علم المعاني

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم المعاني

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-9953-537-68-9
الصفحات: ٢٠٨

السؤال دالا على استبطاء تحقق المسؤول عنه ، وهو الاستجابة للدعوة المتكررة.

ومن أمثلة ذلك قوله : «كم انتظرتك؟» ، و «متى يعود السّلام إلى ربوع الوطن؟». ونحو قوله تعالى : (مَتى نَصْرُ اللهِ؟).

ومنه شعرا :

إلام وفيم تنقلنا ركاب

ونأمل أن يكون لنا أوان؟

حتى متى أنت في لهو وفي لعب

والموت نحوك يهوي فاتحا فاه؟

حتام نحن نساري النجم في الظلم؟

وما سراه على خف ولا قدم

طال بي الشوق ، ولكن ما التقينا

فمتى ألقاك في الدنيا؟ وأينا؟

متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشى

محب لها في قربه متباعد؟

٨ ـ الاستبعاد : وهو عدّ الشيء بعيدا حسّا أو معنى ، وقد يكون منكرا مكروها غير منتظر أصلا ، وربما يصلح المحل الواحد له وللاستبطاء. وعلى هذا قد يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي للدلالة على استبعاد السائل للمسؤول عنه ، سواء أكان البعد حسيّا مكانيا ، نحو قول شوقي وهو منفيّ في الأندلس : «أين شرق الأرض من أندلس؟» أو بعدا معنويا كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة : «أين أنا منك؟».

ومن أمثلته قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ؟) أي كيف يذكرون ويتعظون والحال أنهم جاءهم رسول يعلمون أمانته بالآيات البينات من الكتاب المعجز وغيره فتولوا عنه وأعرضوا؟ فكل هذه قرائن لاستبعاد تذكرهم.

ومن أمثلته شعرا قول جرير في رثاء ابنه سوادة :

قالوا : نصيبك من أجر فقلت لهم :

كيف العزاء إذا فارقت أشبالي (١)؟

وقول أبي تمام :

__________________

(١) نصيبك بالنصب لا غير ، لأنه مفعول لفعل محذوف تقديره : احفظ أو أحرز نصيبك.

١٠١

من لي بإنسان إذا أغضبته

وجهلت كان الحلم ردّ جوابه؟

وقول أبي الطيب :

وما قتل الأحرار كالعفو عنهم

ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا؟

وقول آخر :

من لي برد الدمع قسرا ، والهوى

يغدو عليه مشمرا في نصره؟

وقول شاعر معاصر :

هذا الفؤاد فنقّب في جوانحه

أكنت تلقى به ظلا لإنسان؟

٩ ـ الإنكار : وقد يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي للدلالة على أن المستفهم عنه أمر منكر عرفا أو شرعا ، نحو قولك لمن يقف بسيارته في طريق عام من غير سبب : «أتعوق غيرك عن السير في الطريق؟» ونحو قولك لمسلم يأكل أو يدخن نهارا في رمضان : «أتأكل أو تدخن في شهر الصيام؟» فأنت في كلا السؤالين تنكر على المخاطب صدور مثل هذا العمل الشائن منه وتقرّعه عليه.

والاستفهام الإنكاري يكون على أوجه ، فهو :

أ ـ إما إنكار للتوبيخ على أمر وقع في الماضي ، بمعنى ما كان ينبغي أن يكون ذلك الأمر الذي كان ، نحو قولك لمن صدر منه عصيان : «أعصيت ربك؟».

ب ـ وإما إنكار للتوبيخ على أمر واقع في الحال أو خيف وقوعه في المستقبل ، والمعنى على هذا : لا ينبغي أن يكون هذا الأمر ، نحو : «أتعصي ربك؟» تقول هذا لمن هو واقع في المنكر أو لمن همّ أن يقع فيه ، على معنى : لا ينبغي أن يحدث منك حالا أو يصدر عنك استقبالا. ويسمى الإنكار في الحالين السابقتين الإنكار التوبيخي.

ج ـ وإما إنكار للتكذيب في الماضي ، بمعنى «لم يكن» ، أي أن

١٠٢

المخاطب إن ادّعى وقوع شيء فيما مضى ، أو نزّل منزلة المدعي أتي بالاستفهام الإنكاري تكذيبا له في دعواه ، نحو قوله تعالى لمن اعتقدوا أن الملائكة بنات الله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟) أي : أخصكم ربكم بالذكور وخصّ نفسه بالبنات؟ أي أنه لم يفعل هذا لتعاليه عن الولد مطلقا.

د ـ وإما إنكار للتكذيب في الحال أو في المستقبل ، بمعنى «لا يكون» نحو قوله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام عند ما دعا قومه إلى التوحيد وكذبوه : (قالَ يا قَوْمِ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ، أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ؟) أي أنلزمكم تلك الحجة البينة على أني رسول الله؟ أي أنكرهكم على قبولها ، والحال أنكم لها كارهون؟ يعني لا يكون هذا الإلزام. فالإنكار في هذين الحالين إنكار لأمر كاذب ، ولذلك يسمى في الحالين الإنكار التكذيبيّ.

ويجب في الاستفهام الإنكاري أن يقع المنكر بعد همزة الاستفهام. وقد يكون المنكر هو «الفعل» نحو قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟) فالمنكر هو نفس الفعل ، أي اتخاذ الأصنام آلهة. ونحو قوله تعالى على لسان إبراهيم عند ما أسرع إليه قومه بعد أن كسّر أصنامهم : (قالَ : أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟ ،) ونحو قول امرىء القيس :

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟ (١)

وقول آخر :

أأترك إن قلت دراهم خالد

زيارته؟ إني إذن للئيم

وقد يكون المنكر هو «الفاعل» في المعنى ، كقوله تعالى : (أَهُمْ

__________________

(١) المشرفي : سيف نسب إلى قرى بالشام يقال لها المشارف ، والمسنونة الزرق : السهام المسنونة الصافية ، والأغوال : جمع الغول ، وهو كل ما اغتال الإنسان وأهلكه.

١٠٣

يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟) أي ينكر عليهم أن يكونوا هم المتخيرين للنبوة من يصلح لها المتولين لقسم رحمة الله التي لا يتولاها إلّا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته. وعدّ الزمخشري من هذا الضرب قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ ،) وقوله تعالى أيضا : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ؟) على أن المعنى : أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان؟ وأ فأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء؟ أي إنما يقدر على ذلك الله لا أنت.

وقد يكون المنكر «المفعول» نحو قوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا؟ ،) وقوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ؟) وقد يكون «المفعول لأجله» نحو قوله تعالى : (أَإِفْكاً)(١) آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ؟ أي أتريدون آلهة غير الله كذبا؟ وهكذا ...

١٠ ـ التهكم : ويقال له أيضا السخرية والاستهزاء ، وهو إظهار عدم المبالاة بالمستهزأ أو المتهكم به ولو كان عظيما. وقد يخرج الاستفهام عن معناه الأصلي للدلالة على المعنى ، نحو قوله تعالى حكاية عن الكافرين في شعيب : (قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا؟ ،) فالقصد هنا هو الاستخفاف بشأن شعيب في صلاته التي يلازمها ، لأن شعيبا كان كثير الصلاة ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تضاحكوا ، فقصدوا بسؤالهم لشعيب الهزء والسخرية والتهكم لا حقيقة الاستفهام.

ومثله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ : أَلا تَأْكُلُونَ؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟ ،) فالمعنى أن إبراهيم ذهب خفية إلى أصنام قومه فقال لهم هذا القول تهكما بهم وسخرية واستهزاء. ومنه قوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ؟).

__________________

(١) الإفك : أقبح الكذب.

١٠٤

ومنه شعرا قول المتنبي في الدمستق :

أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم

قفاه على الإقدام للوجه لاثم؟ (١)

وقول أبي فراس متهكما ببني زرارة عند ما أخذ أحد حلفائهم منهم غصبا :

ما بالكم! يا أقل الله خيركم

لا تغضبون لهذا الموثق العاني؟

جار نزعناه قسرا في بيوتكم

والخيل تعصب فرسانا بفرسان

١١ ـ التسوية : وتأتي الهمزة للتسوية المصرح بها نحو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ،) فهم يعلمون مسبقا أنهم أنذروا ومع ذلك أصروا على كفرهم وعنادهم ، ولهذا يجيء الاستفهام هنا للدلالة على أن إنذار الرسول وعدمه بالنسبة لهم سواء. ومن أجل ذلك خرج الاستفهام عن معناه الحقيقي ليؤدي معنى مجازيا بلاغيا هو التسوية.

ومن أمثلة التسوية أيضا قوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ؟ ،) ومنه قول المتنبي :

ولست أبالي بعد إدراكي العلا

أكان تراثا ما تناولت أم كسبا؟

١٢ ـ الوعيد : ويسميه بعض البلاغيين «التهديد» ، وذلك نحو قولك لمن يسيء الأدب : «ألم أؤدب فلانا؟» إذا كان المخاطب المسيء للأدب عالما بذلك ، وهو أنك أدبت فلانا ، فيفهم معنى الوعيد والتهديد والتخويف فلا يحمل كلامك على الاستفهام الحقيقي. ومنه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ؟).

١٣ ـ التهويل : وهو التفظيع والتفخيم لشأن المستفهم عنه لغرض من

__________________

(١) الدمستق صاحب جيش الروم ، والمعنى : أكل يوم يقدم الدمستق عليك يا سيف الدولة ثم يفر ، فيلوم قفاه وجهه على إقدامه قائلا له : لم أقدمت حتى عرضتني للضرب بهزيمتك؟ وذلك أن إقدامه سبب هزيمته والضرب في قفاه.

١٠٥

الأغراض ، وذلك كقراءة ابن عباس لقوله تعالى : (وَلَقَدْ) أنجينا (بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ ، مِنْ فِرْعَوْنَ) فقد قرأ ابن عباس «من فرعون؟» بفتح ميم «من» على أنها اسم استفهام خبر مقدم ، و «فرعون» بالرفع على أنه مبتدأ. وحقيقة الاستفهام على هذه القراءة غير مرادة ، وإنما المراد تفظيع أمر فرعون والتهويل بشأنه لبيان شدة العذاب الذي نجا منه بنو إسرائيل. وللتهويل من شأن فرعون وعذابه ، قال تعالى بعد ذلك : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ ،) أي إنه كان عاليا في ظلمه مسرفا في عتوّه.

١٤ ـ التنبيه على الضلال : نحو قوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ؟) وليس القصد هنا الاستفهام عن مذهبهم وطريقهم ، بل التنبيه على ضلالهم وأنه لا طريق لهم ينجون به. وكثيرا ما يؤكّد هذا الاستعمال بالتصريح بالضلال ، فيقال لمن ضل عن طريق القصد : «يا هذا إلى أين تذهب قد ضللت فارجع» ، وبهذا يعلم أن التنبيه على الضلال لا يخلو من الإنكار والنفي.

١٥ ـ التشويق : وفيه لا يطلب السائل العلم بشيء لم يكن معلوما له من قبل ، وإنما يريد أن يوجه المخاطب ويشوقه إلى أمر من الأمور ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ). ومن هذا القبيل قوله تعالى على لسان إبليس عند ما راح يوسوس لآدم ويغريه بالأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الاقتراب منها : (قالَ يا آدَمُ : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟.)

١٦ ـ الأمر : وقد يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي للدلالة على معنى الأمر ، نحو قوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟) أي أسلموا ، وقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟) أي انتهوا ، ونحو قوله تعالى أيضا : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي تذكّر واتعظ ، وكذلك قوله

١٠٦

تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟) أي أسلموا.

ومن هذا القبيل «أرأيت؟» أو «أرأيتك؟» فإنه استفهام خرج إلى الأمر بمعنى «أخبرني». وقد ورد هذا الأسلوب كثيرا في القرآن الكريم ، ومنه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟) أي أخبروني عن هذه الأصنام الثلاثة التي كانوا يزعمون أنها تمثل بعض الملائكة ، وكانوا يتقربون بها إلى الله.

ومنه قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ، وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى؟ ،) أي أخبرني عن هذا الذي أعطى قليلا ثم أكدى ، أي توقف عن العطاء.

وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى؟ أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى؟) أي أخبرني أيها السامع عن حال هذا الرجل ، هل هو على هدى عند ما منع عبدا من طاعة ربه ، أو أهو أمر بالتقوى عند ما أمر غيره بعدم إطاعة خالقه؟ ثم أخبرني عند ما كذّب رسولنا وأعرض عن طاعة ربه ، فهل يظن أنه يفلت من عقابنا؟ كلا.

١٧ ـ النهي : وقد يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي إلى معنى النهي ، أي إلى طلب الكف عن الفعل على وجه الاستعلاء نحو قوله تعالى : (أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ،) أي لا تخشوهم فالله أحق أن تخشوه.

ومنه قول الشاعر :

أتقول : أفّ للتي

حملتك ثم رعتك دهرا؟

أي لا تقل : أفّ لأمك.

وقول آخر :

أتخالني أرضى الهوان؟ فحاذر

واسلم بنفسك من أبيّ قادر

أي لا تخلني أرضى الهوان ، فحاذر ... إلخ ...

١٨ ـ العرض :

ومعناه طلب الشيء بلين ورفق. ومن أدواته «ألا» بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، و «أما» بفتح الهمزة وتخفيف الميم. وتختص كلتا

١٠٧

الأداتين إذا كانت للعرض بالدخول على الجملة الفعلية ، نحو قوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ؟) ونحو : أما تزورونا فتدخل السرور علينا؟

ومنه شعرا :

ألا تقول لمن لا زال منتظرا

منك الجواب كلاما يبعث الأملا؟

أما تضيف لما أسديت من نعم

فضل المعونة في اللأواء والمحن؟ (١)

ألا فتى من بني ذبيان يحملني؟

وليس يحملني إلّا ابن حمّال (٢)

ألا فتى يورد الهنديّ هامته

كيما تزول شكوك الناس والتّهم؟

١٩ ـ التحضيض :

ومعناه طلب الشيء بحثّ. ومن أدواته «لو لا» و «لو ما» و «هلّا» بتشديد اللام ، و «ألّا» بفتح الهمزة وتشديد اللام. وهذه الأدوات إذا كانت للتحضيض فإنها تختص بالدخول على جملة فعلية فعلها ماض أو مستقبل.

فإذا وقع بعد أداة من هذه الأدوات فعل ماض ، فإن معناها يخرج إلى اللوم والتوبيخ فيما تركه المخاطب ، أو يقدّر فيه الترك ، نحو قولك لمن قصّر في الامتحان : هلّا أعددت للإمتحان عدّته؟ ولمن جاء متأخرا : لو لا حضرت مبكرا؟ ولمن تراخى وتباطأ في عمله : ألّا بدأت عملك؟ ولمن تسرّع في القيام بواجبه فلم يحسنه : لو ما تأنيت في أداء واجبك؟ فالتحضيض في كل هذه المعاني قد خرج إلى اللوم والتوبيخ ، وذلك لوقوع الفعل الماضي بعد كل أداة تحضيض.

ومنه قول أبي فراس الحمداني من قصيدة طويلة في التشيع لآل علي والرد على خصومهم :

هلّا صفحتم عن الأسرى بلا سبب

للصافحين «ببدر» عن أسيركم؟

__________________

(١) اللأواء : الشدة.

(٢) فتى في هذا البيت والذي يليه فاعل لفعل محذوف تقديره في هذا البيت «ألا يحملني فتى» وفي البيت الذي يليه «ألا يورد فتى» والسبب أن أداة العرض كما ذكرنا تختص بالدخول على الجمل الفعلية.

١٠٨

هلا كففتم عن «الديباج» سوطكم؟

وعن بنات «رسول الله» شتمكم؟ (١)

أما إذا وقع المستقبل بعد أي أداة من الأدوات السابقة فإن معنى التحضيض يخرج إلى الحث في طلب الشيء ، كقول المعلم لتلميذه الذي لا يظهر اجتهادا : لو لا تجتهد؟ ولمن لا يصغي إليه أثناء شرح الدرس : لو ما تصغي إليّ؟ ولمن ينقطع عن المدرسة أحيانا : ألّا تواظب على الحضور إلى المدرسة؟ ولمن يقرأ من غير جدّ : هلّا تقرأ خيرا من ذلك؟

فالتحضيض في كل هذه المعاني قد خرج إلى الحث أو الاستحثاث على الفعل ، وذلك لوقوع الفعل المستقبل بعد أدوات التحضيض. ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ؟) وفي هذا شاهد على وقوع الفعل المستقبل بعد أداة التحضيض فأفاد طلب الفعل بحثّ ، وقد خرج الاستفهام هنا إلى معنى الأمر ، أي «إيتنا بالملائكة».

وقد يلي الفعل الماضي أداة التحضيض فلا يفيد اللوم والتوبيخ وإنما يفيد الطلب بحث ، وذلك لأن الماضي في تأويل الفعل المستقبل ، نحو قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟ ،) إذ المعنى : لو لا تأخرني إلى أجل قريب؟

وقد تستعمل أداة العرض «ألا» المفتوحة الهمزة المخففة اللام للتحضيض إذا دلت على طلب الفعل بحثّ نحو قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا) أيمانكم؟ ، وكقولك لمن يخلف الوعد : ألا تفي بوعدك؟ ولمن يضيع وقته سدى : ألا تملأ وقتك بعمل نافع؟ وهكذا ...

* * *

تلك هي أهم المعاني الزائدة التي قد يخرج الاستفهام عن معناه الحقيقي لأدائها عن طريق قرائن تستفاد من سياق الكلام.

وقد ذكر ابن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه اللغة» معاني أخرى

__________________

(١) الديباج : محمد بن عبد الله ، وسمي «الديباج» لحسنه ، ضربه المنصور ثمانين سوطا على رأسه. انظر ديوان أبي فراس ج ٣ ص ٣٥٢ طبعة سامي الدهان.

١٠٩

يخرج الاستخبار ، أي الاستفهام عن معناه الحقيقي للدلالة عليها.

وعن هذه المعاني يقول : «ويكون اللفظ استخبارا والمعنى «تفجّع» نحو : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً؟) ويكون استخبارا والمعنى «تبكيت» نحو : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟) تبكيت للنصارى فيما ادعوه ، ويكون استخبارا والمعنى «استرشاد» نحو : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟ ،) ويكون استخبارا ، والمراد به «الإفهام» نحو قوله جل ثناؤه : (وَما تِلْكَ)(١) بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ ، قد علم الله أن لها أمرا قد خفي على موسى عليه‌السلام فأعلمه من حالها ما لم يعلم ، ويكون المعنى استخبارا ، والمعنى «تكثير» نحو قوله جل ثناؤه : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها؟) و (كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها ، وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ؟ ،) ومثله :

كم من دنيّ لها قد صرت أتبعه

ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا.

وقد يكون اللفظ استخبارا ، والمعنى «إخبار وتحقيق» نحو قوله جل ثناؤه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ؟ ،) قالوا معناه : «قد أتى».

ثم يستطرد فيقول : ومن دقيق باب الاستفهام أن يوضع في «الشرط» وهو في الحقيقة للجزاء ، وذلك كقول القائل : إن أكرمتك تكرمني؟ المعنى : أتكرمني إن أكرمتك؟ قال الله جل ثناؤه : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟.) تأويل الكلام : أفهم الخالدون إن متّ؟ ومثله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) تأويله : أفتنقلبون على أعقابكم إن مات؟ (٢).

ولكن بالتأمل يمكن إدخال بعض المعاني التي أشار إليها ابن فارس في بعض المعاني السابقة التي خرج إليها الاستفهام.

كذلك ذكر ابن فارس أن العرب ربما حذفت همزة الاستفهام ، وأورد

__________________

(١) الإشارة هنا إلى عصا موسى.

(٢) انظر كتاب الصاحبي ص ١٨١.

١١٠

على ذلك الأمثلة التالية :

رفوني (١) وقالوا : يا خويلد لم ترع

فقلت ، وأنكرت الوجوه ، هم هم؟

أراد : أهم هم؟ وقال آخر :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر؟

أي أشعيث بن سهم أم شعيث بن منقر؟

وقال عمر بن أبي ربيعة :

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رمين الجمر أم بثمان؟

أي : أبسبع رمين الجمر أم بثمان؟

وعلى هذا حمل بعض المفسرين قوله جل ثناؤه في قصة إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ : هذا رَبِّي). أي : أهذا ربي (٢)؟

رابعا ـ التمني :

التمني نوع من الإنشاء الطلبي. وقد عرّفه سعد الدين التفتازاني (٣) بقوله : «التمني ، هو طلب حصول شيء على سبيل المحبة».

وعرفه ابن يعقوب المغربي بقوله : «هو طلب حصول الشيء بشرط المحبة ونفي الطماعية في ذلك الشيء» ، فخرج ما لا يشترط فيه المحبة ، كالأمر والنهي والنداء والرجاء بناء على أنه طلب ، وأما نفي الطماعية

__________________

(١) رفوني : أي سكنوني ، والبيت لأبي خراش الهذلي. انظر ديوان الهذليين القسم الثاني ص ١٤٤.

(٢) كتاب الصاحبي ص ١٨٣.

(٣) انظر مختصر سعد الدين التفتازاني على تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ج ٢ ص ٢٣٩.

١١١

فلتحقيق إخراج نوع الرجاء الذي فيه الإرادة ، وإخراج غيره مما فيه الطماعية (١).

ومن ذلك يتضح أن التمني : طلب أمر محبوب لا يرجى حصوله : إما لكونه مستحيلا ، والإنسان كثيرا ما يجب المستحيل ويطلبه ، وإما لكونه ممكنا غير مطموع في نيله.

فالأول : وهو طلب الأمر المحبوب الذي لا يرجى حصوله لكونه مستحيلا ، مثل قول الشاعر :

ألا ليت الشباب يعود يوما

فأخبره بما فعل المشيب

وقول ابن الرومي في شهر رمضان :

فليت الليل فيه كان شهرا

ومرّ نهاره مرّ السحاب

وقول آخر :

ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها

عقود مدح فما أرضى لكم كلمي

ونحو قول المتنبي :

ليت الحوادث باعتني الذي أخذت

منّي بحلمي الذي أعطت وتجريبي

فما الحداثة من حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشبان والشيب (٢)

والثاني : وهو طلب الأمر المحبوب الذي لا يرجى حصوله لكونه ممكنا غير مطموع في نيله ، نحو قوله تعالى : (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) وقوله تعالى أيضا : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ).

وكقول مروان بن أبي حفصة في رثاء معن بن زائدة :

فليت الشامتين به فدوه

وليت العمر مدّ له فطالا

__________________

(١) انظر مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح لابن يعقوب المغربي على هامش مختصر سعد الدين التفتازاني ج ٢ ص ٢٣٩.

(٢) الحلم هنا بمعنى العقل ، والجمع حلوم وأحلام.

١١٢

واللفظ الذي يدل بأصل وضعه اللغوي على التمني هو «ليت» ، وقد يتمنى بثلاثة ألفاظ أخرى لغرض بلاغي ، وهذه هي : «هل» و «لعل» و «لو».

فالغرض البلاغي المنشود من وراء التمني بلفظتي «هل» و «لعلّ» هو إبراز المتمني المستحيل وإظهاره في صورة الممكن القريب الحصول ، لكمال العناية به والشوق إليه.

فمن أمثلة «هل» قوله تعالى : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ،) وقوله تعالى أيضا : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) وقول الشاعر :

أيا منزلي سلمى سلام عليكما

هل الأزمن اللائي مضين رواجع

ومن أمثلة «لعل» قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ ، أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) على (إِلهِ مُوسى) وقول الشاعر :

أسرب القطا هل من يعير جناحه

لعلي إلى من قد هويت أطير

والغرض البلاغي من استعمال «لو» في التمني ، هو الإشعار بعزة المتمنّى وقدرته ، لأن المتكلم يظهره في صورة الممنوع ، إذ أن «لو» تدل بأصل وضعها على امتناع الجواب لامتناع الشرط.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ،) وقول جرير :

ولى الشباب حميدة أيامه

لو كان ذلك يشترى أو يرجع

وقول مسلم بن الوليد :

واها لأيام الصبا وزمانه

لو كان أسعف بالمقام قليلا (١)

وإذا كان الأمر المحبوب مما يرجى حصوله كان طلبه ترجّيا. وألفاظ

__________________

(١) واها : كلمة للتعجب من طيب الشيء ، ومعنى واها لأيام الصبا : ما أطيب أيام الصبا.

١١٣

الرجاء التي يطلب بها الأمر المحبوب المطموع فيه والممكن حصوله هي «لعل» و «عسى».

ومن أمثلة ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ،) وقوله : (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ،) وقوله : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها).

ومن الشعر :

لعل خيال العامرية زائر

فيسعد مهجور ويسعد هاجر

على الليالي التي أضنت بفرقتنا

جسمى ستجمعني يوما وتجمعه (١)

عسى فرج يأتي به الله إنه

له كل يوم في خليقته أمر

عسى الأيام أن تدني حبيبا

لقيت ببعده الكرب الشدادا

وقد تستعمل «ليت» في الرجاء لغرض بلاغي هو إبراز المرجو في صورة المستحيل مبالغة في بعد نيله.

ومن أمثلة ذلك :

فليت هوى الأحبة كان عدلا

فحمل كل قلب ما أطاقا

ليت الملوك على الأقدار معطية

فلم يكن لدنيء عندها طمع (٢)

ليت المدائح تستوفي مناقبه

فما كليب وأهل الأعصر الأول؟

إن كان يجمعنا حبّ لغرّته

فليت أنا بقدر الحب نقتسم (٣)

خامسا ـ النداء :

والنوع الخامس والأخير من أنواع الإنشاء الطلبي النداء : وهو طلب إقبال

__________________

(١) أضنت جسمي : أمرضته.

(٢) أي ليت الملوك يعطون الشعراء على قدر فضلهم ونبل أنفسهم فلا يطمع في عطائهم دنيء خسيس.

(٣) الغرة : الطلعة.

١١٤

المدعو على الداعي بأحد حروف مخصوصة ينوب كل حرف منها مناب الفعل «أدعو».

وأحرف النداء أو أدواته ثمان : الهمزة ، و «أي» ، و «يا» ، و «أيا» ، و «هيا» و «آ» و «آي» و «وا».

وهذه الأدوات في الاستعمال نوعان :

١ ـ الهمزة ، وأي لنداء القريب.

٢ ـ والأدوات الستّ الأخرى لنداء البعيد.

فمن أمثلة استعمال الهمزة وأي لنداء القريب جريا على الأصل ، ما يلي :

أمحمد افتح النافذة التي بجوارك.

أي زينب ناوليني كتابك لأقرأ فيه قليلا.

أبني إن أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل (١)

أي صديقي إني قصدتك لما

لم أجد في الحياة غيرك شهما

ومن أمثلة استعمال الأدوات الأخرى لنداء البعيد جريا على الأصل أيضا.

يا ساري البرق غاد القصر واسق به

من كان صرف الهوى والود يسقينا

ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا

من لو على البعد حيّى كان يحيينا

أيا رب قد أحسنت عودا وبدأة

إليّ فلم ينهض بإحسانك الشكر

أيا جامع الدنيا لغير بلاغة

لمن تجمع الدنيا وأنت تموت؟

هيا غائبا عني وفي القلب عرشه

أما آن أن يحظى بوجهك ناظري؟

أنعشتنا روائح من ديار

كم حننا لها وللساكنيها

يا دار الأحباب : أهلا وسهلا

من غريب عنها وإن كان فيها

وقد ينزّل البعيد منزلة القريب ، وعندئذ ينادى بالهمزة وأي ، إشارة

__________________

(١) كارب يومه : مقارب يومه الذي يموت فيه.

١١٥

إلى قربه من القلب وحضوره في الذهن ، لا يغيب عن البال.

ومن أمثلة ذلك :

أسكان نعمان الأراك تيقنوا

بأنكم في ربع قلبي سكان (١)

أعلي إن تك بالعراق نسيتني

فأنا بمصر على هواك مقيم

أي بلادي في القلب مثواك مهما

طال منفاي عن ثراك الحبيب

وقد ينزّل القريب منزلة البعيد فينادى بغير الهمزة وأي ، إشارة إلى علو مرتبته ، أو انحطاط منزلته ، أو غفلته وشرود ذهنه.

فمن أمثلة تنزيل القريب منزلة البعيد لعلو مرتبته وارتفاع شأنه :

يا من يرجى للشدائد كلها

يا من إليه المشتكى والمفزع

يا رجاء العيون في كل أرض

لم يكن غير أن أراك رجائي

أيا آخذا من دهره حق نفسه

ومثلك يعطي حقه ويهاب

يا ربة الحسن : هل لي فيك من أمل؟

إني هجرت وكل الناس عاداني!

ومن أمثلة تنزيل القريب منزلة البعيد لانحطاط منزلته :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

أيا هذا أتطمع في المعالي

وما يحظى بها إلا الرجال؟

وجهك يا عمرو فيه طول

وفي وجوه الكلاب طول

يأيها الرجل المدلس نفسه

في جملة الكرماء والأدباء

بالبيت ينشد ربعه أو نصفه

والخبز يرزأ عنده والماء (٢)

ومن أمثلة تنزيل القريب منزلة البعيد لغفلته وشرود ذهنه ، قول أبي العتاهية :

أيا من عاش في الدنيا طويلا

وأفنى العمر في قيل وقال

__________________

(١) نعمان الأراك : موضع في بلاد العرب ، والربع : المنزل.

(٢) المدلس نفسه : المخفي عيوبها ، يرزأ : يصاب منه شيء قليل. والمعنى أنه يغطي على عيوبه بإنشاد ربع بيت من الشعر أو نصفه ، وبإعطاء شيء قليل من الخبز والماء.

١١٦

وأتعب نفسه فيما سيفنى

وجمع من حرام أو حلال

هب الدنيا تقاد إليك عفوا

أليس مصير ذلك للزوال؟

وقوله أيضا :

أيا من يؤمل طول الحياة

وطول الحياة عليه خطر

إذا ما كبرت وبان الشباب

فلا خير في العيش بعد الكبر

وقد يخرج النداء عن معناه الأصلي من نداء القريب أو البعيد إلى معان أخرى تستفاد من سياق الكلام وقرائن الأحوال ، كالإغراء والتحسر والزجر.

١ ـ ومن النداء الذي خرج عن معناه الأصلي إلى الإغراء قول أبي الطيب المتنبي مخاطبا سيف الدولة :

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وقول شاعر مصري معاصر :

يا بلادي اليوم فاستقبلي النو

ر ، وعيشي طليقة يا بلادي

لم يعد فيك مأمل للألى كا

نوا يعيشون عيشة الأوغاد

لم يعد فيك مأرب للألى كا

نوا يظنون أننا كالجماد

وقوله أيضا :

يا شباب البلاد أحييتموها

وأبيتم على المدى أن تهونا

كل يوم لكم مواقف صدق

تملأ الأرض روعة وفتونا

أرسلوها في قوة وإباء

صيحة ترهب الألد الخئونا

علموه كيف احترام الأماني

أشعروه بأننا لن ندينا

٢ ـ ومن النداء الذي خرج من معناه الأصلي إلى التحسر قول ابن الرومي :

يا شبابي! وأين مني شبابي؟

آذنتني حباله بانقضاب

١١٧

لهف نفسي على نعيمي ولهوي

تحت أفنانه اللدان الرطاب (١)

وقوله أيضا :

يا أبا القاسم الذي كنت أرجو

ه لدهري : قطعت حبل الرجاء!

وقول عربية تتحسر على ابنها :

دعوتك يا بني فلم تجبني

فردت دعوتي يأسا عليا!

٣ ـ ومن النداء الذي خرج عن معناه الأصلي إلى الزجر قول شاعر معاصر :

إلام يا قلب تستبقي مودتهم

وقد أذاقوك ألوانا من الوصب؟

تظل تسعى مدى الأيام تطلبهم

والعمر يذهب بين السعي والطلب

يا قلب حسبك ما قد ذقت من حرق

يا قلب حسبك ما قد نلت من تعب

وقوله أيضا :

قل لهذا الغرب : يا غرب إلاما

تعشق الجور وتهوى الانقساما؟

كم بزيف القول أشقيت الورى

وبمحض الكيد آذيت السلاما!

قد هبطت الشرق داء معضلا

لم يفت شيخا ولم يرحم غلاما!

كلما طفت بواد آمن ...

طار عنه الأمن والخوف أقاما

٤ ـ وقد يخرج النداء عن معناه الأصلي إلى معان أخرى غير هذه ، كأن يوجه إلى «أ» الاستغاثة نحو : يا أولي القوة للضعفاء ، «ب» والتعجب ، نحو : يا لجمال الربيع! «ج» الندبة نحو : وا كبدي! ويا ولداه! «د» الاختصاص نحو : بعلمكم أيها الشباب يعتز الوطن وينهض.

__________________

(١) الانقضاب : الانقطاع ، وأفنانه اللدان الرطاب : أغصانه اللينة المخضلة.

١١٨

المبحث الثاني

الجملة

أشرنا فيما سبق إلى علم المعاني بأنه العلم الذي يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال. وهذا يعني أنه العلم الذي يبحث في الأساليب والجمل العربية باعتبار إفادتها لمعان زائدة على أصل المعنى.

والوصول إلى مزيد من المعرفة بالمعاني الزائدة يستدعي النظر في الجملة من حيث أجزاؤها وأحوال هذه الأجزاء وقيودها ، واقترانها بغيرها عن طريق الوصل أو الفصل ، وذاك هو موضوع هذا البحث.

أجزاء الجملة

عرفنا من قبل أن لكل جملة خبرية كانت أو إنشائية ركنين هما :

أ ـ المسند : ويسمى المحكوم به أو المخبر به ، والمسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو ما في معناه من نحو المصدر واسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفصيل والظرف.

١١٩

ب ـ المسند إليه : ويسمى المحكوم عليه أو المخبر عنه والنسبة التي بين المسند والمسند إليه تسمى الإسناد.

ومواضيع المسند هي :

١ ـ الفعل نحو : «يأبى» من قولك : يأبى العربي الضيم.

٢ ـ اسم الفعل نحو : شتان بمعنى : افترق ، وأوه بمعنى : أتوجع ، وبله بمعنى : دع أو اترك.

٣ ـ خبر المبتدأ نحو : «عمل» من قولك : الحياة عمل.

٤ ـ المبتدأ المكتفي بمرفوعه نحو : «قائم» من قولك : أقائم أنت بواجبك؟

٥ ـ ما أصله خبر المبتدأ : ويشمل خبر كان وأخواتها نحو : «معتدلا» من قولك : صار الجو معتدلا ، وخبر إن وأخواتها نحو : «فضيلة» من قولك : إن الصدق فضيلة ، والمفعول الثاني للأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر نحو : «نادرا» من قولك : وجدت الوفاء نادرا ، والمفعول الثالث للأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل نحو : «محققا» من قولك : أعلمت المجتهد النجاح محققا.

٦ ـ المصدر النائب عن فعل الأمر نحو : «إحسانا» من قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً).

ومواضع المسند إليه هي :

١ ـ فاعل الفعل التام وشبهه نحو : انتصر المدافعون عن أوطانهم.

«فالمدافعون» وهو الفاعل هنا قد أسند إليه الانتصار ، ولهذا فهو المسند إليه. والشبيه بالفعل مشتقاته ، كاسم الفاعل والصفة المشبهة من نحو : أنت الحسن خلقه ، «فخلقه» وهو فاعل الصفة المشبهة قد أسند إليه الحسن ، ولذلك فهو المسند إليه.

٢ ـ نائب الفاعل ، نحو : يكرم الضيف ، «فالضيف» وهو نائب الفاعل قد أسند إليه الكرم ، فهو المسند إليه.

١٢٠