تراثنا ـ العدد [ 4 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 4 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: مهر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣١
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والتفسير : إمّا أن يُستعمل في غريب الألفاظ ، و إمّا في كلام متضمّن لقصّة لا يمكن تصويره إلّا بمعرفتها (٥).

ولقد وجدتُ فراغاً في الكتب المتعرّضة لأسباب النزول سواء العامّة لكلّ الآيات ، أو الخاصّة ببعضها ، حيث أغفلتْ جانب أسباب النزول من حيث أهمّيّتها ، و طرق إثباتها و حجّيّتها ، و أخيراً ذكر مصادرها المهمّة.

فأحببتُ أنْ اُقدِّم هذا البحث عسى أن يسدّ هذا الفراغ ، أو يجد فيه المتخصّصون تحقيقاً منهجيّاً لم يتكفل استيعابه المؤلّفون لكتب علوم القرآن على الرغم من تعرّض بعضهم له.

عصمنا الله من الخطأ والزلل في القول والعمل.

وكتب السيد محمد رضا الحسيني

_____________________________

٥ ـ الإتقان ، للسيوطي (ج ٤ ص ١٩٣) ، ولاحظ الذريعة (ج ٣ ص ٣٤).

٢١

(١) أَهميّتُها

اهتمّ المفسّرون بذكر أسباب النزول ، فجعلوا معرفتها من الضروريّات لمن يريد فهم القرآن والوقوف على أسراره ، و أكّد الأئمة على هذا الإهتمام ، فجعله الإمام أبوعبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام من الاُمور التي لو لم يعرفها المتصدّي لمعرفة القرآن لم يكن عالماً بالقرآن ، فقال عليه السلام :

اعلموا رحمكم الله أنّه من لم يعرف من كتاب الله : الناسخ والمنسوخ ، والخاصّ والعامّ ، والمحكم والمتشابه ، والرخص من العزائم ، والمكّي من المدني ، و أسباب التنزيل ... ، فليس بعالم القرآن ، ولا هو من أهله (٦).

ومن هنا نعرف سرّ عناية الإمام أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام بأمر نزول القرآن و معرفة أسبابه ومواقعه ، فقد كان يُعلن دائماً عن علمه بذلك ، و يصرّح باطّلاعه الكامل على هذا القبيل من المعارف الإسلاميّة :

ففي رواية رواها أبونعيم الإصبهاني في «حلية الاولياء» عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال : والله ما نزلتْ آية إلّا وقد علمتُ فيما اُنزلتْ ! و أين اُنزلتْ ! إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً (٧).

وقال عليه السلام : والله ما نزلتْ آية في ليلٍ أو نهارٍ ، ولا سهلٍ ولا جبلٍ ، ولا برٍّ ولا بحر ، إلّا وقد عرفتُ أيّ ساعة نزلتْ ! أو في من نزلتْ ! (٨).

و إذا كان أمر نزول القرآن ـ ومنه أسبابه ـ بهذه المثابة من الأهمّية عند الإمام عليّ عليه السلام ، وهو القِمة الشمّاء بين العارفين بالقرآن وعلومه ، بل هو معلّم القرآن بعد النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلم ، كما في الحديث عن أنس بن مالك ، قال النبيّ : عليّ يعلّم الناس بعدي من تأويل القرآن ما لا يعلمون يخبرهم. [شواهد التنزيل ج ١ ص ٢٩].

_____________________________

٦ ـ بحارالأنوار للمجلسي (ج ٩٣ ص ٩) نقلاً عن تفسير النعماني.

٧ ـ تأسيس الشيعة (ص ٣١٨) ، و سيأتي في نهاية هذا البحث ذكر أحاديث اُخرى بهذا المضمون.

٨ ـ تفسير الحبري ، الحديث (٣٧ و ٧٤) ، شواهد التنزيل للحسكاني (ج ١ ص ٢٨٠) ، و سنتحدّث في خاتمة هذا البحث عن ارتباط الإمام بالقرآن.

٢٢

وقال المفسّر ابن عطيّة : «فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم فعليّ بن أبي طالب» (٩).

فإنّ أهمّية أسباب النزول ومعرفتها تكون واضحة ، حيث تُعدّ من الشروط الأساسيّة لمن يريد التعرّف على القرآن.

وقد أفصح عن ذلك الأعلام والمؤلّفون أيضاً :

قال الواحدي : إذ هي [يعني الأسباب] اُولىٰ ما يجب الوقوف عليها ، فأَولى أن تصرف العناية إليها ، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصّتها و بيان نزولها (١٠).

و قال السيّد العلّامة الفاني : و أمّا وجه الحاجة إلى شأن نزول الآيات ، فلأنّ الخطأ في ذلك يفضي الى اتّهام البريء و تبرئة الخائن ، كما ترى أنّ بعض الكتّاب القاصرين عن درك الحقائق ، يذكرون أنّ شأن نزول آية تحريم الخمر إنّما هو اجتماع عليّ عليه السلام مع جماعة في مجلس شرب الخمر ، مع أنّ التاريخ يشهد بكذب ذلك ، و نرى بعضهم يقول : إنّ قوله تعالى : «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ» إنّما نزلت في شأن ابن ملجم (١١).

وقال الدكتور شوّاخ : نزل القرآن منجّماً على النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حسب مقتضيات الاُمور والحوادث ، وهذا يعني أنّ فهم كثير من الآيات القرآنية متوقّف على معرفة أسباب النزول ، وهي لا تخرج عن كونها مجرّد قرائن حول النصّ ، وقد حرّم العلماء المحقّقون الإقدام على تفسير كتاب الله لمن جهل أسباب النزول.

ولذا كان الإقدام على تفسير كتاب الله تعالى محرّماً على اُولئك الّذين يجهلون أسباب النزول و يحاولون معرفة معنى الآية ، أو الآيات دون الوقوف على أسباب نزولها و قصّتها (١٢).

و بلغ اهتمام علماء القرآن بأسباب النزول إلى حدّ عدّه من أهمّ أنواع علوم

_____________________________

٩ ـ المحرّر الوجيز (ج ١ ص ٨ ـ ٩) من مخطوطة دار الكتب المصريّة رقم (١٦٨) تفسير ، بواسطة البرهان للزركشي (ج ١ ص ٨) بتحقيق أبوالفضل إبراهيم.

١٠ ـ أسباب النزول للواحدي (ص ٤).

١١ ـ آراء سماحة السيد العلّامة الفاني (حول القرآن) (ص ٢٩).

١٢ ـ معجم مصنّفات القرآن الكريم (ج ١ ص ٦ ـ ١٢٧).

٢٣

القرآن.

فجعله برهان الدين الزركشي أوّل الأنواع في كتابه القيّم «البرهان في علوم القرآن».

و أفرد له السيوطي «النوع التاسع» من كتابه القيّم «الإتقان في علوم القرآن» بعنوان «معرفة أسباب النزول».

و سنأتي في الفقرة الأخيرة من هذا البحث على ذكر المصادر العامّة والخاصّة لهذا الموضوع.

و بالرغم من الأهميّة البالغة لأسباب النزول ، فقد عارض بعض هذا الإهتمام ، مستنداً إلى اُمورٍ من الضروري عرضها ثم تقييمها :

الأمر الأول : إنّه لا أثر لهذا العلم في التفسير :

قال السيوطي : زعم زاعم أنّه لا طائل تحت هذا الفنّ [أي فنّ أسباب النزول] لجريانه مجرى التاريخ (١٣).

ومع مخالفة هذا الإدّعاء لما ذكره الأئمّة والعلماء كما عرفنا تصريحهم بأنّ معرفة أسباب النزول ممّا يلزم للمفسّر حيث لا يمكن الوقوف على التفسير بدونه ، بل يحرم كما قيل.

فقد ردّ السيوطي على هذا الزعم بقوله : وقد أخطأ في ذلك ، بل له فوائد :

منها : معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.

ومنها : تخصيص الحكم به عند من يرى أنّ العبرة بخصوص السبب.

ومنها : أنّ اللفظ قد يكون عامّاً ، و يقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته ، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ.

ومنها : دفع توهّم الحصر (١٤).

الأمر الثاني : إنّ المورد لا يخصّص.

واعترض أيضاً : بأنّ ما يستفاد من أسباب النزول هو تعيين موارد أحكام الآيات و أسبابها الخاصّة ، ومن المعلوم أنّ ذلك لايمكن أن يحدّد مداليل الآيات ولا

_____________________________

١٣ ـ الإتقان (ج ١ ص ١٠٧).

١٤ ـ المصدر السابق (ج ١ ص ٧ ـ ١٠٩).

٢٤

يخصّص عموم الأحكام ، وقد عنون علماء اُصول الفقه لهذا البحث بعنوان : «إنّ المورد لا يخصّص الحكم».

قال الاُصولي المقدسي : إذا ورد لفظ العموم على سبب خاصّ لم يسقط عمومه ، وكيف ينكر هذا ، و أكثر أحكام الشرع نزلت على أسباب كنزول آية الظهار في أوس ابن الصامت ، و آية اللعان في هلال بن اُميّة ، وهكذا (١٥).

والجواب عنه أوّلاً : إنّ البحث الاُصولي المذكور لا يمسّ المهمّ من بحث أسباب النزول ، لأنّ البحث الاُصولي يتوجّه إلى شمول الأحكام المطروحة في الآيات لغير مواردها ، وعدم شمولها ، فالبحث يعود إلى أنّ الآية هل تدلّ على الحكم في غير موردها أيضاً كما تشمل موردها ، أو لا تشمل إلّا موردها دون غيره ؟

ففي صورة الشمول لغير موردها أيضاً ، يمكن الإستدلال بظاهرها الدالّ بالعموم على الحكم في غير المورد.

و أمّا بالنسبة الى نفس المورد فلا بحث في شمول الآية له ، فإنّ شمول الآية له مقطوع به و مجزوم بإرادته بدلالة نصّ الآية ، وهي قطعيّة لاظنيّة ، حيث أنّ المورد لا يكون خارجاً عن الحكم قطعاً ، لأنّ إخراجه يستلزم تخصيص المورد ، وهو من أقبح أشكال التخصيص وفاسد بإجماع الاُصوليّين.

قال المقدسي في ذيل كلامه السابق ، في حديث له عن الآيات النازلة للأحكام في الموارد الخاصّة ، ما نصّه : فاللفظ يتناولها [أي الموارد الخاصّة] يقيناً ، و يتناول غيرها ظنّاً ، إذ لا يُسأل عن شيء فيُعدل عن بيانه إلى غيره... فنقل الراوي للسبب مفيدٌ ليبيّن به تناول اللفظ له يقيناً ، فيمتنع من تخصيصه (١٦).

وقال السيوطي : إذا عرف السبب قصر التخصيص على ماعدا صورته ، فإنّ دخول صورة السبب قطعيّ و إخراجها بالاجتهاد ممنوع كما حكى الإجماع عليه القاضي أبوبكر في «التقريب» ولا التفات إلى من شذّ فجوّز ذلك (١٧).

_____________________________

١٥ ـ روضة الناظر و جنّة المناظر لابن قدامة المقدسي (ص ٥ ـ ٢٠٦) ، وانظر الإتقان للسيوطي (ج ١ ص ١١٠).

١٦ ـ روضة الناظر (ص ٢٠٦).

١٧ ـ الإتقان (ج ١ ص ١٠٧).

٢٥

إذن لا تسقط فائدة معرفة أسباب النزول من خلال البحث الاُصولي المذكور ، بل تتأكّد.

و ثانياً : إنّ الرجوع إلى أسباب النزول قد لا يرتبط ببحث العموم والخصوص في الحكم ، و إنّما يتعلّق بفهم معنى الآية و تشخيص حدود موردها و تحديد الحكم نفسه من حيث المفهوم العرفي ، لا السعة والضيق في موضوعه كما اُشير إليه سابقاً ، ولنذكر لذلك مثالاً :

قال الله تبارك و تعالى : «إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّـهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّـهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ» سورة البقرة (٢) الآية (١٥٨).

قال السيوطي : إنّ ظاهر لفظها لا يقتضي أنّ السعي فرض ، وقد ذهب بعضهم إلى عدم فرضيّته ، تمسكاً بذلك (١٨).

و وجه ذلك أنّ قوله تعالى : «لَا جُنَاحَ» يدلّ على نفي البأس والحرج فقط ، ولا يدلّ على الإلزام والوجوب ، فإنّ رفع الجناح لا يستلزم الوجوب لكونه أعمّ منه ، فكلّ مباح لا جناح فيه ، والواجب ـ أيضاً ـ لا جناح فيه ، لكنّ فيه إلزام زيادة على المباح ، ومن الواضح أنّ العامّ لا يستلزم الخاصّ.

لكنّ هذا الإستدلال بظاهر الآية مردود ، بأنّ ملاحظة سبب نزولها يكشف عن سرّ التعبير بـ «لَا جُنَاحَ» فيها ، و ذلك : لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يضعون صنمين على الصفا والمروة ، و يتمسّحون بهما لذلك ، و يعظّمونهما ، وكان المسلمون بعد كسر الأصنام يتحرّجون من الإقتراب من مواضع تلك الأصنام توهّماً للحرمة ، فنزلت الآية لتقول للمسلمين : إنّ المواضع المذكورة هي من المشاعر التي على المسلمين أن يسعوا فيها فإنّها من واجبات الحجّ ، و أمّا قوله تعالى : «لَا جُنَاحَ» فهو لدفع ذلك التحرّج المتوهَّم.

فهذا الجواب يبتني على بيان سبب النزول كما أوضحنا ولا يمسّ البحث الاصولي المذكور بشيء.

وقد أورد السيوطي في «الإتقان» أمثلة اُخرى ، ممّا يعتمد فهمُ الآيات فيها

_____________________________

١٨ ـ المصدر السابق (ج ١ ص ١٠٩).

٢٦

على أسباب النزول (١٩).

و ثالثاً : إنّ هذا البحث الاصولي إنّما يجري في آيات الأحكام كما يظهر من عنوانهم له ، دون غيرها ، و سيأتي مزيد توضيح لهذا الجواب فيما يلي.

وقد أثار ابن تيميّة شبهةً حول أهمّية أسباب النزول تعتمد على أساس هذا الإعتراض ، ملخّصها : أنّ نزول الآية في حقّ شخص ـ مثلاً ـ لا يدلّ على اختصاص ذلك الشخص بالحكم المذكور في الآية ، يقول : قد يجيء ـ كثيراً في هذا الباب ـ قولهم : «هذه الآية نزلت في كذا» لاسيّما إذا كان المذكور شخصاً كقولهم : إنّ آية الظهار نزلت في امرأة ثابت بن القيس ، و إنّ آية الكلالة نزلت في جابر بن عبدالله.

قال : فالّذين قالوا ذلك ، لم يقصدوا أنّ حكم الآية يختصّ باُولئك الأعيان دون غيرهم ، فإنّ هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق ، والناس ـ و إنْ تنازعوا في اللفظ العامّ الوارد على سبب ، هل يختصّ بسببه ؟ ـ فلم يقل أحد : إنّ عمومات الكتاب والسنّة تختصّ بالشخص المعيّن ، و إنّما غاية ما يقال إنّها تختصّ بنوع ذلك الشخص ، فتعمّ ما يشبهه.

والآية التي لها سبب معيّن ، إن كانت أمراً أو نهياً ، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممّن كان بمنزلته ، و إن كانت خبراً بمدح أو ذمّ ، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته (٢٠).

والجواب عن هذه الشبهة :

أوّلاً : إنّ ما ذكره من «لزوم تعميم الحكم ، وعدم قابلية الآية للتخصيص بشخص معين» إنّما يبتني على فرضين :

١ ـ أن يكون الحكم الوارد في الآية شرعيّاً فقهيّاً.

٢ ـ أن يكون لفظ الموضوع فيها عامّاً.

وهذان الأمران متوفّران في الأمثلة التي أوردها ، كما هو واضح.

أمّا إذا كانت الآية تدلّ على حكم غير الأحكام الشرعيّة التكليفيّة أو الوضعيّة ، أو كان الموضوع فيها بلفظ خاصّ لاعموم فيه ، فإنّ ما ذكره من لزوم التعميم وامتناع

_____________________________

١٩ ـ المصدر نفسه (ج ١ ص ٨ ـ ١٠٩).

٢٠ ـ المصدر نفسه (ج ١ ص ١١٢).

٢٧

التخصيص ، باطل.

توضيح ذلك : إنّ البحث عن أسباب النزول ليس خاصّاً بآيات الأحكام ـ وهي الآيات الخمسمائة المعروفة ـ بل يعمّ كلّ الآيات بما فيها آيات العقائد والقصص والأخلاق وغيرها ، ومن الواضح أنّ من غير المعقول الإلتزام بعموم الأحكام الواردة فيها كلّها.

مثلاً : قصّة موسى و فرعون و بني إسرائيل ، بما لها من الخصوصيّات المتكررة في القرآن ، لا معنى للإشتراك فيها ، فهي قضيّة في واقعة إنّما ذكرت للإعتبار بها ، و يستفاد منها في مجالاتها الخاصّة.

و كذلك إذا كان الموضوع خاصّاً لاعموم فيه ، فإنّ القول باشتراك حكم الآية بينه و بين من يشبه ، شططٌ من القول. قال السيوطي في آية نزلت في معيّن ولا عموم للفظها : إنّها تقصر عليه قطعاً ـ و ذكر مثالاً لذلك ، ثم قال ـ : و وهم من ظنّ أنّ الآية عامّة في كلّ من عمل عمله ، إجراءً له على القاعدة ، وهذا غلط ، فإنّ هذه الآية ليس فيها صيغة عموم (٢١).

و قوله تعالى : «إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» سورة الكوثر (١٠٨) الآية (٣) فإنّها نزلت في العاص الذي كان يعيّر النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، بعدم النسل والذرّيّة ، فعبّرت عن ذمّه وحكمت عليه بأنّه هو الأبتر ، و باعتبار كون الموضوع «شانئ النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلم» فهو خاصّ معيّن ، وهذا يُعرف من خلال المراجعة إلى سبب النزول ، فهل القول باختصاص الحكم في الآية بذلك الشخص فيه مخالفة للكتاب أو السنّة ، حتى لا يقول به مسلم أو عاقل ! كما يدّعيه ابن تيميّة.

لكنه خلط بين هذه الموارد ، و بين ما مثّل به من موارد الحكم الشرعي بلفظ عامّ ، فاستشهد بتلك على هذه ، وهذا من المغالطة الواضحة.

و نجيب عن الشبهة ، ثانياً : بأنّ الآية لو كانت تدلّ على حكم شرعي ، وكان لفظ الموضوع فيها عامّاً إلّا أنّا عرفنا من سبب النزول كون موردها شخصاً معيّناً باعتباره الوحيد الذي انطبق عليه الموضوع العامّ ، أو كان الظرف غير قابل للتكرار ، فإنّ من الواضح أنّ حكم الآية يكون مختصّاً بذلك الشخص وفي ذلك الظرف ، ولا يمكن

_____________________________

٢١ ـ المصدر نفسه (ج ١ ص ١٢ ـ ١١٣).

٢٨

القول باشتراك غيره معه.

مثال ذلك ، قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَٰلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ...» سورة المجادلة (٥٨) الآية (١٢).

فإنّ المكلف في الآية عامّ ، وهم كلّ المؤمنين ، والحكم فيها شرعي وهو وجوب التصدّق عند مناجاة النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، لكنّ هذا لايمنع من اختصاص الآية بشخص واحد ، فعند المراجعة الى أسباب النزول نجد أنّ الإمام عليّاً عليه السلام كان هو العامل الوحيد بهذه الآية ، حيث كان الوحيد الذي تصدّق وناجى الرسول صلّ الله عليه وآله ، و نسخت الآية قبل أن يعمل بها غيره من المسلمين.

فهل يصحّ القول بأنّ الآية عامّة ، وما معنى الإشتراك في الحكم لو كانت الآية منسوخة ؟ وهل في الإلتزام باختصاص الآية مخالفة للكتاب والسنّة ؟

و إذا سأل سائل عن الحكمة في تعميم الموضوع في الآية ، مع أنّ الفرد العامل منحصر ؟

فمن الجائز أن تكون الحكمة في ذلك بيان أنّ بلوغ الإمام عليه السلام الى هذه المقامات الشريفة كان بمحض اختياره و إرادته ، من دون أن يكون هناك جبرٌ يستدعيه أو أمر خاصّ به ، و إنّما كان الأمر والحكم عامّاً ، لكنّه أقدم على الإطاعة رغبة فيها و حبّاً للرسول ومناجاته ، و أحجم غيره عنها ، مع أنّ المجال كان مفسوحاً للجميع قبل أن تنسخ الآية ، فبالرغم من ذلك لم يعمل بها غيره.

ولا يمكن أن يفسّر إقدامه و تقاعسهم إلّا على أساس فضيلته عليهم في العلم والعمل ، و تأخرهم عنه في الرتبة والكمال.

و بمثل هذه الحكمة يمكننا أن نوجّه افتخار الإمام عليه السلام بكونه العامل الوحيد بهذه الآية.

فقد روى الحبري في تفسيره (٢٢) بسنده ، قال : قال عليّ : آية من القرآن لم يعمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي ، اُنزلت آية النجوى [الآية (١٢) من سورة المجادلة (٥٨)] فكان عندي دينار فبعتُه بعشرة دراهم ، فكنتُ إذا أردتُ أن اُناجي النبيّ صلّى الله عليه تصدّقتُ بدرهم حتى فنيتْ ثم نسختْها الآية التي بعدها : «فَإِن لَّمْ

_____________________________

٢٢ ـ تفسير الحبري ـ بتحقيقنا ـ الحديث (٦٦) (ص ٤٧) من الطبعة الاُولى.

٢٩

تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» (٢٣).

ولا بدّ من الوقوف عند اعتراض ابن تيميّة على أهمّية أسباب النزول ، لِنُذَكّر بأنّه إنّما أثار مثل هذه الشبهة محاولة منه لتقويض ما استدلّ به معارضوه ، حيث استدلّوا بنزول الآيات في أهل البيت عليهم السلام ، بدلالاتها الواضحة على فضلهم و أحقيّتهم لمقام الولاية على الاُمّة ، والخلافة عن الرسول صلّ الله عليه وآله وسلّم في قيادة المسلمين.

وحيث لم يكن لابن تيميّة طريق للتشكيك في أسانيد الروايات الدالّة على نزولها في فضل أهل البيت عليهم السلام ولا سبيل للنقاش في دلالتها على المطلوب ، عمد الى إثارة مثل هذه الشبهة بإنكار أهمّية أسباب النزول عموماً ، والتشكيك في إمكان الإستفادة منها في خصوص الآيات النازلة بحقّهم عليهم السلام.

٢ ـ طرق إثباتها

لا ريب أنّ تعيين أسباب النزول و تمييز الصحيح منها عن ما ليس بسبب ، عند الإختلاف ، يحتاج إلى طرق مشخّصة ، سنستعرضها فيما يلي.

ولكني أرى أنّ أهمّ شيء يجب تحصيله في هذا المجال هو تحديد المقصود لكلمة «أسباب النزول» لكي نعتمد خلال البحث والمناقشة معنى واحداً ، فلا تختلط موارد النفي والإثبات ، ولا تتداخل الأدلّة والردود.

نقول : إنّ الظاهر من كلمة «سبب» هو العلّة الموجبة ، ولو التزمنا بهذا المعنى فإنّ ذلك يقتضي حصر موضوع «أسباب النزول» بما كان علّة لنزول الآية ، و أنّ الآية

_____________________________

٢٣ ـ ذكر هذا الحديث مرفوعاً عن عليّ عليه السلام في عدّة من التفاسير والمصادر الحديثيّة مثل : تفسير القرطبي (١٧ / ٣٠٢) ، وابن جرير (٢٨ / ١٥) ، وابن كثير (٤ / ٣٢٧) ، ومثل : كنزالعمال (٣ / ١٥٥) ، ومناقب ابن المغازلي (ص ١١٤ و ص ٣٢٥) ، و كفاية الطالب للكنجي (ص ١٣٥) ، و أحكام القرآن للجصاص (ج ٣ ص ٥٢٦) ، والدرّالمنثور (٦ / ١٨٥).

و رواه في الرياض النضرة للطبري (٢ / ٢٦٥) عن ابن الجوزي في أسباب النزول ، و ذكره الواحدي في أسباب النزول (ص ٢٧٦) ، وانظر : جامع الاُصول للجزري (٢ / ٢ ـ ٤٥٣) ، وفتح القدير (٥ / ١٨٦).

نقلنا هذه التخريجات من تفسير الحبري ، تخريج الحديث (٦٦).

٣٠

نزلت من أجله ، و عليه فإنّ أسباب النزول هي القضايا والحوادث التي وردت الآيات من أجلها و في شأنها ، أو نزلت مبيّنة لحكم ورد فيها ، أو نزلت جواباً عن سؤال مطروح.

لكن لابدّ من الإعراض عن هذا الظاهر ، لأنّ الإلتزام بهذا المعنى غير صحيح لوجهين :

الأوّل : إنّ هذا المعنى بعيد أن يقصده علماء الإسلام وخاصّة في مجال علوم القرآن ، لأنّ السبب بهذا المعنى إصطلاح فلسفي لم يتداوله المسلمون إلّا في القرون المتأخرة ، و على ذلك : فلابدّ من حمل كلمة «سبب» على معناها اللغوي ، وهو «ما يتوصّل به إلى أمر» ، وهذا يعمّ ما فيه سببيّة بالمصطلح الفلسفي ، أو يكون مرتبطاً به بشكل من الأشكال ، فسبب النزول هو «كلّ ما يتّصل بالآية من القضايا والحوادث والشؤون» ، سواء كانت علّة نزلت الآية من أجلها أو لم تكن كذلك ، بل ارتبطت بالنزول ولو بنحو الظرفيّة المكانيّة أو الزمانيّة أو الإقتران ، وما شابه.

الوجه الثاني : إنّ ملاحظة ما ذكره المفسّرون و علماء القرآن من أسباب نزول الآيات تدلّنا بوضوح على أنّ مرادهم به ليس هو خصوص ما كان سبباً بالمصطلح الفلسفي ، بأن يكون علّةً نزلت الآية من أجله ، و إنّما يذكرون تحت عنوان «سبب النزول» كلّ القضايا التي كان النزول في إطارها ، وما يرتبط بنزول الآيات بنحو مؤثّر في دلالتها ومعناها ، بما في ذلك الزمان والمكان ، و إن لم يتقيّد ذلك حتى بالزمان والمكان ، و لذلك فإنّ سبب النزول يصدق على ما يخالف زمان النزول بالمضيّ والإستقبال.

وقد لا تكون أسباب النزول ، إلّا خصوصيّات في موارد التطبيق تعتبر فريدةً ، فهي تُذكر مع الآية لمقارنة حصولها عند نزولها ، ككون العاملين بالآية متّصفين ببعض الصفات ، أو تُعتبر مقارنات نزول الآية لعمل شخص ميّزةً وفضيلةً له.

إلى غير ذلك ممّا يضيق المجال عن إيراد أمثلته وتفصيله ، فإنّ جميع هذه الموارد يسمّونها في كتبهم بـ «أسباب النزول» بينما ليس في بعضها سببيّة للنزول بالمصطلح الأوّل.

فالمصطلح القرآني لكلمة «أسباب النزول» نحدّده بقولنا : «كلّ ما له صلة بنزول الآيات القرآنيّة».

فيشمل كلّ شيء يرتبط بنزولها ، سواء كان علّة و سبباً أو كان بياناً و إخباراً

٣١

عن واقع ، أو تطبيقاً نموذجيّاً فريداً ، أو ورد الحكم فيه لأوّل مرّة ، أو كان مورده فيه جهة غريبة تجلب الإنتباه أو نحو ذلك.

و أمّا الطرق التي ذكروها لتعيين أسباب النزول فهي :

١ ـ ما ذكره السيوطي بقوله : والذي يتحرّر في سبب النزول أنّه ما نزلت الآية أيّام وقوعه (٢٤).

وهذا فيه تضييق لأنّه أخصّ ممّا يُطلق عليه اسم سبب النزول عندهم ، لعدم انحصاره بما كان في وقت النزول ، بل الضروري ، هو ارتباط السبب بالآية سواء كان مقارناً لنزولها أو لا ، ويُعلم الربط بالقرائن ، على أنّا لا ننكر مقارنة كثير من الاسباب لنزول آياتها ، مع أنّ الإلتجاء الى معرفة سبب النزول بما ذكره من النزول أيّام وقوعه يؤدّي الى انحصار معرفة سبب النزول بطريق المشاهدة بالحاضرين ، فلابدّ من الإعتماد على الروايات لإثباتها إلّا أن يكون مراده تعريف سبب النزول وهو الأظهر ، لكنه أيضاً تضييق كما عرفت.

٢ ـ قال الواحدي : لا يحلّ القول في أسباب نزول الكتاب ، إلّا بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل ، و وقفوا على الأسباب ، أو بحثوا عن علمها وجدّوا في الطِلاب ، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار.

أخبرنا أبو إبراهيم ، إسماعيل بن إبراهيم الواعظ ، قال : أخبرنا أبوالحسين ، محمد بن أحمد بن حامد العطّار ، قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبّار ، قال : حدّثنا ليث ، عن حماد ، قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن عبدالأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال :

قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اتّقوا الحديث إلّا ما علمتم ، فإنّه من كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن كذب على القرآنِ من غير علم فليتبوّأ مقعده من النار.

والسلف الماضون رحمهم الله كانوا من أبعد الغاية احترازاً عن القول في نزول الآية (٢٥).

_____________________________

٢٤ ـ الإتقان (ج ١ ص ١١٦).

٢٥ ـ أسباب النزول للواحدي (ص ٤).

٣٢

وقال آخر : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتفّ بالقضايا (٢٦).

٣ ـ قولهم نزلت الآية في كذا.

إنّ المراجع لكتب التفاسير ، وخاصّةً الكتب الجامعة لأسباب النزول ، يجدُ أنّهم إذا أرادوا ذكر سبب نزول آية قالوا : نزلت في كذا ، والظاهر أنّ استعمال الصحابة والتابعين لهذا التعبير ، وكون المفهوم من هذا التعبير ما يفهم من قولهم «السبب في نزول الآية كذا» دَفَعهم على المحافظة على هذه العبارة عند بيان أسباب النزول.

و يؤيّده أنّ الحرف «في» يستعمل فيما يناسب السببيّة والربط ، كما في قولك : لامَهُ في أمر كذا ، أي من أجله وعلى فعله (٢٧).

لكن قال الزركشي : عادة الصحابة والتابعين أنّ أحدهم إذا قال : «نزلت هذه الآية في كذا» فإنّه يريد أنّها تتضمّن هذا الحكم ، لا أنّ هذا كان السبب في نزولها ، فهو من جنس الإستدلال على الحكم بالآية ، لامن جنس النقل لما وقع (٢٨).

أقول : لم تثبت هذه العادة ، بل المستفاد من عمل علماء القرآن هو الإلتزام بالعكس ، ولا بدّ أنّهم لم يفهموا الخلاف من الصحابة أو التابعين ، بل الأغلب في موارد قول الصحابة والتابعين : «نزلت في كذا» إنّما هو القضايا الواقعة والوقائع الحادثة ممّا لا معنى له إلّا الرواية والنقل ، ولا مجال لحمله على الإستدلال.

ولو تنزّلنا ، فإنّ احتمال كون قولهم : «نزلت في كذا» للإستدلال مساوٍ لاحتمال كونه لبيان سبب النزول ، ولا موجب لكونه أظهر في الإستدلال.

و يقرب ما ذكرنا أنّ ابن تيميّة احتمل في الكلام المذكور كلا الأمرين : الإستدلال و سبب النزول ، فقال : قولهم : «نزلت هذه الآية في كذا...» يراد به تارةً سبب النزول ، و يراد به تارةً أنّ ذلك داخل في الآية ، و إن لم يكن السبب ، كما نقول عني بهذه الآية كذا (٢٩).

٤ ـ والتزم الفخر الرازي طريقاً آخر لمعرفة سبب النزول ذكره في تفسير آية

_____________________________

٢٦ ـ الإتقان (ج ١ ص ١١٥).

٢٧ ـ لاحظ : مغني اللبيب لابن هشام (ص ٢٢٤).

٢٨ ـ الإتقان (ج ١ ص ١١٦).

٢٩ ـ المصدر السابق (ج ١ ص ٥ ـ ١١٦).

٣٣

النبأ ، قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» [الآية ٦ من سورة الحجرات ٤٩].

قال : سبب نزول هذه الآية ، هو أنّ النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم بعث الوليد بن عقبة ، وهو أخو عثمان لاُمّه ، إلى بني المصطلق والياً ومصّدّقاً ، فالتقوه ، فظنّهم مقاتلين فرجع الى النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، وقال : «إنّهم امتنعوا ومنعوا» فهمّ الرسول صلّ الله عليه وآله وسلّم بالإيقاع بهم ، فنزلت هذه الآية ، و اُخبر الرسول صلّ الله عليه وآله وسلّم أنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك.

قال الرازي : وهذا جيّد ، إن قالوا بأنّ الآية نزلت في ذلك الوقت ، و أمّا إن قالوا بأنّها نزلت لذلك مقتصراً عليه و متعدّياً الى غيره فلا ، بل نقول : هو نزل عامّاً لبيان التثبّت و ترك الإعتماد على قول الفاسق.

ثم قال : ويدلّ على ضعف قول من يقول : انّها نزلت لكذا ، أنّ الله تعالى لم يقل : «إنّي أنزلتُها لكذا» ، والنبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم لم ينقل منه أنّه بيّن أنّ الآية نزلت لبيان ذلك فحسب.

وقال أخيراً : فغاية ما في الباب أنّها نزلت في مثل ذلك الوقت ، وهو مثل التاريخ لنزول الآية ، ونحن نصدّق ذلك (٣٠).

و يردّ عليه :

أنّ الظاهر منه أنّه بحصر سبب النزول في أن يقول الله : «أنزلت الآية لكذا» أو يصرّح الرسول بنزولها كذلك ، وكذلك يبدو منه أنّه يعتبر في كون الشيء سبباً للنزول أن يكون مدلول الآية خاصّاً به لا عموم فيه.

وكلا هذين الأمرين غير تامّين :

أمّا الأوّل ، فلأنّ كون أمر ما سبباً لمجيء الوحي ونزوله هو بمعنى أنّ الله أوحى إلى نبيّه من أجل ذلك ، فلا حاجة إلى تصريح الله بأنّه أنزل الآية لكذا.

و أيضاً فإنّا لم نجد ولا مورداً واحداً ، كان تعيين سبب النزول على أساس تصريح الباري بقوله : أنزلتُ الآية لكذا.

أفهل ينكر الفخر الرازي وجود أسباب النزول مطلقاً ؟

_____________________________

٣٠ ـ التفسير الكبير

٣٤

و أورد عليه المحقّق الطهراني بقوله : و أطرف شيء استدلاله على ضعف قول من يقول «إنّها نزلت في كذا» أنّ الله تعالى لم يقل : «إنّي أنزلتها لكذا» والنبيّ صلّى الله عليه وآله لم ينقل عنه أنّه بيّن ذلك.

فإنّ فهم هذا المعنى لا ينحصر في ما ذكره ، بل مجرّد نزول الآية عند الواقعة مع انطباقها عليها يكفي في استفادة هذا المعنى (٣١).

و أمّا الثاني : فلأنّ عموم الآية لغير الواقعة ، لا ينافي كون تلك الواقعة هي السبب لنزولها ، فإنّ المراد بسبب النزول ليس هو المورد الخاصّ المنفرد الذي لا يتكرر ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون هو أوّل الموارد الكثيرة باعتبار عموم موضوع الآية.

بل ـ كما ذكر المحقّق الطهراني ـ : إنّ الوقائع في زمان نزول الآية كثيرة ، مع أنّ ذكر المقارنات لنزول الآيات لا معنى له ، بل نزول الآية في الواقعة لامعنى له ، إلّا أنّها المعنيّة بها ، ولو على وجه العموم (٣٢).

والمتحصّل من البحث : أنّ الطرق المثبتة لنزول الآيات تنحصر في أخبار و روايات الصحابة الذين شاهدوا الوحي وعاصروا نزوله ، وعاشوا الوقائع والحوادث و ظروفها ، والتابعين الآخذين منهم ، والعلماء المتخصّصين الخبراء ، و سيأتي البحث عن مدى اعتبار هذه الروايات في الفقرة التالية من البحث.

٣ ـ حجيّة رواياتها

إنّ الباحث عن أسباب النزول يلاحظ بوضوح اتّسام رواياتها بالضعف أو عدم القوّة ، عند العلماء حسب ما تقرره قواعد علم الرجال ، بل يجد صعوبة في العثور على ما يخلو سنده من مناقشة رجاليّة في روايات الباب ، وكذا تكون النتيجة الحاصلة من الجهد المبذول حول أسباب النزول معرضاً للشكّ من قبل علماء مصطلح الحديث باعتبار أنّ رواياتها غير معتمدة حسب اُصول هذا العلم أيضاً.

ونحن نستعرض هنا ما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الإعتراض على روايات

_____________________________

٣١ ـ محجّة العلماء (ص ٢٥٨).

٣٢ ـ المصدر والموضع.

٣٥

أسباب النزول ، و نحاول الإجابة عنها بما يزيل الشكّ عن حجّيّتها حسب ما يوصلنا الدليل ، و وجوه الإعتراض إجمالاً هي :

الأوّل : إنّ روايات الباب (موقوفة).

الثاني : إنّ روايات الباب (مرسلة).

الثالث : إنّ روايات الباب (ضعيفة).

قالوا : ولا حجّيّة لشيء من هذه الثلاثة.

و مع هذه المفارقات كيف يمكن الإعتماد على روايات الباب ؟ و بدونها كيف لنا أن نقف على معرفة الأسباب ؟

فلنذكر كلاً منها مع الإجابة عليه :

الوجه الأوّل : الإعتراض بالإرسال والوقف على الصحابة :

إنّ الحديث إذا اتّصل سنده الى الصحابي ، ولم يرفعه الى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سمّي «موقوفاً» ، وهو مرسل الصحابي ، و بما أنّ الحديث إنّما يكون حجّة باعتبار اتّصاله بالنبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، وكونه كلامه و كاشفاً عن مراده ، فلا يكون الموقوف كاشفاً كذلك ، بل لا يعدو من أن يكون رأياً للصحابي ، ومن المعلوم أنّه لا حجّيّة فيه لنفسه.

والجواب عن ذلك :

أوّلاً : إنّ الصحابي إنّما يذكر من أسباب النزول ما حضره وشهده أو نقله عمّن كان كذلك ، فيكون كلامه شهادة عن علم حسيّ وقضيّة مشاهدة ، و واقعة نزلت فيها الآية وهذا هو القدر المتيقّن من الروايات المقبولة في أسباب النزول ، قال الواحدي : لا يحلّ القول في أسباب النزول إلّا بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل و وقفوا على الأسباب و بحثوا عن علمها (٣٣).

وقال آخر : معرفة سبب النزول أمر يحصل للصحابة بقرائن تحتفّ بالقضايا (٣٤).

وقد عرفنا في الفقرة السابقة من هذا البحث أنّ من طرق معرفة أسباب النزول هي روايات الصحابة.

_____________________________

٣٣ ـ أسباب النزول (ص ٤).

٣٤ ـ الإتقان (ج ١ ص ١١٤).

٣٦

إذن ، فما يذكره الصحابي في باب النزول إنّما يكون عن علم وجداني حصل عندهم بمشاهدة القضايا ، و وقوفهم على الأسباب ، فيكون إخبارهم عنها من باب الشهادة ، لا من باب الرواية والحديث.

فلابدّ أن يكون حجّة عند من يقول بعدالة الصحابة بقول مطلق ، أو خصوص بعضهم ، من دون حاجة الى رفعها الى النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، فهي من قبيل رواية الصحابة لأفعال الرسول صلّ الله عليه وآله وسلّم التي شاهدوها ، وحضروا صدورها منه ، فنقلوها بخصوصيّاتها ، فهي حجّة بالإجماع من دون حاجة الى رفعها الى النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم.

فكلام الصحابي في هذا الباب ليس حديثاً نبويّاً كي يبحث فيه عن كونه مرسلاً أو لا.

وقد قيّد السيوطي مرسل الصحابي المختلف فيه بكونه «ممّا علم أنّه لم يحضره» (٣٥) ومعنى ذلك أنّ ما لم يحضره ونقله ، فلو كان فعلاً من أفعال النبيّ صلّ الله عليه وآله سمّي مرسلاً ، و إلّا فلا وجه لتسميته «حديثاً» فضلاً عن وصفه بالإرسال ، توضيح ذلك :

إنّ نزاعهم في مرسَل الصحابي إنّما هو في ما ذكره الصحابي من الحوادث التي لم يشهدها ولم يحضرها ، و أمّا ما حضرها من الوقائع وشهدها من الحوادث ، فإنّها لا تكون داخلة في النزاع المذكور ، فإنّ ذلك ليس حديثاً مرسلاً ، لأنّ الصحابي لا يروي ولا ينقل شيئاً ، و إنّما يشهد بما حضره ورآه ، وهو نزول الوحي في تلك الواقعة وغيره ممّا يرتبط بالنزول ، فلا يصحّ أن يقال أنّه حدّث و روى أو نقل شيئاً عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، حتى يقال أنّه أرسله ولم يرفعه.

ثانياً : وعلى فرض كون كلام الصحابي في أسباب النزول حديثاً مرويّاً ، نقول : إنّ حديث الصحابي ـ في خصوص باب أسباب النزول ـ ليس موقوفاً ولا مرسلاً بل هو مُسْنَد مرفوع.

قال الحاكم النيسابوري : ليعلم طالب الحديث أنّ تفسير الصحابي الذي شهد

_____________________________

٣٥ ـ تدريب الراوي (ص ١١٥) عن المستدرك للحاكم ، ونقله في (ص ١١٦) عن معرفة علوم الحديث للحاكم.

٣٧

الوحي والتنزيل ، عند الشيخين ، حديث مُسْنَد.

قال : ومشى على هذا أبوالصلاح وغيره (٣٦).

و مراده بالشيخين : البخاري ومسلم.

وقال النووي ـ معلّقاً على كلام الحاكم ـ : ذاك في تفسير ما يتعلّق بسبب نزول الآية (٣٧).

أقول : صريح كلماتهم أنّ حديث الصحابي في مجال أسباب النزول يُعَدّ ـ حسب مصطلح الحديث ـ «مُسْنَداً» والمراد به : ما رفع و اتّصل بالنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، و نسب إليه ، و إن لم يصرّح الصحابي بأنّه أخذه منه صلّ الله عليه وآله وسلّم.

قال النووي : و أكثر ما يُستعمل [أي المُسْنَد] فيما جاء عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، دون غيره (٣٨).

و قال الحاكم النيسابوري وغيره : لا يُستعمل «المُسْنَد» إلّا في المرفوع المتّصل (٣٩).

وقال السيوطي ـ معلّقاً على كلام الحاكم هذا ـ : حكاه ابن عبدالبرّ عن قومٍ من أهل الحديث ، وهو الأصحّ ، وليس ببعيد من كلام الخطيب ، و به جزم شيخ الإسلام [يعني ابن حجر] في النخبة (٤٠).

و على هذا ، فتفسير الصحابي خاصّة في موضوع أسباب النزول ، هو من الحديث المسند ، بمعنى أنّه محكوم بالإتّصال بالنبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم فيكون مثله في الحجّيّة والإعتبار.

ثالثاً : لو فرضنا كون كلام الصحابي في هذا الباب حديثاً مرسلاً ، لكن ليس مرسل الصحابي كلّه مردوداً و غير حجّة.

قال المقدسي : مراسيل أصحاب النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم ، مقبولة

_____________________________

٣٦ ـ تدريب الراوي (ص ١١٥).

٣٧ ـ تقريب النواوي متن تدريب الراوي (ص ١٠٧).

٣٨ ـ تدريب الراوي (ص ١٠٧).

٣٩ ـ المصدر (ص ١٠٨).

٤٠ ـ المصدر والموضع.

٣٨

عند الجمهور ، والاُمّة اتّفقت على قبول رواية ابن عباس و نظرائه من أصاغر الصحابة مع اكثارهم ، و أكثر روايتهم عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مراسيل (٤١).

وقال النووي ـ بعد أن تعرّض لحكم الحديث المرسل بالتفصيل ـ : هذا كلّه في غير مرسل الصحابي ، أمّا مرسله فمحكوم بصحّته ، على المذهب الصحيح.

وقال السيوطي في شرحه لهذا الكلام : «أمّا مرسله» كإخباره عن شيء فعله النبيّ صلّ الله عليه وآله وسلّم أو نحوه ، ممّا يعلم أنّه لم يحضره لصغر سنه أو تأخر إسلامه «فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح» الذي قطع به الجمهور من أصحابنا و غيرهم ، و أطبق عليه المحدّثون المشترطون للصحيح ، القائلون بضعف المرسل ، وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى (٤٢).

ثم ، عل فرض صدق «المرسل» على كلام الصحابي إصطلاحاً ، ولو قلنا باعتبار مرسلات الصحابة تلك التي لم يحضرها ، كان القول باعتبار مرسلاتهم التي حضروها لو سمّيت بالمرسل أولى كما لايخفى.

رابعاً : إنّ الذي عرفناه في الفقرة السابقة هو انحصار طريق معرفة أسباب النزول بالأخذ من الصحابة ، لأنّ أكثر الأسباب المعروفة للنزول إنّما هو مذكور عن طريقهم و مأخوذ من تفاسيرهم ، لأنّهم وحدهم الحاضرون في الحوادث والمشاهدون للوحي و نزوله ، فلو شدّدنا التمسّك بقواعد علم الرجال و مصطلح الحديث ، و طبّقناها على روايات أسباب النزول ، لأدّى ذلك إلى سدّ باب هذا العلم.

و بما أنّا أكّدنا في صدر هذا البحث على أهمّية المعرفة بأسباب النزول فإنّ من الواضح عدم صحّة هذا التشدّد ، وفساد ما ذكر من عدم حجّيّة روايات الباب ، ولا يكون ما ذكر في علمي الرجال والمصطلح مانعاً من الأخذ بأقوال الصحابة في الباب.

الوجه الثاني : الإعتراض بالإرسال والوقف على التابعين

لا شكّ أنّ ما يرويه التابعي من دون رفعٍ الى من فوقه من الصحابة أو وصله الى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يكون «رأياً» خاصّاً له ، فلا يكون حجّة من باب كونه حديثاً نبويّاً ، لأنّه لا يدخل تحت عنوان «السُنّة» و يسمّى ـ في مصطلح دراية

_____________________________

٤١ ـ روضة الناظر (ص ١١٢).

٤٢ ـ تدريب الراوي شرح تقريب النواوي (ص ١٢٦).

٣٩

الحديث ـ «بالموقوف» هذا ما لا بحث فيه.

و إنّما وقع البحث فيما يذكره التابعي ناقلاً له عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، من دون توسيط الصحابي ، فقال قوم بحجّيّته بعد أن اعتبروه من «السنّة» و سمّوه «مرسلاً» أيضاً (٤٣).

والوجه في التسمية هو أنّ التابعي ـ والمراد به من تأخّر عصره عن عصر صحبة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولم يرو عنه إلّا مع الواسطة ـ إذا روى شيئاً عنه صلّى الله عليه وآله و رفعه إليه ، فحديثه مرفوع ، إلّا أنّه ليس متّصلاً ، بل هو مرسل ، والواسطة محذوفة ، وهي الصحابي بالفرض ، فيكون حديثه غير مسند ، وقد وقع الخلاف في حجّيّة مرسلات التابعي مطلقاً غير ما يختصّ منها بأسباب النزول.

أمّا في خصوص هذا الباب فإنّهم اعتبروا الموقوف على التابعي من روايات النزول مرفوعاً حكماً ، وقالوا : إن ما لم يرفعه ـ في هذا الباب ـ هو بحكم المرفوع من التابعي ، وإن كان مرسلاً ، فيقع فيه البحث في مرسلاته.

قال السيوطي ـ بعد أن حكم بأنّ الموقوف على الصحابي في باب أسباب النزول بمنزلة المسند المرفوع منه ـ ما نصّه : ما تقدّم أنّه من قبيل المسند من الصحابي ، إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضاً ، لكنه مرسل ، فقد يقبل إذا صحّ المسند إليه ، و كان من أئمّة التفسير والآخذين من الصحابة كمجاهد وعكرمة و سعيد بن جبير ، أو اعتضد بمرسل آخر ، و نحو ذلك (٤٤).

إذن ، ما ورد في باب أسباب النزول عن التابعين ، يعدّ حديثاً مرفوعاً منسوباً الى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولو لم يرفعه التابعي إليه ، ولا الى أحد من الصحابة ، فيدخل في البحث عن حجّيّة مرسل التابعي ثم أنّ مرسل التابعي ليس بإطلاقه مرفوضاً.

قال الزركشي : في الرجوع الى قول التابعي ، روايتان لأحمد و اختار ابن عقيل المنع ، وحكوه عن شعبة ، لكن عمل المفسرين على خلافه ، وقد حكوا في كتبهم أقوالهم (٤٥).

_____________________________

٤٣ ـ تقريب النواوي المطبوع مع التدريب (ص ١١٨).

٤٤ ـ الإتقان (ج ١ ص ١١٧).

٤٥ ـ البرهان في علوم القرآن للزركشي (ج ٢ ص ١٥٨).

٤٠