نشر المحاسن اليمانيّة

ابن الديبع الشيباني الشافعي

نشر المحاسن اليمانيّة

المؤلف:

ابن الديبع الشيباني الشافعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

ومنهم الفقيه العارف محيي العلوم والمعارف ، شمس الدين علي بن صالح الحسني كانت إقامته في قراعة في بلد الحقيبة (٨٠) ، كان إماما عارفا مدرسا في الجهة الوصابية ، تفقه عليه جماعة من علماء وصاب.

ومنهم الفقيه المشهور المذكور عبد الرؤوف بن عبد الرؤوف التباعي ، كانت إقامته بالروضة (٨١) قريبا (٨٢) من حصن نعمان (٨٣) ، كان صاحب مقام رفيع وجاه وسيع ، لا يقدر أحد من ولاة وصاب أن يخرج عن طاعته ، ولا يعتذر من قبول شفاعته ، فركن إليه الأنام ، وانتفع به الخاص والعام.

ومنهم الفقيه الفاضل ، الفصيح الكامل ، جمال الدين محمد بن عبد الله الدليفي ، كانت إقامته في المحلّة (٨٤) في بلاد بني حي ، كان فقيها عارفا فصيحا شاعرا ، ما له نظير في وقته ، وهو منسوب إلى بني دليف.

__________________

(٨٠) الحقيبة : حصن في جبل وصاب من أعمال زبيد في اليمن (معجم البلدان ٢ / ٢٧٩) ، وهي حصن في مخلاف بني الحداد من وصاب ، وقال الحجري في مجموع بلدان اليمن : حصن وقرية من عتمة شرق وصاب ويعرف بقلعة بني أسد (البلدان اليمانية ٩٥).

(٨١) الروضة : قرية على بعد ثلاثة أرباع الساعة من صنعاء وهي منتزه أهل صنعاء في موسم الكروم لما اشتهرت به من العنب الجيد ، وقد ذكر القاضي الأكوع في تعليقه رقم ٢ ص ١٥ من (صفة الجزيرة) أن في اليمن ما ينوف على عشرين روضة وهذه أحلاها وينظر فيها أيضا (رحلتي إلى اليمن ص ١٦٢) ، و (تاريخ صنعاء ٦٢٨) ، و (معالم الآثار اليمنية ص ٢٧).

(٨٢) في الأصل : قريب وهو تحريف.

(٨٣) نعمان : حصن في وصاب باليمن من أعمال زبيد (معجم البلدان ٥ / ٢٩٤) ، وهو حصن في وصاب العالي وفي سفحه الجنوبي محل الدّن مركز وصاب ، ويطلق نعمان على المخلاف الذي يقع فيه ، وهو مخلاف بني الحداد (البلدان اليمانية ٢٨٠).

(٨٤) المحلة : بفتح الميم وكسر الحاء : قرية من قرى ذمار بأرض اليمن (معجم البلدان ٥ / ٦٤). وهي قرية عامرة من مخلاف منقذة وأعمال ذمار ، وتبعد عنها شمالا بنحو خمسة عشر كيلومترا تقديرا (البلدان اليمانية ٢٤٦).

٢٢١

وقد ذكرنا ذلك في آخر الفصل الثالث في هذا الباب أن بني دليف ينسبون أنفسهم إلى السكاسك ، وأن السكاسك بطن من بطون كهلان ، ووقفت على حديث رواه الكلاعي بغير إسناد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «اللهم صلّ على السكاسك والسكون وخولان» (٨٥).

فإن صحّ ذلك فياله من شرف ما أعلاه ، ومن جاه ما أوسعه وأولاه ، لأنه خصهم بدعاء الرحمة من بين سائر الأمة ، لأن معنى الصلاة من الله الرحمة ، ومن المؤمنين الدعاء ، ومن الملائكة الاستغفار ، هكذا قال العلماء رحمهم الله تعالى.

ومنهم قطب المقامات العالية والأحوال السامية الفقيه الفاضل ، الولي الكامل ، كمال الدين موسى بن عمر المزنوي (٨٦) ، إقامته في النجادين (٨٧) موضع قريب من حصن ظفران ، صاحب أحوال وكرامات ، ودعوات مستجابات ، اجتمعت به فرأيت فيه من الأخلاق الحميدة ، والآداب المفيدة ، والحياء والمروّة ، والسخاء والفتوة ، ما لم يكن في غيره من أبناء جنسه. أدام الله تعالى به نفع المسلمين. وأعزه بعز طاعته آمين آمين.

ومنهم الفقيه الضابط ، العالم المرابط ، بدر الدين ، عمدة العلماء المفتين. شيخنا وإمامنا وقدوتنا حسن بن عثمان المنبهي (٨٨) ، كانت إقامته في الدوحاء ،

__________________

(٨٥) في (معجم البلدان ٥ / ٦٩) و (البلدان اليمانية ٢٥١) : هم خولان العالية التي ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرق بينها وبين خولان قضاعة فقال : «اللهم صلّ على السكاسك والسكون وعلى الأملوك أملوك ردمان وعلى خولان خولان العالية».

وقد رواه المتقي في (منتخب كنز العمال ٥ / ٣٢٠ ـ ٣٢١) ، عن عمرو بن عبسة قال : «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السكون والسكاسك وعلى خولان العالية ـ وفي لفظ : الغالبة ـ وعلى الملوك ملوك ردمان». وذلك ما رواه عن أبي يعلى في المسند وعن ابن عساكر في تاريخه.

(٨٦) موسى بن عمر المزنوي : معاصر للمؤلف اجتمع به ولم أعثر على ترجمة له.

(٨٧) النجادين : الكلمة غير معجمة ولا واضحة في الأصل ولعلها ما أثبت.

(٨٨) حسن بن عثمان المنبهي : هو من أساتذة المصنف وقد قرأ عليه بعض كتب الفقه والفرائض.

٢٢٢

وكانت له سيرة محمودة ، وفضائل مشهودة / تفقه عليه جماعة من طلبة العلم ، وقرأت عليه عدة كتب من مسموعات الفقه والفرائض ، واستفدت من مذاكرته فوائد جمة ، فجزاه الله عني خيرا ، وعامله باللطف والرحمة. آمين. آمين.

ومنهم الفقيه العابد الزاهد جمال الدين محمد بن مسعود الجهمي كانت إقامته في المحار (٨٩) في جبل الفخار ، كان من الأولياء المعدودين والفقهاء الصالحين ، كثير الصوم والصلوات والأذكار والتلاوات والتخلق بأنواع العبادات والحرص على كسب الحسنات وغفران السيئات ، صاحب جد واجتهاد ومكابدة نوم وسهاد.

ومنهم الفقيه الكبير الفاضل الشهير إمام الأئمة وقدوة الأمة ، تقي الدين عمر بن علي الذيابي (٩٠) ، وهو الذي أسس عمارة الضنجوح ، وبنى المدرسة ، كان فقيها فاضلا صالحا ، متصديا لتدريس العلم وتحصيل الكتب.

أخبرني من أثق به عن القاضي وجيه الدين عبد الرحمن بن عمر الحبيشي (٩١) أنه قال : قرأت البيان (٩٢) في الفقه من أوله إلى آخره على الفقيه العالم تقي الدين عمر بن علي الذيابي ، وكان ختمي له على المصلى تحت الطرة بالعلّانة (٩٣).

__________________

(٨٩) المحار في جبل الفخار : هكذا في الأصل.

(٩٠) عمر بن علي الذيابي سبقت ترجمته في التعليق (٢٤) من هذا الباب.

(٩١) عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن عبد الله بن سلمة الحبيشي ، أبو محمد (... ـ ٧٨٧ ه‍) ـ (... ـ ١٣٨٥ م) : قاض ، من فقهاء الشافعية باليمن ، ولي القضاء في جهة أصاب ، له مصنفات (الأعلام ٣ / ٣١٩ ـ ٣٢٠).

(٩٢) البيان في الفقه ليحيى بن سالم (أبي الخير) ابن أسعد بن يحيى أبو الحسين العمراني (٤٨٩ ـ ٥٥٨ ه‍) ـ (١٠٩٦ ـ ١١٦٣ م) : له تصانيف كثيرة ، توفي بذي سفال في اليمن (غربال الزمان ٤٣٦) و (الأعلام ٨ / ١٤٦).

(٩٣) العلانة : من نواحي ذمار باليمن حصن أو بلد (معجم البلدان ٤ / ١٤٥) وهي قرية عامرة من مخلاف الأتلاء وأعمال ذمار ، وفي عزلة ريمان من مخلاف بعدان وأعمال إب قرية تعرف بالعلانة (البلدان اليمانية ١٩٩).

٢٢٣

ومنهم الفقيه الفاضل ذي المجد الطائل ، قدوة ذوي الألباب ، عمدة الفتوى في وصاب ، إبراهيم بن محمد الزتمي كانت إقامته في الدوحاء ، وكان فقيها تقيا ، صاحب شهرة حميدة ومذاكرة مفيدة ، مات وخلف ولدا فقيها عارفا نبيها ، صاحب بحث وتدقيق واجتهاد وتحقيق ، يسمى محمدا ، فقام مقام والده ، رحمه الله تعالى ، في إصلاح الدنيا والدين ، والتصدي للعلم في نفع المسلمين.

ومنهم الفقيه العارف العلامة ، تقي الدين عمدة المجتهدين ، عمر بن محمد الفتى معيبد (٩٤) ، كان فقيها مجتهدا اختصر مهمات الإسنوي (٩٥) بجزء واحد استوعب فيه جميع ما فيها والتقط زبدها ومعانيها وسماه (مهمات المهمات) ، وصحح ألفاظ (الوجيز) (٩٦) وجملة ما فيه من الأقوال والوجوه ، ومراتب الخلاف ، بجزء مفيد للطالب المستفيد يعترف بفضله من وقف على مجموعاته ، كانت إقامته في زبيد ، ثم خرج مطلوبا إلى الضنجوج بسبب التدريس ، فأقام به ما شاء الله ، ثم انتقل إلى مكان يسمى المشراح قريب من بيت الفقيه الصالح

__________________

(٩٤) عمر بن محمد الفتى معيبد : فقيه اليمن وعالمها ومفتيها ، قرأ في زبيد على الفقيه موسى بن محمد الضجاعي وغيره ، ثم انتقل سنة ٨٢٦ ه‍ إلى بيت الفقيه ، فأخذ عن شيوخها ، ثم ذهب إلى أصاب فسكن قرية المشراح فقصده طلبة العلم ... ودرس في مدارس كثيرة ، وانتفع به الطلاب ، وتفقه عليه كثيرون ، مولده بزبيد (٨٠١ ه‍) ووفاته في صفر (٨٨٧ ه‍) وله مصنفات كثيرة (المدارس الإسلامية في اليمن ٨٢ ـ ٨٣).

(٩٥) مهمات الإسنوي : هي كتاب (المهمات على الروضة) لعبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي أبو محمد ، جمال الدين (٧٠٤ ـ ٧٧٢ ه‍) ـ (١٣٠٥ ـ ١٣٧٠ م) : فقيه أصولي ، من علماء العربية ، ولد باسنا ، وقدم القاهرة سنة ٧٢١ ه‍ ، فانتهت إليه رئاسة الشافعية ، وولي الحسبة ووكالة بيت المال ، ثم اعتزل الحسبة ، له مصنفات (الأعلام ٣ / ٣٤٤) و (بغية الوعاة برقم ١٥١٨ / ص ٩٢ ـ ٩٣). وقد اختصره عمر بن محمد الفتى معيبد بكتاب سماه : مهمات المهمات في اختصار الروضة والمهمات للإسنوي في الفروع (المدارس الإسلامية في اليمن ٨٣).

(٩٦) الوجيز : كتاب الوجيز للغزالي ، وقد نقحه عمر بن محمد بن معيبد السراج المعروف بالفتى ، بكتاب سمّاه الإبريز في تصحيح الوجيز للغزالي في الفروع (المدارس الإسلامية ٨٣).

٢٢٤

وجيه الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الثابت صاحب الدارات ، وصارت إقامته هناك إلى وقت هذا التاريخ.

ومنهم الفقيه الفاضل ، العالم العامل ، المشهور بالصلاح والكرامات وخوارق العادات ، صاحب الجاه الوسيع والمقام السامي / الرفيع عماد الدين قدوة المسلمين ، يحيى بن عمر بن عثمان الذيابي (٩٧) صاحب الضنجوج ، فقيها صوفيا عالما مربيا سلك طريق الصلحاء المتقدمين ، وفاق على أبناء جنسه من المتأخرين بالعلم والعبادة ، والورع والزهادة ، والذكاء والمروّة والسخاء والفتوّة ، اتفقت بيني وبينه صحبة وأخوة في الله عز وجل ، في أيام البداية والاشتغال بالعلم الشريف ، وحصل لي منه إشارات وبركات ودعوات صالحات.

قرأ على جماعة من العلماء العارفين ، منهم الفقيه العالم بدر الدين حسن بن عثمان المنبهي ، ومنهم الفقيه العالم تقي الدين عمر بن موسى العلوي الشمسي ، ومنهم الفقيه العالم تقي الدين عمر بن مسعود البهكني (٩٨) ، ومنهم الفقيه برهان الدين ، أبو محمد بن إبراهيم الجرمي.

كانت له (٩٩) همة علمية في مطالعة علوم الصوفية ، فتربى بمطالعتها واستفاد ، وبلغ غاية المراد ، وصحب بعضهم ، واكتسب منه الأخلاق والآداب ، وصار قدوة لذوي الألباب ، وقد قلت في صفاته الحميدات هذه الأبيات : [الطويل]

__________________

(٩٧) يحيى بن عمر بن عثمان الذيابي : هو في (العسجد المسبوك ٥١٧) : الشيخ الصالح يحيى بن عمر الريابي صاحب الضنجوج ، أقام عنده مستجيرا به الملك المظفر الصغير يوسف بن الملك المنصور عمر بن الملك الأشرف إسماعيل بن العباس عند نفوره من ابن عمه المنافس له في الملك.

(٩٨) البهكني : هكذا في الأصل ، وربما كان تحريفا عن (البهكلي) فهناك في اليمن في المخلاف السليماني أسرة آل (البهكلي) ومنها المؤرخ علي بن عبد الرحمن بن حسن البهكلي (الأعلام ٤ / ٢٩٩).

(٩٩) كانت له : أي ليحيى بن عمر بن عثمان الذيابي المتقدم ذكره.

٢٢٥

بربك يا طرسي (١٠٠) إذا جئت منبرا

بمدرسة الضّنجوج دار الأحبة

لدى المنظر الشرقي بشقّ يمانيّ

عليه عماد الدين تاج الأئمة

فقبّل بساط الأرض من باب قبلة

إلى المنظر المذكور تقبيل خدمة

مواضع سجّاد وحيث تلاوة

وترتيله للذكر بعد الفريضة

وباطن أقدام خطاها تكرّرت

هناك فقبّلها تنل كلّ رفعة

وقل جئت من عند الرّميلي مبادرا

محبّكم الدّاعي شروط المحبة

بعثني إليك الآن يا أرفع الورى

مقاما وأوفاهم بشرط الأخوّة

يخصّك بالتسليم في الصبح والمسا

ويهوى اللقا في كلّ يوم وليلة

ولكن أعاقته المعيقات ، والقضا

على الآدمي يجري بحكم المنية

وفي قلبه شوق إليكم ولوعة

بأحشائه زادت على كلّ لوعة

فيا نعم يحيى (١٠١) مقصد الناس كلّهم

دوام المدى فيما بدا من مهمّة

أتمّ الورى عقلا وأسمحهم يدا

وأكملهم عند الأمور الملمّة

وأوسعهم حلما وأقوى توكّلا

وأعرفهم بالله ربّ البريّة

مهذّب أخلاق ومحمود سيرة

وجامع أوصاف الحيا والمروّة

له خلق سهل ولطف ورحمة

يشابه أخلاق النبيّ المثبّت

هذا ما اتفق ذكره من العلماء الصالحين ، أعاد الله علينا من بركاتهم أجمعين.

[٥٤] / فصل [في إباحة علم النسب والتاريخ]

علم النسب والتاريخ ليس من العلوم المذمومة ولا المحمودة أيضا ، وإنما هو من العلوم المباحة ، ذكر ذلك الفقيه الصالح عبد الله بن أسعد اليافعي (١٠٢).

__________________

(١٠٠) طرسي : الطرس : الصحيفة أو التي محيت ثم كتبت.

(١٠١) يحيى : أي يحيى بن عمر بن عثمان الذيابي المتقدم ذكره.

(١٠٢) عبد الله بن أسعد بن علي اليافعي ، عفيف الدين (٦٩٨ ـ ٧٦٨ ه‍) ـ (١٢٩٨ ـ ١٣٦٧ م):

٢٢٦

قالوا : وكان أعرف الناس بكتب الأنساب إمام الأمة محمد بن إدريس الشافعيّ (١٠٣) ، رضي الله تعالى عنه.

ولما هجت قريش الأنصار أرسل الأنصار حسان بن ثابت (١٠٤) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء إليه وقال : يا رسول الله ، إن قومي حملوني على إجابة قريش ، أفتأذن لي؟ فقال : قد أذن الله لك ولقومك ، فأجيبوا من تعرض لكم ، وهل أنت هنالك يا حسان؟! فأخرج لسانه وضرب به روثة أنفه (١٠٥) ، ثم حطّ فضرب به بين ثدييه ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيا ، إني لأظن أن لو

__________________

مؤرخ باحث متصوف ، من شافعية اليمن ، نسبته إلى يافع من حمير ، ومولده ومنشؤه في عدن ، حجّ سنة ٧١٢ ه‍ ، وعاد إلى اليمن ، ثم رجع إلى مكة سنة ٧١٨ ه‍ فأقام ، وتوفي بها ، من كتبه : مرآة الجنان وعبرة اليقظان وغيرها (الأعلام ٤ / ٧٢) و (غربال الزمان ٧).

(١٠٣) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله (١٥٠ ـ ٢٠٤ ه‍) ـ (٧٦٧ ـ ٨٢٠ م) : أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، وإليه نسبة الشافعية كافة ، ولد في غزة بفلسطين ، وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين وزار بغداد مرتين ، وقصد مصر سنة ١٩٩ ه‍ فتوفي بها ، وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد : كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراءات ، وقال الإمام أحمد بن حنبل : ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة. وكان من أحذق قريش بالرمي ، يصيب من العشرة عشرة ، برع في ذلك أولا كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب ، ثم أقبل على الفقه والحديث ، وأفتى وهو ابن عشرين سنة ، وكان ذكيا مفرطا ، له تصانيف كثيرة أشهرها كتاب الأم. (الأعلام ٦ / ٢٦).

(١٠٤) حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجي الأنصاري ، أبو الوليد (... ـ ٥٤ ه‍) ـ (... ـ ٦٧٤ م) : الصحابي شاعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. عاش ستين سنة في الجاهلية ، ومثلها في الإسلام. وكان من سكان المدينة ، واشتهرت مدائحه في الغسانيين وملوك الحيرة ، قبل الإسلام ، وعمي قبل وفاته ، وكان شديد الهجاء ، فحل الشعر (الأعلام ٢ / ١٧٦).

(١٠٥) روثة أنفه : طرف أرنبته.

٢٢٧

تركته على صخر لفلقه أو على شعر لحلقه. فقال : أجب ، بارك الله فيك ، إن الله قد أيدك بروح القدس (١٠٦) ، والق أبا بكر ، فإنه عارف بأنساب قريش.

فلو كانت معرفة الأنساب مذمومة لما تعنّى به هؤلاء السادة العلماء الكرام الفهماء.

وكنت قد فكرت في هذه المعاني فرأيت أن معرفة الأنساب لتأليف القلوب وصلة الأرحام من أعظم الأسباب ، وأنها قربة موصلة لصاحبها إلى الجنة مأمور بها بنص الكتاب والسنة ؛ قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء ٤ / ١].

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم حكاية عن الله تعالى أنه قال : «أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته» (١٠٧) لأن البت هو القطع.

وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : «خيركم الذين يألفون ويؤلفون» (١٠٨).

__________________

(١٠٦) روح القدس : جبريل من الملائكة.

(١٠٧) الحديث ، رواه (أبو داوود / زكاة ٤٥) و (الترمذي / بر ٩) و (أحمد بن حنبل ١ / ١٩١ ، ١٩٤ ، و٢ / ١٦٠ و٤٩٨).

(١٠٨) هذا الحديث جزء من عدة أحاديث منها :

أ ـ عن أبي أويس بن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا : «ألا أخبركم بأكملكم إيمانا؟ أحاسنكم أخلاقا ، الموطؤون أكنافا ، الذين يؤلفون ويألفون» (تفسير ابن كثير ، سورة لقمان [٣٤ / ١٩] : ٥ / ٣٩١).

ب ـ «أكمل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا ، الموطؤون أكنافا ، الذين يألفون يؤلفون ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» أخرجه الطبراني في (معجمه الصغير ١٢٥) ومن طريقه أبو نعيم في (أخبار أصبهان ٢ / ٦٧) مرفوعا.

ج ـ «إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقا ، الموطؤون أكنافا ، الذين يألفون ويؤلفون ، وإن أبغضكم إلي المشّاؤون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الملتمسون للبراء العنت» أخرجه الطبراني في

٢٢٨

فلما دلت أوامر الله رب العالمين وأحاديث سيد المرسلين على الأمر بهذه الصلات ، والمودة والتأليف والمواصلات ، شرعت في جمع هذا المختصر على هذه النية ، واقتديت في ذلك بالأحاديث النبوية التي أثنى بها خير البرية على بطون القحطانية ، وقد ذكرتها في خطبة الكتاب عند تقسيم الأبواب.

قلت : وبقي ناس من أهل وصاب لم أتعرض لإثبات أسمائهم في هذا الكتاب ، وما سبب توقفي عن إثبات أسمائهم إلا لعدم معرفتي بأنسابهم. فليعلم ذلك من وقف عليه من الطالبين. والله الموفق المعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

__________________

(الجامع الصغير ١٧٢) مرفوعا. وقد فصل فيه القول الأستاذ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، جزاه الله خيرا ، عند الكلام على الأحاديث ٧٥١ ، ٧٩١ و٧٩٢ المجلد ٢ / ٣٨٩ و٢ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥

٢٢٩
٢٣٠

الخاتمة

فيما ظهر في وصاب من القصص والعجائب والأمور الغرائب

القصة الأولى [في مدع للنبوة] :

ظهر في الدولة الناصرية (١) رجل من وادي سحير ، وهو شعب في شرقي قور ، ادعى النبوة ، فقال له الناس : من أنت من الأنبياء؟

قال : أنا عيسى بن مريم روح الله وكلمته أوحى إليّ بأنه ينزل مائدة من السماء على أهل الأرض ، وأنه قد رفع عنهم الفرائض المكتوبة من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك من الواجبات.

__________________

(١) الدولة الناصرية : عاصر المؤلف من سلاطين هذه الدولة وملوكها :

أ ـ محمد بن الناصر بن أحمد بن الإمام المطهر بن يحيى الحسني العلوي (... ـ ٩٠٨ ه‍).

ب ـ المهدي العلوي : أحمد بن يحيى بن الفضل بن ... يحيى بن الحسين الحسني العلوي (... ـ ٩٤٣ ه‍).

ج ـ المتوكل الزيدي : يحيى (شرف الدين) ابن شمس الدين بن الإمام المهدي أحمد بن يحيى الحسني العلوي (٨٧٧ ـ ٩٦٥ ه‍).

د ـ المطهر : محمد بن يحيى (شرف الدين) ابن أحمد بن المرتضى يحيى الحسني العلوي (الملقب بالناصر) (٩٠٨ ـ ٩٨٠ ه‍).

كما كان ممّن عاصرهم :

ه ـ الهادي إلى الحق : عز الدين بن الحسن بن علي المؤيد الحسني (٨٤٥ ـ ٩٠٠ ه‍).

و ـ الناصر الزيدي : الحسن بن عز الدين بن الحسن بن علي بن المؤيد الحسني (الناصر للدين) (٨٦٢ ـ ٩٢٩ ه‍).

والذي يغلب على الظن أن السلطان الذي ناقش مدعي النبوة منهم في هذه القصة هو أحد ملكين ، إما الملك الناصر الزيدي ، وإما الإمام المطهر بن يحيى شرف الدين الملقب بالناصر.

ولم أعثر على القصة فيما رجعت إليه من مراجع.

٢٣١

قلت : وكنت قد سمعت بهذه الشائعة ، ولم ألتفت إلى ما ينقل عنه. وأقول : هذا كلام سخيف صدر من رجل ضعيف ، فلم أشعر في بعض الأيام إلا وقد وصلني منه كتاب يعلمني فيه بأنه قد أوحي إليه / بذلك ، فاستقبحت [٥٥] مقالته وكتبت إلى فقهاء الجهات ، وقلت لهم : ينبغي لكل أحد منكم أن يعلم أهل بلده بفساد كلام هذا المغرور قبل أن يقوى أمره ، ويحصل في قلب الجاهل ما يحصل من الغرور ، فغفلوا عنه ولم يلتفتوا إليه ، واستضعفوا حاله ، ولم ينكروا عليه ، فأقبل الناس عليه غاية الإقبال ، وافتتن بكلامه كثير من الجهال ، فلما كثر كلامه وانتشر ، خفت أن يمس الناس منه شر ، فكتبت إلى الأخ في الله تعالى ، الفقيه الصالح عماد الدين ، بركة المسلمين يحيى بن عمر الذيابي (٢) نفع الله تعالى به بهذه القصيدة ، وحرضته فيها على قمع هذه البدعة ، وإزالة هذه الشنعة ، هو ومن وقف عليها من جملة الفقهاء ، تحذيرا لهم من الفتن والوقوع في هذه المحن. وهي هذه : [الوافر]

كتاب الخالق الملك الكبير

شفاء للقلوب وللصدور

إليه رجوعنا في كلّ شيء

به علم المقدّم والأخير

وسنّة أحمد خير البريا

لكلّ الخلق نور فوق نور

ندين به عظيم الملك لسنا

ندين بقول أصحاب الغرور

وكنت سمعت ما لا كنت أرضى

يصير إلى انتهاء هذا المصير

سمعت بمحدث بشع ذميم

يقول به الصغير مع الكبير

نبيّ في سحير أتى بإفك

عظيم وقول بهتان وزور

يقول بأنه عيسى ويوحى

إليه الوحي من ربّ قدير

فقلت : وربّما ، ويهون هذا

وأضمرت التغافل في ضميري

__________________

(٢) يحيى بن عمر الذيابي : معاصر للمؤلف وقد سبق ذكره في الباب السابع والتعليق عليه برقم ٩٧ هناك.

٢٣٢

وبتّ (٣) وأمره يزداد غلظا

على مرّ السوابع (٤) والشهور

فقلت : الأمر بالمعروف فرض

وكلّ المحدثات من الشّرور

ونهي ذوي الضلال من الفروض

بنصّ كتاب مولانا الخبير

فبادرت الشروع بها لكيما

أكون من المهالك كالحذير

فيا يحيى وأهل العلم طرّا

وأرباب البصائر بالأمور

وفي القرآن أو توراة موسى

أو الإنجيل أو كتب الزّبور

فيا أهل البصائر هل علمتم

نبيّا قطّ يبعث من سحير

فإن قلتم بقول إلاهكم : لا

فلم هذا السكوت عن النكير

/ تسعكم هذه الغفلات عمّا

يؤدي المسلمين إلى الكفور

إذا حصل التغافل عن صغير

نما وذكا (٥) وآل إلى الكبير

وإن سكت الفقيه على قليل

من المذموم آل إلى كثير

أليس لربّكم ميثاق حقّ

عليكم بالبيان المستنير

وأن لا تكتموا ما قد علمتم

على أهل الجهالة والغمور (٦)

سكوتكم يوهّمهم جوازا

ويخزيهم بأفعال الغرور

يظنّ الجاهلون بأنّ هذا

مباح للكبير وللصغير

وكل المدّعين خلاف شيء

أتى بشريعة الهادي البشير (٧)

فإن لم ينته البدعي (٨) ذهبتم

بذاك إلى الخليفة والوزير

__________________

(٣) في الأصل : أبيت.

(٤) السوابع : الأسابيع : جمع أسبوع.

(٥) ذكا : اشتد لهيبه.

(٦) الغمور : جمع غمر : وهو من لم يجرب الأمور ، والحقد أيضا.

(٧) في حاشية صورة الأصل هذا التعليق الهامشي : سقط من هاهنا تسعة أبيات بسبب خرم في الكتاب.

(٨) البدعي أصله البدعيّ بتشديد الياء ، وهو المبتدع الضال ، وخفف الياء للضرورة الشعرية.

٢٣٣

وأعلمنا الولاة بكلّ قطر

ونواب الجهات مع الأمير

وقلنا للقضاة وكلّ مفت

بهذا المحدث البشع الكبير

فيابن الحاجّ أحمد (٩) من سحير

أتتك مقالة الحقّ الشهير

مشورة مشفق خذها بصدق

فخير الرأي سمعك للمشير

أفق عن هذه الغمرات واسمع

نصيحة ناصح عبد حقير

وعد عمّا ادعيت وتب وأسلم

جديدا واجتنب كبر الهدير (١٠)

وعجّل بالمتاب وقل أطعنا

كتاب الله فهو أتمّ نور

أدين بشرعه ما دمت حيّا

وشرع محمّد الطهر النذير

وإلّا فارتقب سيفا ورمحا

وسفك دم البعيد بلا مسير

ستأتيك العقوبة عن قريب

بأمر الناصر الملك النصير (١١)

لشرع محمّد أبقاه ربي

لقمع المحدثات من الأمور

غلطت بما ادعيت وقلت زورا

يقود بمدّعيه إلى السعير

فدع دعوى النّبوّة عنك رأسا

حذارك فاغتنم قول الحذير

وخذ بمقالة العلماء واسلم

لضوء الشمس والقمر المنير (١٢)

/ كستها السنة الغرّا جمالا

وقمصان البنادق والحرير

وحلّتها بياقوت وتبر

ونظم اللؤلؤ الرطب النضير

وتمّت والصلاة على نبيّ

شفيع الخلق في يوم النّشور

__________________

(٩) يابن الحاج أحمد : يخاطب النبي المدعي من سحير ، فهو ابن الحاج أحمد. ولم يذكر اسمه.

(١٠) كبر الهدير : الإثم والذنب لهذا الكلام الباطل والادعاء به.

(١١) الناصر الملك النصير : هو الملك الناصر ، ولعله إما الملك الناصر الزيدي وإما الإمام المطهر كما أسلفت في التعليق (١) من هذه الخاتمة.

(١٢) في حاشية صورة الأصل هذا التعليق الهامشي : وهنا أيضا سقط نحو تسعة أبيات أيضا.

٢٣٤

تفوح بمندل (١٣) رطب وندّ (١٤)

وبالمسك الذكيّ وبالعبير

فلما وقف الفقيه عماد الدين على هذه الأبيات ، طلب الرجل المذكور إلى موضعه إلى الضنجوج ، فوصل ، فقال له الفقيه : يا فلان ، كيف هذا الأمر الذي جئت به؟! قال : هذا وحي من الله تعالى أوحي به إليّ.

فقال له الفقيه : إن الوحي قد انقطع بعد موت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يوافقك على ما تقول أحد من الفقهاء.

فقال : قل : موافقة الفقهاء لا تضر بالنبي ، لأن الفقيه يتكلم على قدر ما يعرف ، والنبي يتكلم على قدر ما يعرف ، ولكل واحد منهم عند الله مقام ، تكلموا أنتم على ما تعرفون ، وأنا أتكلم على ما أعرف.

فلما فهم منه الفقيه أنه لا يسمع كلام العذال ، ولا يرجع إلى ما يقال ، سكت عنه ، فلما سكت عنه رجع إلى بيته إلى سحير ، وأقام مدة يتكلم بهذا الكلام حتى أشكل أمره على العوام ، ثم بعد ذلك انتهى إلى السلطان الملك الناصر ، وهو في حد قوارير ، فطلب حضوره إلى مجلسه فأحضره ، فلما وصل قال له السلطان : أنت الذي تزعم أنك نبي ، وأنك عيسى بن مريم؟ قال : نعم.

قال : إنك استعجلت علينا بنزولك قبل خروج الدجال ، وقد بلغنا في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن عيسى عليه‌السلام ينزل بعد خروج الدجال فيطلبه حتى يدركه فيقتله» (١٥).

فأجابه جواب جاهل ، فعرف السلطان أن عقله زائل ، وقال لمن حوله من الجماعة : هذا رجل أظنه نشف دماغه ، فتغير عقله ، ينبغي أن يداوى ، ولكن

__________________

(١٣) المندل : عود الطيب أو أجوده.

(١٤) النّد : طيب معروف ويكسر ، أو العنبر.

(١٥) ورد ذلك في أكثر من حديث ، ويراجع مسلم ٨ / ١٩٧ ـ ٢٠٧

٢٣٥

إن أوقفناه عندنا في مكان وطلبنا له الحكماء نخشى (١٦) أن تعتقد الناس صلاحه فيقبلوا عليه ، ويصبح عندنا فتنة ، بل المصلحة أن نرسل به إلى فقهاء زبيد ، ليختبروا حاله ويأمروا فيه بما يعرفون.

فأرسل به إليهم ، فلما صار بين أيديهم تكلموا معه واختبروه ثم اختلفوا في أمره ، فقال بعضهم : هذا مرتدّ يقتل إن لم يتب ، وقال بعضهم : هذا مجنون يترك ، وقال بعضهم : هذا عليل يداوى ، ثم بعد ذلك أجمع أمرهم أن يطرد إلى برّ العجم ، وأعلموا السلطان بذلك ، وأخرجه إلى ذلك البر ، وقد عافاه الله تعالى من ذلك الألم ، وبقي فيه منه أدنى بقية لم يصح بالكلية.

ثم بعد ذلك إني سألت أهل الخبرة بحاله ، ما السبب الذي أوجب زوال عقله؟ فقال : ما أعلم لذلك سببا إلا أنه اعتزل عن الناس واختلى بنفسه في مسجد ، وصام ولازم بعض الأذكياء ليلا ونهارا ، وعزم على أنه يقيم على ذلك / أربعين يوما ، فلم نعلم في بعض الأيام إلا وقد خرج من العزلة ، وتكلم بهذا الكلام.

فعرفت بمقالة هذا القائل أن هذا الرجل دخل الخلوة على غير أصل صحيح. فأوقعته خلوته في هذا الأمر القبيح ، ويشهد لصحة ذلك ما رواه الشيخ الإمام المحقق شهاب الدين السهروردي (١٧) بالإسناد الصحيح عن أبي تميم المغربي (١٨)

__________________

(١٦) نخشى : ليست في الأصل ، وقد اضطرني إليها السياق.

(١٧) شهاب الدين السهروردي (٥٣٩ ـ ٦٣٢ ه‍) ـ (١١٤٥ ـ ١٢٣٤ م) : هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عموية ، أبو حفص شهاب الدين القرشي ، التيمي البكري السهروردي : فقيه شافعي مفسر ، واعظ من كبار الصوفية ، مولده في سهرورد ووفاته ببغداد ، كان شيخ الشيوخ ببغداد ، وأوفده الخليفة الناصر لدين الله إلى عدة جهات رسولا ، وأقعد في آخر عمره ، فكان يحمل إلى الجامع في محفة ، له كتب منها عوارف المعارف وغيره. (الأعلام ٥ / ٦٢) و (معجم البلدان ٣ / ٢٩٠) و (غربال الزمان ٥١١ ـ ٥١٢).

(١٨) أبو تميم المغربي : لم أعثر على ترجمة للمغربي بهذه الكنية فيما رجعت إليه من مصادر.

٢٣٦

رضي الله تعالى عنه ، أنه قال : من اختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خاليا من جميع الأذكار إلا ذكر ربه. وخاليا من جميع المرادات إلّا مراد ربه ، وخاليا من مطالبة النفس بجميع الأسباب ، فإن لم يكن بهذه الصفة فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية.

فائدة :

ذكر الشيخ الإمام العارف بالله شهاب الدين السهروردي في كتابه (عوارف المعارف) كلاما في العزلة حاصله : أن العزلة عن الخلق وجمع الهم وملازمة الذكر ، له تأثير عظيم في تنوير القلب وصفاء الباطن ، مفهومه سواء كان على أصل صحيح أم لا.

قال : وقد اشتغل بذلك كثير من الدهريين ، والفلاسفة المارقين. مقصدهم الاستعانة بها على اكتساب علوم رياضية ، ففتح عليهم بتنوير القلب وصفاء الباطن ، فما زادهم ذلك إلا غرورا وحماقة وبعدا من الله تعالى. دخل عليهم الشيطان وسوّل لهم أنواع الطغيان ، فأنكروا الحدود والأحكام والحلال والحرام ، ولم يزل بهم ذلك حتى خلعوا من أعناقهم ربقة الإسلام (١٩) ، ولا يزال المقبل على ذلك يستغويه الشيطان بما يكسب من العلوم الرياضية ، أو بما يتراءى له من صدق الخواطر ، حتى يركن إليه كل الركون ، ويظنّ أنه قد فاز وظفر بالمقصود ، وما ازداد بذلك إلا بعدا من الله تعالى.

قلت : وإذا كان الأمر كذلك ، فمقتضى كلامه رحمه الله تعالى ، أنه لا يصلح الدخول في الخلوة إلا بمقصد صحيح ، وحسن سياسة شرعية ، ومتابعة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فمن فعل ذلك فتح عليه بشيء من تنوير القلب

__________________

(١٩) ربقة الإسلام : حبل الإسلام وعقدته وعروته.

٢٣٧

وصفاء الباطن ، وظهرت له كرامة وصار ذلك مريدا ليقينه ، ودعوته إلى صدق المجاهدة والمعاملة مع الله تعالى بالصدق والإخلاص والزهد في الدنيا ، والتخلق بالأخلاق الحميدة.

قالوا : إن العبد إذا انقطع إلى الله سبحانه وتعالى ، واعتزل عن الناس قطع مسافات وجوده ، واستنبط من نفسه جواهر العلوم ، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ، إذا فقهوا» (٢٠). نسأل الله تعالى العافية والسلامة ، من العمل بما يوجب الندامة. آمين آمين.

القصة الثانية [في ظهور مدع للعزلة فاعل كل ذميم ومنكر] :

ظهر رجل غريب دخل مسجدا في جبل بني سليمان (٢١) ، وأغلق بابه ، ومنع الناس من دخوله ، وأتى بتلبيسات وتلبسات (٢٢) يريد أن يلبس بها على المسلمين ، ويستجلب بها قلوب الجاهلين ، احتيالا منه على كسب الدنيا بتلبسات يصورها :

وأما الأولى : إنه لما دخل المسجد وطلب الناس منه أن يدخلوا إليه قال : أنا رجل أحب العزلة عن الناس مخافة أن يفسدوا عليّ ديني.

الثانية : إنه أخرج فرش المسجد وجعلها مظلة للوافد.

__________________

(٢٠) الحديث ، رواه (البخاري ٢ / ٣٤ ، و٢٤٢ و٢٧٨) و (مسلم ٧ / ١٨١) و (أحمد ٢ / ٥٣٩).

(٢١) جبل بني سليمان : في المخلاف السليماني (طرفة الأصحاب ١٠٨) ، والمخلاف السليماني كما ورد في هامش على كتاب العقيق اليماني في وفيات وحوادث المخلاف السليماني لعبد الله بن علي بن النعمان الشقيري الضمدي ، بخط (الشيخ محمد نصيف) : أن المخلاف السليماني هو (جيزان وصبيا وأبو عريض وما حول ذلك من البلدان). (الأعلام ٨ / ٣٢٣).

(٢٢) تلبيسات وتلبسات : أباطيل وأوهام.

٢٣٨

الثالثة : أنه وعد بني سليمان بإخراج كنوز جاهلية ففتن قلوبهم بذلك أشد الفتنة القوية.

الرابعة : أنه قال : وصلت من مكة بإشارة شريفة قصدي أن أعبد الله تعالى في هذا الجبل.

الخامسة : أنه لما عرض عليه القوت قال : أنا عازم على الصيام / فقالوا له : الصائم يحتاج إلى الفطر. قال : عزمت أن أطوي (٢٣) لله تعالى أربعين يوما بغير طعام.

السادسة : أنه لما مضت مدة الأربعين عرضوا عليه القوت ، فقال : سأزيد نحو عشرين يوما صياما.

السابعة : أنه ذكر لهم أن الجن تحت أمره وطاعته.

الثامنة : أنه كان يقول لهم : اللبن والسمن واللحم حرام أو مكروه ، ولا يباح للآكل إلا ما كان نبات الأرض.

حتى إنه استجلب قلوب الناس بهذا التحيل والتمويه ، وحسنت عقائدهم فيه ، وأقبلت قلوبهم عليه ، وكثرت زيارة الرجال والنساء إليه. فلما تحقق أن قد ملك قلوبهم أظهر فعل كل ذميم منكر تأباه الطبيعة ، وتنكره الشريعة ، فتغيرت منه قلوب الذين عرفوا حاله ، وفهموا أفعاله ، ونسبوه إلى الملام ، ولم يظهروا له ما في قلوبهم من الكلام ، لما تقرر ما في قلوبهم أولا من شهرته ، واعتقاد بركته.

__________________

(٢٣) أطوي : من الطوى ، وهو الجوع. وفي الأصل : يطوي وهو تحريف ، والمراد هنا أنه يواصل الصوم بلا إفطار.

٢٣٩

ثم لم أعلم في بعض الأيام إلا وقد وصلني جماعة منهم ، وذكروا لي ما جرى منه من خلل ، فقصدوني لأعينهم على خروجه من الجبل ، وألحوا عليّ بذلك ولازموني ، فاعتذرت إليهم فلم يعذروني. فكتبت هذه الأبيات ، وأرسلت بها إليه ، فوصل بها الرسول وعرضها عليه (٢٤) ، فلما وقف عليها خرج مبادرا من غير إعلام الجماعة ، ولم يمكنه الوقوف بعد ذلك قدر ساعة ، وهي هذه الأبيات : [الكامل]

يا أيها الرجل العظيم الشان

يا واصلا من أبعد الأوطان

يا من أقام بأرض قوّر ذكره

للحاضرين وجملة البدوان

أظهرت كل عجيبة وغريبة

وأتيت بالأشيا بلا برهان

لما أتيت وأهل قوّر كلّهم

ضعفا القلوب وهم ذوو إحسان

يتحملون إلى الذي يأتيهم

ويعززوه (٢٥) معزة الضيفان

أظهرت عندهم العجائب كلّها

وغرائبا أبديتها ومعان

وتحبّ أنك تستميل قلوبهم

وتصيدها كتصيّد الحيتان

فذكرت أنّك تخرج الكنز الذي

هو غائب مدفون في القيعان

وذكرت أنّ الجنّ طوعك يفعلوا (٢٦)

ما رمت كالخدّام والعبدان

والأربعون تصومها متواصلا

بخلاف صوم الناس في رمضان

وذكرت أنك جئتهم من مكة

حيث الفضائل أشرف البلدان

بإشارة حصلت إليك تعودهم

لتقيم فيه عبادة الرحمن

فأتيته ووقعت فيه بمسجد

وحجبت نفسك دائم الأزمان

وأخذت فرش مساجد فجعلتها

ظلا لمن يأتي مدى الأحيان

__________________

(٢٤) في الأصل : عليها.

(٢٥) ويعززوه : هكذا وردت وحقها : ويعززونه ولكن للضرورة الشعرية.

(٢٦) يفعلوا : هكذا وردت وحقها : يفعلون ولكن للضرورة الشعرية.

٢٤٠