علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

وقول حسان بن ثابت في مدح الرسول عليه‌السلام :

«له همم» لا منتهى لكبارها

وهمته الصغرى أجل من الدهر

«له راحة» لو أن معشار جودها

على البر كان البر أندى من البحر

* * *

تلك هي الأغراض والدواعي البلاغية التي تقتضي التقديم والتأخير أحيانا بين المسند والمسند إليه.

ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من التقديم يكون مقصورا على تقديم متعلقات الفعل عليه ، من مثل المفعول والجار والمجرور والحال والاستثناء وما أشبه ذلك.

فالأصل في العامل أن يقدم على المعمول ، فإذا عكس الأمر فقدم المعمول على العامل فإنما يكون ذلك لغرض بلاغي يقتضيه ، وفي هذه الحالة يكون التقديم أبلغ من التأخير. وفيما يلي شيء من البيان لذلك.

تقديم متعلقات الفعل عليه :

١ ـ فمن تقديم المفعول على الفعل قولك : «محمدا أكرمت» والأصل «أكرمت محمدا» ، فإن في قولك بالتقديم «محمدا أكرمت» تخصيصا لمحمد بالكرم دون غيره ، وذلك بخلاف قولك «أكرمت محمدا» ، لأنك إذا قدمت الفعل كنت بالخيار في إيقاع الكرم على أي مفعول شئت ، بأن تقول : أكرمت خالدا أو عليا أو غيرهما. فتقديم المفعول على الفعل هنا قصد به اختصاصه به ، أي اختصاص محمد دون غيره بالإكرام.

٢ ـ ومن تقديم الجار والمجرور على الفعل قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ،) فإن تقديم الجار والمجرور دل على أن مرجع الأمور ليس إلا لله وحده ، على حين لو وردت الآية من غير تقديم وقيل : «ترجع الأمور إلى الله» لاحتمل إيقاع مرجع الأمور إلى غير الله وهذا محال.

٣ ـ ومن تقديم الحال على الفعل كقولك : «مبكرا خرجت إلى عملي»

١٤١

تخصيصا لحالة التبكير بالخروج دون غيرها من الحالات ، وذلك بخلاف قولك : «خرجت إلى عملي مبكرا» لأنك في تقديمك الفعل تكون بالخيار في إيقاعه مقيدا بأي حالة شئت ، بأن تقول : خرجت إلى عملي متأخرا أو مسرعا أو مسرورا أو غير ذلك. وكذلك يجري الأمر في بقية متعلقات الفعل.

* * *

وعلماء البلاغة ومنهم الزمخشري يرون أن تقديم متعلقات الفعل عليه على النحو السابق إنما هو للاختصاص.

ولكن ابن الأثير يرى أن تقديم متعلقات الفعل عليه يكون لواحد من غرضين : أحدهما الاختصاص ، والآخر مراعاة نظم الكلام ، وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديم وإذا أخر المقدم زال ذلك الحسن ، وهذا الوجه عنده أبلغ وأوكد من الاختصاص.

فمن الأول عنده وهو التقديم الذي يكون الغرض البلاغي منه «الاختصاص» قوله تعالى (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ). فإنه إنما قيل : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) ولم يقل : «بل اعبد الله» لأن المفعول وهو لفظ الجلالة «الله» إذا تقدم وجب اختصاص العبادة به دون غيره. ولو قال : «بل اعبد» لجاز وقوع فعل العبادة على أي مفعول شاء.

ومن الثاني وهو التقديم الذي يكون الغرض البلاغي منه مراعاة نظم الكلام قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ويرى الزمخشري أن التقديم في هذا الموضوع قصد به الاختصاص ، ولكن ابن الأثير يرى أن المفعول لم يقدم على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام ، لأنه لو قال : «نعبدك ونستعينك» لم يكن له ما لقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ،) فجاء بعد ذلك قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) وذلك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون.

١٤٢

ولو قال : «نعبدك ونستعينك» لذهبت تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن ، وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا عن أرباب علم البيان.

ومما ورد فيه التقديم مراعاة لنظم الكلام أيضا قوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ)(١) ، فإن تقديم الجحيم على التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص ، وإنما هو للفضلية السجعية.

ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن مما لو قيل : «خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم».

ولهذا النوع من التقديم نظائر كثيرة في القرآن منها أيضا قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ)(٢) الْقَدِيمِ ، فتقديم المفعول «القمر» على الفعل هنا ليس من باب الاختصاص ، وإنما هو من باب مراعاة نظم الكلام ، ولو أنه قال : «وقدرنا القمر منازل» لما كان بتلك الصورة في الحسن.

ومنه كذلك قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ،) فالغرض البلاغي من وراء تقديم مفعول كل من الفعلين السابقين عليه هو مراعاة حسن النظم السجعي.

* * *

وهناك نوع آخر من التقديم لا يرجع إلى تقديم أحد ركني الإسناد على الآخر ، ولا إلى تقديم أحد متعلقات الفعل عليه ، وإنما هو مختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك. وهذا النوع من التقديم مما لا يحصره حد ولا ينتهي إليه ، وهو يتمثل في صور شتى منها :

__________________

(١) صلوه بفتح الصاد وتشديد اللام : أدخلوه فيها.

(٢) العرجون بضم العين : العود الغليظ المتصل بالنخلة وفي آخره عناقيد البلح ، فإذا قطع منه شماريخ البلح يبقى منه جزء على النخلة أعوج يابسا ، وهذا هو حال القمر في أول الشهر وآخره.

١٤٣

١ ـ تقديم السبب على المسبب : ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ،) فهنا قدمت العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب ، وأسرع لوقوع الإجابة. ولو قال : «إياك نستعين وإياك نعبد» لكان جائزا ، ألا أنه لا يسد ذلك المسد ، ولا يقع ذلك الموقع.

وعلى نحو منه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً). فقدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا ، لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس. فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ، ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس ، لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم ، فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.

٢ ـ تقديم الأكثر على الأقل : كقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ).

وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان بكثرته وأن معظم الخلق عليه ، ثم أتى بعده بالمقتصدين ، لأنهم قليل بالإضافة إليه ، ثم أتى بالسابقين وهم أقل من القليل ، أعني من المقتصدين.

وهكذا قدم الأكثر وبعده الأوسط ثم ذكر الأقل آخرا ، ولو عكست القضية لكان المعنى أيضا واقعا في موقعه ، لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل فالأفضل.

وضابط هذا النوع هو أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما مختص بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكر كهذه الآية ، فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضل ، والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرة. فعلى هذا يقاس ما يأتي من الأشباه والنظائر.

١٤٤

ومن هذا الجنس قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ). فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على القدرة من الماشي على رجلين ، إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي ، ثم ذكر الماشي على رجلين وقدمه على الماشي على أربع ، لأنه دل على القدرة أيضا حيث كثرت آلات المشي في الأربع. وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب (١).

__________________

(١) انظر المثل السائر لابن الأثير (ص ١٨٠ ـ ١٨٦).

١٤٥

القصر

القصر لغة : الحبس والإلزام ، تقول : قصرت نفسي على الشيء إذا حبستها وألزمتها إياه ، كما تقول : قصرت الشيء على كذا إذا لم تجاوز به غيره. ومن القصر بمعنى الحبس قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ ،) أي قصرن وحبسن على أزواجهن فلا يطمحن لغيرهم. والقصر في اصطلاح علماء المعاني : تخصيص شيء بشيء أو تخصيص أمر بآخر بطريق مخصوصة.

ولأسلوب القصر طرفان وله طرقه المختلفة التي يؤدى بها ، كما له أقسامه باعتبار الحقيقة والإضافة ، وباعتبار حال المخاطب ، وباعتبار الطرفين. ولبيان كل ذلك نورد الأمثلة التالية ، فعلى ضوء شرحها ومناقشتها تنجلي لنا كل الحقائق المتصلة بأسلوب القصر وقيمته البلاغية :

الأمثلة :

١ ـ قال تعالى : (لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ.)

٢ ـ إنما العرب أوفياء.

٣ ـ صداقة الجاهل تعب بلا راحة.

٤ ـ لا أجيد الخطابة لكن الشعر.

٥ ـ ما وضع الإحسان في غير موضعه عدلا بل ظلم.

٦ ـ وحياته أعطى الشهيد لقومه

أترى أجلّ من الحياة عطاء؟

١٤٦

٧ ـ نائم أنت على صدر الصخور

ولقد كنت على الزهر تنام

٨ ـ إلى الله أشكو أن في النفس حاجة

تمرّ بها الأيام وهي كما هيا

* * *

فإذا تأملنا هذه الأمثلة رأينا أن كل مثال منها يفيد تخصيص أمر بآخر.

فالمثال الأول يفيد تخصيص علم الغيب بالله ، وعلى هذا فعلم الغيب خاص بالله لا يتعداه إلى سواه.

والمثال الثاني يفيد تخصيص العرب بالوفاء ، بمعنى أن العرب مقصورون على الوفاء لا يفارقونه إلى غيره من الصفات.

والمثال الثالث يفيد تخصيص صداقة الجاهل بالتعب ، بمعنى أن صداقة الجاهل وقف على التعب لا تجاوزه إلى الراحة.

والمثال الرابع يفيد تخصيص صفة الإجادة بالشعر ، فالإجادة خاصة بالشعر لا تتجاوزه إلى الخطابة أو غيرها.

والمثال الخامس يفيد تخصيص وضع الإحسان في غير موضعه بالظلم ، فوضع الإحسان في غير موضعه مقصور على الظلم لا يتعداه إلى سواه.

والمثال السادس يفيد تخصيص إعطاء الشهيد بحياته ، فإعطاء الشهيد خاص بحياته لا يجاوزها إلى غيرها.

والمثال السابع يفيد تخصيص المخاطب بالنوم على صدر الصخور ، فالمخاطب خاص بالنوم على صدر الصخور لا يتعداه إلى أية صفة أخرى.

والمثال الثامن والأخير يفيد تخصيص الشكوى بالله ، فالشكوى مقصورة على الله لا تتجاوزه إلى سواه.

* * *

وإذا شئنا معرفة سبب هذا التخصيص في الأمثلة السابقة فإن الأمر يستأدينا ويتطلب منا أن نعود إلى الأمثلة مرة أخرى بحثا عن السبب.

١٤٧

فإذا حذفنا من المثال الأول أداة النفي والاستثناء «لا وإلا» وجدنا أن التخصيص قد زال منه ، وكأنه لم يكن. إذن النفي والاستفهام هما وسيلة التخصيص فيه.

وإذا حذفنا من المثال الثاني «إنما» وجدنا أن التخصيص قد زال منه ، وعلى هذا فوسيلة التخصيص فيه هي لفظة «إنما». وإذا حذفنا من المثال الثالث أداة العطف «لا» وجدنا أن التخصيص قد فارقه ، وهذا يعني أن أداة العطف «لا» وسيلة التخصيص فيه.

وإذا حذفنا من المثال الرابع أداة العطف «لكن» ومن المثال الخامس أداة العطف «بل» فإننا نجد أن التخصيص في كلا المثالين قد زال. إذن أداة العطف «لكن» هي وسيلة التخصيص في المثال الرابع ، وأداة العطف «بل» هي وسيلة التخصيص في المثال الخامس.

وفي المثال السادس نلاحظ أن المفعول به مقدم على فعله فإذا قدمنا الفعل عليه وقلنا : «وأعطى الشهيد حياته لقومه» وجدنا أن التخصيص في هذا المثال قد زال. إذن تقديم المفعول على فعله أو تقديم ما حقه التأخير هو وسيلة التخصيص فيه.

وفي المثال السابع نلاحظ كذلك أن الخبر مقدم على المبتدأ ، فإذا قدمنا المبتدأ عليه وقلنا : «أنت نائم على صدر الصخور» وجدنا التخصيص قد فارق هذا المثال. ومن هذا يفهم أن تقديم الخبر على المبتدأ ، أو تقديم ما حقه التأخير هو وسيلة التخصيص فيه.

وفي المثال الثامن والأخير نلاحظ أن الجار والمجرور مقدمان على فعلهما ، فإذا قدمنا الفعل عليهما وقلنا : «أشكو إلى الله» وجدنا التخصيص قد زال منه وكأنه لم يكن. إذن فتقديم الجار والمجرور على فعلهما ، أو تقديم ما حقه التأخير هو وسيلة التخصيص فيه.

من كل ما تقدم نستطيع الآن أن ندرك أن وسائل التخصيص في

١٤٨

الأمثلة السابقة هي : النفي والاستثناء ، وإنما ، والعطف بلا ، أو لكن ، أو بل ، أو تقديم ما حقه التأخير. وعلماء المعاني يطلقون على التخصيص المستفاد من هذه الوسائل اسم «القصر» ، كما يطلقون على الوسائل ذاتها اسم «طرق القصر».

* * *

وإذا رجعنا إلى الأمثلة السابقة مرة ثالثة وبحثنا فيها مثالا مثالا ، وجدنا في المثال الأول أن علم الغيب مقصور ، ولفظ الجلالة مقصور عليه ، وهما «طرفا القصر». ولما كان علم الغيب صفة من الصفات ، ولفظ الجلالة «الله» هو الموصوف ، كان القصر في هذا المثال قصر «صفة على موصوف» ، بمعنى أن الصفة لا تتعدى الموصوف إلى موصوف آخر.

وفي المثال الثاني قصر العرب على الوفاء ، فالعرب مقصورون والوفاء مقصور عليهم وهما «طرفا القصر» ولما كان العرب موصوفين والوفاء صفة لهم ، كان القصر في هذا المثال قصر «موصوف على صفة» ، بمعنى أن الموصوف لا يفارق صفة الوفاء إلى أي صفة أخرى.

وفي المثال الثالث قصرت صداقة الجاهل على التعب ، فصداقة الجاهل مقصورة والتعب مقصور عليها ، وهما «طرفا القصر». ولما كانت صداقة الجاهل موصوفة والتعب صفة لها ، كان القصر في هذا المثال قصر «موصوف على صفة» أيضا ، بمعنى أن الموصوف لا يتعدى صفة التعب إلى صفة أخرى كالراحة مثلا.

وفي المثال الرابع قصرت الإجادة على الشعر ، فالإجادة مقصورة والشعر مقصور عليه ، وهما «طرفا القصر» ، ولما كانت الإجادة صفة من الصفات ، والشعر هو الموصوف ، كان القصر في هذا المثال قصر «صفة على موصوف» ، بمعنى أن الصفة لا تتعدى الموصوف إلى موصوف آخر ، وإن كان هو يتعداها إلى صفات أخرى.

وفي المثال الخامس قصر وضع الإحسان في غير موضعه على الظلم ،

١٤٩

فوضع الإحسان في غير موضعه مقصور والظلم مقصور عليه ، وهما «طرفا القصر». ولما كان وضع الإحسان في غير موضعه موصوفا والظلم صفة له ، كان القصر في هذا المثال قصر «موصوف على صفة» بمعنى أن الموصوف لا يتعدى صفة الظلم ، وإن كانت هي تتعداه إلى موصوفين آخرين.

وفي المثال السادس قصر إعطاء الشهيد لقومه على حياته ، فإعطاء الشهيد لقومه مقصور وحياته مقصور عليها ، وهما «طرفا القصر» ، ولما كان إعطاء الشهيد لقومه صفة من الصفات ، وحياته هي الموصوف ، كان القصر في هذا المثال قصر «صفة على موصوف» بمعنى أن هذه الصفة لا تتعدى الموصوف إلى موصوف آخر ، وإن كان هو يتعداها إلى صفات أخرى.

وفي المثال السابع قصر المخاطب «أنت» على «نائم على صدر الصخور» ، فأنت مقصور ، ونائم على صدر الصخور مقصور عليه ، وهما «طرفا القصر» ولما كان «أنت» موصوف والنوم على صدر الصخور صفة له كان القصر هنا قصر «موصوف على صفة» ، بمعنى أن الموصوف لا يتعدى صفة النوم على صدر الصخور ، وإن كانت هذه الصفة تتعداه إلى موصوفين آخرين.

وفي المثال الاخير قصرت الشكوى على لفظ الجلالة «الله» ، فالشكوى مقصورة ولفظ الجلالة مقصور عليه ، وهما «طرفا القصر». ولما كانت الشكوى صفة من الصفات ، ولفظ الجلالة هو الموصوف ، كان القصر في هذا المثال قصر «صفة على موصوف» ، بمعنى أن هذه الصفة لا تتعدى الموصوف إلى موصوف آخر ، وإن كان هو يتعداها إلى صفات أخرى.

مما تقدم يتضح أن أسلوب القصر يشتمل على مقصور ومقصور عليه. وأن القصر لا يخلو من حالة من الحالتين السابقتين. فهو إما قصر صفة على موصوف ، وإما قصر موصوف على صفة. وهذا الكلام ينطبق على الأمثلة السابقة ونظائرها ، ولعل في القواعد التالية والمستنبطة من الشرح السابق ما يعين على معرفة كل من المقصور والمقصور عليه ، وطرق القصر ،

١٥٠

وطرفيه في أساليب القصر المختلفة.

١ ـ القصر في اصطلاح علماء المعاني : تخصيص شيء بشيء أو أمر بآخر بطريق مخصوص.

٢ ـ للقصر أربع طرق يؤدى بها ، هي :

أ ـ النفي والاستثناء ، وفي هذه الحالة يكون المقصور عليه ما بعد أداة الاستثناء.

ب ـ إنما : ويكون المقصور عليه معها مؤخرا وجوبا.

ج ـ العطف بلا ، أو لكن ، أو بل : فإن كان العطف ب «لا» كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها ، وإن كان العطف ب «لكن» و «بل» كان المقصور عليه ما بعدهما.

د ـ تقديم ما حقه التأخير ، وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم.

* * *

١٥١

أقسام القصر

يقسم البلاغيون القصر إلى ثلاثة أقسام :

قصر حقيقي وإضافي.

قصر باعتبار الطرفين.

قصر باعتبار حال المخاطب.

* * *

القصر الحقيقي والإضافي

فالقصر باعتبار الحقيقة والواقع ينقسم إلى :

أ ـ حقيقي : وهو أن يختص المقصور بالمقصور عليه بحسب الحقيقة والواقع بألا يتعداه إلى غيره أصلا.

ب ـ إضافي : وهو ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة إلى شيء معين.

ولبيان ذلك نورد فيما يلي طائفة من الأمثلة ثم نعقب عليها بالشرح والمناقشة توضيحا لهذين النوعين من القصر وتوصلا إلى معرفة حقيقة كل منهما.

الأمثلة :

١ ـ قال تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

١٥٢

٢ ـ وقال تعالى : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.)

٣ ـ وما قلت إلا الحق فيك ولم تزل

على منهج من سنة المجد لاجب (١)

٤ ـ قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟).

٥ ـ برجاء جودك يطرد الفقر

وبأن تعادى ينفد العمر

٦ ـ إنما يدوم السرور برؤية الإخوان.

* * *

إذا تأملنا المثال الأول وجدنا القصر فيه من باب قصر الصفة على الموصوف ، وإذا تدبرنا الصفة فيه وجدنا أنها لا تتعدى موصوفها إلى موصوف آخر مطلقا. فالتذكر صفة لا تتجاوز أولي الألباب إلى غيرهم من سائر الناس في الحقيقة والواقع. وطريق القصر هنا هو «إنما».

وإذا تأملنا المثال الثاني وجدناه يشتمل على ثلاثة من أساليب القصر : الأول «وما توفيقي إلا بالله» والثاني «عليه توكلت» والثالث «وإليه أنيب» ، وأن القصر في كل منها هو قصر صفة على موصوف.

وإذا نظرنا إلى الصفة في كل قصر رأينا أنها لا تفارق موصوفها إلى موصوف آخر البتة. فالتوفيق صفة لا تتعدى المولى عزوجل إلى سواه ، وكذلك كل من التوكل والإنابة صفة لا تتجاوز موصوفها وهو الله عزوجل إلى موصوف آخر مطلقا.

وطرق القصر في هذا المثال هي : النفي والاستثناء في الأسلوب الأول ، وتقديم ما حقه التأخير «الجار والمجرور» في الأسلوبين الآخرين.

والقصر في المثال الثالث هو «وما قلت إلا الحق» ، وهو قصر صفة على موصوف ، وإذا تدبرنا الصفة فيه وجدنا أنها لا تتعدى موصوفها إلى

__________________

(١) المنهج : الطريق الواضح ، واللاجب : الطريق الواضح أيضا.

١٥٣

غيره أصلا. فالقول صفة لا تتجاوز موصوفها «الحق» إلى غيره من سائر الموصوفات.

والقصر في المثال الثالث هو «وما قلت إلا الحق» ، وهو قصر صفة على موصوف ، وإذا تدبرنا الصفة فيه وجدنا أنها لا تتعدى موصوفها إلى غيره أصلا. فالقول صفة لا تتجاوز موصوفها «الحق» إلى غيره من سائر الموصوفات.

فالقصر في هذه الأمثلة الثلاثة يسمى «قصرا حقيقيا» وكذلك كل قصر يختص فيه المقصور عليه اختصاصا منظورا فيه إلى الحقيقة والواقع بألا يتعداه إلى غيره أصلا.

ومن مناقشة الأمثلة السابقة يلاحظ أن القصر فيها جميعا كان قصر صفة على موصوف. وهذا يعني أن القصر الحقيقي يكون في قصر الصفة على الموصوف ، ولا يكاد يوجد في قصر الموصوف على الصفة.

* * *

وإذا نظرنا إلى أسلوب القصر في المثال الرابع وهو قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) وجدناه من باب قصر الموصوف على الصفة ، وإذا تدبرنا المقصور هنا وهو «محمد» وجدناه مختصا بالمقصور عليه بالإضافة ، أي بالنسبة إلى شيء معين لا إلى جميع ما عداه. فليس المقصود هنا أن «محمدا» مقصور على «الرسالة» وحدها بحيث لا يتعداها إلى شيء آخر ، لأن الحقيقة والواقع خلاف ذلك ، وإنما المقصود أنه مقصور على الرسالة بالإضافة إلى شيء آخر معين كالشعر مثلا.

وفي المثال الخامس قصران : الأول «برجاء جودك يطرد الفقر» والثاني «وبأن تعادى ينفد العمر» ، وكلاهما من باب قصر الصفة على الموصوف. وإذا تأملنا المقصور في كل منهما وجدناه مختصا بالمقصور عليه بالإضافة ، أي النسبة إلى شيء معين لا إلى جميع ما عداه.

ففي أسلوب القصر الأول هنا قصد قصر صفة طرد الفقر على رجاء

١٥٤

جود الممدوح بالإضافة أو النسبة إلى شيء آخر معين كرجاء عطفه مثلا.

وفي أسلوب القصر الثاني قصد قصر صفة نفاد العمر على معاداة الممدوح بالإضافة أو النسبة إلى معاداة شخص آخر غيره.

وإذا تأملنا المثال السادس وجدنا القصر فيه من باب قصر الصفة على الموصوف. فالمقصور فيه مختص بالمقصور عليه بالإضافة ، أي النسبة إلى شيء معين لا إلى جميع ما عداه. فالمقصود هنا هو قصر صفة دوام السرور على رؤية الإخوان بالإضافة إلى رؤية الأعداء مثلا. ولا ينافي هذا أن يدوم السرور برؤية الأهل أو غيرهم.

فالقصر في المثال الرابع والخامس والسادس يسمى «قصرا إضافيا» وكذلك كل قصر يكون التخصيص فيه بالإضافة إلى شيء آخر. وذلك بطبيعة الحال في مقابل «القصر الحقيقي» الذي يختص فيه المقصور بالمقصور عليه اختصاصا ينظر فيه إلى الحقيقة والواقع ، بمعنى أنه لا يتعداه إلى غيره أصلا.

وقد لاحظنا من أمثلة القصر الإضافي أنه يأتي في كل من قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة. وهذا كما ذكرنا من قبل بعكس «القصر الحقيقي» الذي يقع في قصر الصفة على الموصوف ولا يكاد يوجد في قصر الموصوف على الصفة.

كذلك لاحظنا أن «طرق القصر» في أمثلة القصر الإضافي هي : النفي والاستثناء في المثال الرابع ، وتقديم ما حقه التأخير في المثال الخامس ، و «إنما» في المثال السادس والأخير.

* * *

١٥٥

القصر باعتبار طرفيه

والقصر مطلقا : حقيقيا كان أو إضافيا ، ينقسم باعتبار طرفيه قسمين :

قصر موصوف على صفة.

وقصر صفة على موصوف.

فقصر الموصوف على الصفة قصرا حقيقيا هو ما لا يتعدى فيه الموصوف تلك الصفة إلى أي صفة أخرى. وقد سبق أن ذكرنا أن هذا النوع من القصر لا يكاد يوجد ، وذلك لأن أي موصوف له من الصفات ما يتعذر الإحاطة بها ، ولهذا من المحال إثبات صفة واحدة للموصوف وقصره عليها ونفي ما عداها من صفاته الأخرى نفيا شاملا.

وقصر الصفة على الموصوف قصرا حقيقيا : هو ما لا تتجاوز فيه الصفة ذلك الموصوف إلى أي شيء آخر. وذلك كالأمثلة التي سبق إيرادها ومناقشتها ، وكقولنا : «لم يبن الأهرام إلا المصريون» ، فالقصر هنا قصر صفة على موصوف قصرا حقيقيا ، قصرا يراد به أن صفة بناء الأهرام مقصورة على المصريين لم تتجاوزهم إلى سواهم من الناس.

وقصر الموصوف على الصفة قصرا إضافيا : هو ما لا يتعدى فيه المصوف تلك الصفة إلى صفة أخرى معينة ، وإن كانت الصفة تتجاوزه إلى غيره.

١٥٦

ومن الأمثلة لذلك بالإضافة إلى الأمثلة السابقة قولنا : «ما المتنبي إلا شاعر» ، فقد قصر المتنبي على صفة الشاعرية لا يتجاوزها إلى غيرها من الصفات كالخطابة والكتابة ، وإن كانت صفة «الشاعرية» تتجاوز المتنبي إلى غيره من الناس.

وقصر الصفة على الموصوف قصرا إضافيا هو : ما لا تتجاوز فيه الصفة الموصوف إلى غيره من الموصوفات أو الموصوفين وإن كان هو يتجاوزها إلى صفات أخرى.

ومن أمثلة ذلك «لا يتحمل الشدائد إلا الأقوياء» ففي هذا القصر الإضافي قصرت صفة تحمل الشدائد على الأقوياء بمعنى أنها لا تتجاوز الأقوياء إلى غيرهم ، وإن كان الموصوف يتجاوزها إلى غيرها من الصفات.

وكما يقول الخطيب القزويني ليس المراد بالصفة في باب القصر النعت النحوي ، وهو التابع الذي يدل على معنى في متبوعه ، وإنما يراد بها ما يقابل الذات ، وهو المعنى الذي يقوم بغيره سواء دل عليه بالوصف نحو «عادل» من قولك : «ما عمر إلا عادل» أو دل عليه بغير الوصف كالفعل نحو قولك : «ما عمر إلا يعدل».

والمراد بالموصوف في باب القصر كل ما يقوم به غيره ، والغالب أن يكون دالا على ذات كما أوضحنا في الأمثلة السابقة. ومن غير الغالب قد يدل الموصوف في نفسه على معنى قائم بغيره ، نحو : ما خدمة العلم إلا عبادة. فقد قصرت خدمة العلم على العبادة قصر موصوف على صفة مع أن خدمة العلم وهي المقصور تدل في نفسها على معنى قائم بغيره.

* * *

١٥٧

القصر باعتبار حال المخاطبة

وهذا القسم خاص بالقصر الإضافي فقط. وبيان ذلك أن القصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب إلى ثلاثة أقسام : قصر إفراد ، وقصر قلب ، وقصر تعيين.

أ ـ فإذا اعتقد المخاطب الشركة في الحكم بين المقصور عليه وغيره ، فهذا «قصر إفراد».

ب ـ وإذا اعتقد المخاطب عكس الحكم الذي تثبته بالقصر ، فهذا «قصر قلب».

ج ـ وإذا كان المخاطب مترددا في الحكم بين المقصور عليه وغيره ، فهذا «قصر تعيين».

فإذا قلت في قصر الصفة على الموصوف : «الكريم محمد لا علي» وكان المخاطب يعتقد اشتراك محمد وعلي في صفة الكرم كان القصر «قصر إفراد».

وإذا كان المخاطب يعتقد عكس ما تقول كان القصر «قصر قلب».

وإذا كان المخاطب مترددا لا يدري أيهما الكريم كان القصر «قصر تعيين».

وإذا قلت في قصر الموصوف على الصفة : «ما أحمد إلا تاجر» وكان المخاطب يعتقد اتصاف أحمد بالتجارة والزرعة كان القصر «قصر إفراد».

١٥٨

وإذا كان المخاطب يعتقدا اتصاف أحمد بالزراعة لا التجارة ، كان القصر «قصر قلب».

وإذا كان المخاطب مترددا لا يدري أي الصفتين هي صفة أحمد ، كان القصر «قصر تعيين».

* * *

على ضوء ما تقدم نورد جملتي القصر التاليتين ثم نعرض لهما بالتحليل لبيان أيهما أبلغ.

إنما يجيد السباحة حسين.

إنما حسين يجيد السباحة.

فالجملة الأولى تفيد أن حسينا وحده هو الذي يجيد السباحة ولا يشاركه غيره في هذه الصفة ، وهذا لا يمنع أن يتصف حسين بصفات أخرى كركوب الخيل ولعب الكرة والصيد والتجذيف مثلا.

أما الجملة الثانية فتفيد أن حسينا يجيد السباحة وحدها ولا يجيد غيرها من الأعمال ، وهذا لا يمنع أن يكون هناك من يشارك حسينا في إجادة السباحة.

من هذا التحليل يتضح أن الجملة الأولى أبلغ في مدح حسين من ناحيتين : فهي من ناحية تفيد أنه متفرد بإجادة السباحة لا يشاركه غيره في هذه الصفة ، ومن ناحية أخرى لا تنفي أن لحسين أعمالا أخرى يجيدها.

* * *

١٥٩

الفصل والوصل

من أسرار البلاغة العلم بمواطن الوصل والفصل في الكلام ، أو بعبارة أخرى العلم بما ينبغي أن يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها ، والإتيان بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد الأخرى.

وإدراك مواطن الوصل والفصل في الكلام لا تتأتى إلا للعرب الخلّص لأن اللغة لغتهم وهم ينطقون بها عن سليقة ، كما لا تتأتى إلا لمن طبعوا على البلاغة وأوتوا حظا من المعرفة في ذوق الكلام.

وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حدا للبلاغة ، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال : «البلاغة معرفة الفصل من الوصل» ، وذاك لغموض هذا الباب ودقة مسلكه ، ولأن من يكمل له إحراز الفضيلة فيه يكمل له إحراز سائر معاني البلاغة.

«والوصل» يعني عند علماء المعاني عطف جملة على أخرى «بالواو» فقط من دون سائر حروف العطف الأخرى ، كقول المتنبي :

أعزّ مكان في الدّنا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب (١)

ويقصد علما المعاني «بالفصل» ترك هذا العطف ، كقول الشاعر :

__________________

(١) الدنا : جمع دنيا ، والسابح : الفرس السريع الجري ، يقول : سرج الفرس أعز مكان لأن صاحبه يجاهد عليه في طلب المعالي ، والكتاب خير جليس لأنه مأمون الأذى.

١٦٠