نشر المحاسن اليمانيّة

ابن الديبع الشيباني الشافعي

نشر المحاسن اليمانيّة

المؤلف:

ابن الديبع الشيباني الشافعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

رضي الله تعالى عنهم قد رأوا أن تقديم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي بكر يصلي بالناس استخلاف له من بعده ، لأن الصلاة عماد الدين.

وكانت الأنصار تعتقد أنها أولى الناس بهذا الأمر لأنهم أنصار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم توصد الدين.

__________________

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ربه أن يعزّ الإسلام بأحدهما ، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين ، وشهد الوقائع. قال ابن مسعود : ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر. وقال عكرمة : لم يزل الإسلام في اختفاء حتى أسلم عمر ، وكانت له تجارة بين الشام والحجاز ، وبويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر سنة ١٣ ه‍ بعهد منه. وفي أيامه تمّ فتح الشام والعراق ، وافتتحت القدس والمدائن ومصر والجزيرة. حتى قيل : انتصب في مدته اثنا عشر ألف منبر في الإسلام. وهو أول من وضع للعرب التاريخ الهجري ، وكانوا يؤرخون بالوقائع واتخذ بيت مال للمسلمين. وأمر ببناء البصرة والكوفة فبنيتا ، وأول من دوّن الدواوين في الإسلام ، جعلها على الطريقة الفارسية لإحصاء أصحاب الأعطيات وتوزيع المرتبات عليهم. وكان يطوف في الأسواق منفردا ، ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم. وكان عمر إذا نزل به الأمر المعضل دعا الشبان فاستشارهم ، يبتغي حدة عقولهم ، وكانت الدراهم في أيامه على نقش الكسروية ، وزاد في بعضها (والحمد لله) وفي بعضها (لا إله إلا الله وحده) وفي بعضها (محمد رسول الله) ، له في كتب الحديث ٥٣٧ حديثا ، وكان نقش خاتمه : كفى بالموت واعظا يا عمر. لقبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاروق ، وكناه بأبي حفص ، وكان يقضي على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قتله أبو لؤلؤة فيروز الفارسي (غلام المغيرة بن شعبة) غيلة ، بخنجر في خاصرته وهو في صلاة الصبح ، وعاش بعد الطعنة ثلاث ليال (الأعلام ٥ / ٤٦).

(٩١) أبو عبيدة بن الجراح (٤٠ ق ه ـ ١٨ ه‍) ـ (٥٨٤ ـ ٦٣٩ م) : عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي الأمير القائد ، فاتح الديار الشامية ، والصحابي ، أحد العشرة المبشرين بالجنة ، قال ابن عساكر : داهيتا قريش أبو بكر وأبو عبيدة ، وكان لقبه أمين الأمة ، ولد بمكة ، وهو من السابقين إلى الإسلام ، وشهد المشاهد كلها ، وولاه عمر بن الخطاب قيادة الجيش الزاحف إلى الشام بعد خالد بن الوليد ، فتم له فتح الديار الشامية ، وبلغ الفرات مشرقا ، وآسية الصغرى شمالا ، ورتب للبلاد المرابطين والعمال ، وتعلقت به قلوب الناس لرفقه وأناته وتواضعه ، وتوفي بطاعون عمواس ، ودفن في غور بيسان ، وانقرض عقبه وله ١٤ حديثا. انتزع بأسنانه نصلا من جبهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد فهتم ، وفي الحديث : «لكل نبيّ أمين ، وأميني أبو عبيدة بن الجراح» (الأعلام ٣ / ٢٥٢).

١٨١

فلما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم اشتغل علي بن أبي طالب وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم في جهازه (٩٢) صلى الله تعالى عليه وسلم ، واجتمعت الأنصار لما في نفوسهم في سقيفة بني ساعدة (٩٣) ، فنصبوا سعد بن عبادة لهذا الأمر وأقاموه خليفة ، وهو من الخزرج ، وكان مريضا في ذلك اليوم ، فبلغ الخبر إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وإلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح ، فقالوا : والله لئن عقد الأوس والخزرج عقدا في هذا اليوم لا حلّه أحد ، فمضوا إليهم إلى سقيفة بني ساعدة فخاطبوهم بما هو مشهور من الخطاب ، فلما تحدثوا على ذلك وقع في نفوس الأوس (٩٤) شيء ، وفكروا فيما بينهم وبين الخزرج من الضغائن والعداوة القديمة ، فقالوا : إذا أصبحت الخلافة في الخزرج فأي خير نرجو ، والحسد لا يخلو منه أحد ، فقالوا : المصلحة أن نجعل قريشا بيننا عدولا ، ولكن إن عقدنا الخلافة لبني هاشم لم نأمن من شدة علي بن أبي طالب ، وهذا أبو بكر هو رجل قليل الشر ، طوع لما نريد ، فقام بشير بن

__________________

(٩٢) جهازه : جهز الميت أعدّ له ما يلزمه ويحتاج إليه.

(٩٣) سقيفة بني ساعدة : بالمدينة : وهي ظلة كانوا يجلسون تحتها ، فيها بويع أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، والسقيفة الصفة ، أو كل بناء سقّف به صفة أو شبه صفة مما يكون بارزا ، وأما بنو ساعدة الذين أضيفت إليهم السقيفة فهم حيّ من الأنصار ، وهم بنو ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ، منهم سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة. وهو القائل يوم السقيفة : منا أمير ومنكم أمير. ولم يبايع أبا بكر ولا أحدا ، وقتله الجن فيما قيل بحوران (معجم البلدان ٣ / ٢٢٩).

(٩٤) في الأصل : الخزرج.

١٨٢

سعد الأنصاري (٩٥) والد النعمان بن بشير (٩٦) فقال : يا معشر الأنصار ، ألستم أكثر الناس فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في الدين ، لم تريدوا من الدنيا عرضا ولا من الناس عوضا؟ فقالوا : اللهم نعم ، قال : كيف تنافسون في الدنيا وقد رفضتموها للدين ، واشتريتم الجنة بنفوسكم من ربّ العالمين؟

ثم قام عاصم بن عدي بن عجلان البلوي (٩٧) حليف الأنصار / فقال : يا معشر الأنصار ، أليس الله تعالى يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة ٩ / ١١١] ، ثم قال : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر ٥٩ / ٩] ، قالوا : بلى ، قال : فكيف تنافسون في

__________________

(٩٥) في الأصل : بشر بن سعد الأنصاري ، وهو تحريف ، والصواب : بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي الأنصاري (... ـ ١٢ ه‍) ـ (... ـ ٦٣٣ م) : صحابي شهد بدرا واستعمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة في عمرة القضاء ، وكان يكتب بالعربية في الجاهلية ، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق من الأنصار ، قتل يوم (عين التمر) وكان مع خالد بن الوليد منصرفه من اليمامة (الأعلام ٢ / ٥٦).

(٩٦) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري أبو عبد الله (٢ ـ ٦٥ ه‍) ـ (٦٢٣ ـ ٦٨٤ م) : أمير ، خطيب ، شاعر من أجلاء الصحابة من أهل المدينة ، له ١٢٤ حديثا ، وجهته نائلة (زوجة عثمان) بقميص عثمان إلى معاوية ، فنزل الشام وشهد صفين مع معاوية ، وولاه القضاء بدمشق ، ثم ولاه اليمن ، ثم استعمله على الكوفة تسعة أشهر ، وعزله وولاه حمص ، واستمر فيها إلى أن مات يزيد بن معاوية ، فبايع النعمان لابن الزبير ، وتمرد أهل حمص فخرج هاربا ، فاتبعه خالد بن خليّ الكلاعي فقتله ، وهو أول مولود ولد في الأنصار بعد الهجرة ، وكان من أخطب الناس ، وهو الذي تنسب إليه (معرة النعمان) بلد أبي العلاء المعري ، ومرّ بها النعمان فمات له ولد ، فدفنه فيها ، فنسبت إليه ، وكانت له ذرية في المدينة وبغداد (الأعلام ٨ / ٣٦).

(٩٧) عاصم بن عدي بن عجلان البلوي (... ـ ٤٥ ه‍) ـ (... ـ ٦٦٥ م) : هو عاصم بن عدي بن الجد البلوي العجلاني ، حليف الأنصار ، صحابي ، كان سيد بني عجلان ، استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العالية من المدينة ، وعاش عمرا طويلا ، قيل ١٢٠ عاما (الأعلام ٣ / ٢٤٨).

١٨٣

الرئاسة؟ فلما تمّ كلامه وثب بشير بن سعد المتكلم أولا ، يضرب بيده على يد أبي بكر الصدّيق رضي الله تعالى عنه ، فبايعه أول الناس ، ثم قام بعده أسيد بن حضير النقيب الأشهلي (٩٨) فبايع ، ثم أقبل الناس بعدهما فبايعوا أولا فأولا ، فبان لك فيما ذكرنا في هذين القسمين أن تصرفات الحرمين الشريفين كانت كلها للقحطانية.

__________________

(٩٨) في الأصل : أسد بن حضير التغيب الأسهلي : والصواب ما أثبتناه من (اللباب في تهذيب الأنساب ١ / ٦٨) وهو أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك الأوسي ، أبو يحيى ، (... ـ ٢٠ ه‍) ـ (... ـ ٦٤١ م) صحابي ، كان شريفا في الجاهلية والإسلام ، مقدما في قبيلة الأوس من أهل المدينة ، يعد من عقلاء العرب وذوي الرأي فيهم ، وكان يسمى الكامل ، شهد العقبة الثانية مع السبعين من الأنصار ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وشهد أحدا فجرح سبع جراحات ، وثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انكشف الناس عنه ، وشهد الخندق والمشاهد كلها ، وفي الحديث : «نعم الرجل أسيد بن الحضير) ، توفي في المدينة ، له ١٨ حديثا (الأعلام ١ / ٣٣٠). وهو الأشهلي نسبة إلى عبد الأشهل بن جشم بن الحرث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس بطن من الأنصار (اللباب ١ / ٦٨).

١٨٤

الباب السادس

في ذكاء وفطن القحطانيين وكرم طباعهم وملوكهم

وعلو هممهم ووفائهم وشجاعتهم

[فصل : في ذكاء وفطن القحطانية]

قال الكلاعي في وصفهم : [الوافر]

ورتّبنا مراتب كلّ ملك

فكان لنا الخلائق مقتفينا (١)

سننّا للبرية كلّ فعل

جميل من فعال الأكرمينا

فهم يتشبهون بما فعلنا

وفي آثارنا يتتبعونا

وليسوا مدركين لنا لأنا

جعلنا السابقين الأولينا

وقال أيضا في شرح هذه القصيدة النونية : إن أول من لبس التاج : ورتب وظائف الملك وعهد عهدا إلى عامل بلد ، وأمر بالعدل والإنصاف ، ودوّن الدواوين ، وبعث الأمراء إلى الثغور حمير بن سبأ الأكبر (٢).

وأول من علق السلسلة على باب قصره ليتعلق بها المتظلمون عبد شمس بن وائل (٣).

__________________

(١) مقتفينا : متتبعينا.

(٢) حمير بن سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان. جدّ جاهلي قديم ، كان ملك اليمن وإليه نسبة الحميريين ملوك اليمن وأقياله. (الأعلام ٢ / ٢٨٤).

(٣) عبد شمس بن وائل بن قطن بن حمير ، من القحطانية جد جاهلي (الأعلام ٤ / ١٠).

١٨٥

وأول من نظر في أمر الشاكي وعزل عامل البلد بسبب أمر الشكاية أسعد الكامل (٤).

وأول من شفع وافدا في الأسارى تبع الأصغر (٥) ، ولذلك سمي ماء السماء.

وأول من اتخذ الخط العربي على (أبجد) مرامر بن مرة البولاني (٦).

وأول من قام بالضيافة عامر بن حارثة الأزدي (٧) من طيئ.

__________________

(٤) في الأصل (سعد الكامل) وهو تحريف ، والصواب ما أثبته ، وأسعد الكامل يقال له : تبع الأوسط وكان يسمى ذا تبان وهو ابن ملكيكرب ابن تبع الأكبر (الأعلام ٢ / ٢٨٤).

(٥) تبع الأصغر : وهو تبع بن حسان بن تبان ، من ملوك حمير في اليمن ، قيل : اسمه مرثد. آخر التبابعة ، ملك بعد عبد كلال ، وعقد الحلف بين اليمن وربيعة ، وسار إلى الشام فلقيه قوم من حمير ، من بني عمرو بن عامر ، فشكوا إليه ما نزل بهم من اليهود في يثرب (المدينة) وذكروا له سوء مجاورتهم لهم ، ونقضهم العهد الذي بينهم ، فسار إلى يثرب ونزل في سفح (أحد) ، وبعث إلى اليهود ، فقتل منهم ثلاث مئة رجل ، وذلّلها لهم ، وكان ملكه ٧٨ سنة (الأعلام ٢ / ٨٣).

(٦) في الأصل : مرة بن مرار البولاني. وهو تحريف. وما أثبتناه من (التاج : مرر ١٤ / ١١٢) ، والصحاح : مرر ٢ / ٨١٤) وفيهما : مرامر بن مرة أول من وضع الخط العربي ، قال شرقي بن القطاميّ : إن أول من وضع خطنا هذا رجال من طيئ منهم مرامر بن مرة ، قال الشاعر :

تعلمت باجاد وآل مرامر

وسوّدت أثوابي ولست بكاتب

قال : وإنما قال : وآل مرامر ، لأنه كان قد سمّى كل واحد من أولاده بكلمة من (أبي جاد) وهم ثمانية : قال المدائني : أول من كتب بالعربية مرامر بن مروة من أهل الأنبار. وفي (الأعلام ٧ / ٢٠٠) : مرامر بن مرة الطائي : أحد من يقال إنهم وضعوا الخط العربي أو نقلوه من طريقة إلى أخرى ، في الجاهلية ، وتدل آثار الحميريين في اليمن على أن الكتابة كانت عندهم قبل انتشارها في شبه الجزيرة ، ويقول الرواة : إن اثنين من بني طيئ ، هما صاحبا الترجمة وشخص آخر يسمونه (أسلم بن سدرة) حولا خط الحميريين (المسند) إلى نوع يقال له (الجزم) ، وانتقل الجزم من طيئ إلى الأنبار ثم إلى غيرها ، فكان أساسا للقاعدة (الكوفية) ولقواعد الكتابة الأخرى حتى الآن.

(٧) عامر بن حارثة : من الغطريف الأزدي ، من يعرب ، أمير غساني ، يلقب بماء السماء ، لجوده ، هاجر من اليمن ، وسكن بادية الشام ، وبنوه يعرفون ببني ماء السماء ، من الأزد (الأعلام ٣ / ٢٥٠).

١٨٦

وأول من حكم في الخنثى وهو القضاء (٨) باتباع المبال عمرو بن حممة الدوسي (٩).

وأول من طيّب الميت بالحنوط (١٠) مقسم بن بهر القضاعي.

وأول من قسم للذكر مثل حظ الأنثيين عامر بن جشم بن عقم بن الحارث الجهمي (١١).

وأول من صاح على الميت عطيرة بن الصعب السكسكي.

وأول من أعان مستوفدا في حمل دية جعاد بن عبد التيمي / من همدان.

فهذه أمور سبقت إليها بنو قحطان في الجاهلية ، وجاء الإسلام بمثل ذلك ، وهذه غاية من ذكاء فطنهم.

ومن ذكاء فطنهم أيضا : أنهم أول من ربط الخيل ، وراضها ، ووصفها بما

__________________

(٨) في الأصل : الخلاء : وما أثبته من (سيرة ابن هشام ١ / ١٢٣) ، وفيه أتبع القضاء المبال ، أقعده ، فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل ، وإن بال من حيث تبول المرأة ، فهي مرأة.

(٩) في الأصل : عمر بن جميمة الدوسي. وهو تحريف ، ما أثبته من (مجمع الأمثال للميداني ١ / ٣٨ ـ ٣٩) ، وهو عمرو بن حممة بن رافع بن الحارث الدوسي ، من الأزد أحد المعمرين ، من حكام العرب في الجاهلية (الأعلام ٥ / ٧٧) ، و (معجم الشعراء للمرزباني ١٧).

(١٠) الحنوط : كل ما يطيب به الميت من ذريرة أو مسك أو عنبر أو كافور من قصب هندي أو صندل مدقوق.

(١١) عامر بن جشم بن غنم بن الحارث الجهمي : ذو المجاسد اليشكري : كان حكما للعرب في الجاهلية ، قال الهمداني وابن حبيب : هو أول من فرض للذكر مثل حظ الانثيين. (الأعلام ٣ / ٢٥٠).

١٨٧

يليق بها ، وعمل لها السروج واللجم ، وفي ذلك يقول مالك بن ملالة بن أرحب الهمداني (١٢) هذين البيتين : [الطويل]

أمرت بإيتاء اللجام فأبدعت

وأنعلت خيلي في المسير حديدا

وأرحب جدي أحدث السرج قبلنا

ولو نطقت كانت بذاك شهودا

وهم أول من أبدع أنواع السلاح من سيف ورمح وقوس وسهم ودرع.

ولأصناف الخيل وأنواع السلاح عندهم أسماء معروفات يطول ذكرها ، وليس لأحد من العرب بصر بالخيل ولا بالقسي والنبل والإصابة بالرمي مثل ما للقحطانية.

ومنهم رماة تبع أسعد المعروفون بالقارة (١٣) كانوا يرمون الشعر فيشقونه وبهم يضرب المثل فيقال : قد أنصف القارة من رماها (١٤).

__________________

(١٢) مالك بن ملالة بن أرحب الهمداني : سيد همدان في عصره ، كان شجاعا ينسب إليه شعر ، والخطار اسم فرس كان له ، قال الهمداني : وهو الذي قام بحرب خولان وقضاعة اليمن ، وقتل فيها (الأعلام ٥ / ٢٦٦).

(١٣) القارة : قبيلة ، وهم عضل والديش ابنا الهون بن خزيمة ، وإنما سموا قارة لاجتماعهم لما أراد الشداخ أن يفرقهم في بني كنانة ، فقال شاعرهم :

دعونا قارة لا تذعرونا

فنجفل مثل إجفال الظليم

(سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥).

(١٤) قد أنصف القارة من رماها : هذا مثل ، يقال : إنه قيل في حرب كانت بين قريش وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وكانت القارة مع قريش ، وهم قوم رماة ، فلما التقى الفريقان راماهم الآخرون ، فقيل : قد أنصفهم هؤلاء إذ ساووهم في العمل الذي هو شأنهم وصناعتهم ، وهو بيت من الرجز يراجع فيه (سيرة ابن هشام ١ / ٢٥٥) و (الأمثال) و (فرائد اللآل) و (الروض).

١٨٨

فصل [في كرم طباعهم في السخاء]

وأما كرم طباعهم في السخاء فإن تبّع أسعد أقام بمكة سبعة أيام فنحر سبعين ألف ناقة ، في كل يوم عشرة آلاف ناقة ، وقد ذكرنا ذلك ، وإذا كان هذا مصروف اللحم وهو الإدام ، فما ظنك بمصروف الطعام؟

وقال عبيد بن الأبرص (١٥) في وصف ملوك حمير هذه الأبيات : [الطويل]

رأيت ملوك النّاس في كلّ بلدة

فلم أر في الأملاك أمثال حمير

ملوك دوام الدهر من وقت جدّهم

وكانوا ملوك الناس من قبل قيصر

ملوك وأبناء الملوك وسادة

إذا ذكروا فاقوا على كلّ جوهر

هم سبقوا ملك البريّة كلّهم

بعزّ ومجد فضله غير منكر

ولما وفدت جذام (١٦) إلى جعاول بن عبدة بن ربيعة بن مالك بن جشم بن حرب بن نهم بن ربيعة بن مالك بن معاوية بن صعب بن دومان بن بكيل الهمداني ، وكان شريفا جوادا فارسا شجاعا شاعرا خطيبا مكينا عند تبع أسعد ، وكان قد استعمله على بكيل ، فوفدوا إليه يسألونه وفدا في حمالات ديات كانت بينهم / وبين إخوتهم من بني عدي بن الحارث بن مرة بن أدد ، وقال لهم : مبلغ ما جئتم تسألوني؟ قالوا : ألفي ناقة وأربع مئة ناقة ، فأعطاهم إياها في موضع واحد ، وقال هذه الأبيات : [الطويل]

__________________

(١٥) عبيد بن الأبرص (... ـ ٢٥ ق ه) ـ (... ـ نحو ٦٠٠ م) : هو عبيد بن الأبرص بن عوف بن جشم الأسدي ، من مضر ، أبو زياد ، شاعر ، من دهاة الجاهلية وحكمائها ، وهو أحد أصحاب الجمهرات المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات ، عاصر امرأ القيس ، وله معه مناظرات ومناقضات ، وعمّر طويلا حتى قتله النعمان بن المنذر ، وقد وفد عليه في يوم بؤسه (الأعلام ٤ / ١٨٨).

(١٦) جذام : قبيلة من اليمن ، وجذام هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر. (اللباب في تهذيب الأنساب ١ / ٢٦٥).

١٨٩

لقد علمت أبناء قحطان أنّنا

إلينا يصير المجد في كلّ مجمع

وأنا قبيل في عصانا صلابة

إذا زعزعت ، أحلامنا لم تزعزع

ويوم جذام قد كفيت عشيرتي

حملت بألفي ناقة وبأربع

فلم يبلغوا جهدي ولكن حملتها

على كاهل مني ذلول موقّع (١٧)

بأكلبها سلمتها ورعاتها

وذلك من كلّ بمرأى ومسمع (١٨)

ولو حمّلوني ضعفها لحملتها

وفاء ولم أنكل ولم أتخشع

وأما ثابت بن الريان بن ثابت بن يزيد بن الريان بن عمرو بن المسيب بن عمرو بن قشيب بن عوسجة بن أراذن الشرمح بن يريم بن مرثد بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر الحميري (١٩) ، فإنه كان مقيما بمأرب في زمن الملك سيف بن ذي يزن (٢٠) ، فوقعت فتنة بين حمير ومذحج فقتل

__________________

(١٧) ذلول موقع : ذلول ، سهل الانقياد. وموقّع : من أصابته البلايا ، أي على كتف مني تعود على الكرم واحتمال المصائب بنفس طيبة.

(١٨) بمرأى ومسمع : في الأصل : رئي ومسمع.

(١٩) في الأصل : (ثابت بن الريان بن عوسجة بن الرار بن السر بن ريم بن محمد بن مالك بن زيد بن فيدد بن زرعة بن سبأ الأصغر الحميري) وما أثبته من (جمهرة الأنساب ٤١٠) وفيها :

(عوسجة بن أراذن الشرمح ذي حوال الأكبر ابن يريم بن ذي مغار البطين بن ذي مرايش بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن شدد بن زرعة بن سبأ المذكور) ، وقيل هذا فيها : (بنو مرثد بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر).

(٢٠) سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو الحميري : (نحو ١١٠ ـ ٥٠ ق ه) ـ (نحو ٥١٦ ـ ٥٧٤ م) من ملوك العرب اليمانيين ودهاتهم ، قيل : اسمه معديكرب ، ولد ونشأ بصنعاء ، وكان الحبشة قد ملكوا اليمن في أوائل القرن السادس الميلادي ، وقتلوا أكثر ملوكها من آل حمير ، فنهض سيف ، وقصد أنطاكية وفيها قيصر ملك الروم ، فشكا إليه ما أصاب اليمن ، فلم يلتفت إليه ، فقصد النعمان بن المنذر (عامل كسرى على الحيرة والعراق) فأوصله إلى كسرى أنوشروان ملك الفرس ، فحدثه بأمره ، فبعث كسرى معه نحو ثماني مئة رجل ممن كانوا في سجونه ، وأمّر عليهم شريفا من العجم اسمه وهرز ، فسار بهم إلى الأبلة غرب البصرة ، وركبوا البحر ، وخرجوا بساحل عمان ، فأقبل عليهم رجال اليمن

١٩٠

فيها رجال كثير من الفريقين. وكان ثابت المذكور منعزلا عنهم فلما تطاولت الحرب سعى في إطفائها وحسب القتلى فوجدهم كثيرا فطرح خمس مئة واثنين وسبعين بخمس مئة واثنين وسبعين حسابا ، وبقي الفاضل بينهم سبعة وأربعين رجلا ، فحمل ديتهم من نفسه وأصلح ما بين قومه.

[فصل [في وفائهم]

وأما وفاؤهم فإن الملك النعمان بن المنذر اللخمي (٢١) ، كان له يوم بؤس لا يقبل فيه أحد إلا قتله ، فخرج يوم بؤسه إلى ظهر الكوفة ، فلقيه شريك بن أخفش الطائي ، وكان يعتاد الوصول إليه ، فقال له النعمان : يا شريك ، ما حاجتك في مثل هذا اليوم الذي لا يسلم فيه مني أحد؟ قال : الحين (٢٢) ، قال : فإنه لا بد من قتلك. قال : أمهلني حتى أبلغ إلى أولادي ، وأوصيهم وأوصي بهم. قال : ومن الكفيل بك حتى ترجع إلى الموت؟ فقال : إما عمرو بن مرة (٢٣)

__________________

يناصرونهم ، فقتلوا ملك الحبشة وهو مسروق بن أبرهة الأشرم ودخلوا صنعاء ، وكتبوا إلى كسرى بالفتح ، فألحقت اليمن ببلاد الفرس على أن يكون ملكها والمتصرف في شؤونها سيف بن ذي يزن ، وعاد الفرس إلى بلادهم ، واستبقى سيف جماعة من الحبشان أشفق عليهم وجعلهم خدما له ، فائتمروا به وقتلوه بصنعاء ، وهو آخر من ملك اليمن من قحطان.

(الأعلام ٣ / ١٤٩).

(٢١) النعمان بن المنذر اللخمي (... ـ نحو ١٥ ق ه) ـ (... ـ نحو ٦٠٨ م) : من أشهر ملوك الحيرة في الجاهلية ، كان داهية مقداما ، وهو صاحب إيفاد العرب على كسرى وصاحب يومي البؤس والنعيم ، ملك الحيرة إرثا عن أبيه نحو سنة ٥٩٢ م ، وكانت تابعة للفرس ، فأقره عليها كسرى ، فاستمر إلى أن نقم عليه كسرى أبرويز ، فعزله ونفاه ثم قتله. (الأعلام ٨ / ٤٣).

(٢٢) الحين : الهلاك والموت.

(٢٣) عمرو بن مرة بن صعصعة من سلول من عدنان ، جدّ جاهلي من نسله قردة بن نفاثة من الصحابة وعبد الله بن همام من الشعراء (الأعلام ٥ / ٨٦).

١٩١

أو قراد بن الأجدع اللخمي (٢٤) ، وهم حاضرون فكفله أحدهما إلى أيام معلومة بمقدار مسافة طريقه ذاهبا وعائدا.

قال الملك فإنه إن أخلف قتلت الكفيل به ، فقال الكفيل : لك ذلك.

وذهب شريك إلى أولاده فتمادت الأيام حتى كان يوم الميعاد ، فلم يصل ، فقال الملك للكفيل اللخمي : أنا قاتلك. قال : أمهلني إلى غروب الشمس ، فأمهله ، ولم يزالوا ينتظرون وصوله ، فلما قرب المغرب ، وأمر الملك بإحضار الكفيل ، وأمر السيّاف بقتله ، فبينماهم كذلك رأوه راكبا في الطريق محثّا نحوهم حتى وصل باب الملك ، فوجدوه شريكا (٢٥) الطائي. فقال له الملك : أرجعت يا شريك إلى الموت؟ قال : لم أكن لأخون صاحبي.

فقال الملك : أما والله لا كنت ألأم الثلاثة ، ثم أمر لهما بالكساء وخلّى سبيلهما وطرح يوم البؤس عن الناس (٢٦) ، وهذه غاية من الوفاء والكرم بالنفس لم يدركها أحد.

وأما السموءل (٢٧) فوفاؤه مشهور عند الأعراب يؤرخ وينظم ويضرب به المثل في كل كتاب.

__________________

(٢٤) في الأصل : فرات بن الأجدع اللخمي ، وهو تحريف ، وما أثبته من (معجم الشعراء للمرزباني ٢٠٦) ، وهو قراد بن أجدع الكلبي من بني الحذاقية ، جاهلي ، وهو الذي كفل الطائي وكذلك في (مجمع الأمثال للميداني المثل ٣٦١ ص ٧١).

(٢٥) في الأصل : شريك.

(٢٦) لهذه القصة أكثر من رواية ، فهي في (الأغاني ٢٢ / ٨٩) تذكر أن الطائي الوافد على النعمان هو حنظلة بن أبي عفراء ، أو ابن أبي عفر ، وأن الذي كفله هو شريك بن عمرو أبو الحوفزان بن شريك ، وهي في (مجمع الأمثال للميداني المثل ٣٦١ ص ٧٠) تذكر أن الطائي هو حنظلة ، وأنه قد استجار بشريك بن عمرو بن قيس الشيباني أبي الحوفزان ، صاحب الردافة ، نديم النعمان ليكفله فأبى ، فوثب إليه قراد بن أجدع اللخمي وكفله ، وربما كان المصنف هنا ينقل رواية أخرى أو من الذاكرة فتخونه ، ويخلط بين الأسماء.

(٢٧) السموءل (... ـ نحو ٦٥ ق ه ـ ... ـ ٥٦٠ م) : هو السموءل بن غريض بن عادياء الأزدي ،

١٩٢

فصل [في شجاعتهم وعلو همتهم]

فأما شجاعتهم وعلو همتهم فإنه لم يكن في العرب أقوى من عنترة بن عمرو بن شداد (٢٨) رأسا ، ولا أشد منه بأسا ، لأنه رجل عظيم الهيبة ، جليل الخطر ، شجاع ، مخوف السطوة في البدو والحضر ، وقائعه في الحروب والمغازي مشهورة ، ونجدته وهمته بكل لسان مذكورة. وكان معاصرا لعمرو بن معدي كرب الزبيدي (٢٩) ، بطن من مذحج ، وكان عمرو المذكور شجاعا كاملا قد أسر جماعة من صناديد العرب ، فلما بلغ علم أسره لهم إلى عنترة ، ضاق صدره من ذلك وحلف ، لا بد له من غزو عمرو إلى بلده كائنا ما كان.

فلما بلغ عمرو يمينه التي حلفها ضحك من قوله ، وتعجب ، وقال : قد بلغ خطر عنترة أن يطلق لسانه عليّ بما تكلّم ، ثم كتب أبياتا من الشعر وأرسل بها

__________________

شاعر جاهلي حكيم من سكان خيبر في شمالي المدينة ، كان يتنقل بينها وبين حصن له سماه الأبلق. أشهر شعره لاميته التي مطلعها :

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل

وهي من أجود الشعر ، وفي علماء الأدب من ينسبها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي ، وهو الذي تنسب إليه قصة الوفاء مع امرئ القيس الشاعر (الأعلام ٣ / ١٤٠).

(٢٨) عنترة العبسي (... ـ نحو ٢٢ ق ه) ـ (... ـ نحو ٦٠٠ م) : عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي ، أشهر فرسان العرب في الجاهلية ، ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد ، أمه حبشية اسمها زبيبة ، سرى إليه السواد منها ، وكان من أحسن العرب شيمة وأعزهم نفسا ، يوصف بالحلم على شدة بطشه ، وفي شعره رقة وعذوبة ، وكان مغرما بابنة عمه عبلة ، وعاش طويلا ، ومات مقتولا. (الأعلام ٥ / ٩١).

(٢٩) عمرو بن معديكرب الزبيدي (... ـ ٢١ ه‍) ـ (... ـ ٦٤٢ م) : هو عمرو بن معديكرب بن ربيعة بن عبد الله الزبيدي ، فارس اليمن ، وصاحب الغارات المذكورة ، وفد على المدينة سنة ٩ ه‍ ، في عشرة من بني زبيد ، فأسلم وأسلموا ، وعادوا ، ولما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتد عمرو في اليمن ، ثم رجع إلى الإسلام ، فبعثه أبو بكر إلى الشام ، فشهد اليرموك وذهبت فيها إحدى عينيه ، وبعثه عمر إلى العراق فشهد القادسية ، وكان عصي النفس ، أبيّها ، فيه قسوة الجاهلية ، يكنى أبا ثور ، أخبار شجاعته كثيرة ، له شعر جيد ، توفي على مقربة من الريّ ، وقيل : قتل عطشا يوم القادسية. (الأعلام ٥ / ٨٦).

١٩٣

إليه من يسمعه إياها ، فلما سمعها ازداد غيظا (٣٠) وحنقا وحمية ، فصاح بقومه بني عبس ، وجمع منهم جمعا ، وسار غازيا إلى منزل عمرو ، فلم يعلم عمرو إلّا وفرسان عبس قد أقبلت إليه سباقا ، فنادى في بني زبيد ، فخرجوا إليهم ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وكثر القتل في الفريقين.

فلما طالت الحرب ولّت عبس مدبرة ، فبقي عنترة معقبا عليهم وهو ينادي يا آل عبس ، فلم يلتفت إليه أحد / فلما تحقق الهزيمة أصحابه بقي يحامي على أعقابهم ، فحمل عليه عمرو بن معدي كرب ، فطعنه بأسفل الرمح ، فكبه على وجهه ، وقبضه من شعره (٣١) وأخذه أسيرا ، فأقام عنترة عنده زمانا طويلا في الحبس ، ثم أنشد هذه الأبيات وهو في الوثاق : [الوافر]

لقد أنذرت لو أغنى ولكن

أبى القدر المتاح لكلّ نفس

فمن يك للردى أمسى رهينا

وإن بعد المدى في يوم نحس

فما أبكي لما أمسيت فيه

من الغلّ الثقيل وطول حبس

ولكني لزمت وقد تولّى

وأسلمني فوارس آل عبس

وولّوا هاربين بكل وعر

وخيلهم تسام بكلّ تعس

فلما سمع عمرو المذكور جزّ ناصيته وأخلى سبيله ، وكذلك أسر العباس بن مرداس السلمي (٣٢) في حال الحرب وأوثقه فقال أيضا وهو في الوثاق هذه الأبيات : [الوافر]

__________________

(٣٠) في الأصل : غيضا.

(٣١) في الأصل : وقبض من شرد.

(٣٢) العباس بن مرداس السلمي (... ـ نحو ١٨ ه‍) ـ (... ـ نحو ٦٣٩ م) : هو العباس بن مرداس بن أبي عامر السلمي من مضر ، أبو الهيثم ، شاعر فارس ، من سادات قومه ، أمه الخنساء الشاعرة ، أدرك الجاهلية والإسلام وأسلم قبيل فتح مكة ، وكان من المؤلفة قلوبهم وكان ممن ذم الخمر وحرمها في الجاهلية ، ومات في خلافة عمر (الأعلام ٣ / ٢٦٧).

١٩٤

فإن أك في الغداة أسير قيد

أسيرا في وثاق بني زبيد

أقاصي معصلا من غل شعري

فقلبي ما ألج على دريد (٣٣)

وقبل اليوم ما أمسيت خلوا

عزيز النفس ملزوما بقيد

أبيّا تصبح الأملاك عندي

من الأنكال في شوق وأيد (٣٤)

وكذلك أسر الخيار بن مرة المزني ، وذلك أنه وجده (٣٥) راكبا على ناقة وهو يترنم بأبيات ، فقال له عمرو : من أنت أيها الراكب؟ فقال : أنا الخيار بن مرة.

وقد كان بينه وبين عمرو ضغائن قديمة ، ولم يعرف أحدهما الآخر ، فلما عرفه بنفسه عرفه عمرو ، فقال له : ما أمرك وأمر عمرو بن معدي كرب في هذه المدة؟ قال : أغار علينا ، وقتل رئيسنا ، وأنا غائب ، ونفسي تحدثني بالمغاث عليه الآن.

قال : أما في قومك من هو أولى منك بذلك؟ قال : لا.

قال : فابن سنان بن حارثة (٣٦) ، والحارث بن ظالم (٣٧) ، وهاشم بن

__________________

(٣٣) أقاصي : أباعد. معصلا : المعصل : المشدّد على غريمه ، ودريد هنا هو دريد بن الصمة ، وأمه ريحانة أخت عمرو بن معديكرب الزبيدي ، وقيل : إن ريحانة أخت دريد وهي حبيبة عمرو ، تعلق بها وأغار عليها ثم التمس من دريد أن يتزوجها فأجاب (ديوان عمرو بن معديكرب ١٢٧).

(٣٤) الأيد : القوة والصلابة.

(٣٥) في الأصل : وجد.

(٣٦) ابن سنان بن حارثة : لسنان بن حارثة ولدان : أحدهما خارجة بن سنان وهو أنبه من أخيه هرم بن سنان ، حتى سخر الله لهرم زهيرا ، فظهر وخفي خارجة ، ولا ندري أيهما أراد ، وقد توفي هرم بن سنان نحو (١٥ ق ه ـ ٦٠٨ م) وهو ابن سنان بن أبي حارثة المري ، من مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان ، من أجواد العرب في الجاهلية ، يضرب به المثل ، وهو ممدوح زهير بن أبي سلمى ، مدحه وابن عمه الحارث بن عوف بن أبي حارثة بدخولهما في الإصلاح بين عبس وذبيان ، ومات هرم قبل الإسلام. (الأعلام ٨ / ٨٢).

(٣٧) الحارث بن ظالم (... ـ نحو ٢٢ ق ه ـ نحو ٦٠٠ م) : هو الحارث بن ظالم بن قيس المري

١٩٥

حصين ، أبناء حرملة (٣٨)؟ قال الخيار بن مرة : كل أولئك المذكورين أسرهم عمرو ، ومنّ عليهم بالفكاك ، وهم له شاكرون خائفون.

فقال له عمرو : فأنا عمرو ، إما أن تستأسر وإلا قتلتك.

فقبض الخيار بيده على سيفه ليقاتل ، فحمل عليه عمرو فطعنه حتى صرعه وشده وثاقا ، / فأقام معه محبوسا حتى استوهبه منه سنان بن حارثة (٣٩) ، فوهبه له.

__________________

أبو ليلى ، أشهر فتاك العرب في الجاهلية ، نشأ يتيما ، قتل أبوه وهو طفل ، وشبّ وفي نفسه أشياء من قاتل أبيه ، وآلت إليه سيادة غطفان بعد مقتل زهير بن جذيمة ، ووفد على النعمان بن المنذر (ملك الحيرة) فالتقى بقاتل أبيه (جعفر بن خالد سيد بني عامر) فتنازعا بين يدي النعمان ، فلما كان الليل أقبل الحارث على خالد وهو في مبيته فقتله ، فعلمت بذلك بنو عامر فجدّت في طلب الحارث ، فعاد إلى عشيرته من غطفان ، فهابوا شرّ بني عامر فلم يحموه ، فانصرف إلى حاجب بن زرارة التميمي ، فحماه مدة ثم لحق بعروض اليمامة ، وبلغه أن النعمان بعث إلى جارات له فسباهن ، فأتى حاضنة ابن النعمان ، فأخذه منها وقتله ، فطلبه النعمان فلجأ إلى بني شيبان قليلا ، ورحل إلى طيئ ، وكانت له في كل حيّ يأوي إليه حادثة ، فتحامت قبائل العرب شره ونشبت من أجله معارك كثيرة ، ورحل عن طيئ فجاور بني دارم ، فحموه ، فغزاهم الأحوص فانهزموا ، وانطلق الحارث يطوف في البلاد ، حتى أتى الشام فقتل في حوران (الأعلام ٢ / ١٥٥).

(٣٨) هاشم بن حصين أبناء حرملة : ليس في (الأعلام ٨ / ٦٤): (حصين أبناء) وإنما هو فيه : هاشم بن حرملة بن الأشعر المري من بني مرة بن عوف بن ذبيان ، من فرسان الجاهلية ، كان رئيس بني مرة بن عوف ، وهو الذي قتل معاوية بن عمرو السلمي (أخا الخنساء) من أجل امرأة ، ثم قتل صخر السلمي دريدا أخا هاشم بثأر معاوية ، ثم لقي قيس بن الأسوار الجشمي هاشما فكمن له فقتله.

(٣٩) سنان بن حارثة : هو سنان بن أبي حارثة المري من غطفان ، أحد أجواد العرب وقضاتهم المحكمين ، في الجاهلية ، عنفه قومه على كثرة عطاياه ، فركب ناقة ولم يرجع ، فسمّته العرب (ضالة غطفان) ، وكان في عصر النعمان بن المنذر ، قبيل الإسلام (الأعلام ٣ / ١٤١).

١٩٦

وأسر أيضا دريد بن الصمة (٤٠) وعامر بن الطفيل (٤١) وهؤلاء المذكورون جميعا من شجعان العرب المشاهير (٤٢).

__________________

(٤٠) دريد بن الصمة الجشمي البكري (... ـ ٨ ه‍) ـ (... ـ ٦٣٠ م) : من هوازن ، شجاع من الأبطال ، الشعراء ، المعمرين في الجاهلية ، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم وغزا نحو مئة غزوة لم يهزم في واحدة منها ، وعاش حتى سقط حاجباه عن عينيه ، وأدرك الإسلام ولم يسلم ، فقتل على دين الجاهلية يوم حنين ، وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به ، وهو أعمى ، فلما انهزمت أدركه ربيعة بن رفيع السلمي فقتله (الأعلام ٢ / ٣٣٩).

(٤١) عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامري (٧٠ ق. ه ـ ١١ ه‍) ـ (٥٥٤ ـ ٦٣٢ م) ، من بني عامر بن صعصعة ، فارس قومه ، وأحد فتاك العرب وشعرائهم وساداتهم في الجاهلية ، ولد ونشأ بنجد ، وأدرك الإسلام شيخا ، فوفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في المدينة بعد فتح مكة ، يريد الغدر به ، فلم يجرؤ عليه ، فدعاه إلى الإسلام ، فاشترط أن يجعل له نصف ثمار المدينة ، وأن يجعله ولي الأمر من بعده ، فردّه ، فعاد حنقا ، وسمعه أحدهم يقول : لأملأنها خيلا جردا ، ورجالا مردا ، ولأربطن بكل نخلة فرسا!! فمات في طريقه قبل أن يبلغ قومه (الأعلام ٣ / ٢٥٢).

(٤٢) لا شك عندي أن عمرو بن معديكرب الزبيدي صحابي بطل شجاع جليل ، والحرب سجال ، مرة له ومرة عليه ، وقد جاء في كتب الأدب بل في ديوانه نفسه أنه فرّ من عباس بن مرداس السلمي الذي أسر أخته ريحانة وفيها يقول :

أمن ريحانة الداعي السميع :

يؤرقني وأصحابي هجوع

وفيها قوله :

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وكذلك فرّ عن بني عبس وفيهم زهير بن جذيمة العبسي وولده شأس بن زهير ، وقيس بن زهير ومالك بن زهير فقال فيهم :

أجاعلة أم الثوير خزاية

علي فراري إذ لقيت بني عبس

وفيها يقول :

وليس يعاب المرء من جبن يومه

إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس

ولكن المصنف روى لنا هنا أن عمرا قد أسر العباس بن مرداس السلمي ، وعنترة العبسي ، وغيره من الفرسان ، وليته أشار إلى المصادر التي استقى منها ، فأغنى معلوماتنا بها ، ولمزيد من الاطلاع يراجع (ديوان عمرو بن معديكرب الزبيدي تحقيق مطاع الطرابيشي ص ١٢٨ ـ ١٣٦ و١١٣ ـ ١١٥) ، و (الأغاني ١٥ / ٢٠٧ و٢٢٥ و٢٣٦) ، و (العقد الفريد ١ / ١٤٦ ، و٣ / ٤٠٦).

١٩٧

فصل [في كرم طبيعة عمرو بن معديكرب الزبيدي وحسن عقيدته]

وأما كرم طبيعته وحسن عقيدته فإن هؤلاء المذكورين الذين أسرهم أقاموا في سجنه زمانا طويلا ، ثم سألوه الفكاك ففكهم.

وأما حسن عقيدته فإنه لما جاء الله بالإسلام كتب إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام وإلى الهدى فلما جاءه كتابه أسلم ، وجعل الكتاب في حقّ من عاج ودفنه في المسك ، ثم قال : يا بني زبيد ، لا تزالون بخير ما بقي بين أظهركم ، ثم قال : إني أريد المضي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولكن بيني وبين العرب ضغائن ، وأقام سنة وهو يهم بالوصول إليه ، ثم لما مضت السنة التي توفي بها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولم يجتمع به ، فحزن حزنا شديدا ، وبقي حتى أتت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فكتب إليه عمر بن الخطاب يستعين به وبأصحابه في نصر المسلمين فسمع وأطاع ، ووصل إلى عمر رضي الله تعالى عنه في جماعة وافرة ، فأمره عمر بن الخطاب أن يمضي إلى العراق لمعونة المسلمين ، فكتب معه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص (٤٣) صاحب ثغر المسلمين.

__________________

(٤٣) سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري ، أبو إسحاق (٢٣ ق. ه ـ ٥٥ ه‍) ـ (٦٠٠ ـ ٦٧٥ م) ، الصحابي الأمير ، فاتح العراق ومدائن كسرى ، وأحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة ، وأول من رمى بسهم في سبيل الله ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، ويقال له فارس الإسلام ، أسلم وهو ابن ١٧ سنة ، وشهد بدرا وافتتح القادسية ، ونزل أرض الكوفة ، فجعلها خططا لقبائل العرب ، وابتنى بها دارا فكثرت الدور فيها ، وظل واليا عليها مدة عمر بن الخطاب ، وأقره عثمان زمنا ، ثم عزله ، فعاد إلى المدينة ، فأقام قليلا وفقد بصره ، مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة ، وحمل إليها ، له في كتب الحديث ٢٧١ حديثا (الأعلام ٣ / ٨٧).

١٩٨

سلام الله عليك ، أما بعد :

فقد بعثت إليك بألف فارس وهو عمرو بن معدي كرب يقوم مقامها ، فادفع إليه أعنة الخيل وشاوره في جميع أمور الحرب ، فإنه شجاع مجرب ولا توله شيئا من أحكام المسلمين ، فإنه حديث عهد بالجاهلية (٤٤).

فلما وصل إلى سعد بن أبي وقاص ، وهمّ في حصار القادسية ، سرّ بوصوله المسلمين ، فلما نشبت الحرب بين الصفين قال : معاشر المسلمين لا يهي جلدكم (٤٥) ولا يدخل بقلوبكم الرعب من الأعاجم ، خذوا على أثري ، وإن عدمتموني فذلك ، وإن أدركتموني وجدتموني قائما ، وفي يدي السيف.

ثم حمل في صف الأعاجم فستره الغبار ، وحمل المسلمون بعده فوجدوه قائما على رجليه / في وسط العجاج ، والسيف بيده ، وقد غرقت رجلاه بالدم ، وفرسه مطعون لا يستطيع القتال ، فلما وصل إليه أصحابه لزم برجل فرس لبعض الأعاجم ، ورمى براكبه وقتله ، وركب الفرس ، وعاد إلى صف المسلمين.

ثم نادى معاشر المسلمين ، لا تهولنكم الأعاجم فإن قيمة أحدهم المزراق (٤٦) الذي في يده ، فإذا ألقاه بقي كالتيس الذي كسر قرناه.

فدفع إليه سعد بن أبي وقاص عشرة رؤوس من الخيل كانت تقاد بين يديه ، وبأحدها عشرة أسهم من الغنيمة ، وفتح ذلك اليوم للمسلمين على يديه بقبض القادسية.

__________________

(٤٤) لم يشر المصنف إلى ارتداده عن الإسلام ثم عودته إليه ، ثم جهاده في سبيل الله صادقا في سلسلة الغزوات المباركة ، ويراجع في ذلك : (ديوانه ١٥ ـ ٢٠) ، و (تاريخ الطبري ٢ / ٤٦٦ ، ٥٣٨) ، و (معجم الشعراء للمرزباني ١٦) ، و (السيرة النبوية لابن هشام ٢ / ٥٨٥) ، وغيرها من المصادر التي اعتمد عليها محقق الديوان.

(٤٥) لا يهي جلدكم : لا يضعف صبركم.

(٤٦) المزراق : الرمح القصير.

١٩٩

فانظر إلى حسن عقائد القحطانية ، وحسن طباعهم ، ونجدة هذا الرجل المقدام ، شهد له أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه مقام ألف فارس يقوم مقامها في كل مقام ، فأي شاعة فوق هذه الشاعة (٤٧) ، وأي رجل يقوم مقام المذكور في الشجاعة؟! تغمده الله برحمته وأسكنه في جنته ، وأي مفخرة تناسب هذه المفخرة : إقامته مقام ألف فارس ، وأسره لعنترة ، وعنترة هو الذي كلامه ، وأبيات نظمه تخبر بقوة عزمه ، ومما يدل على هممه العليات قوله هذه الأبيات وهي : [الكامل]

حكّم سيوفك في رقاب العذّل

وإذا نزلت بدار ذلّ فارحل

وإذا بليت بظالم كن ظالما

وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل

واختر لنفسك منزلا تعلو به

أومت كريما تحت ظلّ القسطل (٤٨)

وإذا الدليل نهاك يوم كريهة

خوفا عليك من ازدحام الجحفل (٤٩)

فارفض مقالته ولا تحفل به

واحمل (٥٠) إذا خفّ اللقا بالأول

فالموت لا ينجيك منه ، فأته ،

حصن ولو شيّدته بالجندل (٥١)

واسمع نصيحة عارف قد جربت

أوهامه أهل الزمان الأول

إن كنت في عدد العبيد فهمتي

فوق الثريا والسماك الأعزل (٥٢)

__________________

(٤٧) الشاعة : الأخبار المنتشرة.

(٤٨) القسطل : الغبار الساطع.

(٤٩) الجحفل : الجيش الكثير.

(٥٠) في الأصل : ولا حمل.

(٥١) الجندل : الحجارة.

(٥٢) السماك الأعزل والرامح : نجمان نيّران.

٢٠٠