تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٢

الشيخ أمين حبيب آل درويش

تربة الحسين عليه السلام الإستشفاء والتبرّك بها ـ السجود عليها دراسة وتحليل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أمين حبيب آل درويش


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
  الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣

ابن أبي مَعْبد الخزاعي ، وقد مَرّ برسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في غزوة ذات الرّقاع :

قد نَفَرت من رِفْقَتي محمدِ

وعَجَوةَ من يثرب كالعَنْجدِ

تهوى على دين أبيها الا تلدِ

قد جعلتْ ماء قُديدٍ موعدي

وما ضَجْنَان لنا ضُحى الغدِ

قلت : وقوله : وفي أسفله مسجد. لا زال هناك بناء أدركتا بقاياه يستظل بها الإنسان ، وقد اندفن اليوم وكاد ينمحي ، قرب بئر المحسنية من الشمال يرى. ولا شك أنّه هو وقد أهمل واندثر. أما قول معبد : (وماء ضجنان لنا ضحى الغدِ). فإنّ صاحب المطية إذا راح من قديد ؛ يصل ضجناان ضحى الغد» (٤٥٦).

ب ـ وذكر المقدم عاتق البلادي في معجمه : «حرة مستطيلة من الشرق إلى الغرب ، وينقسم عنها سيل وادي الهَدَةَ ويمرّ بها من مكة إلى المدينة بنعَفِها (٤٥٧). الغربي على (٥٤) كيلاً ، ويعرف هذا النعف اليوم بخشم المُحْسِنيِّة وكذلك حرة المُحْسِنيِّة ، ولها نعف آخر ينقص شمالاً غربياً يغطيه الرمل ، ذلك هو ما كان يسمى كُرَاعَ الغَميم ويسمى اليوم بَرقاء الغَميم ، أما سبب تسميتها بالمُحْسِنيِّة ؛ فهو أنّ الشريف محسن بن الحسين بن حسن بن أبي نُمَيّ أمير الحجاز ، المتوفى سنة ١٠٣٨ هـ قد بلغه أن خلقاً من الحجاج ماتوا عطشاً في تلك الصحراء التي لا يوجد فيها ماء ، فأمر بحفر بئر سميت (البئر المحسنية) لا زالت تورد ، فأخذت المنطقة إسمها من ذلك» (٤٥٨).

__________________

(٤٥٦) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ١٩٠ ـ ١٩١.

(٤٥٧) ـ النُّعْف أو النَّعْف : ما ارتفع عن الوادي إلى الأرض وليس بالغليظ. وقيل : ما انحدر عن السطح وغلظ ، وكان فيه صعود وهبوط ، راجع الإفصاح في فقه اللغة ، ج ٢ / ١٠٢٦.

(٤٥٨) ـ البلادي ، المقدّم عاتق بن غيث : معالم مكة التأريخية والأثرية / ١٥٩.

٢٤١

«وكان ضجناان من ديار لحيان من هذيل ، وربما شركتهم فيه خزاعة. أما اليوم فهو من ديار حرب لبني بشر منهم خاصة. غير أنّ ملكية الأرض كانت في عهد ما قبل الدولة السعودية للأشراف ذوي عمرو ، وهم فرع من بني بركات بن أبي نُمَيّ ، ثم صدر قانون الأراضي البور فجعل كل ما ليس حياً مشاعاً» (٤٥٩).

ج ـ وذكر السيد محمد صالح البحراني في نمارقه : «جبل بناحية مكة ، أهلك الله فيه قوم لوط ، فهو وادٍ من أودية جهنم» (٤٦٠).

وبعد ذكر هذه التعريفات ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

إنّ ما ذكره المُقدّم عاتق البلادي أدق من غيره ، وأقرب إلى الصواب ؛ لأنّه من أدباء مكة المكرمة ، وقد قام بجولات ميدانية لتلك الأماكن ، واعتمد فيها على أهل تلك البقاع في تحديدها ، وذكر أسمائها إلى الوقت الحاضر.

وأما ما ذكره السيد محمد صالح البحراني ؛ فمجمل لا يفيدنا في تحديد الموضع الذي ذكرناه ، إلا أنه تعريف مختصر لما جاء في التاريخ والروايات ؛ حيث جاء في رواية علي بن المغيرة قال : (نزل أبو جعفر عليه السلام في ضجنان ـ وذكر حديثاً يقول في آخره ـ : وإنّه ليقال : إنّ هذا وادٍ من أودية جهنم) (٤٦١). وقال صاحب الجواهر (قده) : «وضجنان : وادٍ أهلك الله فيه قوم لوط» (٤٦٢).

__________________

(٤٥٩) ـ المصدر السابق / ١٦٠.

(٤٦٠) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة إلى طرائق الآخرة ، ج ٣ / ٨٤.

(٤٦١) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٧.

(٤٦٢) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام / ج ٨ / ٣٤٩.

٢٤٢

٢ ـ وادي الشُقْرَة :

عُرِّف هذا الوادي بما يلي :

أ ـ قال السمهودي : «موضع بطريق فَيْد ، بين جبال حمر ، على ثمانية عشر ميلاً من النخيل ، وعلى يوم من بئر السائب ، ويومين من المدينة ، إنتهى إليه بعض المنهزمين يوم أحد ـ كما رواه البيهقي ـ ومنه قطع كثير من خشب الدوم لعمارة المسجد النبوي بعد الحريق» (٤٦٣).

ب ـ وقال السيد محمد صالح البحراني : «وهو موضع بطريق مكة فيه شقائق النعمان ، وفيه منازل الجن» (٤٦٤).

وبعد ذكر هذين التعريفين نستنتج ما يلي :

أولاً ـ قال السمهودي : «بئر السائب : بالطريق النجدي على أربعة وعشرين ميلاً من المدينة ، وبينهما وبين الشُقْرة مثل ذلك ، وبها قَصْر وعمائر وسوق ، وسميت بذلك ؛ لأن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حفرها للناس ، ويقال ، لواديها العرنية ، سَيْلَه يمضي منها فيدفع في الأعواض ، ثم قناة ، والجبل المشرف على بئر السائب يقال له : شباع ، ذكر أهل البادية : «أنّ إبراهيم صلى الله عليه (وآله) وسلّم كان قد نزل في أعلاه قاله الأسدي» (٤٦٥).

ثانياً ـ جاء في رواية عَمّار الساباطي قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : (لا تصلِّ في وادي الشقرة ، فإن فيه منازل الجن) (٤٦٦). وقال الشيخ ابن إدريس (قده) :

__________________

(٤٦٣) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ٤ / ١٢٤٥.

(٤٦٤) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة إلى طرائق الآخرة ، ج ٣ / ٨٤.

(٤٦٥) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ٤ / ١١٣٨ ـ ١١٣٩.

(٤٦٤) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٨. (الباب ٢٦ من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ٢).

٢٤٣

«والأولى عندي أنّ وادي الشقرة : موضع بعينه مخصوص ، سواء كان في شقائق النعمان أو لم يكن ، وليس كل وادي فيه شقائق النعمان يكره الصلاة فيه ، بل بالموضع المخصوص فحسب ، وهو بطريق مكة ؛ لأنّ أصحابنا قالوا : يكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع ، ومن جملتها وادي الشقرة» (٤٦٧). وقال صاحب الجواهر (قده) : «بل يؤيده أيضاً تعليل الصادق (عليه السلام) ، النهي عن الصلاة فيه في موثق عَمّار (بأنّ فيه منازل الجن) ، اللهم إلا أن يكون المراد أنهم ينزلون في كل مكان فيه شقائق النعمان ، وهو المراد من وادي الشقرة ، كما عن بعض أصحابنا ، ويؤيده التسامح في أمر الكراهة ، وظهور كون السبب مشغولية القلب ، لكن يمكن كونه المكان المخصوص ، وإن قلنا بعموم الكراهة لذلك ، والأمر سهل» (٤٦٨).

٣ ـ البَيْدَاء :

ذكرها المؤرخون والباحثون بالتعاريف التالية :

ـ قال ياقوت : «إسم لأرض ملساء بين مكة والمدينة ، وهي إلى مكة أقرب ، تُعدُّ من الشّرَف أمام ذي الحليفة» (٤٦٩). وبعد هذا التعريف عَلّق المقدّم عاتق البلادي : «وفيما تقدم خلط من ياقوت رحمه الله ، وإلا كيف تكون البيداء إلى مكة أقرب ، ثم تعد من الشّرَف أمام ذي الحليفة ، الذي هو حد حرم المدينة؟» (٤٧٠).

__________________

(٤٦٧) ـ ابن إدريس ، الشيخ أبو جعفر محمد بن منصور : كتاب السرائر ، ج ١ / ٤٦٥.

(٤٦٨) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٨ / ٣٥٠ ـ ٣٥١.

(٤٦٩) ـ الحموي ، ياقوت : معجم البلدان ، ج ١ / ٥٢٣.

(٤٧٠) ـ البلادي ، المقدّم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ١ / ٢٦٤.

٢٤٤

ـ وقال المقدم عاتق البلادي : «هي تلك الأرض الجرداء التي تخرج فيها من ذي الحُلَيْفَة جنوباً ، ولم تعد اليوم جرداء ، فقد أنشئت فيها عمائر : إحداها لمعهدٍ تابع لوزارة المعارف ، وبعض معسكرات في طرفها الشمالي ، وستدخل حتماً في عمران المدينة» (٤٧١).

وقال أيضاً : «ومن يرى البيداء وذا الحليفة على الطبيعة ؛ يعرف أنّ ذا الحليفة يقع في طرف البيداء مما يلي المدينة» (٤٧٢). وقال السيد أحمد الخيّاري : «وهي صحراء واسعة تقع في الجنوب الغربي من المدينة المنورة ، على بُعد تسعة كيلومترات تقريباً ، البيداء لا ينبت فيها الشجر. والبيداء يفصلها الطريق المؤدي إلى جدة ومكة المكرمة إلى قسمين : جنوبي وشمالي ، وأول البيداء عند آخر ذي الحليفة (المحرم) ، ونهايتها عند الجبال التي خلف محطة (الترنك) التليفون» (٤٧٣). وقال السيد محمد صالح البحراني : «موضع على ميل من ذي الحليفة مما يلي مكة دون الحفيرة بثلاثة أميال ، يُخْسَف فيها بجيش السفياني ، وتسمى بذات الجيش» (٤٧٤). وبعد ذكر هذه التعاريف ، نذكر التعريف الذي ذكرته الروايات ، وأهمها رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قلت لأبي الحسين عليه السلام : (إنّا كنّا في البيداء في آخر الليل ، فتوضأت واستكت ، وأنا أهِمّ بالصلاة ثم كأنّه دخل قلبي شيء ، فهل يُصلّى في البيداء في المحمل؟ فقال : لا تصلّ في البيداء. فقلت : وأين حَدّ البيداء؟ فقال : كان جعفر عليه السلام إذا بلغ ذات الجيش جَدّ في السير ، ثم

__________________

(٤٧١) ـ المصدر السابق / ٢٦٣.

(٤٧٢) ـ نفس المصدر / ٢٦٥.

(٤٧٣) ـ الخيّاري ، السيد أحمد ياسين : تاريخ معالم المدينة المنورة / ٢٤٠.

(٤٧٤) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة ، ج ٣ / ٨٤.

٢٤٥

لا يصلي حتى يأتي مُعَرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قلت : وأين ذات الجيش؟ فقال : دون الحفيرة بثلاثة أميال) (٤٧٥).

إيضاح وبيان :

أ ـ مُعَرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

ذكر المقدّم عاتق البلادي في معجمه : «قال ياقوت : مسجد ذي الحُلَيْفَة : على ستة أميال من المدينة ، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُعرِّس ثم يرحل لغزاة أو غيرها ، والتَعرِّس : نومة المسافر بعد إدلاجه من الليل ، فإذا كان وقت السحر أناخ ونام نومة خفيفة ، ثم يثور من إنفجار الصبح لوجهته. قلت : وهي بلدة ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ومن مَرّ بها ، على (٩ أكيال) جنوب المدينة على طريق مكة ، وتعرف ببيار علي» (٤٧٦).

ب ـ الحُفَيرَة :

قال المقدم عاتق البلادي : «حَفِير ، بالفتح ثم الكسر : وهو القبر في اللغة. قال ياقوت : وهو موضع بين مكة والمدينة ، قال :

لسلامة دار الحفير كبا

في الخلق والسحق ، قفار

الحُفَير : بلفظ التصغير أيضاً ، قال : ياقوت : منزل بين ذي الحُلَيْفَة ومَلَل يسلكه الحاج. وقد تقدم باسم الحَفِير غير مصغر» (٤٧٧).

__________________

(٤٧٥) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد بن الحسن : وسائل الشيعة ، ج ٥ / ١٥٥ (باب من أبواب مكان المصلي ـ الحديث ١).

(٤٧٦) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٨ / ١٩٥.

(٤٧٧) ـ نفس المصدر ، ج ٣ / ٣٥ ـ ٣٦.

٢٤٦

أقول : ما ذكره المقدم عاتق البلادي تصحيف للحفيرة ، ويؤيد ذلك ما ذكره السمهودي : «وقال أبو عبد الله محمد بن أحمد الأسدي ، في وصف الطريق بين مكة والمدينة : إنّ من ذي الحُلَيْفَة إلى الحفيرة ستة أميال» (٤٧٨).

وبعد دراسة ما تقدم ؛ نخرج بالنتيجة التالية :

مما تقدم نستفيد أنّ الروايات ذكرت البيداء وعَبّرَت عنها ذات الجيش ، ومهما إختلف الأسماء وطرأت عليها تصحيفات في تسميتها على مَرّ العصور ، إلا أنّ البقعة المذكورة في الروايات محددة على نحو الإجمال ، ومعروفة وإن كان تحديدها غير دقيق.

٤ ـ صُلاصُل :

ذكر الباحثون في تعريفها ما يلي :

قال السيد أحمد الخيّاري : «صُلصل يبدأ على بُعد سبعة أميال من المدينة المنورة ، ويقال فيه صُلصلان بالتثنية إذا قطعت ميلاً من البيداء التي بعد المحرم (آبار علي) ، فهناك صلصل يبدأ وبه نزول التميم على الراجح من القول» (٤٧٩).

وقال المقدم عاتق البلادي : «صُلْصُل : هو الحزم الذي تطؤه بعد ذي الحليفة على طريق مكة قبل مفرجات (ذات الجيش) ، ويسمى أيضاً صمد الظمأ» (٤٨٠).

__________________

(٤٧٨) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٩٩.

(٤٧٩) ـ الخيّاري ، السيد أحمد ياسين : تاريخ معالم المدينة المنورة / ٢٤٠.

(٤٨٠) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ١٦٠.

٢٤٧

وقال أيضاً : «مُفَرِّحَات : ريمان جنوب المدينة على (٢٤ كيلاً يأخذها طريق مكة ، ترى منها منائر المدينة المنورة. فسموها كذلك لفرحهم عند وصولها برؤية المدينة ، يَنقضّ منها شمالاً شرقياً وادي ذات الجيش الذي يعرف اليوم باسم الشّلَبيّة ، وجنوباً وادي تربان إلى مَلَل» (٤٨١).

وقال السيد محمد صالح البحراني : «ذات الصلاصل : وهي أرض إختلط رملها بالطين وله صلصلة ؛ موضع بين الحرمين. وقيل : هو اسم الذي أهلك الله فيه النمرود» (٤٨٢).

وبعد ذكر هذه التعريفات ؛ نستنتج ما يلي :

أولاً ـ عَبّر الباحثون الحجازيون عن (صُلاصُل) بـ(صُلصُل ، وصُلصُلان) وهذا لا يُغير الواقع ؛ إذ حدوث مثل التصحيفات وطلب الخفة وكثرة إستعمال الكلمة كثير في أسماء البقاع ، المهم أنّ الجميع يتفق على حدود البقعة ولو على نحو الإجمال.

ثانياً ـ الملاحظ أنّ المقدم عاتق البلادي ، تارة يُعبر عن (ذات الجيش) بالمُفرّحات ، وتارة يُعبّر عن وادي ذات الجيش بـ(الشَّلَبيَّة). وعَرّف الشَّلَبِيَّة بـ : «تلعة كبيرة شبة وادٍ ، وكانت تعرف بذات الجيش تسيل من ثنايا مفرحات شرقاً ، فتدفع في أبي كَببِير أحد روافد عقيق المدينة من الغرب ، يمر الطريق إلى مكة في قسم منها ، وهناك قرب الطريق (بئر جابر) ربما تكون هي (الحَفِير)

__________________

(٤٨١) ـ المصدر السابق ، ج ٨ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٤٨٢) ـ البحراني ، السيد محمد صالح الموسوي : النمارق الفاخرة ، ج ٣ / ٨٤.

٢٤٨

ورأس الشَّلَبِيَّة ريع المنجور أحد ثنايا مفرحات ، ويقاسمها الماء من الجهة الأخرى وادي تربان ، فيذهب إلى مَلَل» (٤٨٣).

والمتأمل في كلامه كأنّما يفرِّق بين ذات الجيش ، ومُفرِّحات ، ووادي ذات الجيش «الشَّلَبِيَّة» ، ومن تأمل ذلك لاحظ أنهما تحديدات لمنطقة واسعة خلاصتها : أنّ البيداء وذات الجيش والشَّلَبِيَّة والمُفَرِّحَات أسماء لهذه البقعة لا أنها مختلفة ومتغايرة ، ومن الشواهد على هذه الدعوى ما يلي :

قال السمهودي : «وقال المطري : هي وسط البيداء ، والبيداء هي التي إذا رَحَل الحُجّاج من ذي الحُلَيْفَة استقبلوها مُصْعِدين إلى جهة الغرب ، وهي على جادة الطريق» (٤٨٤). ـ إلى أن قال ـ : «وهو موافق لقول من قال : ذات الجيش وادٍ بين ذي الحليفة وتربان : فأطلق اسمها على الوادي التي هي فيه» (٤٨٥).

ثالثاً ـ ما ذكره السيد محمد صالح البحراني من الترعيف ؛ يلاحظ عليه ما يلي :

١ ـ «ذات الصلاصل : وهي أرض إختلط رملها بالطين وله صلصلة» إنّ هذا التعريف سبقه به صاحب السرائر والمنتهى والشهيد. قال صاحب الجواهر (قده) : «فما عن السرائر والمنتهى من تفسير ذات الصلاصل بأنّها : الأرض لها صوت ودوي. وعن الشهيد من أنّه : الطين الحر المخلوط بالرمل ، فصار صلصالاً إذا جَفّ ؛ أي يصوت. إن كان المراد به التعميم لكل أرض كذلك فلا يخلو من إشكال أو منع ، وإن كان المراد به وجه المناسبة ، وبيان الأصل فلا بأس به» (٤٨٦).

__________________

(٤٨٣) ـ البلادي ، المقدم عاتق بن غيث : معجم معالم الحجاز ، ج ٥ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٤٨٤) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن أحمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٩٨.

(٤٨٥) ـ نفس المصدر / ٩٩.

(٤٨٦) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٨ / ٣٥٠.

٢٤٩

٢ ـ وقيل : «هو اسم الذي أهلك الله فيه النمرود». أخذ هذه العبارة من صاحب الجواهر (قده) وهي قوله : «بل قيل : إنّ ذات الصلاصل إسم الموضع الذي أهلك الله فيه النمرود» (٤٨٧). وهذا قول مجهول قائله ، ولم يعرف مستنده ودليله؟

٥ ـ بَابِل :

«مدينة قديمة في أواسط ما بين النهرين ، تقع أنقاضها على الفرات ، قرب الحِلّة على مسافة (٨٠ كم) ، جنوب شرق بغداد» (٤٨٨). إمتنع أمير المؤمنين عليه السلام عن الصلاة فيها لما مَرّ بها في طريقه إلى النهروان حتى قطعها ، فغابت الشمس ، فدعا لاله فرجعت الشمس إلى موضعها وقت الصلاة ، وأدى الصلاة فغابت.

ويضاف إلى هذه البقاع (بَرَهُوت) :

قال الحموي : «بَرَهُوت : بضم الهاء ، وسكون الواو وتاء فوقها نقطتان : وادٍ باليمن يوضع فيه أرواح الكفار. وقيل : برهوت بئر بحضر موت. وقيل هو السم للبلد الذي فيه هذه البئر ... وروي عن علي رضي الله عنه ـ أنّه قال : (أبغض بقعة في الأرض إلى الله عَزَ وجَلّ وادي برهوت بحضر موت ، فيه أرواح الكفار ، وفيه بئر ماؤها أسود منتن تأوي إليه أرواح الكفار) ، وعنه أنّه قال : (شَرُّ بئرٍ في الأرض بئر بلهوت في برهوت ، تجتمع فيه أرواح الكفار)» (٤٨٩).

ب ـ المرحومات :

وهي البقاع التي ورد مدحها كما في الروايات التالية :

__________________

(٤٨٧) ـ المصدر السابق.

(٤٨٨) ـ اليسوعي ، فردينان توتل : المنجد في الأعلام / ١٠٦.

(٤٨٩) ـ الحموي ، شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت : معجم البلدان ، ج ١ ، ٤٠٥.

٢٥٠

١ ـ عن أبي هاشم الجعفري ، عن أبي الحسن الثالث عليه السلام : (إنّ الله عَزّ وجَلّ جعل من أرضه بقاعاً تسمى المرحومات ، أحبّ أن يدعى فيها فيجيب ، وإنّ الله عَزّ وجَلّ جعل من أرضه بقاعاً تسمى المنتقمات ، فإذا كسب رجل مالاً غير حِلّه ؛ سَلّط عليه بقعة منها فأنفقه فيها) (٤٩٠).

٢ ـ عبد الله بن بكير ـ في حديث طويل ـ قال : قال أبو عبد الله : (يا ابن بكير ، إنّ الله إختار من بقاع الأرض ستة : البيت الحرام ، والحرم ، ومقابر الأنبياء ، ومقابر الأوصياء ، ومقاتل الشهداء ، والمساجد التي يذكر فيها اسم الله) (٤٩١).

وبعد هذا التمهيد ؛ إتضحت لنا البقاع المعروفة بالقداسة والطهارة ، وأنّها خير مكان للعبادة واستجابة الدعاء ؛ ولذا نرى جمعاً من العلماء ، يسكنون هذه البقاع طلباً للبركة ، والوسيلة إلى الله عَزّ وجَلّ ، بل هذه سيرة المسلمين منذ بداية العصر الإسلامي إلى يومنا هذا ، فقد إعتنى المسلمون بمسألة المجاورة في إحدى هذه البقاع : مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ـ وهي محل إتفاق بين المسلمين ـ ، والنجف الأرض ، والكوفة ، وكربلاء ، وطوس وقم ، وباقي مراقد الأئمة عليهم السلام ، عند الإمامية ، وسيتم بحث مسألة المجاورة حسب التفاصيل الآتية :

١ ـ تعريف المجاورة :

جَاوَرَ مُجَاوَرَة وجوَاراً وجُوَاراً : أقام قرب مسكنه ، ساكنه ، والمسجد إعتكف فيه.

__________________

(٤٩٠) ـ الحر العاملي ، الشيخ محمد حسن : وسائل الشيعة ، ج ٣ / ٥٧٠ (باب ٨ من أبواب أحكام المساكن ـ حديث ٣).

(٤٩١) ـ المجلسي ، الشيخ محمد باقر : بحار الأنوار ، ج ٩٨ / ٦٦.

٢٥١

وجَارَ جوَاراً : طلب أن يجار ؛ أي يغاث. وأجار فلاناً : أغاثه (٤٩٢).

«وفي الدعاء : (يا مَنْ يُجيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ؛ أي ينقذ من هرب إليه ولا يُنقذ أحدٌ ممن هرب منه. وأجاره الله من العذاب ؛ أنقذه. و (المستجار) من البيت الحرام : هو الحائط المقابل للباب دون الركن اليماني ؛ لأنّه كان قبل تجديد البيت هو الباب ، سمي بذلك ؛ لأنّه يستجار عنده بالله من النار» (٤٩٣).

وفي دعاء الإمام السجاد : «واجعل في ذلك اليوم مع أوليائك موقفي ، وفي أحبائك مصدري ، وفي جوَارِك مسكني ، يا رب العالمين». والمراد بجواره تعالى حضرته المقدسة التي ليست بمكان ولا زمان ، بل هي قرب معنوي وعِنْدِيّه روحانية ؛ وهي المشار إليها بقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (٤٩٤) ، ويُعبر عنها بالجنة النورانية الروحانية. وختم الدعاء بقوله عليه السلام : (يا رَبَّ الْعالَمينَ) ؛ أي مالك أمرهم ومبلغهم إلى كمالهم اللائق لمزيد إستدعاء الإجابة ، فإنّ من كان ذلك شأنه وصفته ؛ كان من شأنه إفاضة ما فيه صلاح المربوب ، حتى ينتهي به إلى أقصى غاية الكمال ، وأشرف المراتب والأحوال والله أعلم» (٤٩٥).

وبعد عرض ما تقدم من معنى المجاورة لغة ، وما ترتب على ذلك من الشواهد القرآنية ؛ تبين لنا أنّ النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأهل بيته الكرام عليهم السلام ، هم أقرب الخلق وأفضلهم لديه ، وهم وسيلتنا إليه كما قال تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ

__________________

(٤٩٢) ـ اليسوعي ، لويس معلوف : المنجد في اللغة / ١٠٩.

(٤٩٣) ـ الطريحي ، الشيخ فخر الدين : مجمع البحرين ، ج ٣ : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

(٤٩٤) ـ القمر / ٥٥.

(٤٩٥) ـ المدني ، السيد علي خان : رياض السالكين ، ج ٧ / ٤١٠.

٢٥٢

الْوَسِيلَةَ) [المائدة / ٣٥]. ومن مصاديق الوسيلة والقرب إلى الله مودتهم وموالاتهم ، ففي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : (يا عليّ ، من أحبّك وتولّاك أسكنه الله معنا في الجنة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ) (٤٩٦) [القمر / ٥٤ ـ ٥٥]. ومن أهم مصاديق الوسيلة مجاورتهم في تلك البقاع الطاهرة ، وبعد هذا التوضيح يمكن تعريف المجاورة بما يلي :

هي سكنى البقاع المقدسة ، والمراقد الطاهرة ، أو الدفن فيها ، طلباً للنجاة والأمان في الدنيا والبرزخ والآخرة.

٢ ـ أقسام المجاورة :

يمكن تقسيم المجاورة إلى قسمين كالتالي :

القسم الأول ـ سكنى البقعة المقدسة :

إعتنى المسلمون بهذا القسم من المجاورة ، إعتماداً على بعض الروايات التي حثت على سكنى هذه البقاع ، لما فيها من القداسة حسب التفصيل الآتي :

أ ـ عند العامة :

بحث علماء العامة هذه المسألة ، وجعلوا موضوعها مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، كما في الأقوال التالية :

الأولى ـ كراهة سكنى مكة :

ذهب الشعبي ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ـ كما في وفاء الوفاء ـ إلى ما يلي :

__________________

(٤٩٦) ـ البحراني ، السيد هاشم : البرهان في تفسير القرآن ، ج ٧ / ٣٨٠.

٢٥٣

«وعن الشعبي أنّه كان يكره المقام بمكة ويقول : هي دار أعرابية هاجر منها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وقال : ألا يفتي حبيب نفسه يجاور مكة ، وهي دار اعرابية. وقال عبد الرزاق في مصنفه : كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ يحجون ثم يرجعون ، يعتمرون ثم يرجعون ولا يجاورون» (٤٩٧).

الثاني ـ كراهة سكنى مكة والمدينة :

نسب هذا القول إلى النووي في شرح مسلم ـ كما ذكر السمهودي ـ : «لكن إقتضى كلام النووي في شرح مسلم حكاية الخلاف فيها ، وكأنّه قاس المدينة على مكة من حيث إنّ عِلّة الكراهية ـ وهي خوف الملل وقلّة الحرمة للأنس وخوف ملابسة الذنوب ؛ لأنّ الذنب بها أقبح ـ نحوه موجود في المدينة ، ولهذا قال : المختار أن المجاورة بهما جميعاً مستحبة ، إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في المحذورات المذكورة» (٤٩٨).

الثالث ـ إستحباب سكنى المدينة :

قال السمهودي : «وبالجملة فالترغيب في الموت في المدينة لم يثبت مثله لغيرها ، والسكنى بها وصلة إليه ؛ فيكون ترغيباً في سكناها تفضيلاً لها على غيرها ، وإختيار سكناها ، هو المعروف من حال السلف ، ولا شك أنّ الإقامة بالمدينة في حياته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفضل إجماعاً ، فنستصحب ذلك بعد وفاته ، حتى يثبت إجماع مثله يرفعه» (٤٩٩).

__________________

(٤٩٧) ـ السمهودي ، نور الدين علي بن احمد : وفاء الوفاء ، ج ١ / ٥٠.

(٤٩٨) ـ نفس المصدر / ٥١.

(٤٩٩) ـ نفس المصدر ، ج ١ / ٥٠.

٢٥٤

وقال الزركشي : «إنّ الظاهر ضعف الخلاف في المدينة ؛ أي لما قدمناه من الترغيب فيها ؛ ولأنّ كل من كره المجاورة بمكة ، إستدل بترك الصحابة الجوار بها ، بخلاف المدينة فكانوا يحرصون على الإقامة بها ـ إلى أن قال ـ وهذا كله متضمن للحث على سكنى المدينة ، وتفضيله على سكنى مكة ـ وهي جدير بذلك ـ ؛ لأنّ الله تعالى إختارها لنبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ قراراً ، وجعل أهلها شيعة له وأنصاراً ، وكانت لهم أوطاناً ، ولو لم يكن إلا جواره (صلى الله عليه وآله وسلم) بها ، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ما زال جبريل يوصيني بالاجر) الحديث ولم يخصّ جاراً دون جار ، ولا يخرج أحد عن حكم الجار وإن جار ؛ ولهذا إخترتُ تفضيل سكناها على مكة ، مع تسليم مزيد المضاعفة لمكة ؛ إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك ، فتلك لها مزية العدد ، ولهذه تضاعف البركة والمدد ، ولتلك جوار بيت الله ، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله ، وسرّ الوجود والبركة الشاملة لكل موجود» (٥٠٠).

ب ـ عند الإمامية :

إنّ عنوان المجاورة عند الشيعة الإمامية أوسع من غيرهم ؛ حيث يشمل مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، وباقي البقاع المقدسة ، وقد بحثها الفقهاء كالتالي :

١ ـ مكة المكرمة :

إختلف الفقهاء في المجاورة بمكة المكرمة على قولين :

الأول ـ الإستحباب :

قال الفاضل المقداد (قده) : «والأصح إستحباب المجاورة بها للواثق من نفسه بعدم هذه المحذورات ، وبه يجمع بين الروايات الدالة على الإستحباب

__________________

(٥٠٠) ـ المصدر السابق / ٥٢.

٢٥٥

والكراهية. وفهم من قال : إن جاور للعبادة استحبت ، وإن جاور للتجارة كره ، وهو جمع حسن بين الروايات» (٥٠١).

وقال الشهيد الثاني (قده) : «وهذه الأخبار تدل على إستحباب الإقامة فيتعارض الأخبار ظاهراً ، وجمع الشهيد (رحمه الله) ، وجماعة بينها بحمل الكراهية على من لا يأمن وقوع لهذه المحذورات منه ، والإستحباب للواثق من نفسه بعدمها. ويشكل بأنّ بعضها غير إختياري ، كالتأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، وكونه أخرج منها كرهاً. وجمع آخرون بحمل الأخبار الأخيرة على المجاورة لأجل العبادة ، والأولى على المجاورة لا لها كالتجارة.

وهو حسن مع الوثوق بعدم الملل والإحترام ، وملابسة الذنب ونحوه» (٥٠٢).

الثاني ـ الكراهة :

قال الفاضل المقداد (قده) : «هنا سؤال : مكة أشرف البقاع لتظافر الروايات بذلك ، فلا يتناسب كراهة المجاورة بها؟

جواب : الكراهية ليست باعتبار نفس المجاورة بل بإعتبار آخر ، وذُكِرَ وجوه :

١ ـ خوف الملالة وقلّة الإحترام.

٢ ـ حذر ملابسة الذنب ، فإنّ الذنب بها أعظم ، قال الصادق (عليه السلام) : (كل الظلم فيه إلحاد حتى ضرب الخادم) ، قال : ولذلك كره الفقهاء سكنى مكة.

__________________

(٥٠١) ـ السيوري ، الشيخ مقداد بن عبد الله : التنقيح الرّائع لمختصر الشرائع ، ج ١ / ٥٢١.

(٥٠٢) ـ الشهيد الثاني ، الشيخ زين الدين بن علي العاملي : مسالك الأفهام ، ج ٢ / ٣٨٠.

٢٥٦

٣ ـ ليدوم شوقه إليها أشرع خروجه منها ، ولهذا ينبغي الخروج منها عند قضاء المناسك.

٤ ـ روي أن المقام بها يقسي القلب (٥٠٣).

وقال الشهيد الثاني (قده) : ـ شارحاً عبارة الشرائع ـ «ويكره المجاورة بمكة» ـ بمعنى الإقامة بها بعد قضاء المناسك وإن لم يكن سنة ، وكلاهما مروي في الصحيح ، ومع الثاني أنّه المتعارف ، وقد عُلّل ذلك بوجوه كلها مروية :

الأول ـ أنّ المقام بها يقسي القلب ، رواه الصدوق في العلل ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : (إذا قضى أحدكم نسكه ؛ فليركب راحلته وليلحق بأهله ، فإنّ المقام بمكة يقسي القلب).

الثاني ـ مضاعفة العذاب بسبب ملابسة الذنب فهيا ، فقد روي فيه أيضاً بإسناده إلى أبي الصباح الكناني ، قال : (سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عَزّ وجَلّ : (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (٥٠٤). فقال (عليه السلام) : كل ظلم يظلم فيه الرجل نفسه من سرقة ، أو ظلم أحد ، أو شيء من الظلم فإني أراه إلحاداً حتى ضرب الخادم ، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم)/.

الثالث ـ خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) منها قهراً وعدم عوده إليها إلا للنسك ، وإسراعه الخروج منها حين عاد ، روى ذلك أيضاً عنه (عليه السلام) : (أنّه كره المقام بمكة ، وذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله

__________________

(٥٠٣) ـ السيوري ، الشيخ مقداد بن عبد الله : التنقيح الرائع لمختصر الشرائع ، ج ١ / ٥٢٠ ـ ٥٢١.

(٥٠٤) ـ الحج / ٢٥.

٢٥٧

وسلّم) أخرج عنها ، ويقسو قلبه حتى يأتي في غيرها) .. وروى محمد بن مسلم ، عن الباقر (عليه السلام) قال : (لا ينبغي للرجل أن يقيم بمكة سنة ، قلت : كيف أصنع؟ قال : يتحول عنها إلى غيرها).

وعلل أيضاً بخوف الملالة وقلّة الإحترام ، وليدون شوقه إليها ، وهو منقوض بالمدينة ، فإنّ المجاورة بها مستحبة مع وجود العلل فيها؟ إلا أن يقال : إنّ ذلك في مكة أزيد بسبب زيادة المشقة في الإقامة بها ـ إلى أن قال ـ وإن كان المشهور الكراهة مطلقاً» (٥٠٥).

٢ ـ المدينة المنورة :

قال صاحب الجواهر (قده) : «لا خلاف ولا إشكال في أنّه (تستحب المجاورة بها) ؛ أي بالمدينة ، بل في الدروس الإجماع عليه ؛ للتأسي ، ولما ورد في مدحها ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها ، ولما نستتبعه من العبارات فيها» (٥٠٦).

٣ ـ كربلاء المقدسة :

وردت الروايات الكثيرة في فضل هذه البقعة الطاهرة ، كما أنّ جمعاً من العلماء والأتقياء سكنوا كربلاء ، ومن أوائل من سكن كربلاء ؛ هو السيد ابراهيم المجاب ، وقد كانت الحوزة العلمية في كربلاء لفترة من الزمن ، ومع هذا فإنّ العلماء إختلفوا في سكنى كربلاء على قولين :

الأول ـ الإستحباب :

وقد أشار إلى هذا الشيخ المامقاني (قده) : «ولعلّ ما يظهر منه فضل السكنى بها مختص بمن لسكناه مدخل في عمارة القبر ، وكان سكناً له

__________________

(٥٠٥) ـ الشهيد الثاني ، الشيخ زين الدين بن علي العاملي : مسالك الإفهام ، ج ٢ / ٣٧٩ ـ ٣٨١.

(٥٠٦) ـ النجفي ، الشيخ محمد حسن : جواهر الكلام ، ج ٢٠ / ١٠٣.

٢٥٨

للزيارة ، وكان من أهل التقوى والعبادة ، دون من اتخذه وطناً يرتكب فيها ما يرتكب في ساير البلاد من المحرمات والمكروهات ـ أعاذنا الله تعالى من ذلك ـ فإنّ الذنب في الأمكنة الشريفة ، أشدّ خطراً وأعظم عقوبة منه في ساير الأمكنة ، فالله الله في ذلك» (٥٠٧).

الثاني ـ الكراهة :

قال الشيخ المامقاني (قده) : «ولكن مع ذلك فقد ورد النهي عن إتخاذها وطناً ، فعن مولانا الصادق (عليه السلام) أنه قال : (إذا زرت الحسين ؛ فزره وأنت مكروب ، وأشعت مغبر جائع عطشان ، فإنّ الحسين قتل حزيناً ومكروباً شعتاً مغبراً جائعاً عطشاناً ، واسأله الحوائج وانصرف عنه ، ولا تتخذه وطناً» (٥٠٨).

القسم الثاني ـ الدفن فيها :

إنّ مسألة الدفن في جوار أحد المعصومين عليهم السلام ، أو النقل إلى مشاهدهم المشرفة ، من المسائل التي دارت حولها المناقشات بين مؤيّد ومعارض ، وقد أشار إلى ذلك الشيخ ال أميني (قده) بقوله : «لقد كثرت الجبلة واللغط حول هذه المسألة من أناس جاهلين بمواقع الأحكام ، ذاهلين عن مصار الفتيا ، حسبوا أنّها مختصات الشيعة فحسب ، ففوّقوا إليهم نبال الطعن ، وشنُّوا عليهم الغارات ، وهناك أغرار تصدّوا للدفاع ـ وهم مشاركون لأولئك في الجهل أو الذهول ـ بأنّها من عمل الدهماء ، فلا يُحتجُّ بها على المذهب أو العلماء ، وآخر حَرّف الكلم عن مواضعه إبتغاء إثبات أمنيّته ، ولكن وراء الكل حُذّاق

__________________

(٥٠٧) ـ المامقاني ، الشيخ عبد الله : مرآة الكمال ، ج ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٥٠٨) ـ نفس المصدر / ٢٥٩.

٢٥٩

البحث كشفوا عن تلك السوءات» (٥٠٩) وبعد هذا ، سنعرض هذه المسألة على البحث ، ليتضح لنا رأي علماء المسلمين فيها كالتالي :

أ ـ عند العامة :

أما آراء علماء العامة ؛ فهي كالتالي :

١ ـ المالكية ـ قالوا : يجوز نقل الميت قبل الدفن وبعده من مكان إلى آخر بشروط ثلاثة :

أولها ـ أن لا ينفجر حال نقله.

ثانيها ـ أن لا تهتك حرمته ، بأن ينقل على وجه يكون فيه تحقير له.

ثالثها ـ أن يكون نقله لمصلحة ، كأن يخشى من طغيان البحر على قبره ، أو يراد نقله إلى مكان قريب من أهله ، أو لأجل زيارة أهله إياه ، فإن فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة حرم النقل.

٢ ـ الحنفية ـ قالوا : يستحب أن يدفن الميت في الجهة التي مات فيها ، ولا بأس بنقله من بلدة إلى أخرى قبل الدفن عند أمن تغير رائحته ، أما بعد الدفن فيحرم اخراجه ونقله ، إلا إذا كانت الأرض التي دفن فيها مغصوبة ، أو أخذت بعد دفنه بشفعة.

٣ ـ الشافعية ـ قالوا : يحرم نقل الميت قبل دفنه من محلّ موته إلى آخر ليدفن فيه ولو أمن تغيره ، جرت عادتهم بدفن موتاهم في غير بلدتهم ، ويستثنى من ذلك من مات في جهة قريبة من مكة ، أو المدينة المنورة ، أو بيت المقدس ، أو قريباً من مقبرة قوم صالحين ، فإنه يسنّ نقله إليها إذا لم يخش تغير رائحته ، وإلا حرم ، وهذا كله إذا كان قديم غسله وتكفينه

__________________

(٥٠٩) ـ الأميني ، الشيخ عبد الحسين : الغدير ، ج ٥ / ٦٦.

٢٦٠