعد

٢٢ ـ زعم العواذل أنني في غمرة

صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي

٢٣ ـ ونحن أناس لا توسط عندنا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

مواضع الوصل

ويجب الوصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع أيضا :

أ ـ إذا قصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي. وتفصيل ذلك أنه إذا أتت جملة بعد جملة وكان للأولى محمل من الإعراب وقصد تشريك الثانية لها في هذا الحكم فإنه يتعين في هذه الحالة عطف الثانية على الأولى بالواو ، تماما كما يعطف مفرد على مفرد بالواو لاشتراكهما في حكم إعرابي واحد.

وفيما يلي طائفة من الأمثلة لهذا الموضع من مواضع الوصل :

١ ـ أنت أيقظتني وأطلعت عيني

على عالم من السر أخفى

٢ ـ وما زلت مذ كنت تولي الجميل

وتحمي الحريم وترعى النسب

٣ ـ وللسر مني موضع لا يناله

نديم ولا يفضي إليه شراب (٣)

٤ ـ وأبطأ عني والمنايا سريعة

وللموت ظفر قد أطلّ وناب

__________________

(١) الحمام : الموت ، وعرينة الأسد : مأواه ، والرئبال : الأسد.

(٢) المراد بالحجاب احتجاب الممدوح عن قصاده ، مقص : مبعد ، وتحتجب : تختفي تحت الغيوم.

(٣) النديم : الجليس على الشراب ، ويفضي : ينتهي. يقول : إنه كتوم للسر يضعه حيث لا يطلع عليه النديم ولا يكشف عنه الشراب.

١٦٧

تأمل في البيت الأول الجملتين «أيقظتني» و «أطلعت عيني على عالم من السر أخفى» تجد أن للجملة الأولى موضعا من الإعراب لأنها خبر للمبتدأ قبلها ، وأن الشاعر أراد إشراك الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي ، أي أراد أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ ، ولهذا تعين عطف الثانية على الأولى بواو العطف.

وإذا تأملت الجملتين «تولي الجميل» و «تحمي الحريم» في البيت الثاني وجدت أن للأولى موضعا من الإعراب ، لأنها خبر للفعل الناسخ «ما زال» وأن الشاعر أراد هنا أيضا إشراك الثانية وهي «تحمي الحريم» للأولى في حكمها الإعرابي ، أي أراد أن تكون خبرا ثانيا للفعل «ما زال» ، ومن أجل ذلك تعين وصل الجملة الثانية بالأولى بواو العطف.

وإذا تدبرنا الجملتين «لا يناله نديم» و «لا يفضي إليه شراب» في البيت الثالث وجدنا أن للأولى موضعا من الإعراب لأنها صفة للنكرة قبلها وهي كلمة «موضع» ، وأن الشاعر أراد إشراك الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي ، ولهذا وصلها بها أو عطفها عليها بالواو.

وإذا تدبرنا الجملتين «والمنايا سريعة» و «للموت ظفر قد أطل وناب» في البيت الرابع والأخير وجدنا أن للأولى منهما موضعا من الإعراب ، لأنها تقع في موضع حال من فاعل «أبطأ» ، وأن الشاعر أراد إشراك الجملة الثانية لها في هذا الحكم الإعرابي ، ولهذا وصلها بها بحرف العطف الواو.

وكذلك يجب الوصل بين كل جملتين على هذا النحو ، أي بين كل جملتين قصد إشراكهما في حكم إعرابي واحد.

* * *

ب ـ ويجب الوصل بين الجملتين إذا اتفقتا خبرا أو إنشاء ، وكانت بينهما جهة جامعة ، أي مناسبة تامة ، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما.

وفيما يلي طائفة من أمثلة هذا الموضع الثاني من مواضع الوصل :

١٦٨

١ ـ قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ.)

٢ ـ ديارهمو انتزعناها انتزاعا

وأرضهمو اغتصبناها اغتصابا

٣ ـ وما كل فعّال يجازى بفعله

ولا كل قوّال لديّ يجاب

٤ ـ فلا تترك الأعداء حولي ليفرحوا

ولا تقطع التسآل عني وتقعد

٥ ـ فليتك تحلو والحياة مريرة

وليتك ترضى والأنام غضاب

٦ ـ وما أنس دار ليس فيها مؤانس؟

وما قرب قوم ليس فيهم مقارب؟

* * *

ففي الأمثلة الثلاثة الأولى هنا اشتمل كل مثال منها على جملتين متحدتين خبرا متناسبتين في المعنى وليس هناك من سبب يقتضي الفصل ، ولذلك عطفت الجملة الثانية على الأولى في كل منها بواو العطف.

وفي الأمثلة الأخيرة اشتمل كل واحد منها على جملتين متحدتين إنشاء متناسبتين معنى ، وليس هناك من سبب أيضا يقتضي الفصل ، ولذلك عطفت الثانية على الأولى.

وهكذا يجب الوصل بين كل جملتين اتحدتا خبرا أو إنشاء ، وتناسبتا في المعنى ، ولم يكن هناك مانع من العطف.

* * *

ج ـ ويجب الوصل بين الجملتين إذا اختلفتا خبرا وإنشاء وأوهم الفصل خلاف المقصود. وهذا هو الموضع الثالث من مواضع الوصل.

وتتمثل شواهد هذا النوع من الوصل في الإجابة بالنفي على سؤال أداته «هل» أو «همزة التصديق» مع التعقيب على جملة الجواب المنفي بجملة دعائية. ومن أمثلة ذلك :

١ ـ لا ولطف الله به. تقول ذلك في جواب من سألك : هل تحسنت صحة صديقك؟.

٢ ـ لا وحفظك الله. تقول ذلك في جواب من سألك : ألك حاجة أقضيها لك؟.

١٦٩

ف «لا» في هذا الموضع قائمة مقام جملة خبرية تقديرها في المثال الأولى «لم تتحسن صحته» وتقديرها في المثال الثاني «لا حاجة لي» ، وكل من جملتي «لطف الله به» و «حفظك الله» جملة دعائية إنشائية. وقد كان الأمر يقتضي هنا الفصل بين الجملتين لاختلافهما خبرا وإنشاء ، فيقال في المثال الأول «لا لطف الله به» وفي الثاني «لا حفظك الله». ولكن الفصل على هذه الصورة يجعل السامع يتوهم أنك تدعو عليه في حين أنك تقصد الدعاء له. ولذلك وجب العدول هنا عن الفصل إلى الوصل. وكذلك الحال في كل جملتين اختلفتا خبرا وإنشاء وكان العطف بينهما يوهم خلاف المقصود.

وفيما يلي تلخيص وتجميع للقواعد التي تحكم مواضع الوصل : يجب الوصل بين الجملتين في ثلاثة مواضع :

الأول ـ إذا قصد إشراك الجملتين في الحكم الإعرابي.

الثاني ـ إذا اتفقت الجملتان خبرا أو إنشاء ، وكانت بينهما جهة جامعة ، أي مناسبة (١) تامة ، ولم يكن هناك سبب يقتضي الفصل بينهما.

الثالث ـ إذا اختلفت الجملتان خبرا وإنشاء ، وأوهم الفصل خلاف المقصود.

* * *

وفيما يلي طائفة أخرى من أمثلة الوصل يترك للدارس أمر التعرف إلى موضع الوصل في كل منها وموجبه.

١ ـ قال تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً.)

٢ ـ وقال تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي.)

٣ ـ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي

__________________

(١) يقصد بالتناسب أن تكون بين الجملتين رابطة أو صلة تجمع بينهما ، كأن يكون المسند إليه في الأولى له تعلق بالمسند إليه في الثانية ، وكأن يكون المسند في الأولى مماثلا للمسند في الثانية أو مضادا له.

١٧٠

الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ).

٤ ـ وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : «أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم».

٥ ـ وشر عدويك الذي لا تحارب

وخير خليليك الذي لا تناسب

٦ ـ سل عن شجاعتك وزره مسالما

وحذار ثم حذار منه محاربا

٧ ـ وأسطو وحبي ثابت في قلوبهم

وأحلم عن جهالهم وأهاب

٨ ـ ولست واجد شيء أنت عادمه

ولست غائب شيء أنت حاضره

٩ ـ أعيا عليّ أخ وثقت بوده

وأمنت في الحالات عقبى غدره

١٠ ـ تسائلني : من أنت؟ وهي عليمة

وهل بفتى مثلي على حاله نكر؟

١١ ـ فأظمأ حتى ترتوي البيض والقنا

وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر

١٢ ـ لا وجعلني الله فداءك.

١٣ ـ لا وأيدك الله.

* * *

محسنات الوصل وعيوبه

من محسنات الوصل تناسب الجملتين في الاسمية والفعلية ، وتناسب الجملتين الفعليتين في المضي والمضارعة ، وفي الإطلاق والتقييد إلا لمانع ، كما في الأمثلة السابقة.

ولهذا لا يحسن العدول عن ذلك في الوصل إلا لغرض. ومن هذه الأغراض أن يقصد التجدد في إحدى الجملتين والثبات في الأخرى ، كقولك : أقام محمد وأخوه مسافر. هذا إذا أردت أن إقامة محمد تتجدد وسفر أخيه ثابت مستمر ، لأن الدلالة على التجدد تكون بالجملة الفعلية ، وعلى الثبات بالجملة الاسمية.

ومن الأغراض أن يراد الإطلاق في إحدى الجملتين والتقييد في الأخرى كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ

١٧١

الْأَمْرُ). فالجملة الأولى هي : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) مطلقة ، والجملة الثانية وهي : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) مقيدة ، لأن الشرط «لو» مقيد للجواب فقضاء الأمر ، أي قضاؤه بهلاكهم ، مقيد بإنزال الملك.

ومن عيوب الوصل انعدام المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه ، كقول أبي تمام :

لا والذي هو عالم أن النوى

صبر وأن أبا الحسين كريم

وإنما كان العطف في هذا البيت معيبا لأنه لا مناسبة في المعنى بين المعطوف والمعطوف عليه ، إذ لا علاقة إطلاقا بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين.

ومن هذا القبيل أن يقال مثلا : علي تاجر وأحمد مريض فهذا العطف معيب قبيح ، إذ لا مناسبة بين الجملتين ولا رابطة في المعنى بين تجارة علي ومرض أحمد.

ولو قيل مثلا : علي طبيب وأحمد ممرض لصح العطف لوجود رابطة تجمع بين الجملتين ، وهي هنا التماثل بين المسندين فيهما.

* * *

١٧٢

الإيجاز والإطناب والمساواة

الإيجاز

أشاد الجاهليون كثيرا بالإيجاز ودعوا إليه ومارسوه في أدبهم على اختلاف ألوانه. ولعل السر في اهتمامهم به راجع إلى ظروف مجتمعهم ، فقد كان مجتمعا تشيع فيه الأمية وتندر فيه الكتابة ، ولهذا كان عليهم أن يعتمدوا على ذاكرتهم من ناحية في الإبقاء على أدبهم الذي يصور حياتهم ، وعلى تناقله عن طريق الرواية جيلا بعد جيل من ناحية أخرى.

ولكن الذاكرة مهما كانت قوية فإنها لا تستطيع أن تستوعب كل ما يقال ، ولا سيما إذا كان طويلا ، وإذا استوعبت ما قدرت عليه من الكلام المسهب فإنها معرضة لنسيان بعضه بسبب طوله.

من هنا ولهذه الاعتبارات ، كما يبدو ، كانت الحاجة إلى الإيجاز في القول أول الأمر كوسيلة لاستيعاب أكبر قدر ممكن من الأدب تستطيع الذاكرة أن تعيه من غير نسيان ، وبذلك يتسنى للأجيال المتعاقبة أن تتناقله سليما غير منقوص.

على ضوء ذلك يمكن القول بأن ما نرى لهم من كلام كثير في فضل الإيجاز والتنويه به واعتباره البلاغة الحقة كان نابعا في المحل الأول من حاجتهم إليه كأهم وسيلة للحفاظ على تراثهم العقلي. وقلما نظروا بمفهومه المتطور لدى رجال البلاغة المتأخرين ، أي على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته تستدعيه مقتضيات الكلام أحيانا.

١٧٣

وفي صدر الإسلام لم يتطور مفهوم الإيجاز كثيرا عما كان عليه في العصر الجاهلي. حقا لقد اقتضى الأمر تدوين الرسائل في الإسلام لأغراض شتى ، ولكن ظروف المجتمعين الجديد والقديم كانت لا تزال متقاربة متشابهة من جهة قلة الكاتبين وندرة أدوات الكتابة ، ولذلك ظل الإيجاز وسيلة أكثر منه غاية قائمة لذاتها.

ثم شيئا فشيئا زاد الاهتمام بالكتابة وتفرغ لها طائفة من الأدباء يفتنون في طرقها وأساليبها ، فكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة في تطور مفهوم الإيجاز والنظر إليه على أنه مطلب بلاغي في حد ذاته يتنافسون في الإبداع فيه حتى ود بعضهم لو كان الكلام كله توقيعات مصبوبة في قوالب من الإيجاز.

* * *

فإذا أتينا إلى العصر العباسي فإننا نرى الجاحظ في القرن الثالث الهجري يحدد مفهوم الإيجاز بقوله : «الإيجاز هو الجمع للمعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة (١)».

ثم نراه فيما بعد يتوسع في مفهوم الإيجاز ، فلم يعد يقصره على «جمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة» ، وإنما صار الإيجاز عنده بمعنى «أداء حاجة المعنى ، سواء أكان ذلك الأداء في ألفاظ قليلة أم كثيرة» ، فقد يطول الكلام وهو في رأيه إيجاز لأنه وقف عند منتهى البغية ولم يجاوز مقدار الحاجة (٢).

فمقياس الإيجاز في نظره إذن هو أداء حاجة المعنى وعدم تجاوز مقدار هذه الحاجة أو النكوص عنها طال الكلام أم قصر.

وعند أبي هلال العسكري يتمثل الإيجاز في ترديد رأي أصحابه القائل بأن «الإيجاز قصور البلاغة على الحقيقة ، وما تجاوز مقدار الحاجة فهو

__________________

(١) كتاب الحيوان ج ٣ ص ٨٦.

(٢) كتاب الحيوان ج ٦ ص ٧.

١٧٤

فضل داخل في باب الهذر والخطل ، وهما من أعظم أدواء الكلام ، وفيهما دلالة على بلادة صاحب الصناعة (١)». وفي هذا الرأي نظر إلى رأي الجاحظ السابق وتأثر به.

أما ابن رشيق فلم يورد للإيجاز تعريفا خاصا مكتفيا في ذلك بتعريف الرماني (٢) له وتقسيمه. أما تعريفه فقد قال ابن رشيق نقلا عن الرماني : «الإيجاز هو العبارة عن الغرض بأقل ما يمكن من الحروف».

أما عن تقسيمه فقد قال ابن رشيق : «الإيجاز عند الرماني على ضربين : مطابق لفظه لمعناه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، كقولك : «سل أهل القرية» ، وضرب آخر يسمونه «الاكتفاء» ، وفيه يحذفون بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب ، كقولهم : «لو رأيت عليا بين الصفين» ، أي : «لرأيت أمرا عظيما». ويعلق ابن رشيق على هذا الضرب من الإيجاز بقوله :

«وإنما كان هذا معدودا من أنواع البلاغة لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب ، وكل معلوم فهو هين لكونه محصورا (٣)».

* * *

كذلك عرض ضياء الدين بن الأثير في كتابه «المثل السائر» للإيجاز فعرفه وقسمه وفصل القول فيه تفصيلا حسنا مع الإكثار من الأمثلة والشواهد.

وقد عرف ابن الأثير الإيجاز مرة بقوله : «الإيجاز حذف زيادات الألفاظ» ومرة أخرى بقوله : «الإيجاز دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه».

كما قسمه إلى إيجاز بالحذف وإيجاز بدون الحذف. أما الإيجاز بالحذف

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ١٧٣. وقصور البلاغة إلى الحقيقة : ردّها إلى الحقيقة.

(٢) الرماني : هو علي بن عيسى الرماني المتوفى سنة ٣٨٦ ه‍ ، وصاحب كتاب «النكت في إعجاز القرآن».

(٣) كتاب العمدة ج ١ ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

١٧٥

عنده «فهو ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف ، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه».

أما الإيجاز بدون حذف فيقسمه قسمين : أحدهما إيجاز «القصر» وهو ما زاد معناه على لفظه ، والآخر إيجاز «التقدير» وهو ما ساوى لفظه معناه. وهذا القسم هو ما أطلق عليه رجال البلاغة فيما بعد اسم «المساواة» (١).

وإذا تتبعنا «الإيجاز» عند غير هؤلاء الأدباء والبلغاء من أمثال السكاكي والقزويني وغيرهما فإننا نجد أن مفهومه ، وإن اختلفت صيغ التعبير عنه ، واحد وهو «جمع المعاني الكثيرة تحت الألفاظ القليلة مع الإبانة والإفصاح».

* * *

والإيجاز عند البلاغيين ضربان :

أ ـ إيجاز قصر : وهو تقليل الألفاظ وتكثير المعاني. وقيل : هو تضمين العبارات القصيرة معاني كثيرة من غير حذف. وقيل أيضا : هو الذي لا يمكن التعبير عن معانيه بألفاظ أخرى مثلها وفي عدّتها.

وهذا النوع ، كما يقول ابن الأثير ، هو أعلى طبقات الإيجاز مكانا وأعوزها إمكانا ، وإذا وجد في كلام بعض البلغاء فإنما يوجد شاذا نادرا.

ومما ورد من إيجاز القصر في القرآن الكريم قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ،) فإن قوله تعالى : (الْقِصاصِ حَياةٌ) لا يمكن التعبير عنه بألفاظ كثيرة ، لأن معناه أنه إذا قتل القاتل امتنع غيره عن القتل ، فأوجب ذلك حياة للناس.

ويتبين فضل هذا الكلا إذا قرنته بما جاء عن العرب في معناه وهو قولهم : «القتل أنفى للقتل». فقد يخيل لمن لا يعلم أن هذا القول على وزن الآية الكريمة ، وليس الأمر كذلك ، بل بينهما فروق من ثلاثة أوجه : أحدها

__________________

(١) المثل السائر ص ١٩٤ ـ ٢١٧.

١٧٦

أن «القصاص حياة» لفظتان ، «والقتل أنفى للقتل» ثلاثة ألفاظ ، والوجه الثاني أن في قولهم «القتل أنفى للقتل» تكريرا ليس في الآية ، والوجه الثالث أنه ليس كل قتل نافيا للقتل إلا إذا كان القتل على حكم القصاص.

ومن أمثلة إيجاز القصر في القرآن الكريم أيضا ، قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) كلمتان استوعبتا جميع الأشياء على غاية الاستقصاء. روي أن ابن عمر قرأها ، فقال : من بقي له شيء فليطلبه.

وقوله تعالى : (وَالْفُلْكِ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) جمع أنواع التجارات ، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد والإحصاء.

وقوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ،) فجمع جميع مكارم الأخلاق بأسرها ؛ لأن في العفو صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين وإعطاء المانعين ، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله وصلة الرحم ، وصون اللسان عن الكذب ، وغض الطرف عن الحرمات والتبرؤ من كل قبيح ، لأنه لا يجوز أن يأمر بالمعروف وهو يلابس شيئا من المنكر. وفي الإعراض عن الجاهلين الصبر والحلم وتنزيه النفس عن مقابلة السفيه بما يفسد الدين.

وقوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). فهذه الآية الكريمة تتضمن مع الإيجاز والفصاحة دلائل القدرة.

وقوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها ،) فدل بشيئين «الماء والمرعى» على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للناس ، من العشب والشجر والحطب واللباس والنار والملح والماء ، لأن النار من العيدان ، والملح من الماء. والشاهد على أنه أراد ذلك كله قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ).

ومما ورد من إيجاز القصر في أحاديث الرسول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالسلامة داء» ، وقوله : «إنكم لتكثرون عند الطمع ، وتقلون عند الفزع» ،

١٧٧

وقوله : «حبك الشيء يعمي ويصم» ، وقوله : «إن من البيان لسحرا» ، وقوله : «ترك الشر صدقة» ، وقوله : «نية المؤمن خير من عمله» ، وقوله : «إذا أعطاك الله خيرا فليبن عليك ، وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل ، ولا تلم على الكفاف ، ولا تعجز عن نفسك».

فقوله : «فليبن عليك» أي فليظهر أثره عليك بالصدقة والمعروف ودل على ذلك بقوله : «وابدأ بمن تعول ، وارتضخ من الفضل» أي اكسر من مالك وأعط ، وقوله : «ولا تعجز عن نفسك» أي لا تجمع لغيرك وتبخل عن نفسك فلا تقدم خيرا.

ومنه في كلام العرب قول أعرابي : «أولئك قوم جعلوا أموالهم مناديل لأعراضهم ، فالخير بهم زائد والمعروف لهم شاهد» أي يقون أعراضهم ويحمونها بأموالهم.

وقول آخر : «أما بعد فعظ الناس بفعلك ولا تعظهم بقولك ، واستحي من الله بقدر قربه منك ، وخفه بقدر قدرته عليك».

وقيل لأعرابي يسوق مالا كثيرا : لمن هذا المال؟ فقال : لله في يدي.

فمعاني هذا الكلام ـ على حد قول أبي هلال العسكري ـ أكثر من ألفاظه ، وإذا أردت أن تعرف صحة ذلك فحلّها وابنها بناء آخر ، فإنك تجدها تجيء في أضعاف هذه الألفاظ.

* * *

ب ـ إيجاز حذف : وهو القسم الثاني للإيجاز ، ويعرفه البلاغيون بقولهم : «هو ما يحذف منه كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعيّن المحذوف. ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه».

وعن هذا النوع من الإيجاز يقول ابن الأثير : «أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر شبيه بالسحر ، وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم

١٧٨

تنطق ، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبيّن ... (١)».

ثم يستطرد في الكلام عن إيجاز الحذف فيقول : «والأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف ، فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب.

ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام إلى شيء غث لا يناسب ما كان عليه من الطلاوة والحسن.

* * *

ذكرنا آنفا أن الإيجاز إنما يكون بحذف كلمة أو جملة أو أكثر. وإذا تتبعنا المحذوف في هذا النوع من أساليب الإيجاز فإننا نجده يأتي على وجوه مختلفة منها :

١ ـ ما يكون المحذوف فيه حرفا : نحو قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً)(٢) أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ فالمراد : «تالله لا تفتأ» أي لا تزال ، فحذفت «لا» من الكلام وهي مرادة.

وعلى هذا جاء قول امرىء القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي : لا أبرح قاعدا ، فحذفت «لا» في هذا الموضع أيضا وهي مرادة.

ومما جاء منه قول أبي محجن الثقفي لما نهاه سعد بن أبي وقاص عن شرب الخمر وهو إذ ذاك في قتال الفرس بموقعة القادسية :

__________________

(١) المثل السائر ص ١٩٨.

(٢) الحرض : مصدر حرض بكسر الراء ، ومعنى الحرض : القرب من الهلاك ، والمراد به هنا الشخص القريب من الهلاك على وجه المبالغة. فالمعنى حتى تكون قريبا من الهلاك أو تهلك فعلا.

١٧٩

رأيت الخمر صالحة وفيها

مناقب تهلك الرجل الحليما

فلا والله أشربها حياتي

ولا أسقي بها أبدا نديما

يريد : لا أشربها ، فحذف «لا» من الكلام وهي مفهومة منه.

٢ ـ ما يكون المحذوف مضافا : نحو قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ)(١) الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ ، أي : اسأل أهل القرية وأصحاب العير.

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ،) أي : من أثر حافر فرس الرسول. وقوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ،) أي : وجاهدوا في سبيل الله ...

٣ ـ ما يكون المحذوف موصوفا : نحو قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ،) فإنه لم يرد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء وإنما يريد : آية مبصرة ، فحذف الموصوف وهو «آية» وأقام الصفة مقامه.

وأكثر وقوع حذف الموصوف في النداء وفي المصدر. أما النداء فنحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي : يا أيها الرجل الساحر ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ... ،) أي : يا أيها القوم الذين آمنوا.

وأما المصدر فكقوله تعالى : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً ،) تقديره : ومن تاب وعمل عملا صالحا ...

ومما جاء منه في الشعر قول البحتري من أبيات يصف فيها التصاوير التي في إيوان كسرى ، وذلك أن الفرس كانت تحارب الروم فصوروا مدينة أنطاكية في الإيوان وحرب الروم والفرس عليها ، فمما ذكره البحتري في ذلك قوله :

وإذا ما رأيت صورة أنطا

كية ارتعت بين روم وفرس

__________________

(١) العير : اسم للإبل التي تحمل المتاع ، وأريد بها هنا أصحابها.

١٨٠