نشر المحاسن اليمانيّة

ابن الديبع الشيباني الشافعي

نشر المحاسن اليمانيّة

المؤلف:

ابن الديبع الشيباني الشافعي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر ـ دمشق
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٢

[١٤] / فصل

[في ذكر الرياح الأربع وجهات هبوبها وصفاتها وما يحمد منها

وما يذم وما جاء في ريح الجنوب المنسوبة إلى اليمن]

اعلم ـ وفقك الله ـ أنه ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الريح من روح الله تجيء بالرحمة والعذاب ، فلا تسبوها ، واسألوه خيرها ، وتعوذوا من شرها» (٣٤).

قال الشيخ العارف عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (٣٥) رحمه الله في كتابه (سراج التوحيد) : الرياح أربع وهي : الشمال والجنوب والصبا والدبور ، فجهة الشمال ما بين مطلع بنات نعش إلى مطالع الشمس في الشتاء ، يعني بنات نعش السبعة (٣٦) التي في جهة القبلة ، وجهة الجنوب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف ، وجهة الصبا ما بين مطالع الشمس في الصيف إلى مطلع سهيل ، وجهة الدبور ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش.

__________________

(٣٤) يراجع تعليقنا رقم (٢٨) وفيه نص هذا الحديث مخرجا والتعليق عليه ، ويلاحظ أن المصنف هنا يروي الحديث بالمعنى لا بنصه كما أوردناه هناك عن كتب السنة.

(٣٥) عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليافعي (٦٩٨ ـ ٧٦٨ ه‍) ـ (١٢٩٨ ـ ١٣٦٧ م) : مؤرخ باحث متصوف من شافعية اليمن ، نسبته إلى يافع بن حمير ، ومولده ومنشؤه في عدن ، حج سنة ٧١٢ ه‍ وعاد إلى اليمن ثم رجع إلى مكة سنة ٧١٨ ه‍ فأقام وتوفي بها ، وتصانيفه كثيرة ، ولعله صاحب التاريخ الذي اعتمد فيه ابن خلكان والذهبي ، وفيه من التعصبات الأشعرية أشياء منكرة ، وله كلام في ذم ابن تيمية ، وهو من المعظمين لابن عربي ، وله في ذلك مبالغة. (الأعلام ٤ / ٧٢ وغربال الزمان ٧ ، والمقدمة عليه للمشرف القاضي عبد الرحمن الإرياني).

(٣٦) بنات نعش الكبرى : سبعة كواكب أربعة منها نعشّ أي سرير لأنها مربعة ، وثلاث بنات نعش ، وكذلك بنات نعش الصغرى ، شبهت بحملة النعش في تربيعها ، وواحدها ابن نعش لأن الكوكب مذكر فيذكرونه على تذكيره.

١٢١

قلت : وبنات نعش منها كبرى ومنها صغرى ومطالعها متقاربة ، والكبرى أرفع من الصغرى ، والقطب الذي يستدل به على القبلة في وسط الصغرى ما بين الفرقدين والجدي ، وكل هذه النجوم المذكورة تدور حوله كيفما دارت وانقلبت ، فهي مقابلة للكعبة.

هذا معنى كلام الإمام اليافعي ، وإن لم يكن لفظه بعينه ، وقد كنت سمعت الناس يكثرون السؤال في أيام الخريف عن طلوع هذه السبعة المسماة بنات نعش فنظمت في معنى طلوعها هذا البيت وفيه رمز مفيد في ترتيب الطلوع وهي هذه :

تاكل تركن أجب اديع

احكس اوس احكع لذاعق

فالحروف : الأول إشارة إلى الشهر الرومي ، والحرف الأخير إشارة إلى النجم الطالع ، وما كان بينهما من الحروف فهي إشارة إلى العدد بحساب الجمل (٣٧) ؛ فقولنا : تاكل ، التاء إشارة إلى تموز وهو الحرف الأول ، واللام إشارة إلى طلوع النجم الأول من السبعة وهو الحرف الأخير ، وبينهما ألف وكاف ، فالألف بواحد ، والكاف بعشرين ، فيكون طلوع الأول من السبعة على أحد وعشرين يوما من تموز. وعلى هذا فقس باقي البيت ، أخذت معنى حقيقة طلوعها من أصل منشور محقق ، وجدته عند الفقيه الفاضل العلامة تقي الدين عمر بن محمد الفتى معيبد (٣٨) ، وسألته عن صحته ، فقال : صحيح.

__________________

(٣٧) جدول حساب الجمل تقابله الأرقام :

(٣٨) تقي الدين عمر بن محمد الفتى معيبد : هو أبو حفص عمر بن محمد بن معيبد السراج المعروف بالفتى (٨٠١ ه‍ ـ ٨٨٧ ه‍) ، فقيه اليمن وعالمها ومفتيها ، وستأتي ترجمته كاملة في الباب السابع التعليق ٩٤

١٢٢

رجعنا إلى ما كنا فيه من ذكر الرياح الأربع ، قال اليافعي رحمه الله : وأما صفاتها فصفة (٣٩) الشمال أنها تفرق السحاب وتمحوه من الجو ، وبردها في الشتاء أشد من هبوبها / وتصبح الأرض منها كأنها مطمورة بقدرة الله تعالى.

وصفة الجنوب أنها إذا هبت كانت قوتها في العلو والهواء أكثر ، لأنها موكلة بالسحاب تجمعه وتؤلفه وتسوقه ، وتلقح الأشجار ، وتحرك رؤوسها وأغصانها ، وتقلع العماد ؛ وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنها من ريح الجنة» (٤٠). وعن ابن عباس : «أن الخيل العراب خلقت منها تطير بلا جناح» (٤١).

__________________

(٣٩) في الأصل : وصفة.

(٤٠) روى ابن جرير من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهذم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة» ، وهي التي ذكرها الله في كتابه : وفيها(مَنافِعُ لِلنَّاسِ) ، وهذا إسناد ضعيف ، وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميري في مسنده : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جعدية الليثي ، أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح سبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله الأذيب ، وهي فيكم الجنوب» (تفسير ابن كثير سورة الحجر ٩٩ / ٢٢) [٤ / ١٥٨].

(٤١) في المسجد المسبوك ص ٤ : وذكر الشيخ أبو جعفر محمد بن عبد الله الكسائي في كتابه : (عجائب الملكوت) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ريح الجنوب من ريح الجنة ومنها خلق الله الخيل العراب وهي الرياح اللواقح» ، وذكر فيها أيضا عن وهب بن منبه قال : «لما أراد الله أن يخلق الخيل قال للريح الجنوب إني خالق منك خلقا أجعله عزّا لأوليائي ومذلة لأعدائي وإجلالا لأهل طاعتي ، فقبض قبضة من ريح الجنوب فخلق منها فرسا وقال : سميتك فرسا وجعلتك تطيرين بلا جناحين فأنت المطلب وإليك المهرب».

١٢٣

وصفة الصبا أنها ريح معها روح ونسيم ، تلقح الأشجار أيضا ، ولا تهب إلا بالليل حتى يسفر النهار وتطلع الشمس ، ثم تقف. وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» (٤٢).

وفي مدح الصبا قال مجنون بني عامر : [الطويل]

أيا جبلي نعمان بالله خلّيا

نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها

فإن الصّبا ريح إذا ما تنفست

على نفس محزون تجلت همومها (٤٣)

وقد جاء في تفسير القرآن العظيم : أنها استأذنت ربها في حمل ريح يوسف إلى يعقوب عليه‌السلام ، لتكون سابقة للبشير ، مدخلة على قلبه بالسرور ، فأذن لها ، فحملته (٤٤) ، فلما شمّه يعقوب قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف ١٢ / ٩٤].

__________________

(٤٢) رواه البخاري استسقاء ٢٦ ، وبدء الخلق ٥ ، ومغازي ٢٩ ، وأنبياء ١ ، ومسلم ٣ / ٢٧ ، وأحمد ١ / ٢٢٣ ، ٢٢٨ ، ٣٢٤ ، ٣٤١ ، ٣٥٥ ، ٣٧٣ ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «نصرت بالصبا ، وهي ريح الشمال ، وأهلكت عاد بالدبور ، وهي ريح الجنوب» ، أي نصرت يوم الأحزاب بالصبا ، وهي الريح التي تجيء من ظهرك إذا استقبلت القبلة ، ويسمى القبول ، وأهلكت عاد قوم هود بالدبور ، التي تجيء من قبل الوجه إذا استقبلت القبلة ، ويسمى القبول ، وأهلكت عاد قوم هود بالدبور ، التي تجيء من قبل الوجه إذا استقبلت القبلة ، يعني الريح مأمورة تجيء مرة للنصرة وتارة للإهلاك.

(٤٣) البيتان لمجنون بني عامر قيس بن المللوح ، الديوان ٢٥١ أو لامرأة من نجد ويميل السيوطي في (شرح شواهد المغني ص ٢٣) أنه لأسماء المرية صاحبة عامر بن الطفيل. ونعمان اسم واد.

ويروى : طريق الصبا.

وهما أيضا في (التصريح بمضمون التوضيح للشيخ خالد الأزهري ١ / ١٥٢) ، و (الأغاني ١ / ١٧٠ و٥ / ٣٤) ، و (الحماسة الشجرية ١٦٨) ، و (البصرية ٢ / ٩٦).

(٤٤) في تفسير الجلالين [يوسف ١٢ / ٩٤] (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) ، أوصلته إليه الصبا بإذنه تعالى من مسيرة ثلاثة أيام أو ثمانية أو أكثر.

١٢٤

وصفة الدبور أن قوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء ، وأنها تكنس الأرض ، وتثير الغبار ، ويسمع للأشجار منها في البوادي دويّ ، وهي التي أهلك الله بها عادا قوم هود.

قلت : واسمها بلسان بلدنا في وصاب الأسفل ريح النخل ، لأنها تشتد في وقت ثمرته في تموز.

قال العلماء : كل ريح من هذه الأربع إذا جرت بين ريحين سميت نكباء لعدولها عن مهب الرياح الأربع ، وفي لسان أهل بلدنا أيضا تسمى عصبا (٤٥) ، وهي التي تحمل التراب والقشاش وتعرج به في الجو.

فصل [في بركة الجنوب ، وأسباب تسمية كل ريح ، وأحاديث

الأدعية عند هبوبها]

قال الفضلاء : والعرب تتبارك بالجنوب ، لأنها تلقح وتجمع السحاب في الهواء ، فيتلف المطر ويكون ودقه (٤٦) هينا ، وقد قال بعض الشعراء في مدحها : [الطويل]

فتى خلقت أرواحه مستقيمة

لها نفحات ريحهن جنوب (٤٧)

وتتشأّم من الشمال لأنها تسقط السحاب وتفرق المطر وقد قال فيها بعض الشعراء يذمها : [الكامل]

حتى رأيتهم كأنّ سحابة

صبّت عليهم ودقها لم تشمل

__________________

(٤٥) في الأصل : عصبما.

(٤٦) الودق : المطر المستمر.

(٤٧) في الكامل للمبرد ٣ / ٦٨ : أورد البيت بلا عزو ، وقال : يريد أن الجنوب تأتي بالمطر والنّدى.

١٢٥

يعني : لم يصبها شمال (٤٨) لأنها تصيب الحائط الذي عليه الميزاب ، وهي شمال الكعبة.

وأما الجنوب ، فإنما سميت جنوبا لأنها تهب من ناحية اليمن ، وهبوبها مقابل لهبوب الشمال ، وبعض العرب يسميها الأزيب.

وأما الدبور فإنما سميت دبورا لأنها تأتي من دبر الكعبة ، يعني من ظهرها ، وبعض العرب يسميها الغربية لأن هبوبها من جهة المغرب.

وأما الصبا فإنها سميت صبا لأنها تصيب وجه الكعبة.

فائدة :

ذكر الإمام الفاضل جمال الدين الجزري (٤٩) في كتابه عدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا هاجت ريح استقبلها بوجهه وجثا على ركبتيه ويديه وقال : «اللهم إني أسألك خيرها ، وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» (٥٠) ، «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» (٥١) ، «اللهم رحمة لا عذابا» (٥٢).

__________________

(٤٨) لم يصبها شمال : أي ريح الشمال ، وهي الريح التي تهب من ناحية القطب.

(٤٩) جمال الدين الجزري (٧٥١ ـ ٨٣٣ ه‍) ـ (١٣٥٠ ـ ١٤٢٩ م) ، هو محمد بن محمد بن علي بن يوسف ، أبو الخير شمس الدين ، العمري الدمشقي الشيرازي الشافعي الشهير بابن الجزري شيخ الإقراء في زمانه ، من حفاظ الحديث ، ولد ونشأ في دمشق ، وابتنى فيها مدرسة سماها دار القرآن ، ورحل إلى مصر مرارا ، ودخل بلاد الروم ، وسافر مع تيمور لنك إلى ماوراء النهر ، ثم رحل إلى شيراز فولي قضاءها ومات فيها ، له مصنفات كثيرة (الأعلام ٧ / ٤٥).

(٥٠) يراجع التعليق ٢٩ / أمن هذا الباب وفيه الكلام على الحديث وتخريجه.

(٥١) يراجع التعليق ٢٩ / ب من هذا الباب وفيه الكلام على الحديث وتخريجه.

(٥٢) يراجع التعليق ٢٩ / ب من هذا الباب وقد ورد الحديث فيه «اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا». قبل الحديث السابق «اللهم اجعلها رياحا ...» ، وهما نص حديث واحد كما تقدم بيانه.

١٢٦

قال الإمام المذكور وإن جاء مع الريح ظلمة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ بالمعوذتين ويقول : «اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، وأعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به» (٥٣) ، «اللهم لقحا لا عقيما» (٥٤).

قلت : وينبغي لكل أحد أن يستعمل هذا الذكر عند إقبال الرياح ومتابعة أفعاله وأقواله ليسلم من شرها ، فلنا في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة. نسأل الله تعالى التثبيت آمين.

__________________

(٥٣) تقدم التعليق على هذا الحديث برقم ٢٨ / ب من هذا الباب.

(٥٤) تقدم التعليق على هذا الحديث برقم ٢٨ / ج من هذا الباب.

١٢٧
١٢٨

[١٦] / ٣ ـ الباب الثالث

في ذكر نسب القحطانية

اعلم ـ وفقك الله تعالى ـ أن نوحا عليه‌السلام هو نوح بن لامك بن متّوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل (١) بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، هكذا ذكر الجوزي (٢) في المنتخب ، فصار آدم هو الأب التاسع لنوح عليهما‌السلام بهذه النسبة المذكورة.

وإذا ثبت ذلك فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «ولد لنوح سام وحام ويافث ، فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم ، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم ، وولد لحام القبط والبربر والسودان» (٣). هذا لفظ الحديث ذكره في الكوكب.

وقال أهل التواريخ فلما قرب موت نوح عليه‌السلام أحضر ابنه ساما وقال

__________________

(١) في الأصل : هو شخ بن ... مهلبل ، والمثبت من طرفه الأصحاب ٢ ، ٣ ، ١٨ ، ٦٧

(٢) الجوزي (٥٠٨ ـ ٥٩٧ ه‍) ـ (١١١٤ ـ ١٢٠١ م) : هو عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي ، أبو الفرج ، سبقت ترجمته في التعليق ١٠ من الباب الثاني.

(٣) هذا الحديث ذكره الطبري في تاريخه ١ / ٢١٠ قال : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا أبو اليمان ، قال : حدثنا إسماعيل بن عباش ، عن يحيي بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : «ولد نوح ثلاثة ، وولد كل واحد ثلاثة : سام وحام ويافث ، فولد سام العرب وفارس والروم ، وفي كل هؤلاء خير. وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وليس في واحد من هؤلاء خير. وولد حام القبط والسودان والبربر».

وهو بألفاظ مقاربة لما في المتن كما رأينا.

١٢٩

له : إن الله أوحى إليّ أن أوصي إليك ، وأن آمرك بقسمة الأرض بين أولادي من بعدي ، وأنه قد اختصك بوسط الأرض ، وجعل لك بلدا تحدق به البحار والأنهار من جوانبه ، تحوي جبالا وسهلا. وجعل لأخيك حام ما خلف البحر من ناحية الجنوب آخذا إلى المغرب ، وجعل لأخيك يافث ما خلف البحر من ناحية الشمال آخذا إلى المغرب ، فإذا أنا متّ فاقسم الأرض من بعدي على هذه القسمة. فإن الله تعالى قد وعدك أن ترى عدد ولدك ، ويجعل فيهم أنبياء ، وخلفاء ، وملوكا ، ويختصهم من العقول بأرجحها ، ومن الألوان بأعدلها ، ومن الألسن بأفصحها ومن الخلائق بأفضلها ، وهم معلون في الأرض إلى يوم القيمة. هذه وصية نوح عليه‌السلام إلى ابنه سام بوحي من الله تعالى.

/ ـ فصل [في اقتسام الأرض بين أبناء نوح]

قالوا : فلما مات نوح عليه‌السلام عمل ابنه سام بمقتضى وصيته ، فمضى يافث بأولاده إلى خلف البحر موضع الشمال ، وأرض الشمال باردة رطبة لبعد الشمس عنها ، فلذلك صارت ألوانهم حمرا وأعينهم زرقا وشعورهم شقرا وألسنتهم ثقيلة وأجسامهم عظيمة ، ومضى حام بأولاده إلى خلف البحر موضع الجنوب ، وأرض الجنوب حارة يابسة لكثرة تردد الشمس عليها ، فلذلك صارت ألوانهم سودا ، وأجسامهم خفيفة ، وشعورهم مغلغلة ، وألسنتهم ثقيلة لإفراط اليبس ، ومضى سام بأولاده إلى حيث أوصاه والده ، فدخل الحجاز فوجده حارا ، ودخل نجدا فوجده مفرط الحر والبرد ، ودخل العروض (٤) فوجد هواءها عصبا (٥) ، ودخل اليمن حتى دخل حقل صنعاء فوجده صحيح الهواء خفيف الماء ، ووجد

__________________

(٤) العروض : معترضة في بلاد اليمن والعرب ، ما بين تخوم فارس إلى أقصى أرض اليمن مستطيلة مع ساحل البحر (معجم البلدان ٤ / ١١٢).

(٥) في الأصل : عص وهو تحريف ، والعصب غيم أحمر يظهر في سني الجدب والقحط. (التاج واللسان).

١٣٠

برده غالبا لحرارته ، ورأى جوه صافيا ، فأعجبه المكان ، وعزم على الإقامة فيه فأسس مدينة صنعاء ، وحفر بئرا فيها تسمى إلى الآن بئر سام.

قالوا : وكان سام سرياني اللسان على لغة آبائه ، فأقام فيها ، وولد له فيها خمسة أولادهم أرفخشد (٦) وأشوذ ولاوذ وإرم وعويلم ، فاستولت عليهم طباع الإقليم ، فتعدلت أجسامهم وحسنت ألوانهم ، وتجعدت شعورهم وخفت ألسنتهم ، لأنهم في بلد بين الجنوب المحرقة بحرها ، وبين الشمال المجمدة ببردها ، فصارت الألوان بين البياض الممهق (٧) والسواد المحترق ، والشعر بين الجعد القطط (٨) والمسترسل السبط (٩).

قال الحكماء : وهذه الصفات المختلفة في البلدان ، إن لها تأثيرا قويا في طباع الأبدان ، ومما يؤيد ذلك أن العربي يسكن في بلاد العجم ويولد له فيها ، فيظهر ولده دونه في الفصاحة ، ثم يكون ولد ولده أعجميا ، وكذلك الأعجمي بضد هذا تصير أولاده متعربين.

قالوا : ولأجل ذلك افترقت ألسنة أولاد نوح على اثنين وسبعين لسانا ، فمنها في أولاد سام سبعة عشر لسانا ، وفي أولاد حام تسعة عشر لسانا ، وفي أولاد يافث ستة وثلاثون لسانا ، فأقام سام وأولاده وأولادهم في صنعاء ما شاء الله ، ثم إنهم أحبوا الفسحة في الأرض ، فخرجوا وافترقوا في جزيرة العرب فصار شالخ بن أرفخشد بن سام / إلى حضرموت فأقام ما شاء الله ، ثم أرسله إلى عاد ، وكانت مساكنهم مرتبط أبين إلى حضرموت ، فكان من خبرهم ما هو مشهور في كتاب الله عز وجل.

__________________

(٦) في الأصل : أرفخشذو.

(٧) الممهق : الأبيض لا يخالطه حمرة وليس بنيّر ، لكنه كالجصّ.

(٨) الجعد القطط : القصير.

(٩) المسترسل السبط : وهو ضد الجعد ، طويل.

١٣١

فصل [في وصية هود لابنه قحطان وقيامه بها من بعده]

ثم إن هودا (١٠) لما قربت وفاته أوصى ابنه قحطان بتقوى الله والعمل الصالح وحراسة دين الله ، فقام بذلك أحسن قيام ، ثم توفي هود عليه‌السلام فقبر بحضرموت ، وأقام ابنه قحطان من بعده.

فصل [في وصية قحطان لابنه يعرب]

فلما قربت وفاة قحطان أوصى ابنه يعرب بتقوى الله والأفعال الصالحة ، ثم قال هذه الأبيات يحرضه فيها على الأفعال الحميدات : [الطويل]

أيا يشجب أنت المرجّى وأنت لي

أمين على سرّي وجهري محافظ

عليك بلين لست تنكر فضله

فقد سبقت مني إليك المواعظ

وواصل ذوي القربى وحافظ فإنهم

ملاذك إن حامت عليك النواهظ (١١)

ولفظك فاحرسه عن الجهل والخنا

فإنك مرهون بما أنت لافظ

وكن كاتما للغيض (١٢) في كل مجلس

إذا شخصت تلك العيون الجواحظ

تغبّط من الأعداء سرّا وجهرة

بحلمك هاتيك النفوس الغوايظ (١٣)

وما ساد من قد ساد إلا بحلمه

إذا لم يلاحظه من البخل لا حظ

__________________

(١٠) في الأصل : هود.

(١١) النواهظ : هكذا في الأصل ، ولعله يريد (النواهض) بمعنى الشدائد ، فوقع في الإكفاء من عيوب القافية.

(١٢) الغيض : النقص ، وقد يكون اللفظ محرفا عن (للغيظ).

(١٣) تغبط : احمل نفسك على الغبط ، وهو تمني النعمة على ألا تتحول عن صاحبها ، والغوائظ جمع غائظة من الغيظ وهو أشد الغضب وفي الأصل : (الغوابط) ، والغوابط جمع غابطة ، وفي القافية كما ترى عيب الإكفاء ، وأغلب الظن أن القصيدة كلها مصنوعة منحولة لا صلة لها بمن نسبت إليه.

١٣٢

وكن راجحا محض الشمائل (١٤) ماجدا

جوادا أبيّا إنني لك واعظ

ثم مات قحطان هنالك أيضا.

فصل [في موت قحطان وتنفيذ ابنه يعرب وصيته وانتشار ذريته

في اليمن]

فلما مات قحطان قام بمرتبته يعرب ، وعمل بمقتضى وصيته من بعده ، ثم من ذلك الوقت انتشرت ذرية قحطان في البلدان ، وكان يعرب أول من سار منهم إلى اليمن ، فاتخذها دارا ، وهو أول من نطق باللسان العربي ولذلك سمي يعرب.

وقال بعض العلماء : إنما سمي يعرب لأنه أول من اجتمعت عليه العرب ، وسمته ملكا وحيّي تحية / الملوك ورتب المراتب ، واتخذ مدينة ، وبنى قصرا ، وكانت إقامته بالأحقاف (١٥) ، ثم سارت بعد يعرب بن قحطان جميع العرب ، فقال في معنى سيرهم إلى اليمن هذه : [الرجز]

أنا ابن قحطان الهمام الأقبل (١٦)

الأيمن المعرب (١٧) ذي التهلّل (١٨)

يا قوم سيروا في الرعيل الأول

أنا البذي باذي اللسان المسهل (١٩)

__________________

(١٤) محض الشمائل : ذو الصفات الخالصة الجيدة.

(١٥) الأحقاف : جمع حقف من الرمل ، والأحقاف هنا رمال رقيقة معروفة في شمال حضرموت ، مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن (معجم البلدان ١ / ١١٥ ، والبلدان اليمانية ١٩).

(١٦) الأقبل الذي يتكلم بالكلام ولم يستعد له ، أو يرى كلّ شيء أول ما يرى.

(١٧) المعرب : الأصل غير الهجين ومنه : خيل عراب ومعربة وإبل عراب ، وكذلك من لا يلحن في الكلام ، وأن يولد لك ولد عربي اللون.

(١٨) ذي التهلل : ذي التلألؤ.

(١٩) البذي باذي اللسان ، في الأصل : البذي ذي باللسان وهو تحريف ، والبذي الفاحش من الرجال ، وباذي اللسان : قبيحه ، والمسهل : اللين.

١٣٣

المنطق الأبين عين المشكل

حشرت والأمة في تبلبل (٢٠)

نحن يمين الشمس في تمهل

فسكن الأحقاف هو وولده ما شاء الله ، ثم فكر في نفسه ، فقال يعرب : إن البلد الذي اختاره نوح أولى بالسكنى ، يعني صنعاء ، وإن جبالها أقرب إلى العز ، فسار معه جمع من الناس إلى صنعاء ، وكان معه أخوه أزال بن قحطان ، فأمره أن يبني بصنعاء قصر غمدان ، فبناه فسميت به أزال (٢١) إلى اليوم.

فصل [في وصية يعرب لابنه يشجب]

فلما حضرت وفاة يعرب أوصى ابنه يشجب فقال هذه الأبيات : [الوافر]

بنيّ أبوكم لم يعد عمّا

به وصّاه قحطان بن هود

أذ يعوا العلم ثم تعلّموه

فما ذو العلم بالكلّ (٢٢) البليد

ولا تصغوا إلى حسد فتغووا

غواية (٢٣) كل مختلّ حسود

وذو دوا الشرّ عنكم ما استطعتم

لينصفكم مع القاصي البعيد

وكونوا منصفين لكلّ جار

فليس الشرّ من خلق الرشيد

عليكم بالتواضع لا تزيدوا

على فضل التواضع من مزيد

وإن الصفح أفضل ما رغبتم

به شرفا مع الملك العتيد

وحقّ الجار لا تنسوه فيكم

فإن الجار ذو حقّ أكيد

عليكم باصطناع البرّ حتى

تنالوا كل مكرمة وجود

__________________

(٢٠) الأبين : الأوضح. تبلبل : اضطراب.

(٢١) أزال : اسم مدينة صنعاء ، وأزال هو والد صنعاء بن أزال بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ ، وكان أول من بناها ، ثم سميت باسم ابنه لأنه ملكها بعده فغلب اسمها عليه ، والله أعلم ، (معجم البلدان ١ / ١٦٧ والبلدان اليمانية ٢٦).

(٢٢) الكل : الثقيل لا خير فيه ، ومن يعتمد على غيره في أموره (المعجم المدرسي).

(٢٣) فتغووا غواية : فتضلوا ضلالة.

١٣٤

[٢٠] / فصل [في وصية يشجب لابنه عامر]

ثم مات يعرب فورثه ابنه يشجب ، وأقام في المملكة من بعده ، ما شاء الله ، ثم لما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه عامر وهو سبأ الأكبر بحفظ الملك والعدل في الرعية ، فقال هذه الأبيات : [البسيط]

علم حواه أبي من دون إخوته

وحزته بعده من دون إخواني

وزادني يعرب من عنده شيما

وصّى بنيه بها يوما ووصّاني

حفظتها حين (٢٤) ما غيري استهان بها

وحفظها آخر الأيام من شاني

أعبد شمس أبيت اللعن من ملك

هل من يعادلني (٢٥) في ملكنا ثاني

بل أنت تحفظ منّي ما حفظت وما

به بنيت لكم ملكي وسلطاني

بلى رأيتك هشّا (٢٦) ماجدا فطنا

وقد إخالك ظنّا غير علان (٢٧)

فصل [في قيام سبأ الأكبر بالمملكة بعد أبيه]

ثم مات يشجب ، فقام ابنه عامر بالمملكة من بعده ، وعامر هو سبأ الأكبر ، كما ذكرنا ، ويسمى أيضا عبد شمس ، وإنما سمي سبأ الأكبر لأنه أول من سبا السبايا ، وهو أول من غزا من اليمن إلى أرض بابل ، وقد ذكره الكلاعي في قصيدته فقال : [الوافر]

وعامرنا المسمّى عبد شمس

تغضّ له العيون الناظرونا

سما بالخيل يوم دها الفيافي (٢٨)

فصبّح بابلا بأسا مهينا

__________________

(٢٤) في الأصل : عنه حين ، فأسقطت من المتن (عنه) ليستقيم الوزن والمعنى.

(٢٥) في الأصل : يعدلي ، وتحته بخط أصغر : لعله : يعادلني.

(٢٦) هشا : سهلا ، نشيطا ، سخيا.

(٢٧) علّان : جاهل. وفي الأصل : علاني وهو تحريف.

(٢٨) دها الفيافي : أصابها بداهية واحتلها.

١٣٥

وفاء بخرّد هيف الأغاني

ثقال الأذن تحسبهنّ عينا (٢٩)

فسمّي إذ سبا النسوان قسرا

سباء وهو جدّ الأكرمينا

فأولد حمير العالي أبانا

وكهلان الهمام أخا أبينا

[٢١] / قال أهل التاريخ : وكان غزوه لأهل بابل في زمن ملكها النمرود بن ساس بن النمرود بن مامن بن سبط بن ماس بن إرم بن سام بن نوح.

فصل [في وصية سبأ الأكبر]

ثم لما قربت وفاة سبأ الأكبر جمع ابنيه ، وهما حمير وكهلان ، وجمع وجوه عشيرته وأهل مملكته وأقعد ابنه حميرا عن يمينه ، وكهلان عن شماله ، ثم قال : أيها الناس هل يصلح ليميني أن تقع شمالي ، أو يصلح لشمالي أن تقع يميني ، أو يصلح أن تقع إحداهما بالأخرى؟ فقالوا : لا يصلح أيها الملك شيء مما ذكرت.

قال : فإن همّت إحداهما بالأخرى ، فما أنتم صانعون؟ قالوا : نمنع المعتدية منهما.

قال : أعطوني العهود والمواثيق على هذا! فأعطوه جميعا.

فلما أخذ العهد عليهم قال : أيها الناس ، إني لم أرد بيميني وشمالي إلا أولادي حمير وكهلان ، فإني لم آمن أن يختلفا من بعدي في الأمر ، وإني لم آخذ عليكم المواثيق والعهود إلا لتحولوا بين المعتدي منهما وبين صاحبه ، وأحب ألّا يطلب أحدهما بعدي أكثر مما يقسم له في مجلسنا هذا.

__________________

(٢٩) فاء : رجع بغنيمة وعاد. خرد : جمع خريدة : الفتاة البكر ، أو الخفرة الطويلة السكوت ، الخافضة الصوت المتسترة. هيف : جمع هيفاء ، وهي المرأة أو الفرس الضامرة البطن وهي هنا من هافاه إذا مايله إلى هواه ، وهيف الأغاني : من تغنى بما يهوى صاحبها ، عينا : الحور العين وهي النساء البيض واسعات الأعين حسانها.

١٣٦

ثم قال : أيها الناس ، إن حميرا أكبر من كهلان ، وحقه أن يكون عن يميني وكهلان عن شمالي ، ويصيب كل واحد منهما من ملكي مثلما تصيب اليد التي له من يدي ، فانظروا معاشر الناس ـ ما يصلح لليمين فادفعوه إلى حمير ، وما يصلح للشمال فادفعوه إلى كهلان. ثم مات فدفعوا إلى حمير السيف والقلم والسوط ، وقالوا : هذه ثلاثة أشياء يعمل بها اليمين دون الشمال ، ودفعوا إلى كهلان العنان (٣٠) والترس والقوس ، وقالوا : هذه ثلاثة أشياء تعمل بها الشمال دون اليمين ، ما خلا القوس فإنه يحتاج إلى معونة اليمين لها.

ثم حكموا أن صاحب السيف والقلم لا يصلح إلا للرتوب (٣١) في موضعه / وأنه يكون سائسا رائضا.

ثم حكموا أيضا أن الثابت لا يكون إلا مع الوقوف والتدبير في دائرة أمر المملكة للملك الأعظم فدفعوا الملك إلى حمير.

وحكموا إلى أن العنان يقود الخيل للذّب عن الملك ومكايدة الأعداء حيث كانوا.

وحكموا أن الترس يدرأ به الحدّ ، ويقهر به في الحروب عند التلاقي.

وحكموا بأن القوس ينال بها البعيد فدفعوا آلة الغزو والثغور إلى كهلان ، فتقلد كل واحد منهما ما قلده أبوه وقومه ، على أن لحمير على كهلان السمع والطاعة ، وعلى حمير لكهلان المعونة والمال والنجدة والرجال كما تعين اليمين الشمال عند الرمي بالنبال. قالوا : قد استحسن هذه الوصية والقسمة المرضية هيّ بن بيّ الجرهمي (٣٢) فقال هذه الأبيات : [البسيط]

__________________

(٣٠) العنان : سير اللجام الذي تمسك به الدابة.

(٣١) الرتوب : الثبوت والدوام.

(٣٢) هيّ بن بيّ الجرهمي : هو هيّ بن بيّ بن جرهم بن الغوث بن سعد بن جرهم بن قحطان ، كما سرد؟؟؟ ذلك في الباب الخامس من هذا الكتاب.

١٣٧

ما ساد هذا الورى أبناء قحطان

إلا بفضل لهم قدما وإحسان

ما في الأنام لهم شبه يشاركهم

ولا لواحدهم في الملك من ثان

لم يشهد الناس في بدو ولا حضر

حكما كحكم رفيع القدر والشان

سبا بن يشجب لابنيه ، وإنهما

للسّيّدان الرفيعان العظيمان

أعطى ابنه حميرا منه اليمين وقد

أعطى الشمال ابنه المسمى بكهلان

وقال : يقسم ملكي اليوم بينكما

وقسمة المال بين اثنين نصفان

/ نعطي اليمين الذي تسطو اليمين له

فيما تعانيه من سرّ وإعلان

وللشّمال الذي تسطو الشّمال له

عند النوائب من بأس وسلطان

فالسيف والسوط صارا لليمين معا

وذلك القلم الجاري ببرهان

والترس والقوس صارا للشمال وقد

صار العنان لها فالملك نصفان

فصار ذاك بتاج الملك معتقدا

دون الجحاجح (٣٣) من أبناء قحطان

وصارت الخيل تحمي الأرض قاطبة

ومن عليها لهذا الآخر الثاني

قالوا : ولم يزل حمير وكهلان على ذلك بعد موت أبيهما ، وكذلك أولادهما وأولاد أولادهما ، ولحمير على كهلان السمع والطاعة ، ولكهلان على حمير المال والنجدة ، فصارت الملوك الراتبة في دار الملك من ذرية حمير ، وأصحاب الثغور والروابط من ذرية كهلان.

قالوا وكانت مدة ملك سبأ مئة وأربعا (٣٤) وثمانين سنة ، والله تعالى أعلم.

فصل [في ملك حمير وكهلان في اليمن]

قال المؤرخون : فلما صار الملك إلى حمير أقام وظائف ملك اليمن بلبس التاج ، واتخذ الفرش ، ولبس غير لباس الرعية ، ووكب المواكب ، واتخذ

__________________

(٣٣) في الأصل : الحجاحج وهو تصحيف والجحاجح : جمع جحجح وهو السيد كالحجحاج.

(٣٤) في الأصل : أربعة.

١٣٨

الوصفاء والمتصرفين في القصر ، وأمر بالنوبة على الباب ، ورتب الروابط في الثغور (٣٥) ، وجعل عليهم القواد الذين لا يبرحون ، والقائد هو الأمير ، ولبس الخاتم ، وخطب على المنبر. وصار أمر الخيول والجنود وآلة الغزو وسد الثغور إلى كهلان ، فانتظم ملك اليمن واستقام ، وقاما بوظائفه أحسن قيام ، وأمدهما الله تعالى بالشوكة القوية وكثرة المال والذرية ، فصار حمير والد الملوك ، وكهلان والد الأقيال (٣٦) والقواد ، وانتشرت ذريتهما في أقطار البلاد فأرّخ نسابة اليمن كتبا كثيرة في الأنساب ، ولا حاجة إلى ذكرها لكون ما فيها متعذر الحصر والاستيعاب ، وإذا كان الأمر كذلك فلنقبض عنان البسط ونقتصر على بعض من سكن اليمن من ذريتهما ، ونذكر بعض من انتقل إلى الشام والمغرب وغيرهما ، ونقلد في ذلك من أخبرنا من المخبرين ، أو من وقفنا على خطه من المؤرخين ، ونبرأ إلى الله تعالى من الكذب والتزوير ، ونعتصم من ذلك ونستجير ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(٣٥) الروابط في الثغور : الملازمين في الحدود في مواجهة العدو.

(٣٦) الأقيال : جمع قيل وهو في حمير كالوزير في الإسلام.

١٣٩
١٤٠