تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٢

الشيخ أمين حبيب آل درويش

تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أمين حبيب آل درويش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
  الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣

والصلاة عليه في محلّ موته ، وأما قبل ذلك فيحرم مطلقاً ، وكذلك يحرم نقله بعد دفنه إلا لضرورة ، كمن دفن في أرض مغصوبة فيجوز نقله إن طالب بها مالكها.

٤ ـ الحنابلة ـ قالوا : لا بأس بنقل الميت من الجهة التي مات فيها إلى جهة بعيدة عنها ، بشرط أن يكون النقل لغرض صحيح ، كأن ينقل إلى بقعة شريفة ليدفن فيها ، أو ليدفن بجوار رجل صالح ، وبشرط أن يؤمن تغير رائحته ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قبل الدفن أو بعده (٥١٠). هذه أقوال علماء المذاهب الأربعة في جواز النقل في الصورتين ـ أي قبل الدفن وبعده ـ كما أنّ المستفاد من كلماتهم نقل الجثة إلى البقاع الشريفة من أرض بيت الله الحرام ، أو جوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو جوار إمام مذهب ، أو مرقد ولي من الأولياء ونحو ذلك ، حسب الشروط التي ذكروها.

ب ـ عند الإمامية :

وبحث علماء الشيعة الإمامية هذه المسألة كالتالي :

١ ـ السيد شرف الدين :

وكتب السيد عبد الحسين شرف الدين (قده) في مقالة عنوانها : (نقل الأموات) في أحد أعداد مجلة العرفان الصيداوية (٥١١) ، رد بها على السيد هبة الدين الشهرستاني الذي حرم النقل بكل صورة قال : «نقل الأموات إما قبل الدفن أو بعده إلى أحد المشاهد المقدسة أو إلى غيرها ، فهنا أربع مسائل :

__________________

(٥١٠) ـ الجزيري ، عبد الرحمن بن محمد : كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ / ٤٦٩.

(٥١١) ـ مجلة العرفان الصيداوية ، ج ٣ / ٨٩٧.

٢٦١

المسألة الأولى : نقلهم قبل الدفن إلى أحد المشاهد المشرفة فإنه مستحب عندنا ـ كما في كشف اللثام ، وفي مفتاح الكرامة نقلاً عن التذكرة والذكرى ، وجامع المقاصد ، والروض ـ ؛ كان عليه عمل الإمامية من زمن الأئمة (عليهم السلام) إلى الآن من غير تذاكر إجماعاً.

والمسألة الثانية : نقل الأموات قبل دفنهم إلى غير المشاهد المشرفة ... والحكم في هذه المسألة الجواز على كراهة بلا خلاف بين الأصحاب ، وتراهم يرسلون الكراهة ـ هنا ـ إرسال المسلمات ، بل في مفتاح الكرامة : نقلاً عن التذكرة ، ونهاية الأحكام ، والذكرى ، وجامع المقاصد ، وشرح الجعفرية ، والمفاتيح ، الإجماع على كراهة فيها.

المسألة الثالثة : نقل الأموات بعد دفنها إلى أحد المشاهد المقدسة ، والمشهور بين أصحابنا فيها الحرمة ، كما عن المسالك ، والروض ، والكفاية ، والتذكرة ، والمنتهى ، والقواعد ... ونهاية الأحكام ، والتلخيص ، والسرائر ، والشرائع ، والذكرى ، والبيان.

والمسألة الرابعة : نقل الأموات بعد دفنهم إلى غير المشاهد المشرفة ، وهذا محرم».

٢ ـ السيد اليزدي :

ذكر السيد اليزدي (قده) في العروة في فصل مكروهات بعد الدفن ما يلي :

«نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر إلا إلى المشاهد المشرفة ، والأماكن المقدسة ، والمواضع المحترمة ، كالنقل من عرفات إلى مكة ، والنقل إلى النجف الأشرف ، فإنّ الدفن فيه يدفع عذاب القبر وسؤال الملكين ، وإلى كربلاء والكاظمية وسائر قبور الأئمة (عليهم السلام) ، بل إلى مقابر العلماء والصلحاء ،

٢٦٢

بل لا يبعد إستحباب النقل من بعض المشاهد إلى آخر لبعض المرجحات الشرعية. والظاهر عدم الفرق في جواز النقل بين كونه قبل الدفن أو بعده ، ومن قال بحرمة الثاني ؛ فمراده ما إذا إستلزم النبش ، وإلا فلو فرض خروج الميت عن قبره بعد دفنه بسبب ـ من سبع أو ظلم؟أو صبّي أو نحو ذلك ـ لا مانع من جواز نقله إلى المشاهد مثلاً. ثم لا يبعد جواز النقل إلى المشاهد المشرفة ، وإن استلزم فساد الميت إذا لم يوجب أذية المسلمين ، فإن من تمسك بهم فاز ، ومن أتاهم فقد نجا ، ومن لجأ إليهم أمن ، ومن إعتصم بهم فقد إعتصم بالله تعالى ، والمتوسل بهم غير خائب ، صلوات الله عليهم أجمعين» (٥١٢).

٣ ـ السيد الحكيم :

قال السيد الحكيم (قده) : «يكره نقل الميت من بلد موته إلى بلد آخر إلا المشاهد المشرفة ، والمواضع المحترمة ، فإنّه يستحب ولا سيما الغري والحائر. ومن خواص الأول إسقاط عذاب القبر ، ومحاسبة منكر ونكير» ، وقال أيضاً : «لا فرق في جواز النقل بين ما قبل الدفن وما بعده إذا إتفق تحقق النبش ، بل لا يبعد جواز النبش لذلك إذا كان بإذن الولي ، ولم يلزم هتك حرمة الميت» (٥١٣). وهذا الرأي عليه كثير من المعاصرين.

فروع فقهية

كما أنهم ذكروا فروعاً فقهية على هذه المسألة نذكر منها ما يلي :

__________________

(٥١٢) ـ اليزدي ، السيد محمد كاظم الطباطبائي : العروة الوثقى / ١٥٠ ـ ١٥١.

(٥١٣) ـ الحكيم ، السيد محسن الطباطبائي : منهاج الصالحين ، ج ١ / ٥٧.

٢٦٣

١ ـ قال السيد الخوئي (قده) : «يحرم نبش قبر المؤمن على نحو يظهر جسده ، إلا مع العلم باندراسه ، وصيرورته تراباً ، من دون فرق بين الصغير والكبير والعاقل والمجنون ، ويستثنى من ذلك موارد :

منها : ما إذا كان النبش لمصلحة الميت ، كالنقل إلى المشاهد ، كما تقدم» (٥١٤).

٢ ـ قال السيد اليزدي (قده) : «من الأمكنة التي يستحب الدفن فيها ويجوز النقل إليها الحرم ، ومكة أرجح من سائر مواضعه ، وفي بعض الأخبار أنّ الدفن في الحرم يوجب الأمن من الفزع الأكبر ، وفي بعضها إستحباب نقل الميت من عرفات إلى مكة المكرمة» (٥١٥).

٣ ـ قال السيد الخوئي (قده) : «لا يجوز التوديع المتعارف عند بعض الشيعة (أيدهم الله تعالى) بوضع الميت في موضع والبناء عليه ، ثم نقله إلى المشاهد الشريفة ، بل اللازم أن يدفن بمواراته في الأرض ، مستقبلاً بوجهه القبلة على الوجه الشرعي ، ثم ينقل بعد ذلك بإذن الوليّ على نحو لا يؤدي إلى هتك حرمته» (٥١٦). وعلى هذا الرأي جمع من الفقهاء المعاصرين.

٤ ـ قال السيد السبزواري (قده) : «قد تعارف في هذه الأعصار نقل الجنائز من أطراف كربلاء حتى من النجف والتبرك بها بالضريح المقدس الحسيني ، ثم دفنها في النجف الأشرف ، ومقتضى الأصل جوازه لو لم يترتب عليه حرام ، والظاهر عدم إحتساب مؤنة النقل على القُصّر من الورثة ، ويشهد له في

__________________

(٥١٤) ـ الخوئي ، السيد أبو القاسم الموسوي : منهاج الصالحين ، ج ١ / ٩٤.

(٥١٥) ـ اليزدي ، السيد محمد كاظم الطباطبائي : العروة الوثقى / ١٥٣.

(٥١٦) ـ الخوئي ، السيد أبو القاسم الموسوي : منهاج الصالحين ، ج ١ / ٩٥.

٢٦٤

الجملة ما ورد في وصية الحسن لأخيه الحسين (عليه السلام) ، من حمل نعشه إلى حرم النبي (صلى الله عليه وآله) ليجدد به عهداً ، ثم دفنه في البقيع» (٥١٧).

٥ ـ قال الشيخ الميرزا جواد (دام ظله) : «المجاورة في الكوفة القديمة الشاملة للنجف وكربلاء والكاظمين ، أفضل من المجاورة في مكة المكرمة ، كما ورد في بعض الروايات ، والله العالم» (٥١٨).

٦ ـ قال الشيخ الميرزا جواد (دام ظله) في جواب السؤال التالي :

«ذكر الشهيد الأول (قده) في (القواعد والفوائد) أنّ مذهب الأصحاب ، أنّ مكة زادها الله شرفاً أشرف بقاع الأرض ، وأفضلها. وقال السيد بحر العلوم (قده) في الدرّة :

ومن حديث كربلاء والكعبة

لكربلاء بان علوّ الرتبة

وهل مكة أفضل أم المدينة؟ بيّنوا لنا الصواب في ذلك؟

بسمه تعالى : إذا كان الغرض من السؤال من الأشرفية قصد المجاورة في المكان ، فمجاورة النجف وكربلاء أفضل ، وكذا إذا كان الغرض من السؤال الزيارة ؛ فزيارة كربلاء أفضل ، وأما بالنسبة لخلق الأرض أولاً ؛ فمكة بالنسبة لخلق الأرض أشرف البقاع ، ويظهر منها إمام العصر عليه السلام. وقد ظهر مما تقدم أنّ المجاورة بالمدينة أفضل ، والله العالم» (٥١٩).

__________________

(٥١٧) ـ السبزواري ، السيد عبد الأعلى الموسوي : مهذب الأحكام ، ج ٤ / ٢٣٩.

(٥١٨) ـ التبريزي ، الشيخ الميرزا جواد : صراط النجاة ، ج ٦ / ٣٩٢.

(٥١٩) ـ نفس المصدر ، ج ٥ / ٢٨٩.

٢٦٥

٣ ـ آداب المجاورة :

ينبغي للساكن في البقاع الطاهرة المجاورة فيها أن يراعي قدسيتها ، بل يجتهد في مراعات الآداب وحرمة من ثوى فيها من الأنبياء والأوصياء ، فإنّ حرمتهم أموات كحرمتهم أحياءاً ، فليحذر المعاصي فيها ، فإنّ الآتي بالمعصية فيها يتضاعف إستحقاقه العقوبات ؛ لهتكه لحرمة هذه البقاع المقدسة ، واحترام من حلّ بها ، ولذا لا بد أن يكون المجاور صاحب بصيرة تامة وملكة نورانية ، حتى يعرف هذه البقاع المقدّسة وقدر من حلّ بها ؛ ومن تتبع سيرة الماضين من العلماء الأخيار ، والفضلاء الأبرار ، كانوا في كربلاء المقدسة يجتنبون عن إتيان المكروهات ، بل كان جمع منهم لا يبولون ولا يتغوطون في هذه الأرض ، بل في آنية كالحباب والمراكن ونحوها ، ثم كانوا يحملونها إلى المكان الذي يخرج من حدود كربلاء ، ثم إنّ جمعاً لم يدخلوا الحرم إلا بعد كمال الخشوع ، وحضور القلب وجريان الدموع.

ومن الشواهد على ذلك ، ما ذكره الفاضل الدربندي (قده) : «وقد سمعت حكاية عجيبة ، وواقعة غريبة وقعت قبل خمسين سنة (٥٢٠) من هذا الزمان وحاصلها ؛ أنّ رجلاً من عظماء بلاد الهند وفد إلى كربلاء ، ومضت من وروده إلى كربلاء مدة ستة أشهر ، وهو لم يحضر الحرم الشريف ، بل متى ما يريد يقول : السلام على سيد الشهداء ، كان يصعد فوق سطح المنزل الذي كان فيه ، فيزوره ويسلم عليه من ذلك المكان ، وقد بلغ خبره النقيب في ذلك الزمان ـ وهو السيد الأجلّ المرتضى ـ ؛ فجاء السيد المرتضى إلى منزله فعاتبه

__________________

(٥٢٠) ـ الأقرب إلى الصحة ، قبل (٧٥٠ أو ٨٥٠) سنة ، لأن الفترة الزمنية التي بين الشيخ الدربندي والسيد المرتضى هي ما ذكرناه ، ولعل العبارة فيها حذف. والله العالم ـ المؤلف.

٢٦٦

بمعاتبات كثيرة على فعله هذا ، وأمره بحضوره في الحرم ، فقال للسيد : يا نقيب الأشراف ، خذ مني أموالاً كثيرة ، وأشياء نفيسة ، ولا تأمرني بحضوري في الحرم الشريف ؛ فإغتاظ السيد من كلامه هذا ، لما كان في السيد من الشيمة والنفس الأبية ، والهمة العالية ، فألجأه السيد إلى الحضور في الحرم الشريف ، فحينئذ قام واغتسل ولبس أطيب ثيابه ، وأنظف ملبوساته ، فخرج من الدار ومشى حافياً بالسكينة والوقار ، والخضوع والخشوع ، وجريان الدموع ، إلى أن بلغ باب الصحن الشريف ، فلما وصل إليه ؛ خَرّ لله تعالى ساجداً وقَبّل الأرض ، فلما قام من سجوده ؛ كان يرتعد ويرتعش مثل فرخة العصفور المبلولة ، وقد تغير لونه وإصفرّ وجهه ، وصار كأنه قد نزع الروح من ثلث بدنه ، ثم أنه لما وصل إلى باب مخلع النعال ؛ فعل فيه ما قد فعل في الباب الأول ، ولكنه كان في حالة تشبه حالة النزع والإحتضار ، ثم لما صعد الإيوان ومشى حتى وصل إلى باب الرِّواق ، ونظر إلى القبر الشريف ؛ تنفّس الصعداء ، وتأوّه مثل تأوّه الثكلى ، وقال : أهذا مضجع سيد الشهداء؟! ، أهذ مقتل سيد الشهداء!؟ ثم صاح صيحة كان فيها آخر نفسه (ره) ...» (٥٢١).

٤ ـ أهداف المجاورة :

إهتمت الشرائع الإلهية ، وخصوصاً الشريعة الإسلامية بتكميل الروح الإنسانية ؛ باستكمالها تدرك الحياة الأبدية ، وإنّ تشريع العبادات والعمل بها من أهم طرق تكميل الروح ، ومن الأشياء التي تستفيد منها الروح مجاورة الإنسان حياً لأولئك العظماء من الأنبياء والأوصياء ، ومن خلال ما ذكر سابقاً ؛ نخرج بالأهداف التالية :

__________________

(٥٢١) ـ الدربندي ، الشيخ آغا بن عابد الشيرواني : إكسير العبادات في أسرار الشهادات ، ج ١ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

٢٦٧

أولاً ـ إنّ مجاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام تترتب عليها فوائد كثيرة

أهمها ما يلي :

قال السبكي : «الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فَيْضُها الأمة ، وهي غير متناهية ؛ لدوام ترقياته عليه الصلاة والسلام ، وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل ، ولذا كانت خير أمةٍ بسبب كون نبيها هو خير الأنبياء ، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع ، مع كونه منبع فيض الخيرات؟ ـ إلى أن قال ـ : فزيارته والمجاورة عنده من أفضل القربات ، عنده تجاب الدعوات ، وتحصل الطلبات ، فقد جعله الله تعالى سبباً في ذلك أيضاً ، فهو روضة من رياض الجنة ، بل أفضل رياضها ، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) : (لَقَابُ قَوْس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، بل لو تعلق بما قررناه من ون القبر الشريف منبع جميع الخيرات ـ وهو بالمدينة ـ ؛ فتكون هي أفضل لكان له وجه» (٥٢٢).

وقال السمهودي ـ في سرد خصائصها ـ : «كثرة المساجد والمشاهد والآثار بها ، بل البركة عامة منبثة بها ، ولهذا قيل لمالك : أيما أحب إليك المقام ـ هنا ـ ؛ يعني المدينة أو بمكة؟ فقال ههنا ، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلا سلك عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وجبريل (عليه السلام) ينزل من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟» (٥٢٣).

وبعد هذا ، يمكن القول : إنّ الهدف الذي ذكره بعض علماء العامة ، في فضل سكنى ومجاورة المدينة المنورة ، من كونها منبع فيض الخيرات ، ومحل

__________________

(٥٢٢) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٣١.

(٥٢٣) ـ نفس المصدر / ٨٢.

٢٦٨

إجابة الدعوات ، وقضاء الحاجات ، وتبركاً بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، هو بعينه هدف الشيعة الإمامية ، من سكنى ومجاورة الأماكن المقدسة ، كالنجف الأشرف ، والكوفة ، وكربلاء ، ونحوها من البقاع التي ضمت أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والذين جعلهم الله سبحانه بعد الموت كما كانوا أيام حياتهم ، لقوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) [النور / ٣٦]. كيف لا نعتقد بمن حث الله سبحانه في كتابه الكريم على مودتهم واتباعهم ، ويكفينا شاهد على ذلك آية المباهلة ؛ وهي قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران / ٦١]. من تأمل في هذه الأية الشريفة ، ونظر إليها بنظرة علمية منصفة ؛ عرف سرّ ما يعتقد به الإمامية في أهل البيت عليهم السلام ، وقد أشار إلى ذلك السيد شرف الدين (قده) ، وخلاصته فيما يلي :

«أجمع أهل القبلة حتى الخوارج منهم ، على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدع للمباهلة من النساء ، سوى بضعته الزهراء ، ومن الأبناء سوى سبطيه وريحانتيه من الدنيا ، ومن الأنفس إلا أخاه الذي كانه منه بمنزلة هارون من موسى ، فهؤلاء أصحاب هذه الآية ، ولم يشاركهم فيها أحد من العالمين ، كما بديهي لكل من ألمّ بتاريخ المسلمين ، فباهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم خصومه من أهل نجران ، وقد ذكر ذلك الرازي في تفسيره : «خرج صلى الله عليه وآله وسلم عليه مرط من شعر أسود ، وقد إحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا أنا دعوت ؛ فأمّنوا. فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيلوا جبلاً لأزاله بها ، فلا تباهلوهم فتهلكوا ، ولا

٢٦٩

يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة» (٥٢٤). بخ بخ إنّ من وقف على الوهلة العظيمة ، والروعة الشديدة التي رهقت أعلام نجران ، وممثلي دينها ودنياها ، بمجرد أن برز أصحاب الكساء لمباهلتهم ؛ عُلِمَ لمحمد وآل محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، جلالة ربانية تغشى الأبصار ، ومهابة روحانية لها جناح الذل والصغار ، ألا ترى أولئك الأبطال ـ وهم ستون فارساً ـ من أسود الشرى ، وليوث الوغى ، كيف ارتعدت فرائصهم قلقاً ، وإنخلعت قلوبهم فرقاً ، ونادى عظيمهم بما سمعت ، وهلوعاً جزوعاً ، وهذا ليس إلا للجلالة الربانية ، والعظمة الروحانية ، التي أدركها خصمهم من أول نظرة إلى وجوههم المباركة ، فكأنّ الجلالة والعظمة ، والمهابة والأبهة ، وقرب المنزلة من الله ، والكرامة عليه مكتوبة بنوره تعالى في أسارير جبهاتهم الميمونة ، ومعنونة في صفحات وجناتهم الكريمة ، وإني لأعجب والله من المسلم لا يقدر هذا المقام وقدره ، وأنت تعلم أنّ مباهلته صلى الله عليه وآله وسلم بهم وإلتماسه منهم التأمين على دعائه بمجرده فضل عظيم ، وانتخابه إياهم لهذه المهمة العظيمة واختصاصه بهذا الشأن الكبير ، وايثارهم فيه على من سواهم من السوابق ، فضل على فضل لم يسبقهم إليه سابق ، ولن يلحقهم فيه لاحق ، ونزول القرآن العزيز آمراً بالمباهلة بهم بالخصوص فضل ثالث ، يزيد فضل المباهلة ظهوراً ، ويضيف إلى شرف إختصاصهم بها شرفاً وإلى نوره نورا. وهناك نكته يعرف كنهها علماء البلاغة ، ويقدر قدرها الراسخون في العلم ، العرافون بأسرار القرآن ، وهي أنّ الآية الكريمة ظاهرة في عموم الأبناء والنساء والأنفس ، وكما يشهد به علماء البيان ، ولا يجهله أحد ممن عرف أنّ الجمع المضاف حقيقة في الإستغراق ، وإنما أطلقت

__________________

(٥٢٤) ـ الفخر الرازي ، فخر الدين ، محمد بن عمر : التفسير الكبير ، مج ٤ ـ ج ٨ / ٨٨ ـ ٨٩.

٢٧٠

هذه العمومات عليهم بالخصوص ، تبياناً لكونهم ممثلي الإسلام ، وإعلاناً لكونهم أكمل الأنام وبرهاناً على أنهم خيرة الخيرة ، وتنبيهاً إلى أن فيهم من الروحانية الإسلامية والإخلاص لله في العبودية ، ما ليس في جميع البرية ، وأنّ دعوتهم إلى المباهلة بحكم دعوة الجميع ، وحضورهم خاصة فيها منزّل منزلة حضور الأمة عامة ، وتأمينهم على دعائه مغنٍ عن تأمين مَن عداهم ، وبهذا حاز التجوز بإطلاق تلك العمومات عليهم بالخصوص ، ومن غاص على أسرار الكتاب الحكيم ، وتدبره ووقف على أغراضه ؛ يعلم أنّ إطلاق هذه العمومات عليهم بالخصوص ، وإنما هو على حد قول القائل :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

ولذا قال الزمخشري في تفسير الآية : «وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام» (٥٢٥) ...» (٥٢٦) نعم هذه عقيدة الشيعة الإمامية في أهل البيت عليهم السلام ، وقد أوضحها الإمام الهادي عليه السلام في الزيارة الجامعة بقوله : (آخذ بقولكم ، عامل بأمركم ، مستجير بكم ، زائر لكم ، لائِذٌ عائذ بقبوركم ، مستشفع إلى الله عَزّ وجَلّ بكم ، ومتقرب بكم إليه ومقدمكم أمام طلبتي وحوائجي ، وإرادتي في كل أحوالي وأموري).

ثانياً ـ رجاء الفوز بالنعيم والنجاة من عذاب البرزخ ، وهذا الهدف له جهة رجحان في الشرائع الإلهية ، خصوصاً في مثل هذه الحالة التي إنقطعت منها العلاقات ، وبقية التوسلات إلى المقربين لدى خالق البريات ؛ ولذا فالشيعة الإمامية تحرص على الدفن بجوار أمير المؤمنين علي عليه السلام ،

__________________

(٥٢٥) ـ الزمخشري ، جار الله محمود بن عمر : الكَشّاف ، ج ١ / ٤٣٤.

(٥٢٦) ـ شرف الدين ، السيد عبد الحسين : الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء / ٥ ـ ٨.

٢٧١

وأبنائه الطاهرين عليهم السلام ، حيث الفوز بالثواب أو النجات من العقاب ، بل هذه سيرة أعلامهم إلى هذا العصر.

قال السيد بحر العلوم (قده) :

والنبش محظور وحدّه البلا

وهو لقحّ آدمي جلّلا

والأقرب الجواز للنقل إلى

جوار من بقربهم نيل العلا (٥٢٧)

وقال الشيخ الكفعمي (قده) :

سألتكم بالله أن تدفنوني

إذا مت في قبر بأرض عقير

فإنّي به جار الشهيد بكربلاء

سليل رسول الله خير مجير

فإنّي به في حفرتي غير خائف

بلا مرية من منكر ونكير

آمنت به في موقفي وقيامتي

إذا ال ناس خافوا من لظى وسعير

فإنّي رأيت العرب يحمي نزيلها

ويمنعه من أن ينال بضير

فإنّي بسبط المصطفى أن يدود مَن

بحائره ثاوٍ بغير نصير

وعارٌ على حامي الحمى وهو في الحمى

إذا ضَلّ في ال بيداء عقال بعير (٥٢٨)

ثالثاً ـ رعاية الأفضل في الدفن ، وقد ذكر ذلك السيد اليزدي (قده) : «بل لا يبعد إستحباب النقل من بعض المشاهد إلى آخر ؛ لبعض المرجحات الشرعية» (٥٢٩). وعَلّقَ على ذلك السيد السبزواري (قده) بقوله : «لأنّ الحالة حالة يطلب فيها الأفضل فالأفضل مهما أمكن ، وفي النبوي : (إنّ موسى بن عمران لما حضرته الوفاة ، سأل ربّه أن يدنيه إلى الأرض

__________________

(٥٢٧) ـ بحر العلوم ، السيد محمد مهدي : الدرّة النجفية / ٨٣.

(٥٢٨) ـ الحكمي ، الشيخ محمد رضا : تاريخ العلماء عبر العصور / ٢٤.

(٥٢٩) ـ اليزدي ، السيد محمد كاظم الطباطبائي : العروة الوثقى / ١٥٠.

٢٧٢

المقدسة رمية حجر). وقال (صلى الله عليه وآله) : (لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر).

ومن المرجحات الشرعية تعدد الإمام المدفون فيها ، كما في البقيع. ومنها : كثرة الشهداء ، وهذا يختص بالمدينة المنورة ، وكربلاء المقدسة» (٥٣٠).

رابعاً ـ ما ورد في شراء بعض الأئمة للبقاع التي دفنوا فيها ، والترغيب والحث على فضلها وقداستها ، كما في الروايات التالية :

١ ـ السيد عبد الكريم بن أحمد بن طاوس في (فرحة الغري) قال : روى أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمان العلوي الحسني في (كتاب فضل الكوفة) ، بإسناده إلى عقبة بن علقمة قال : (اشترى أمير المؤمنين عليه السلام أرضاً ما بين الخورنق إلى الحيرة إلى الكوفة). وفي خبر آخر : (ما بين النجف إلى الحيرة إلى الكوفة من الدّهاقين بأربعين ألف درهم ، وأشهد على شرائه ، قال : فقلت له : يا أمير المؤمنين تشتري هذا بهذا المال وليس ينبت خطا؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كوفان كوفان يرد أولها على آخرها ، يحشر من ظهرها سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، فإشتهيت أن يحشروا من ملكي) (٥٣١).

٢ ـ الشيخ البهائي في الكشكول : عن خط جده محمد بن علي الجباعي ، نقلاً من خط ابن طاووس ، نقلاً من كتاب الزيارات لمحمد بن أحمد بن داود القمي ، عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال : (إنّ حرم الحسين (عليه

__________________

(٥٣٠) ـ السبزواري ، السيد عبد الأعلى الموسوي : مهذب الأحكام ، ج ٤ / ٢٣٧.

(٥٣١) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٢ / ٨٣٣ ، (الباب ١٢ من أبواب الدفن ـ الحديث ١).

٢٧٣

السلام) الذي إشتراه ، أربعة أميال في أربعة أميال ، فهو حلال لولده ومواليه ، حرام على غيرهم ممن خالفهم ، وفيه البركة) (٥٣٢).

وبعد ذكر هاتين الروايتين ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

أولها ـ إنّ شراء الأئمة عليهم السلام لهذه البقاع لمواراة أجسادهم فيها ؛ دليل على إختيار الأفضل ، ووجود مزية شرف وقداسة فيها على غيرها.

ثانيها ـ لو تأملنا في عبارة أمير المؤمنين عليه السلام : (فاشتهيت أن يحشروا من ملكي) ، بعد بيان فضل تلك البقعة التي إشتراها ، من أنّه يحشر من ظهرها سبعون ألفاً ، يدخلون الجنة بغير حساب ؛ لظهر لنا حث الموالين له على إغتنام فرصة الدفن فيها لنيل تلك الفضيلة. وكذلك المستفاد من عبارة الإمام الصادق عليه السلام : (فهو حلال لولده ومواليه) ، بعد بيان أنّ هذه البقعة التي إشتراها سيد الشهداء عليه السلام هي حرم ، فهذا برهان واضح على أنّ من دفن في هذا الحرم ، فهو في أمان مما يخاف ويحذر من أهوال القبر ، بل من السعداء الآمنين من أهوال الآخرة بشفاعته عليه السلام.

خامساً ـ إنّ دفن الميت في هذه البقاع الطاهرة الشريفة أو النقل إليها ، من باب التكريم له ؛ لتستفيد روحه من بركاته ، فإذا وصلت جنازته إلى ذلك المكان المبارك ؛ فقد نالت المنى وحازت على المغفرة والثواب ، بل هذا يدل على أنّ الميت عزيزاً عند أهله ، وإلا لما تكلفوا بنقله هذا العناء من مسافات بعيدة ، كما في قضية اليماني المعروف بـ(صافي الصفا) ، وقبره يقع في الجانب الغربي من النجف ، عند حافة التل الذي تقع عليه المدينة ، أو عند حافة الهضبة الصحراوية ، وإلى جواره مقام زين العابدين عليه السلام ،

__________________

(٥٣٢) ـ النوري ، الميرز حسين الطبرسي : مستدرك الوسائل ، ج ١٠ / ٣٢١ ، (الباب ٥٠ من أبواب المزار ـ الحديث ٢).

٢٧٤

وقبره مشهور ويزار. ولأهمية هذا الرجل المؤمن الذي حظئ وتشرف بعناية أمير المؤمنين عليه السلام ، ينبغي البحث فيما يلي :

أ ـ قصة دفن صافي الصفا في النجف الأشرف :

ذكر الشيخ المجلسي (قده) : «وجدت في بعض مؤلفات أصحابنا : أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان ذات يوم يصلي بالغريّ ، إذ أقبل رجلان معهما تابوت على ناقة فحطّا التابوت ، وأقبلا إليه فسلّما عليه فقال : من اين أقبلتما؟ قالا : من اليمن. قال : وما هذه الجنازة؟ قالا : كان لنا أب شيخ كبير ، فلما أدركته الوفاة أوصى إليه أن نحمله وندفنه في الغري ، فقلنا : يا أبانا ، إنه موضع شاسع بعيد عن بلدنا ، وما الذي تريد بذلك؟ فقال : إنّه سيدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال أمير المؤمنين عليه السلام : الله أكبر ، الله أكبر ، أنا والله ذلك الرجل ، ثم قام فصلّى عليه ، ودفناه ومضيا من حيث أقبلا» (٥٣٣).

ب ـ علاقته بأمير المؤمنين (عليه السلام) :

بعد أن ذكرنا قصته المتقدمة ، نتساءل : كيف عرف أنه سيدفن في النجف رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر؟ هل كان هذا معروفاً في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعه؟ هل له علاقة بأمير المؤمنين عليه السلام يوم كان مرسلاً من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن؟ كل هذه التساؤلات تحتاج إلى جواب :

والجواب يتضح من خلال ما يلي:

أولاً ـ لا مانع من القول بأنّه سمع ذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ حيث تذكر بعض الروايات ذهاب علي عليه السلام إلى اليمن كما في الرواية التالية :

__________________

(٥٣٣) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الانوار ، ج ٤٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٢٧٥

عن البراء بن عازب قال : (بعث رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلم) خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام ، وكنت فيمن سار معهم ، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء ، فبعث النبي ـ صلى الله عليه (وآله) وسلّم) ـ إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وأمره أن يرسل خالداً ومن معه إلا من أراد البقاء مع علي (عليه السلام) فيتركه ، قال البراء : وكنت فيمن عقب مع علي (عليه السلام) ، فلما إنتهينا إلى أوائل اليمن ؛ بلغ الخبر فجمعوا له فصلى بنا الفجر ، فلما فرغ صَفّاً صَفّاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلّم) ، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد ، وكتب بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه (وآله) وسلّم) ، فلما قرأ كتابه ، خَرّ ساجداً وقال : السلام على همدان ، السلام على همدان (٥٣٤). وهذا النصر الذي تحقق على يد أمير المؤمنين عليه السلام بإسلام هذه القبيلة بهذه السرعة ، جعل هذه القبيلة تسأل عن هذه الشخصية العظيمة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما سمعت بفضله تمسكت بولائه ، وخير شاهد على ذلك ، ما عرف عن هذه القبيلة من تمسكها بولاء علي عليه السلام ، ومدحه لها بقوله المنسوب إليه :

ولو أنّ يوماً كنتُ بَوّاب جَنّةٍ

لقلت لهمدان ادخلوا بسلام (٥٣٥)

وبعد هذا ثبت لنا علاقة علي عليه السلام باليمن ـ خصوصاً همدان ـ ، ولعلّ (صافي الصفا) من هذه القبيلة.

__________________

(٥٣٤) ـ الطبري ، الحافظ محب الدين أحمد بن عبد الله : ذخائر العقبى / ١٠٩ ـ ١١٠.

(٥٣٥) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٣٨ / ٧١.

٢٧٦

ثانياً ـ لعلّ (صافي الصفا) هو اليماني صاحب الدعاء المعروف (بدعاء اليماني) ، الذي ذكره ابن طاووس بإسناده عن ابن عباس ، وعبد الله بن جعفر : (بينما نحن عند مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (صلوات الله عليه) ذات يوم ؛ إذ دخل الحسن بن علي (عليهما السلام) فقال : يا أمير المؤمنين بالباب رجل يستأذن عليك ينفخ منه رائحة المسك : قال له : إئذن له. فدخل رجل جسيم وسيم له منظر رائع ، وطرف فاضل ، فصيح اللسان ، عليه لباس الملوك ، فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، ورحمة الله وبركاته ، إني رجل من أقصى بلاد اليمن ، ومن أشراف العرب ، وممن ينتسب إليك ، وقد خَلّفت ورائي ملكاً عظيماً ، ونعمة سابغة ، وإني لفي غضارة من العيش وخفض من الحال ، وضياع ناشئة ، وقد عجمت الأمور ، ودَرّبتني الدهور ، ولي عدو مشجّ ، وقد أرهقني وغلبني بكثرة نفيره ، وقوة نصيره ، وتكاتف جمعه ، وقد أعيتني فيه الحِيَل ، وإني كنت راقداً ذات ليلة حتى أتاني آتٍ فهتف بي : أن قم يا رجل إلى خير خلق الله بعد نبيه ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه وعلى آله) ، فاسأله أنّ يعلمك الدعاء الذي علمه حبيب الله ، وخيرته وصفوته من خلقه ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب (صلوات الله عليه وآله) ، فاسأله أنّ يعلمك الدعاء الذي علمه حبيب الله ، وخيرته وصفوته من خلقه ، محمد بن علد الله بن عبد المطلب (صلوات الله عليه وآله) ، ففيه اسم الله عَزّ وجَلّ ، فادع به على عدوك المناصب لك ، فانتبهت يا أمير المؤمنين ، ولم أعوج على شيء حتى ضخصت نحوك في أربع مائة عبد ، إني اُشهد الله واُشهد رسوله ، واُشهد أنهم أحرار ، قد أعتقتهم لوجه الله جَلّت عظمته ، وقد جئتك يا أمير المؤمنين من فَجّ عميق وبلد شاسع ، قد ضؤل جرمي ونحل جسمي ، فأمنن عليّ يا أمير المؤمنين بفضلك ، وبحق الأبوة والرحم الماسّة ، علمني الدعاء

٢٧٧

الذي رأيت في منامي ، وهتف بي أن أرحل فيه إليك ، فقال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : نعم أفعل ذلك إن شاء الله ، ودعا بدواة وقرطاس وكتب هذا الدعاء ... قال ابن عباس (رضي الله عنه) : ثم قال له : إنظر إن حفظ لك ولابد عن قراءته يوماً واحداً ، فإني أرجوا أن توافي بلدك وقد أهلك عدوك ، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : (لو أن رجلاً قرأ هذا الدعاء بنيِّة صادقة ، وقلب خاشع ، ثم أمر الجبال أن تسير معه لسارت ، وعلى البحر لمشى عليه). وخرج الرجل إلى بلاده ، فورد كتابه على مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وآله وسلم) بعد أربعين يوماً ، أنّ الله قد أهلك عدوه ، حتى أنه لم يبق في ناحيته رجل ، فقال مولانا رسول الله (صلوات الله عليه وآله وسلم) ، وما إستعسر عليّ أمر إلا استيسر به» (٥٣٦).

وبعد معرفة هذه التفاصيل ، ليس من المستبعد أن يكون هذا الرجل هو صافي الصفا ، ومن الأمور التي تقوي هذا الإحتمال ، ما ذكرته القصة من قوة تمسكه بأمير المؤمنين عليه السلام ، فلا غرابة أن نحتمل أنّ مثل هذه الشخصية الولائية أن توصي بالدفن بجوار أمير المؤمنين عليه السلام ، مع هذا العناء لأولاده وبُعد المسافة من اليمن إلى النجف الأشرف ، إنّ مثل هذه الأوصاف من أقرب مصاديقها ، هو صافي الصفا ، الذي ما زال ذكره خالداً إلى هذا اليوم ، بزيارة قبره المستمر من قِبَل زوار وضيوف أمير المؤمنين عليه السلام.

ثالثاً ـ «قال بعض علماء الأهواز : إنّ اليماني هذا كان من أصحاب الزاهد العابد أويس القرني ، وحَدّث آخرون أنه من تلامذته الذين تخرجوا عليه في العلم

__________________

(٥٣٦) ـ ابن طاووس ، السيد رضي الدين علي بن موسى : مهد الدعوات / ١٦٠ ـ ١٦٧.

٢٧٨

والزهد والعبادة ، لعلي بن أبي طلب أمير المؤمنين (عليه السلام)» (٥٣٧). وسمي بـ(صافي الصفا) ؛ لأنه كانت الدراويش تسكنه وتسمي حرم قبره بالصفة ، فإذا أضافوها يقولون : صفة الصفا ، ويبدو أنّ هذا الإشتهار كان في حدود القرن السادس للهجرة وإلى زماننا ، والصفا هو الصخر ؛ أي مقبرة الصخر ؛ حيث أنها تقع على رأس الوادي وصخوره البارزة ، وقد أدركنا بقية رأس الوادي وبعض صخوره الظاهرة ، ومنه مجرى مياه الأمطار التي تسيل من رأس الوادي ، قرب الصحن الغروي الأقدس ، في أواخر القرن الثالث عشر الهجري (٥٣٨).

نتيجة البحث :

وبعد عرض هذه التفاصيل المتعلقة بمسألة المجاورة ؛ تبين لنا إتفاق المذاهب الإسلامية الخمسة ، بل العقلاء على جواز النقل إلى البقاع المقدسة ، بل هذا ثابت في الشرائع السماوية ، وقد تعرضت الكتب التاريخية إلى ذلك ، ومن أراد التوسع ؛ فليراجع ما كتبه العلامة الكبير الشيخ الأميني (قده) في موسوعة الغدير ، ج ٥ / ٦٦ ـ ٨٥.

__________________

(٥٣٧) ـ حرز الدين ، الشيخ محمد : مراقد المعارف ، ج ٢ / ٣٨٦.

(٥٣٨) ـ نفس المصدر ، ج ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

٢٧٩
٢٨٠