مراتب النحويّين

عبدالواحد بن علي أبوالطيّب اللغوي

مراتب النحويّين

المؤلف:

عبدالواحد بن علي أبوالطيّب اللغوي


المحقق: محمّد أبوالفضل إبراهيم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: المكتبة العصريّة للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
ISBN: 9953-432-58-9
الصفحات: ١٢٨

محمد بن محيصن

وكذلك ابن محيصن (١) ، كان يحسن شيئا يسيرا من جليل النحو فسقط ، وكان من أهل مكة ، واسمه محمد ، وأهل الكوفة يعظّمون من شأنه ، ويزعمون أن كثيرا من علمهم وقراءتهم مأخوذ عنه.

__________________

(١) هو محمد بن عبد الرحمن بن محيصن ، توفي سنة ١٢٣ ، (طبقات القراء ٢ / ١٦٧).

٤١

يحيى بن يعمر

ولا يذكر أهل البصرة يحيى بن يعمر في النحوييّن ، وكان أعلم الناس وأفصحهم ، لأنه استبدّ بالنحو غيره ممن ذكرنا ، فكانوا هم الذين أخذ الناس عنهم ؛ وانفرد يحيى بن يعمر بالقراءة ، وهو الذي قال للرجل الذي خاصمته إليه امرأته في صداقها : أأن سألتك ثمن شكرها وشبرك أنشأت تطلّها وتضهلها! ويقال : تضهدها (١). فالشّبر : النّكاح. وجاء في الحديث أنه نهى (٢) عن شبر الفحل ـ يريد ثواب الفحلة. والشّكر : البضع. قال ابن الأعرابيّ : شكر المرأة : فرجها ، وأنشد لأبي شهاب الهذليّ :

صناع بإشفاها ، حصان بشكرها

جواد بقوت البطن ، والعرق زاجر (٣)

أراد بإشفاها طرفها. وقوت البطن : الحديث ، لأنه يخرج من الجوف ، يقول : فإن رمت غير ذلك وجدت عفافا (٤).

وقوله : «والعرق زاجر» ، أي مرتفع ، يصفها بالشرف.

وقول يحيى بن يعمر : «تطلّها» يريد تمطلها. وتضهلها ، أي تقتّر وتضيّق عليها. وتضهدها ؛ تظلمها ، والاضطهاد ، افتعال منه.

والذين ذكرنا من الكوفيين هم أئمّتهم في وقتهم ، وقد بيّنا منزلتهم عند أهل البصرة ، فأمّا الذين ذكرنا من علماء البصرة فرؤساء علماء معظّمون غير مدافعين في المصرين جميعا.

__________________

(١) الخبر في البيان والتبيين ١ / ٣٧٨.

(٢) بخط «ابن نوبخت : نهي» بالبناء للمجهول.

(٣) بخط ابن نوبخت : «زاخر» ؛ وهو يوافق رواية اللسان في «زخر» وزاخر : وافر. قال الجوهري : «معناه ؛ يقال إنها تجود بقوتها في حال الجوع ؛ ويقال : نسبها مرتفع ، لأن عرق الكريم يزخر بالكرم». والبيت أيضا في إصلاح المنطق ١٤٨.

(٤) العفاف : العفة.

٤٢

ولم يكن بالكوفة ولا في مصر من الأمصار مثل أصغرهم (١) في العلم بالعربيّة ، ولو كان لافتخروا به ، وباهوا بمكانه أهل البلدان ، وأفرطوا في إعظامه ، كما فعلوا بحمزة الزيّات.

__________________

(١) الضمير يعود على علماء البصرة.

٤٣

حمزة الزيات

وهو حمزة بن حبيب ، ويكنى أبا عمارة مولى لآل عكرمة بن ربعي التيميّ (١) ، وكان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان ، ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة ، فإنّ أهل الكوفة يتّخذونه إماما معظّما مقدما ، وليس يحكى عنه شيء من العربية ولا النحو ، وإنما هو صاحب قراءة. وأما عند البصريين فلا قدر له.

حدّثنا جعفر بن محمد ، قال : حدّثنا إبراهيم بن حميد. قال : سألت عن حمزة أبا زيد والأصمعيّ ويعقوب الحضرميّ وغيرهم من العلماء ، فأجمعوا على أنه لم يكن شيئا ، ولم يكن يعرف كلام العرب ، ولا النّحو ، ولا كان يدّعي ذلك ، وكان يلحن في القرآن ولا يعقله ؛ يقول : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ») [إبراهيم : ٢٢] ، بكسر الياء المشددة وليس ذلك من كلام العرب ، ونحو هذا من القراءة.

قال أبو حاتم : وإنّما أهل الكوفة يكابرون فيه ويباهتون ، فقد صيّره الجهّال من الناس شيئا عظيما بالمكابرة والبهت. وقول ذوي اللحى العظام منهم : «كانت الجنّ تقرأ على حمزة» ، قال : والجنّ لم تقرأ على ابن مسعود والذين بعده ، فكيف خصّت حمزة بالقراءة عليه!؟

وكيف يكون رئيسا وهو لا يعرف الساكن من المتحرّك ، ولا مواضع الوقف والاستئناف ، ولا مواضع القطع والوصل والهمز! وإنّما يحسن مثل هذا أهل البصرة ، لأنهم علماء بالعربية ، قرّاء رؤساء.

ومات حمزة بحلوان (٢) سنّة ستّ وخمسين ومائة في خلافة أبي جعفر.

__________________

(١) في الأصل «التميمي» ؛ وصوابه من الحاشية وابن خلكان ١ / ١٦٧.

(٢) حلوان هنا : في آخر سواد العراق.

٤٤

الخليل بن أحمد

وقال محمد بن يزيد : ثم أخذ النحو عن عيسى بن عمر أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهوديّ ، فلم يكن قبله ولا بعده مثله ، وهو من الفراهيد ، من الأزد.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا المبرّد ، قال : أخبرنا عبد الله بن محمد التّوّجيّ وأبو عثمان المازنيّ وأبو إسحاق الزياديّ قالوا : قال رجل للخليل بن أحمد : من أيّ العرب أنت؟ فقال : فراهيديّ ، ثم سأله آخر فقال : فرهوديّ.

قال المبرّد : قوله : «فراهيديّ» أنتسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد ، وكان من أنفسهم ، صحيح النسب ، معروف الأهل.

وقوله : «فرهوديّ» ، أنتسب إلى واحد الفراهيد ، وهو فرهود. والفراهيد : صغار الغنم.

وكان أبو حاتم يقول : الخليل بن أحمد الفرهوديّ ، من الفراهيد من اليمن ، واسم الرجل عنده فرهود بن مالك ، وكان يذهب إلى أن الفراهيد جمع ؛ مثل قولهم : الجعافرة ، والمهالبة ، والجمع لا ينسب إليه ، تقول : هذا رجل من الجعافرة ومن المهالبة ، ولا يقال جعافريّ ولا مهالبيّ.

وكان الخليل أعلم الناس وأذكاهم ، وأفضل الناس وأتقاهم ، أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا الحسين بن فهم (١) قال : سمعت محمد بن سلّام يقول : سمعت مشايخنا يقولون : لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع ، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.

__________________

(١) هو الحسين بن فهم ، صاحب محمد بن سعد ؛ ذكره ابن حجر في لسان الميزان (٢ / ٣٠٨ وقال : «سمع من محمد بن سلام الجمحي ويحيى بن معين وخلف بن هشام وطائفة. وقال ابن كامل : كان مفتنا في العلوم حافظا للحديث والأخبار والأنساب والشعر عارفا بالرجال متوسطا في الفقه ؛ توفي سنة ٢٨٩». (تاريخ بغداد ٨ / ٩٣).

٤٥

أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا القاسم بن إسماعيل (١) قال : حدّثنا أبو محمد التّوجيّ قال : اجتمعنا بمكة ـ أدباء كلّ أفق ـ فتذاكرنا أمر العلماء ، فجعل أهل كلّ بلد يرفعون علماءهم ويصفونهم ويقدّمونهم حتى جرى ذكر الخليل ، فلم يبق أحد إلا قال : الخليل أذكى العرب ، وهو مفتاح العلوم ومصرّفها.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو بكر سعدويه قال : سمعت نصر بن عليّ الجهضميّ (٢) يقول : سمعت عليّ بن نصر يقول : كان الخليل بن أحمد من أزهد الناس ، وأعلاهم نفسا ، وأشدّهم تعفّفا ، ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرّضون له لينال منهم ، ولم يكن يفعل ، وكان يعيش من بستان له خلفه عليه أبوه بالخريبة (٣).

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا هارون بن عبد الله المهلّبي قال : حدثني القاسم بن محمد (٤) بن عباد ، قال : سمعت وهب بن جرير يقول : قلّ من كان بظاهرة البصرة من العلماء والزهّاد إلا كان في باطنتها مثله ، يضعه أهل البصرة حياله ، فكان عبد الله (٥) بن عون في الباطنة ، وكان يعدّ الخليل بن أحمد في الظاهرة نظيره.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا الفضل بن الحباب أبو خليفة قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة (٦) قال : كان الخليل بن أحمد يحجّ سنة ، ويغزو سنة ، حتى جاءه الموت.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا إسحاق (٧) بن إبراهيم قال : حدّثنا أبو

__________________

(١) هو المعروف بأبي ذكوان ؛ تقدمت ترجمته ص ١٥.

(٢) ويكنى بأبي عمرو الجهضمي البصري ؛ من أهل البصرة ، قدم بغداد وحدث بها. مات سنة ٢٥٠. (تاريخ بغداد ٦ / ٢٨٩).

(٣) الخريبة ، بلفظ التصغير : موضع بالبصرة. ياقوت.

(٤) هو أبو محمد القاسم بن محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة ؛ ترجم له الخطيب في (تاريخ بغداد ١٢ / ٤٣١).

(٥) في الأصل «عبيد الله» ؛ تصحيف ؛ وكان شيخ البصرة وعالمها ؛ توفي ١٥١. (شذرات الذهب ١ / ٢٣٠).

(٦) هو عبيد الله بن محمد بن حفص ، المعروف بابن عائشة ، ويقال له العائشي ؛ منسوب إلى عائشة بنت طلحة ؛ لأنه من ذريتها. توفي بالبصرة سنة ٢٨٨. (المعارف لابن قتيبة ٢٢٩).

(٧) هو أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي ، المعروف بان راهويه ؛ جمع بين الفقه والحديث ، وكان من أصحاب الشافعي ، وتوفي سنة ٢٣٩. (ابن خلكان ١ / ٦٤).

٤٦

حفص الصيرفيّ قال : حدّثنا أبو عاصم (١) قال : دخلنا على الخليل بن أحمد قبل وفاته بأيام فقال : والله ما فعلت قطّ فعلا أخاف على نفسي منه ـ وكان لي فضل فكر ـ صرفته إلى جهة ووددت أني كنت صرفته إلى غيرها ، وما علمت أني كذبت متعمّدا قط ، وأرجو أن يغفر الله لي التأوّل.

قال أبو الطيّب اللّغويّ : وأبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها ، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمّى بكتاب «العين» فإنه هو الذي رتّب أبوابه ، وتوفّي من قبل أن يحشوه.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : سمعت أحمد بن يحيى ثعلبا يقول : إنما وقع الغلط في «كتاب العين» لأن الخليل رسمه ولم يحشه ، ولو كان حشاه ما بقّى فيه شيئا ، لأن الخليل رجل لم ير مثله.

قال : وقد حشا الكتاب أيضا قوم علماء ، إلا أنهم لم يؤخذ منهم رواية ، وإنّما وجد بنقل الورّاقين ، فاختلّ الكتاب لهذه الجهة.

أخبرنا محمد بن عبد الواحد الزاهد قال : حدّثني فتىّ قدم علينا من خراسان ـ وكان يقرأ عليّ كتاب «العين» ـ قال : أخبرني أبي عن إسحاق بن راهويه قال : كان الليث (٢) صاحب الخليل بن أحمد رجلا صالحا ، وكان الخليل عمل من كتاب «العين» باب العين وحده ، فأحبّ الليث أن تنفق سوق الخليل ، فصنّف باقي الكتاب ، وسمّى نفسه الخليل.

وقال لي مرة أخرى : فسمى لسانه «الخليل» من حبّه للخليل بن أحمد ، فهو إذا قال في الكتاب : «قال الخليل بن أحمد» فهو الخليل ، وإذا قال : «وقال الخليل» ، مطلقا فهو يحكي عن نفسه ، فكلّ ما كان في الكتاب من خلل فإنه منه لا من الخليل بن أحمد.

وممّا أبدع فيه الخليل اختراعه العروض التي حظرت (٣) على أوزان العرب ، وألحقت المفحمين بالمطبوعين.

وبلغنا عن الخليل أنه تعلّق بأستار الكعبة ، وقال : اللهمّ ارزقني علما لم

__________________

(١) هو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني البصري ؛ من شيوخ المحدثين وحفاظهم : توفي سنة ٢١٢. (تذكرة الحفاظ ١ / ٣٣٤).

(٢) هو الليث بن نصر بن سيار الخراساني. قال ابن المعتز : «كان من أكتب الناس في زمانه. بارعا في الأدب ، بصيرا بالشعر والغريب والنحو ؛ وكان كاتبا للبرامكة». (بغية الوعاة ٢ / ٢٧).

(٣) حظرت ، أي قصرت ، والعروض : ميزان الشعر وهي مؤنثة.

٤٧

يسبقني إليه الأوّلون ، ولا يأخذه إلا عنّي الآخرون (١) ، ثم رجع وعمل العروض.

وأحدث الخليل أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب. أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن الرّياشي قال : حدّثنا أبو عليّ إسماعيل بن أبي محمد اليزيديّ (٢) قال : أخبرني أصحابنا أن للخليل بن أحمد قصيدة على «فعلن فعلن» ثلاث متحركات وساكن ، وأخرى على «فعلن فعلن» بمتحرك وساكن ، فالتي على ثلاثة متحركات قصيدته التي فيها :

سئلوا فأبوا فلقد بخلوا

فلبئس لعمرك ما فعلوا

أبكيت على طلل طربا

فشجاك وأحزنك الطّلل

والتي على «فعلن» ساكن العين قوله :

هذا عمرو يستعفي من

زيد عند الفضل القاضي

فانهوا عمرا إني أخشى

صول الليث العادي الماضي

ليس المرء الحامي أنفا

مثل المرء الضيم الراضي

فاستخرج المحدثون من هذين الوزنين وزنا سمّوه : «المخلّع» (٣) وخلطوا فيه بين أجزاء هذا وأجزاء هذا.

ومن بدائعه ما أخبرنا به محمد بن يحيى قال : أنشدني عمر بن عبد الله أبو حفص العثكيّ قال : أنشدني أبو الفضل جعفر بن سليمان بن محمد بن موسى النوفليّ عن الحرمازيّ (٤) : للخليل ثلاثة أبيات على قافية واحدة يستوي لفظها ، ويختلف معناها ، وإنما أراد بهذا أن يبيّن أن تكرار (٥) اللفظ في القوافي ليس بضائر (٦) إذا لم يكن لمعنى واحد ، وأنه ليس بإيطاء (٧) ، والأبيات :

يا ويح قلبي من دواعي الهوى

إذ رحل الجيران عند الغروب!

__________________

(١) بخط ابن نوبخت : «المتأخرون».

(٢) ذكره القفطي في الإنباه ١ / ٢١٣ وقال : «كان فاضلا كإخوته ، عالما بالعربية ، خبيرا بأخبار الشعراء ؛ ألّف كتاب طبقات الشعراء».

(٣) هو مخلع البسيط ووزنه : مستفعلن فاعلن فعولن» مرتين.

(٤) هو أبو علي الحسن بن علي ؛ أعرابي بدوي راوية ، قدم البصرة ونزلها. منسوب إلى حرماز بن مالك بن عمرو بن تميم ، وكان شاعرا. (الفهرست ٤٨).

(٥) بخط ابن نوبخت : «تكرر اللفظ».

(٦) بخط ابن نوبخت : «ليس بضار».

(٧) الإيطاء : اتفاق قافيتين أو أكثر بمعنى واحد في قصيدة واحدة.

٤٨

أتبعتهم طرفي وقد أمعنوا

ودمع عينيّ كفيض الغروب

بانوا وفيهم طفلة حرّة

تفترّ عن مثل أقاحي الغروب (١)

فالغروب الأول : غروب الشمس ، والغروب الثاني : جمع غرب وهو الدلو العظيمة المملوءة. والغروب الثالث : جمع غرب ؛ وهي الوهاد المنخفضة.

فقصدهذا القصد بعض الشعراء،فأنشدنا عبد القدوس بن أحمد قال:أنشدنا ثعلب (٢) :

أتعرف أطلالا شجونك بالخال

وعيش زمان كان في العصر الخالي!

ليالي ريعان الشباب مسلّط

عليّ بعصيان الإمارة والخال

وإذ أنا خدن للغويّ أخي الصّبا

وللغزل المرّيح ذي اللهو والخال

وللخود تصطاد الرجال بفاحم

وخدّ أسيل كالوذيلة ذي خال (٣)

إذا رئمت ريعا رئمت رباعها

كما رئم الميثاء ذو الرّيبة الخالي (٤)

ويقتادني منها رخيم دلاله (٥)

كما اقتاد مهرا حين يألفه الخالي

زمان أفدّي من يراح إلى الصّبا (٦)

بعمّي من فرط الصّبابة والخال

وقد علمت أنّي وإن ملت للصّبا

إذا القوم كعّوا لست بالرّعش الخالي

ولا أرتدي إلا المروءة حلّة

إذا ضنّ بعض القوم بالعصب والخال

وإن أنا أبصرت المحول ببلدة

تنكّبتها (٧) واشتمت خالا على خال

فحالف فحلفي (٨) كلّ حلف مهذّب

وإلا تحالفني فخال إذا خال

وإنّي حليف للسّماحة والنّدى (٩)

كما اختلفت عبس وذبيان في الخال

وثالثنا في الحلف كلّ مهنّد

لما ريم من صمّ العظام به خال (١٠)

__________________

(١) الطفلة : الجارية الرقيقة البشرة الناعمة.

(٢) القصيدة في اللسان (خيل).

(٣) الخود : الفتاة الشابة الناعمة. والوذيلة : المرآة.

(٤) رئمت : أحبت ، وفي اللسان : «ذو الرئية».

(٥) اللسان : «رخيم دلالها».

(٦) اللسان : «من مراح».

(٧) بخط ابن نوبخت : «تبطنتها».

(٨) اللسان : «فحالف بحلفي كل خرق مهذب».

(٩) اللسان : «ما زلت حلفا».

(١٠) اللسان : «لما يرم»

٤٩

ـ ويروى : «بالخال» ـ

قوله : «شجونك بالخال» ، يريد موضعا بعينه.

وقوله : «في العصر الخالي» ، أي الماضي.

وقوله : «الإمارة والخال» يريد الراية.

وقوله : «ذي اللهو والخال» ، يريد الخيلاء والكبر.

وقوله : «كالوذيلة ذي خال» ، يريد واحد خيلان الوجه.

وقوله : «ذو الرّيبة الخالي» (١) ، يعني العزب.

وقوله : «حين يألفه الخالي» ، هو الذي يخليه ، أي يلقي اللجام في فيه.

وقوله : «من فرط الصبابة والخال» يريد أخا أمّه.

وقوله : «بالرّعش الخالي» ، يعني المنخوب الضعيف.

وقوله : «بالعصب والخال» ، يريد برود الخال ، وهي ضرب من برود اليمن.

وقوله : «على خال» ، يعني السحاب.

وقوله : «خال إذا خال» ، من المخالاة ، وهي التخلي.

وقوله : «في الخال» ، يريد موضعا.

وقوله : «خال» ، أي قاطع.

قال أبو الطيّب اللغويّ : ولما ظنّنا أنّ من يسمع (٢) هذه الأبيات ربّما خال أن قائلها قد زاد على الخليل ، وأنه لمّا تعرّض لشيء تقصّاه رأينا أنه بخلاف هذه الصورة ، وأنه قد ترك أكثر مما أخذ ، وأغفل أكثر مما أورد ، فقد بقي عليه من هذه القافية ما نحن ناظموه أبياتا ، ومعتذرون من تقصيرنا فيه ، إذ البغية إيراد القوافي ، دون التعمّل لنقد الشعر :

ألمّ (٣) بربع الدار بان أنيسه

على رغم أنف اللهو قفرا بذي الخال

مساعد خلّ أو مقضّي ذمّة

ومحيي قتلى بعد (٤) سكّانه خال

__________________

(١) في الأصل : «الخال» من غير ياء.

(٢) خ : «سمع».

(٣) خ : «ألمّ» بضم الهمزة.

(٤) في الأصل : «بعض» ، تصحيف.

٥٠

خلا منهم من حيث لم تخل مهجتي

ولم يخل من نؤي وأورق كالخال

وكم جلّلت أيدي النّوى وصروفها

على الزّمن الخالي المحبّين بالخال

تبصّر خليلي الربع شيّعت دائما

بقلب من الوجد الذي حلّ بي خال

ألم ترني أرعي الهوى من جوانحي

رياضا كهمّ المرء ذي النّعم الخال

أذوق أمرّيه بغير تكرّه

مذاقة موفور على جرعة خال

وأسكن منه كلّ واد مضلّة

وآلف ربعا ليس من مألف الخالي

وكم أنتضي فيه سيوف عزائم

وأنضو ثياب البدن عن جمل خال

وكم من هدى نكّبت عنه إلى هوى

وحقّ يقين حدت عنه إلى خال

ومهما تذلّلني لليلى صبابة

فغير معرّى القدر من ملبس الخال

تطامن طودي للهوى يستقيده

وألحق أطواد الأعزّين بالخال

أضنّ بعهدي ضنّ غيري بروحه

وأبذل روحي بذل ذي الكرم الخال

وإن أخل من شيء فلا من صبابة

خلت شرّتي كالغيث بلّ به الخالي

وإن تخل ليلى من تذكّر عهدنا

فكم أيقن الواشون أنّي بها خال

وإن يزعموا أني تخلّيت بعدها

فما أنا عنها بالخليّ ولا الخالي

قال أبو الطيب : ذو الخال : اسم موضع ، قال امرؤ القيس :

ديار سليمى عافيات بذي الخال

ألحّ عليها كلّ أسحم هطّال

وبعد سكانه خال ، معناه : يا خالد ، على الترخيم ؛ مثل عام ومال لعامر ومالك.

وأورق كالخال ، فالأورق الرّماد. والخال : الحبل الأسود.

والمحبّين بالخال ، فالخال هاهنا : ثوب يستر به الميّت.

ومن الوجد الذي حلّ بي خال ، أي فارغ.

وذو النعم الخال ، فالخال : الرجل الحسن القيام على ماله والرّعي لإبله ، يقال : إنه لخائل مال وخال مال.

و «موفور على جرعة خال» ؛ من قولهم : خلا على اللبن أو غيره ، وأخلى عليه ، إذا لزمه وحده ولم يتغذّ بغيره.

وليس من مألف الخالي من قولهم : خلا بالمكان إذا لزمه فلم يفارقه.

٥١

«جمل خال» ، فالخال البعير الضخم البادن ، و «حدت عنه إلى خال» : إلى ظنّ.

وقولهم : «من ملبس الخال» ، فالخال : الرجل المتكبّر المتعظّم.

وألحق أطواد الأعزّين بالخال ، فالخال : الأكمة الصغيرة.

وبذل ذي الكرم الخال ، فالخال الرجل السمح والجواد.

وكالغيث بلّ به الخالي ؛ فالغيث هاهنا النبت.

وبلّ به : ظفر به.

والخالي : الذي يجزّ. والخلاة : العشب.

وإني بها خال ، أي منفرد.

وما أنا عنها بالخليّ ولا الخالي ، فالخليّ الذي ليس بمحزون ، والخالي : البريء.

ولم يكن في علماء البصريين من قطع عليه أنه منقطع القرين مثل الخليل بن أحمد ، أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا محمد بن الفضل بن الأسود ، قال : حدّثنا صالح بن محمد الخراساني ، قال : حدّثنا سوّار بن عبد الله بن سوّار قال : حدثني أبي قال : شهد الخليل عند سوّار بن عبد الله شهادات ، فقبله فيها كلّها.

أخبرنا محمد قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن زياد الزيادي والحسن بن محمد المهريّ قالا : حدّثنا عبد الله بن محمد التوّجيّ قال : سمعت أبا السمراء يقول : سمعت يحيى بن خالد البرمكيّ (١) يقول : أربعة ليس في فنّهم مثلهم : أبو حنيفة (٢) في فنّه ، والخليل بن أحمد في فنّه ، وابن المقفع في فنّه ، والفزاريّ في فنّه.

قال أبو الطيب اللغويّ : وأنا أقول : وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (٣) في فنّه ، وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكنديّ (٤) في فنّه.

ومن شهرة الخليل بن أحمد وتقدّمه في العلم ، ضرب به العلماء والشعراء الأمثال

__________________

(١) هو يحيى بن خالد بن برمك ، وزير الرشيد ، مات في الحبس سنة ١٩٠. (وانظر ترجمته وأخباره في ابن خلكان ٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٦).

(٢) هو النعمان بن ثابت أبو حنيفة التيمي ؛ صاحب المذهب ، توفي سنة ١٥٣. (وانظر ترجمته وأخباره في تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢٣ ـ ٤٢٣).

(٣) توفي الجاحظ بالبصرة سنة ٢٥٥. (وانظر ترجمته وأخباره في ابن خلكان ١ / ٣٨٨ ـ ٣٩١).

(٤) هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن إسحاق بن الصباح الكندي ؛ فيلسوف العرب في عصره ، نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد ، واشتهر بالطب والموسيقى والهندسة والفلك ؛ وتوفي سنة ٣١٦. (طبقات الأطباء ١ / ٢٠٦).

٥٢

وذكروه في شعرهم. فقال إسحاق الموصلي يهجو الأصمعيّ ، وحسبك بالأصمعيّ :

أليس من العجائب أنّ كلبا

أصيمع باهليّا يستطيل!

ويزعم أنّه قد كان يفتي

أبا عمرو ويسأله الخليل

وقال خالد النجار يهجو التّوّجيّ :

يا من يزيد تمقّتا

وتباغضا في كلّ لحظه

والله لو كنت الخليل

لما كتبنا عنك (١) لفظه

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير :

لو لا الإله وأنّني متخوّف

مما أقول لعنت قبر خليل

ألقى مسائل في العروض تغمّنا

من فاعل مستفعلن وفعول

وقال أبو تمّام حبيب بن أوس الطائيّ يهجو عياش بن لهيعة الحضرميّ :

فقدتك من زمان شرّ فقد

وغالت حادثاتك كلّ غول (٢)

محت نكباته سبل المعالي

وأطفأ ليله سرج العقول

فما حيل الأريب بساترات

فضائحه ولا لبّ الأصيل (٣)

فلو نشر الخليل له لعفّت

بلادته على فطن الخليل

فما أدري عماي عن ارتيادي

دهاني أم عماك عن الجميل

وأنشدونا عن المبرّد :

لم يدر ما علم الخليل فيقتدي (٤)

ببيان ذاك ولا حدود المنطق

وكان في هذا العصر ثلاثة ؛ هم أئمّة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب ، لم ير مثلهم قبلهم ولا بعدهم ، عنهم أخذ جلّ ما في أيدي الناس من هذا العلم عنهم ، بل كلّه ؛ وهم أبو زيد وأبو عبيدة والأصمعي ، وكلّهم أخذوا عن أبي عمرو اللغة والنحو والشعر ، ورووا عنه القراءة ، ثم أخذوا بعد أبي عمرو عن عيسى بن عمر وأبي الخطاب الأخفش ويونس بن حبيب ، عن جماعة من ثقات الأعراب

__________________

(١) خ : «عنه».

(٢) ديوانه ٥٠٣.

(٣) رواية الديوان :

فما حيل الأديب بمدركات

عجائبه ولا فكر الأصيل

(٤) بخط ابن نوبخت (عن نسخة): «فيهتدي».

٥٣

وعلمائهم ، مثل أبي مهدية (١) ، وأبي طفيلة (٢) ، وأبي البيداء (٣) وأبي خيرة (٤) ـ واسمه إياد بن لقيط ـ وأبي مالك عمرو بن كركرة (٥) ، صاحب «النوادر» من بني نمير ، وأبي الدّقيش الأعرابيّ ، وكان أفصح الناس ، وليس الذين ذكرنا دونه. وقد أخذ الخليل أيضا عن هؤلاء واختلف إليهم.

أخبرنا حمدان بن الحسن الرافعي أبو سلمة قال : حدّثنا عسل بن ذكوان أبو عليّ قال : حدّثنا المازنيّ عن الأخفش قال : قال الخليل : دخلنا على أبي الدّقيش الأعرابيّ نعوده ، فقلت له : كيف تجدك أبا الدّقيش؟ قال أجدني أجد ما لا أشتهي ، وأشتهي ما لا أجد ، ولقد أصبحت في زمان سوء ، قلت : وما زمان السّوء؟ قال : من جاد لم يجد ، ومن وجد لم يجد. قلت : ما الدّقيش؟ قال : لا أدري. وقد حكى يونس عن أبي الدقيش مثل هذا.

وأخبرونا عن ابن دريد قال : أخبرنا أبو حاتم عن الأخفش قال : قال يونس : سألت أبا الدّقيش : ما الدّقيش؟ فقال : لا أدري ، إنّما هي أسماء نسمعها فنتسمّى بها. وقال أبو عبيدة : الدقشة دويبّة رقطاء أصغر من العظاء (٦). قال : والدّقش شبيه بالنقش ، وقد سمّوا دنقشا ؛ وإن كانت النون زائدة ، فهو من هذا. وقال ابن الأعرابيّ : الدّنقشة : الشرّ والاختلاط.

__________________

(١) ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين ، وقال ابن النديم : «صاحب غريب يروي عنه البصريون» ، (وانظر الطبقات ١٧٥ ، والفهرست ٤٦).

(٢) كذا في الأصل وفي المزهر ٢ / ٤٠١ فيما نقل عن أبي الطيب. ولم أجد له ذكرا في كتب تراجم النحويين كإنباه الرواة ونزهة الألباء وطبقات الزبيدي ولا في الفهرست لابن النديم.

(٣) ذكره ابن النديم وقال : «زوج أم أبي مالك عمرو بن كركرة ؛ واسم أبي البيداء أسعد بن عصمة ، أعرابي نزل البصرة وكان يعلم الصبيان بأجرة ؛ أقام أيام عمره يؤخذ عنه العلم ، وكان شاعرا ، وأورد له شعرا (الفهرست ٤٤).

(٤) ذكره ابن النديم في الفهرست ٤٥ وقال : «اسمه نهشل بن زيد ؛ أعرابي بدوي من بني عدي ، دخل الحاضرة وأفاد وأخذ الناس عنه ، وصنف في الغريب». وكذلك نقل عنه القفطي في باب الكنى. وفي الحاشية بخط ابن نوبخت «أفار بن لقيط». وفي الإنباه أن أفار بن لقيط هو اسم أبي مهدية. وفي الفهرست ٤٤ ما يفيد أن أفار بن لقيط غير أبي خيرة وأبي مهدية.

(٥) بخط ابن نوبخت : «بفتح كافي كركرة» ، وهو يوافق ما في القاموس. ذكره الزبيدي في الطبقة الأولى من اللغويين البصريين. وقال ابن النديم : «أعرابي كان يعلم في البادية ويورق في الحضر ، مولى بني سعد ؛ راوية أبي البيداء» .. (وانظر طبقات الزبيدي ١٧٥ ، والفهرست ٤٤).

(٦) بخط ابن نوبخت : «العظاءة».

٥٤

أبو زيد سعيد بن أوس

وكان أبو زيد أحفظ الناس للّغة بعد أبي مالك وأوسعهم رواية ، وأكثرهم أخذا عن البادية.

وقال ابن مناذر : كان الأصمعيّ يجيب في ثلث اللّغة ، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها ، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها ، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها ، وكان أبو مالك يجيب فيها كلّها.

وإنما عنى ابن مناذر توسّعهم في الرّواية والفتيا ، لأن الأصمعيّ كان يضيّق ، ولا يجوّز إلا أفصح اللّغات ، ويلجّ في ذلك ويمحك ، وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن وحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ؛ فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض.

وأبو زيد هو سعيد بن أوس بن ثابت من الأنصار ، وهو من رواة الحديث ، ثقة عندهم مأمون ، وكذلك حاله في اللّغة ؛ وكان من أهل العدل والتشيّع ، وكان أبوه أوس بن ثابت محدّثا أيضا.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا محمد بن يزيد الثماليّ قال : حدّثنا المازنيّ قال : حدّثنا أبو زيد قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثنا أوس بن ثابت ـ وهو أبو أبي زيد ـ عن أبيه قال : أتي شريح (١) في ابني عمّ ؛ أحدهما زوج والآخر أخ لأم ، فقال شريح : للزوج النصف وما بقي فللأخ من الأم ؛ فقال عليّ عليه السّلام : أخطأ العبد الأبظر (٢) ، للزوج النّصف ، وللأخ من الأم السدس ، وما بقي فبينهما نصفان.

وقد أخذ عن أبي زيد اللغة أكابر الناس ؛ منهم سيبويه وحسبك.

قال أبو حاتم عن أبي زيد : كان سيبويه يأتي مجلسي وله ذؤابتان. قال : فإذا سمعته يقول : «حدّثني (٣) من أثق بعربيّته» فإنّما يريدني. وكبرت

__________________

(١) هو شريح بن الحارث بن قيس الكندي الكوفي ، استقضاه عمر على الكوفة وأقره عليّ ، وأقام على القضاء بها ستين سنة ، وتوفي سنة ٨٥ ، على خلاف في ذلك (تهذيب التهذيب ٤ / ٣٢٦).

(٢) الأبظر هنا : الناتىء الشفة العليا مع طولها ونتوء في وسطها محاذ للأنف.

(٣) خ : «وحدثني».

٥٥

سنّه (١) حتى اختلّ حفظه ولم يختلّ عقله ، فأخبرنا عبد القدوس بن أحمد قال : أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكّري قال : أخبرنا الرياشيّ قال : أتيت (٢) أبا زيد معي كتابه في الشّجر والكلأ ، فقلت له : أقرأ عليك هذا؟ فقال : لا تقرأه عليّ فإني قد أنسيته.

أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرونا عن أبي حاتم قال : قلت لأبي زيد : نسأ الله في أجلك ؛ فقال : يا بنيّ ، ما النّسء بعد ثمانين!

وكان أبو زيد جميل الخلق محبّبا ، فأخبرني محمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن يزيد قال : كان أبو زيد الأنصاريّ يلقّب الناس ، فلقّب الجرميّ بالكلب لجدله واحمرار عينيه. ولقّب المازنيّ تدرج (٣) ؛ لأن مشيته كانت تشبه مشية التّدرج ، ولقّب أبا حاتم رأس البغل لكبر رأسه ، ولقّب التوّزيّ أبا الوزواز (٤) لخفّة حركته وذكائه ، ولقّب الزياديّ طارقا لأنه كان يأتيه بليل (٥).

ومن جلالة أبي زيد في اللّغة ما حدّثنا به جعفر بن محمد قال : حدّثنا محمد بن الحسن الأزديّ ، عن أبي حاتم ، عن أبي زيد ، قال : كتب رجل من أهل رامهرمز يقال له علاوة إلى الخليل بن أحمد يسأله : كيف يقال : ما أوقفك هاهنا؟ ومن أوقفك؟ فكتب إليه : هما واحد. قال أبو زيد : ثم لقيني الخليل فقال لي في ذلك ، فقلت له : لا (٦) ؛ إنّما يقال : من وقفك وما أوقفك؟ قال : فرجع إلى قولي.

قال : أبو الطيّب اللغويّ : وأما الأصمعيّ فإنه يأبى فيهما جميعا إلا «وقفك» بغير ألف. قال : وسمعت أبا عمرو يقول : لو قلت : ما أوقفك هاهنا؟ أي ما عرّضك للوقوف؟ كان صوابا.

وقارب أبو زيد في سنّه مائة سنة ، ومات سنة خمس عشرة ومائتين ، ذكر ذلك المازنيّ.

__________________

(١) السن مؤنثة ، وفي الأصل «وكبر».

(٢) «رأيت».

(٣) التدرج : طائر كالجراد يغرد في البساتين بأصوات طيبة ، يسمن عند صفاء الهواء وهبوب الشمال ، ويهزل عند كدورته وهبوب الجنوب ، يتخذ داره في التراب اللين ، ويضع البيض فيها لئلا يتعرض للآفات. (حياة الحيوان للدميري ١ / ٢٠٣).

(٤) الوزواز : طائر ضعيف الحركة.

(٥) خ : «ليلا».

(٦) نسخة ابن نوبخت بإسقاط : «لا».

٥٦

أبو عبيدة معمر بن المثنى

وأما أبو عبيدة وهو معمر بن المثنّى التيميّ ، من تيم قريش ، مولى لهم ، فإنه كان أعلم الثلاثة بأيام العرب وأخبارهم وأجمعهم لعلومهم ، وكان أكمل القوم ، ومع ذلك فإنه كان ربّما أنشد البيت فلم يقم وزنه حتى يكسره ، ويخطئ إذا قرأ القرآن نظرا.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : حدّثني مسعود بن بشر قال : سمعت يزيد بن مرة يقول : ما كان أبو عبيدة يفتش عن علم من العلوم إلا كان من يفتّشه عنه يظنّ أنه لا يحسن غيره ، ولا يقوم بشيء أجود من قيامه به.

وأخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال : سمعت أبا زيد عمر بن شبّة. يقول : قال أبو عبيدة : ما التقى فرسان في جاهلية ولا إسلام إلا عرفتهما وعرفت فارسيهما. قال عمر بن شبّة : وأنا أقول ذلك في الإسلام خاصة.

وكان أبو عبيدة يميل إلى مذهب الإباضيّة (١) من الخوارج.

وكان يبغض العرب ، وقد ألّف في مثالبها كتبا.

أخبرنا جعفر بن محمد بن بابتويه قال : أخبرنا محمد بن الحسن الأزديّ قال : حدّثنا أبو حاتم قال : كان أبو عبيدة يميل إليّ ، لأنه كان يظنّني من خوارج سجستان ، وكان يستنشدني شعرهم ، ويتلهّف عليهم.

وأخبرنا عبد القدّوس بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن يزيد قال : أخبرنا التوّجيّ قال : دخلت على أبي عبيدة وهو جالس في مجلس مسجده

__________________

(١) الإباضية : جماعة من الخوارج ؛ ينسبون إلى عبد الله بن إباض التميمي ؛ يرون أن مخالفيهم من هذه الأمة ليسوا مشركين ولا مؤمنين ، ويجوّزون شهادتهم ، ويستحلون الزواج منهم. (الفرق بين الفرق ٨٢).

٥٧

وحده ينكت في الأرض ، فرفع رأسه إليّ وقال : من القائل :

أقول لها وقد جشأت وجاشت

من الأطماع : ويحك لن تراعي (١)

فإنّك لو سألت بقاء يوم

على الأجل الذي لك لم تطاعي

فقلت : قطريّ بن الفجاءة الخارجيّ (٢) ، قال فضّ الله فاك! هلّا قلت : لأمير المؤمنين أبي نعامة! قال لي : اجلس واكتم عليّ ما سمعت منّي. قال : فما ذكرته حتى مات.

حدّثنا عليّ بن إبراهيم البغداديّ قال : سمعت عبد الله بن سليمان يقول : سمعت أبا حاتم السّجستاني يقول : جاء رجل إلى أبي عبيدة يسأله كتاب وسيلة إلى بعض الملوك ، فقال لي : يا أبا حاتم : اكتب له عنّي ، والحن في الكتاب ، فإن النّحو محدود.

ومات أبو عبيدة سنة عشر ومائتين ، أو إحدى عشرة ، وقد قارب المائة.

__________________

(١) حماسة أبي تمام (١ / ٩٦ ـ بشرح التبريزي) ، ورواية البيت الأول هناك :

أقول لها وقد طارت شعاعا

من الأبطال ويحك لن تراعي!

(٢) هو قطري بن الفجاءة بن مازن الخارجي ؛ وكنيته أبو نعامة. كان زعيما من زعماء الخوارج : خرج زمن مصعب بن الزبير سنة ٦٦ ، وبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة ، وكان الحجاج يسيّر إليه جيشا بعد جيش ، وهو يستظهر عليه ، إلى أن توجه إليه سفيان بن أبرد الكلبي فظهر عليه وقتله سنة ٧٨. (ابن خلكان ١ / ٤٣).

٥٨

الأصمعي أبو سعيد

عبد الملك بن قريب

وأما الأصمعيّ أبو سعيد عبد الملك قريب بن أصمع بن عليّ بن أصمع الباهليّ فإنه كان أتقن القوم للّغة ، وأعلمهم بالشعر ، وأحضرهم حفظا. وكان أبوه قد رأى الحسن وجالسه. وكان تعلّم نقد الشعر من خلف الأحمر مولى الأشعريّين.

وهو خلف بن حيّان ، ويكنى أبا محمد وأبا محرز.

وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ : كان خلف مولى أبي بردة (١) بن أبي موسى الأشعريّ ، أعتقه وأعتق أبويه ، وكانا فرغانيّين ، وكان أعلم الناس بالشعر ، وكان شاعرا ، ووضع على شعراء عبد القيس شعرا موضوعا كثيرا وعلى غيرهم عبثا به ، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة.

أخبرنا محمد بن يحيى قال : أخبرنا محمد بن يزيد قال : كان خلف أخذ النّحو عن عيسى بن عمر ، وأخذ اللّغة عن أبي عمرو ، ولم ير أحد قطّ أعلم بالشعر والشعراء منه. وكان به يضرب المثل في عمل الشعر ، وكان يعمل على ألسنة الناس فيشبّه كلّ شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه. ثم نسك ، فكان يختم القرآن في كلّ يوم وليلة ، وبذلّ له بعض الملوك مالا عظيما خطيرا على أن يتكّلم في بيت شعر شكّوا فيه ، فأبى ذلك وقال : قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه.

وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم ، وكانوا يقصدونه لما مات حمّاد الراوية ؛ لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه ، وبلغ مبلغا لم يقاربه حمّاد ، فلما تقرّأ (٢) ونسك خرج

__________________

(١) هو أبو بردة عامر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ؛ كان قاضيا بعد شريح توفي سنة ١٠٣ على خلاف في ذلك. (ابن خلكان ١ / ٢٤٣) ـ وفي إنباه الرواة وبغية الوعاة أنه كان مولى لبلال بن أبي بردة.

(٢) تقرأ : تعبد.

٥٩

إلى أهل الكوفة فعرّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس ، فقالوا له : أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة ، فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم.

وممن أخذ عنه واختصّ به أبو نواس ، وقد أخذ عن أبي عبيدة أيضا ، وله في خلف مراث (١).

ونعود إلى ذكر الأصمعيّ.

أخبرنا جعفر بن محمد قال : أخبرنا عليّ بن سهل ، قال : أخبرنا أبو عثمان الأشناندانيّ (٢) قال : أخبرنا التوّزيّ قال : خرجت إلى بغداد ، فحضرت حلقة الفرّاء ، فرأيته يحكي عن الأعراب ويحتشد (٣) بشواهد ؛ ما كان أصحابنا يحفلون ببعضها ، فلما أنس بي قال لي : ما فعل أبو زيد؟ قلت : ملازم لبيته ومسجده ، وقد أسنّ ، فقال : ذاك أعلم الناس باللّغة وأحفظهم لها. ما فعل أبو عبيدة؟ قلت : ملازم لبيته ومسجده ، على سوء خلقه. فقال : أما إنه أكمل القوم وأعلمهم بأيام العرب ومذاهبها. ما فعل الأصمعيّ؟ قلت : ملازم لبيته ومسجده. قال : ذاك أعلمهم بالشعر ، وأتقنهم للّغة ، وأحضرهم حفظا. ما فعل الأخفش؟ يعني سعيد بن مسعدة ـ قلت : معافى ، تركته عازما على الخروج إلى الرّيّ. قال : أما إنه إن كان خرج فقد خرج معه النّحو كلّه والعلم بأصوله وفروعه.

ولم ير الناس أحضر جوابا ، وأتقن لما يحفظ من الأصمعيّ ، ولا أصدق لهجة منه ، وكان شديد التألّه (٤) ؛ كان لا يفسّر شيئا من القرآن ولا شيئا من اللغة له نظير أو اشتقاق في القرآن وكذلك الحديث تحرّجا ، وكان لا يفسّر شعرا فيه هجاء ، ولم يرفع (٥) من الحديث إلا أحاديث يسيرة ، وكان صدوقا في كل شيء ، من أهل السنّة.

وولد سنة ثلاث وعشرين ومائة ، وعمّر نيّفا وتسعين سنة. وقال عبد الرحمن : مات عمّي في صفر سنة ست عشرة ومائتين ، وله إحدى وتسعون سنة.

__________________

(١) ذكر السيوطي أن خلفا توفي في حد ثمانين ومائة ؛ وانظر مراثي أبي نواس في ديوانه ١٣٢ ـ ١٣٥.

(٢) هو أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني ؛ كان نحويا لغويا من أئمة اللغة ؛ أخذ عنه ابن دريد ، وتوفي سنة ٢٨٨. (معجم الأدباء ١١ / ٢٣٠).

(٣) ابن نوبخت : «هو عندي ـ يحتج».

(٤) التأله : التنسك.

(٥) يرفع ، من رفع المحدث الحديث ، إذا نسبه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

٦٠