كتاب سيبويه - ج ١

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]

كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٨٢

قال لا ماء بارد قال ألا ماء بارد ومن ذلك ألا أبالي وألا علامي لي ، وتقول ألا غلامين وجاريتين لك كما تقول لا غلامين وجاريتين لك ، وتقول ألا ماء ولبنا كما قلت لا غلام وجارية لك ، تجريها مجرى لا ناصبة في جميع ما ذكرت لك ، وسألت الخليل عن قوله :

(١) ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدلّ على محصّلة تبيت

فزعم أنه ليس على التمنّي ولكنه بمنزلة قول الرجل فهلّا خيرا من ذلك كأنه قال ألا ترونني رجلا جزاه الله خيرا ، وأمّا يونس فزعم أنه نوّن مضطرّا ، وزعم أنّ قوله : * لا نسب اليوم ولا خلّة* على الاضطرار وأمّا غيره فوجّهه على ما ذكرت لك والذي قال مذهب ، ولا يكون الرفع في هذا الموضع لأنه ليس بجواب لقوله أذا عندك أم ذا وليس في ذا الموضع معنى ليس ، وتقول ألا ماء وعسلا باردا حلوا ، لا يكون في الصفة إلّا التنوين لأنك فصلت بين الاسم والصفة حين جعلت البرد للماء والحلاوة للعسل ، ومن قال لا غلام أفضل منك لم يقل في ألا غلام أفضل منك إلّا بالنصب لأنه دخل فيه معنى التمنّي وصار مستغنيا عن الخبر كاستغناء اللهمّ غلاما ومعناه اللهمّ هب لي غلاما.

[باب الاستثناء]

فحرف الاستثناء إلّا ، وما جاء من الأسماء فيه معنى إلّا فغير وسوى وما جاء من الأفعال فيه معنى إلّا فلا يكون وليس وعدا وخلا ، وما فيه ذلك المعنى من حروف الاضافة وليس باسم فحاشى وخلافي بعض اللغات ، وسأبيّن لك أحوال هذه الحروف ان شاء الله الأوّل فالأوّل.

__________________

(٥٣٩) الشاهد فيه نصب رجل وتنوينه لأنه حمله على اضمار فعل وجعل ألا حرف تحضيض والتقدير ألا ترونني رجلا ، ولو جعلها ألا التي للتمني لنصب ما بعدها بغير تنوين ، هذا تقدير الخليل وسيبويه ، ويونس يرى أنه منصوب بالتمني ونون ضرورة ، والأول أولى لأنه لا ضرورة فيه ، وحروف التحضيض مما يحسن اضمار الفعل بعدها وأراد بالمحصلة امرأة تحصل الذهب من تراب المعدن وتخلصه منه وطلبها للمبيت إما للتحصيل أو للفاحشة.

٤٢١

[باب ما يكون استثناء بالّا]

اعلم أن إلّا يكون الاسم بعدها على وجهين فأحد الوجهين أن لا تغيّر الاسم عن الحال التي كان عليها قبل أن تلحق كما أنّ لاحين قلت لا مرحبا ولا سلام لم تغيّر الاسم عن حاله قبل أن تلحق فكذلك إلّا ولكنها تجيء لمعنى ، كما تجيء لا لمعنى ، والوجه الآخر أن يكون الاسم بعدها خارجا مما دخل فيه ما قبله عاملا فيه ما قبله من الكلام كما تعمل عشرون فيما بعدها اذا قلت عشرون درهما ، فأما الوجه الذي يكون فيه الاسم بمنزلته قبل أن تلحق إلا فهو أن تدخل الاسم في شيء تنفي عنه ما سواه ، وذلك قوله ما أتاني إلا زيد وما لقيت إلا زيدا وما مررت إلا بزيد ، تجرى الاسم مجراه اذا قلت ما أتاني زيد وما لقيت زيدا وما مررت بزيد ولكنك أدخلت إلا لتوجب الأفعال لهذه الأسماء ولتنفي ما سواها فصارت هذه الأسماء مستثناة ، فليس في هذه الأسماء في هذا الموضع وجه سوى أن تكون على حالها قبل أن تلحق إلّا لأنها بعد إلّا محمولة على ما يجرّ ويرفع وينصب كما كانت محمولة عليه قبل أن تلحق إلّا ولم تشغل عنها قبل أن تلحق إلّا الفعل بغيرها.

[باب ما يكون المستثنى فيه بدلا مما نفي عنه ما أدخل فيه]

وذلك قولك ما أتاني أحد إلّا زيد وما مررت بأحد إلّا عمرو ، وما رأيت أحدا إلّا عمرا ، جعلت المستثنى بدلا من الأول فكأنك قلت ما مررت إلّا بزيد ، وما أتاني إلّا زيد ، وما لقيت إلّا زيدا كما أنك اذا قلت مررت برجل زيد فكأنك قلت مررت بزيد ، فهذا وجه الكلام أن تجعل المستثنى بدلا من الذي قبله لأنك تدخله فيما أخرجت منه الأوّل ، ومن ذلك قولك ما أتاني القوم إلّا عمرو ، وما فيها القوم إلّا زيد وليس فيها القوم إلّا أخوك ، وما مررت بالقوم إلّا أخيك فالقوم هيهنا بمنزلة أحد ومن قال ما أتاني القوم إلّا أباك لأنه بمنزلة قوله أتاني القوم إلّا أباك فانه ينبغي له أن يقول ما فعلوه إلّا قليلا منهم وحدثني يونس أنّ أبا عمرو كان يقول الوجه ما أتاني القوم إلا عبد الله ، ولو كان هذا بمنزلة أتاني القوم لما جاز أن تقول ما أتاني أحد كما أنه لا يجوز

٤٢٢

أتاني أحد ، ولكن المستثنى في ذا الموضع مبدل من الاسم الأول ، ولو كان من قبل الجماعة لما قلت ولم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم ولكان ينبغي له أن يقول ما أتاني أحد إلّا قد قال ذاك إلّا زيد لأنه ذكر واحدا ، ومن ذلك أيضا ما فيهم احد اتّخذت عنده يدا إلّا زيد ، وما فيهم خير إلّا زيد اذا كان زيد هو الخير ، وتقول ما مررت بأحد يقول ذاك إلّا عبد الله ، وما رأيت أحدا يقول ذاك إلّا زيدا ، هذا وجه الكلام وان حملته على الاضمار الذي في الفعل فقلت ما رأيت أحدا يقول ذاك إلّا زيد فعربيّ.

قال الشاعر (وهو عديّ بن زيد) : [منسرح]

(١) في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا إلّا كواكبها

وكذلك ما أظنّ أحدا يقول ذاك إلّا زيدا وإن رفعت فجائز حسن ، وكذلك ما علمت أحدا يقول ذاك إلّا زيدا ، وإن شئت رفعت ، وإنما اختير النصب هيهنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدل منه وأن لا يكون بدلا إلّا من منفىّ فالمبدل منه منصوب منفي ومضمره مرفوع فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلا منه لأنه هو المنفي وهذا وصف أو خبر وقد تكلّموا بالآخر لأنّ معناه النفى إذا كان وصفا لمنفي كما قالوا قد عرفت زيد أبو من هو لما ذكرت لك لأنّ معناه معنى المستفهم عنه ، وقد يجوز ما أظنّ أحدا فيها إلا زيد ولا أحد منهم اتّخذت عنده يدا إلّا زيد على قوله إلا كواكبها ، وتقول ما ضربت أحدا يقول ذاك إلا زيدا ، لا يكون في ذا إلا النصب وذلك لأنك أردت في هذا الموضع أن تخبر بموقوع فعلك ولم ترد أن تخبر أنه ليس يقول ذأك إلا زيد ولكنك أخبرت أنك ضربت ممن يقول ذاك زيدا ، والمعنى في الأول أنك

__________________

(٥٤٠) الشاهد فيه رفع الكواكب على البدل من الضمير الفاعل في يحكي لأنه في المعنى منفى ، ولو نصب على البدل من أحد لكان أحسن لأن أحدا منفى في اللفظ والمعنى والبدل منه أقوى* وصف أنه خلا بمن يحب في ليلة لا يطلع فيها عليهما ويخبر بحالهما إلا الكواكب لو كانت ممن تخبر.

٤٢٣

أردت أنه ليس يقول ذاك إلا زيد ولكنك قلت رأيت أو ظننت أو نحوهما لتجعل ذلك فيما رأيت وفيما ظننت ولو جعلت رأيت رؤية العين كان بمنزلة ضربت ، قال الخليل : ألا ترى أنك تقول ما رأيته يقول ذاك إلا زيد وما أظنّه يقوله إلا عمرو ، فهذا يدلك على أنك إنما انتحيت على القول ولم ترد أن تجعل عبد الله موضع فعل كضربت وقتلت ولكنه فعل بمنزلة ليس يجيء لمعنى وإنما يدل على ما في علمك وتقول أقلّ رجل يقول ذاك إلا زيد لأنه صار في معنى ما أحد فيها إلا زيد ، وتقول قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد فليس زيد بدلا من الرجل في قلّ ولكنّ قلّ رجل في موضع أقلّ رجل ومعناه كمعناه وأقلّ رجل مبتدء مبني عليه والمستثنى بدل منه لأنك تدخله في شيء يخرج منه من سواه ، وكذلك أقلّ من يقول ذلك وقلّ من يقول ذاك اذا جعلت من بمنزلة رجل حدّثنا بذلك يونس عن العرب يجعلونه نكرة ، كما قال (وهو أمية بن أبي الصلت) :

(١) ربّ ما تكره النّفوس من الأمر

فرجة كحلّ العقال

فجعل ما نكرة.

[باب ما حمل على موضع العامل في الاسم والاسم]

لا على ما عمل في الاسم ولكن الاسم وما عمل فيه موضع اسم مرفوع أو منصوب ، وذلك قولك ما أتاني من أحد إلا زيد وما رأيت من أحد إلا زيدا ، وإنما منعك أن تحمل الكلام على من أنه خلف أن تقول ما أتاني إلا من زيد ، فلمّا كان كذلك حمله على الموضع فجعله بدلا منه كأنه قال ما أتاني أحد إلّا فلان لأنّ معنى ما أتاني أحد وما أتاني من أحد واحد ولكنّ من دخلت هيهنا توكيدا كما تدخل الباء في قولك كفى بالشيب والإسلام وفي ما أنت بفاعل ، ومثل ذلك ما أنت بشيء إلا شيء

__________________

(٥٤١) استشهد به على أن ما نكرة بتأويل شيء ولذلك دخلت عليها رب لأنها لا تعمل إلا في نكرة ولا تكون ما هيهنا كافة لأن في تكره ضميرا عائدا عليها في النية لا يضمر إلا الاسم ، وكذلك الضمير له عائدا عليها ايضا.

٤٢٤

لا يعبأ به ، من قبل أنّ بشيء في موضع رفع في لغة بني تميم ، فلمّا قبح أن تحمله على الباء صار كأنه بدل من اسم مرفوع وبشييء في لغة أهل الحجاز في موضع منصوب ، ولكنك اذا قلت ما أنت بشيء إلّا شيء لا يعبأ به استوت اللغتان فصارت على أقيس الوجهين ، لأنك اذا قلت ما أنت بشيء إلّا شيء لا يعبأ به فكأنك قلت ما أنت إلا شيء لا يعبأ به وتقول لست بشيء إلّا شيئا لا يعبأ به كأنك قلت لست إلّا شيئا لا يعبأ به والباء هيهنا بمنزلتها فيما قال الشاعر : [كامل]

(١) يا ابنى لبينى لستما بيد

إلّا يدا ليست لها عضد

ومما أجري على الموضع لا على ما عمل في الاسم لا أحد فيها إلّا عبد الله ، فلا أحد في موضع اسم مبتدإ وهي هيهنا بمنزلة من أحد في ما أتاني ، ألا ترى أنك تقول ما أتاني من أحد لا عبد الله ولا زيد ، من قبل أنه خلف أن تحمل المعرفة على من ذا الموضع كما تقول لا أحد فيها لا زيد ولا عمرو ، لأن المعرفة لا تحمل على لا وذلك أنّ هذا الكلام جواب لقوله هل من أحد أو هل أتاك من أحد ، وتقول لا أحد رأيته إلّا زيد اذا بنيت رأيته على الأول ، كأنك قلت لا أحد مرئي وإن جعلت رأيته صفة فكذلك كأنك قلت لا أحد مرئيا ، وتقول ما فيها إلّا زيد وما علمت أن فيها إلّا زيدا ، فان قلبته فجعلته يلي أنّ وما في لغة أهل الحجاز قبح ولم يجز لأنهما ليسا بفعل فيحتمل قلبهما كما لم يجز فيهما التقديم والتأخير ولم يجز ما أنت إلّا ذاهبا ، ولكنه لمّا طال الكلام قوي واحتمل ذلك كأشياء تجوز في الكلام اذا طال وتزداد حسنا ، وسترى ذلك ان شاء الله ، ومنها ما قد مضى ، وتقول ان أحدا لا يقول ذاك وهو ضعيف خبيث لأن أحدا لا يستعمل في الواجب ، وانما نفيت بعد أن أوجبت ولكنه قد احتمل حيث كان معناه

__________________

(٥٤٢) الشاهد فيه نصب ما بعد الا على البدل من موضع الباء وما عملت فيه والتقدير لستما يدا إلا يدا لا عضد لها ولا يجوز الجر على البدل من المجرور لأن ما بعد إلا موجب والباء مؤكدة للنفى ، وتروي مخبولة العضد والخبل الفساد أي أنتما في الضعف وقلة النفع كيد بطل عضدها.

٤٢٥

النفي كما جاز في كلامهم قد عرفت زيد أبو من هو حيث كان معناه أبو من زيد ، فمن أجاز هذا قال إن أحدا لا يقول هذا الّا زيدا كما أنه يقول على الجواز رأيت أحدا لا يقول ذاك الّا زيدا يصير هذا بمنزلة ما أعلم أن أحدا يقول ذاك كما صار هذا بمنزلة ما رأيت حيث دخله معنى النفي ، وان شئت قلت إلّا زيد فحملته على يقول كما جاز يحكي علينا إلّا كواكبها ، وليس هذا في القوة كقولك لا أحد فيها إلّا زيد وأقلّ رجل رأيته إلّا عمرو ، لأن هذا الموضع انما ابتدىء مع معنى النفي وهذا موضع ايجاب وانما جيء بالنفي بعد ذلك في الخبر فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء حين وقع منفيا ولا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم يقل أقلّ رجل ولا رجل لأن الاستثناء لا بدّ له هيهنا من النفي وجاز أن يحمل على ان هنا حيث صارت أحد كأنها منفيّة.

[باب النصب فيما يكون مستثنى مبدلا]

حدثنا بذلك يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوق بعربيته يقول ما مررت بأحد الّا زيدا وما أتاني أحد الّا زيدا وعلى هذا ما رأيت أحدا الّا زيدا فتنصب زيدا على غير رأيت ، وذلك أنك لم تجعل الآخر بدلا من الأول ، ولكنك جعلته منقطعا مما عمل في الأول والدليل على ذلك أنه يجيء على معنى ولكن زيدا ولا أعنى زيدا وعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم اذا قلت عشرون درهما ، ومثله في الانقطاع من أوله إنّ لفلان والله مالا الا أنه شقي فأنه لا يكون أبدا على ان لفلان وهو في موضع نصب وجاء على معنى ولكنه شقي.

[باب يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول]

وهو لغة أهل الحجاز ، وذلك قولك ما فيها أحد الّا حمارا ، جاؤا به على معنى ولكن حمارا ، وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه فحمل على معنى ولكنّ وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم وأما بنو تميم فيقولون لا أحد فيها الّا حمار ، أرادوا ليس فيها الّا حمار ولكنه ذكر أحدا توكيدا لأن يعلم أن ليس فيها آدمي ثم أبدل فكأنه قال ليس فيها الّا حمار وان شئت جعلته انسانها قال الشاعر (وهو أبو ذؤيب الهذلي) : [طويل]

٤٢٦

(١) فان تمس في قبر برهوة ثاويا

أنيسك أصداء القبور تصيح

فجعلهم أنيسه ، ومثل ذلك قوله مالي عتاب الّا السيف جعله عتابه كما أنك تقول ما أنت الّا سير اذا جعلته هو السير ، وعلى هذا أنشدت بنو تميم قول النابغة الذّبياني : [بسيط]

(٢) يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

أقوت وطال عليها سالف الأبد

وقفت فيها أصيلانا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد

الّا أوارىّ لأيا ما ابيّنها

والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

__________________

(٥٤٣) الشاهد في جعله الأصداء أنيس الموضع اتساعا ومجازا لأنها تقوم في استقرارها بالمكان وعمارتها له مقام الأناسي وقوي بهذا مذهب بني تميم في بدل مالا يعقل ممن يعقل اذ قالوا ما في الدار أحد الا حمار فجعلوه بمنزلة ما في الدار أحد الا فلان ، والنصب في مثل هذا أجود لا نقطاعه من جنس الأول وهو مذهب أهل الحجاز* رثي رجلا وجعل أنيسه بالموضع الذي حل فيه قبره الأصداء وهي جمع صدى وهو طائر يقال له الهامة تزعم الأعراب أنه يخرج من رأس القتيل اذا لم يدرك بثاره فيصيح اسقوني اسقوني حتي يثأر به وهذا مثل وانما يراد به تحريض ولي المقتول على طلب دمه فجعله جهلة الأعراب حقيقة ورهوة موضع بعينه والثاوي المقيم.

(٥٤٤) الشاهد في قوله الا الأوارى بالنصب على الاستثناء المنقطع لأنها من غير جنس الأحدين والرفع جائز على البدل من الموضع والتقدير وما بالربع أحدا لا الأوارى على أن تجعل من جنس الأحدين اتساعا ومجازا كما تقدم* وصف ان الدار خلت من أهلها فسألها توجعا منه وتذكرا لمن حل بها فلم تجبه اذ لا مجيب بها ولا أحد الا الأوارى وهي محابس الخيل واحدها آرى وهو من تأريت بالمكان اذا تحبست به واللأى البطء والمعنى أبينها بعد لأي لتغيرها والنؤي حاجز حول الخباء يدفع عنه الماء ويبعده ، وهو من نأيت اذا بعدت وشبهه في استدارته بالحوض ، والمظلومة أرض حفر فيها الحوض لغير اقامة لأنها في فلاة فظلمت بذلك لأن معنى الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وانما أراد أن حفر الحوض لم يعمق فذلك أشبه للنؤي به ولذلك جعلها جلدا وهي الصلبة.

٤٢٧

وأهل الحجاز ينصبون ، ومثل ذلك قوله : [رجز]

(١) وبلدة ليس بها أنيس

الّا اليعافير والّا العيس

جعلها أنيسها ، وان شئت كان على الوجه الذي فسرته في الحمار أول مرة وهو على كلا المعنيين اذا لم تنصب بدل ، ومن ذلك من المصادر ما له عليه سلطان الّا التكلّف لأن التكلّف ليس من السلطان ، وكذلك الّا أنه يتكلف هو بمنزلة التكلّف وانما يجيء هذا على معنى ولكن ، ومثل ذلك قوله عزوجل (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) ومثله (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) ومثل ذلك قول النابغة : [طويل]

(٢) حلفت يمينا غير ذي مثنويّة

ولا علم إلّا حسن ظن بصاحب

وأما بنو تميم فيرفعون هذا كلّه ، يجعلون اتباع الظنّ علمهم وحسن الظن علمه والتكلّف سلطانه وهم ينشدون بيت ابن الأيهم التغلبي رفعا : [خفيف]

(٣) ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلي وضرب الرقاب

__________________

(٥٤٥) الشاهد فيه رفع اليعافير والعيس بدلا من الأنيس على ما تقدم من الاتساع والمجاز واليعافير أولاد الظباء واحدها يعفور والعيس بقر الوحش لبياضها ، والعيس البياض وأصله في الابل فاستعاره للبقر.

(٥٤٦) الشاهد فيه نصب ما بعد الا على الاستثناء المنقطع لأن حسن الظن ليس من العلم ورفعه جائز على البدل من موضع العلم واقامة الظن مقام العلم اتساعا ومجازا كما تقدم ، والمثنوية الاستثناء في اليمين أي حلفت غير مستثن في يمينى حسن ظن مني بصاحبي قام عندي مقام العلم الذي يوجب اليمين.

(٥٤٧) الشاهد فيه رفع غير على البدل من العتاب اتساعا ومجازا كما قالوا عتابك الضرب وتحيتك الشتم أي هذا يقوم لك مقام هذا كما قال جل وعز (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي الذي يقوم لهم مقام البشارة العذاب الأليم ، ونصب غير هو الوجه لأن ما بعدها ليس من جنس ما قبلها وانما قال هذا لما كان بين تغلب وقيس من العداوة والحرب.

٤٢٨

جعلوا ذلك العتاب وأهل الحجاز ينصبون على التفسير الذي ذكرنا ، وزعم الخليل أن الرفع في هذا على قوله :

(١) وخيل قد دلفت لها بخيل

تحيّة بينهم ضرب وجيع

جعل الضرب تحيتهم كما جعلوا اتباع الظن عملهم وإن شئت كانت على ما فسرت لك في الحمار اذا لم تجعله أنيس ذلك المكان ، وقال الحارث بن عباد : [كامل]

(٢) والحرب لا يبقى لجا

حمها التّخيّل والمراح

إلّا الفتي الصّبار في النّجدات

والفرس الوقاح

وقال :

(٣) لم يغذها الرسل ولا أيسارها

إلّا طريّ اللّحم واستجزارها

وقال :

(٤) عشيّة لا تغني الرماح مكانها

ولا النّبل إلّا المشر فيّ المصمّم

__________________

(٥٤٨) الشاهد فيه جعل الضرب تحية على الاتساع المتقدم ذكره ، وانما ذكر هذا تقوية لجواز البدل فيما لم يكن من جنس الأول كالأبيات المتقدمة* يقول اذا تلاقوا في الحرب جعلوا بدلا من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع ، ومعنى دلفت زحفت ، والدليف مقاربة الخطو في المشي.

(٥٤٩) الشاهد فيه بدل الفتى وما بعده من التخيل والمراح على الاتساع والمجاز والقول فيه كالقول فيما تقدم وجاحم الحرب معظمها وأشدها وأصله من تلظى النار والتخيل من الخيلاء والتكبر ، والمراح من المرح واللعب والنجدات الشدائد والنجدة الشدة في الشجاعة وغيرها ، والوقاح الصلب الحافر واذا صلب حافره صلب سائره.

(٥٥٠) الشاهد فيه بدل الطري من الرسل وان لم يكن من جنسه والقول فيه كالقول في الذي قبله* وصف امرأة منعمة تغتذي طرى اللحم مما تستجزره لنفسها من مالها ونفى عنها التغذي بالرسل وهو اللبن لأنه غذاء المحتاجين الذين لا يقدرون على اللحم ونفي عنها أيضا التغذي بلحم الجزور المتخذة للميسر لأنهم كانوا يطعمونه ضعفاء الحى ومساكين الجيران والأيسار الضاربون بالقداح في الميسر واحدهم يسر وياسر.

(٥٥١) الشاهد فيه بدل المشرفي وهو السيف من الرماح والنبل وان لم يكن من جنسهما ـ

٤٢٩

وهذا يقوّى ما أتاني زيد إلّا عمرو ، وما أعانه اخوانكم الّا إخوانه لأنها معارف ليست الأسماء الآخرة بها ولا منها.

[باب ما لا يكون إلّا على معنى ولكن]

فمن ذلك قوله عزوجل (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي ولكن من رحم ، وقوله عزوجل (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) أي ولكن قوم يونس ، وقوله عزوجل (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن قليلا ممن أنجينا منهم ، وقوله عزوجل (أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي ولكنهم يقولون ربّنا الله وهذا الضرب في القرآن كثير ، ومن ذلك من الكلام لا تكوننّ من فلان في شيء إلا سلاما بسلام ، ومثل ذلك أيضا من الكلام فيما حدّثنا أبو الخطّاب ما زاد إلّا ما نقص وما نفع إلا ما ضرّ فما مع الفعل بمنزلة اسم نحو النّقصان والضّرر كما أنك اذا قلت ما أحسن ما كلّم زيدا ، فهو ما أحسن كلامه زيدا ، ولو لا ما لم يجز الفعل بعد إلا في ذا الموضع كما لا يجوز بعد ما أحسن بغير ما كأنه قال ولكنه ضرّ ولكنه نقص ، هذا معناه ، ومثل ذلك من الشعر قول النابغة : [طويل]

(١) ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

__________________

ـ مجازا على ما تقدم والمصمم الماضي في العظام* وصف حربا شديدة اضطرتهم الى اطراح النبل والرماح واستعمال السيف.

(٥٥٢) الشاهد فيه نصب غير على الاستثناء المنقطع لأن ما بعدها ليس من جنس ما قبلها وهو على معنى ولكن سيوفهم بهن فلول ، وتفلل سيوفهم ليس بعيب لأنه دال على الأقدام ومقارعة الأقران* ومدح آل جفنة ملوك الشام من غسان فنفى عنهم كل عيب وأوجب لهم الاقدام في الحرب واستثنى ذلك من جملة العيوب مبالغة في المدح وهو ضرب من البديع يعرف بالاستثناء.

٤٣٠

أي ولكن سيوفهم بهن فلول ، وقال النابغة الجعدي : [طويل]

(١) فتى كملت خيراته غير أنه

جواد فما يبقي من المال باقيا

كأنه قال ولكنه مع ذلك جواد ، ومثل ذلك قول الفرزدق : [طويل]

(٢) وما سجنوني غير أني ابن غالب

وامى من الأثرين غير الزعانف

كأنه قال ولكني ابن غالب ، ومثل ذا في الشعر كثير ، ومثل ذلك قوله (وهو قول بعض بني مازن يقال له عنز بن دجاجة المازني) : [كامل]

(٣) من كان أشرك في تفرّق فالج

فلبونه جربت معا وأغدّت

إلا كناشرة الذي ضيّعتم

كالغصن في غلوائه المتنبّت

__________________

(٥٥٣) الشاهد فيه نصب غير على الاستثناء المنقطع والقول فيه كالقول في الذي قبله ومعناه قريب من معناه لأنه استثنى جوده واتلافه للمال من الخيرات التي كملت له مبالغة في المدح فجعلهما في اللفظ كأنهما من غير الخيرات كما جعل تفلل السيوف كأنه من العيوب.

(٥٥٤) الشاهد فيه نصب غير على الاستثناء المنقطع كما تقدم والمعنى وما سجنوني ولكني ابن غالب ، هذا هو مذهب سيبويه وهذا التقدير يوجب أنه لم يسجن والمعروف ان خالد بن عبد الله القسري سجنه فقال هذا الشعر يستعدي عليه هشام بن عبد الملك وقبله :

فان كنت محبوسا بغير جريرة*

فقد أخذوني آمنا غير خالف

وقد رد عليه المبرد حمله على الاستثناء وزعم أن غيرا منصوبة على المفعول له ، والمعنى عنده ما سجنوني لغير شرفي حسدا لي ، وهذا الرد غير صحيح لأنك لو قلت ما ضربتك غير أنك شتمتني لم يجز اذا أردت معنى ما ضربتك إلا أنك شتمتني ، لم يجز حتى تقول ما ضربتك لغير شتمك اياى والصحيح ما ذهب اليه سيبويه من معنى لكن على ما تقدم في الباب ، ويجعل سجنه غير معدود عنده سجنا لأنه لم ينقصه ولا حط من شرفه ولا أذل عزه لأن من كان عنده منتسبا الى مثل أبيه غالب ومنتميا الى مثل قومه الأشراف لا يبالي ما جرى عليه من حبس وغيره وقوله الأثرين هو جمع الأثرى وهو الكثير العدد والزعانف الأدعياء الملصقون بالصميم وأصل الزعانف أجنحة السمك واحدتها زعنفة بالكسر وحكاها المبرد بالفتح والكسر أعرف.

(٥٥٥) الشاهد في قوله إلا كناشرة ونصبه على الاستثناء المنقطع والمعنى لكن مثل ـ

٤٣١

كأنه قال ولكن هذا كناشرة ، وقال : [كامل]

(١) لو لا ابن حارثة الأمير لقد

أغضيت من شتمي على رغم

إلا كمعرض المحسّر بكره

عمدا يسبّبني على الظّلم

[باب ما تكون فيه أنّ وأن مع صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء]

وذلك قولك ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا فأنّ في موضع اسم مرفوع كأنه قال ما أتاني إلا قولهم كذا وكذا ، ومثل ذلك قولهم ما منعني إلا أن يغضب علىّ فلان ، والحجّة على أنّ هذا في موضع رفع أنّ أبا الخطّاب حدّثنا أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعا : [بسيط]

__________________

ـ ناشرة لا جربت لبونه ولا أغدت لأنه لم يشرك في تفرق فالج ، وفالج هذا هو فالج بن مازن ابن مالك بن عمرو بن تميم سعى عليه بعض بني مازن ، وأساء اليه حتى رحل عنهم ولحق ببني ذكوان بن بهثة بن سليم بن قيس عيلان فنسب اليهم ، وكانت بنو مازن قد ضيقوا على رجل يسمى ناشرة حتى انتقل عنهم الى بني أسد فدعا هذا الشاعر المازني على بني مازن حيث اضطروه فألجىء الخروج عنهم واستثنى ناشرة منهم لأنه لم يرض فعلهم ، ولأنه قد امتحن محنة فالج بهم وكان المبرد يجعل الكاف في قوله كناشرة زائدة ولا يحتاج الى زيادتها لأنه أراد ناشرة ومن كان مثيله ممن لم يظلم غيره كما تقول مثلك لا يرضى بهذا أي أنت وأمثالك لا ترضون به ، ومعنى أغدت صارت فيه الغدة وهي كالذبحة تعترى البعير فلا تلبثه واللبون ذوات اللبن وهي تقع للواحدة والجماعة ، والغلواء النماء والارتفاع ومنه غلاء السعر والمتنبت المنمي المغذى ، ويروى بكسر الباء ومعناه النابت النامي.

(٥٥٦) الشاهد في قوله إلا كمعرض والقول فيه كالقول في الذي قبله* يقول هذا لرجل شتمه وله من الأمير مكانة فلم يقدم على سبه والانتصار منه لمكانته ، ثم استثنى رجلا آخر يقال له معرض فجعله ممن يباح له شتمه والانتصار منه لشتمه اياه ظلما له فيقول للاول لو لا ابن حارثة الأمير ومكانك منه لشتمتك فأغضبت من شتمي على رغم وهو أن ولكن معرضا المحسر بكره والجاد في سبي مباح لي سبه لسبه لي ، والمحسر المتعب والحسير المعيى والبكر الفتي من الابل وهو لا يحتمل الأتعاب والتحسير لضعفه فضرب له مثلا في تقصيره عن مقاومته في المسابة والمهاجاة ومعنى يسببني يكثر سبي.

٤٣٢

(١) لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال

وزعموا أنّ ناسا من العرب ينصبون هذا الذي في موضع الرفع فقال الخليل هذا كنصب بعضهم يومئذ في كلّ موضع فكذلك غير أن نطقت ، وكما قال النابغة : [طويل]

(٢) على حين عاتبت المشيب على الصّبا

وقلت ألمّا أصح والشّيب وازع

كأنه جعل حين وعاتبت اسما واحدا.

[باب لا يكون المستثنى فيه الا نصبا]

لأنه مخرج مما أدخلت فيه غيره فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت له عشرون درهما ، وهذا قول الخليل ، وذلك قولك أتاني القوم الا أباك ، ومررت بالقوم إلا أباك ، والقوم فيها الا أباك وانتصب الأب اذ لم يكن داخلا فيما دخل فيه ما قبله ولم يكن صفة وكان العامل فيه ما قبله من الكلام ، كما أنّ الدرهم ليس بصفة للعشرين ولا محمول على ما حملت عليه وعمل فيها ، وإنما منع الأب أن يكون بدلا من القوم

__________________

(٥٥٧) الشاهد فيه بناء غير على الفتح لاضافتها الى غير متمكن وان كانت في موضع رفع وذلك أن أن حرف توصل بالفعل وانما تؤوّلت اسما مع ما بعدها من صلتها لأنها دلت على المصدر ونابت منابه في المعنى فلما أضيفت غير اليها مع لزومها للاضافة بنيت معها واعرابها على الاصل جائز حسن ، ونظير بنائها بناء أسماء الزمان اذا أضيفت الى الجمل والافعال كقولك عجبت من يوم قام زيد ومن يوم زيد قائم لأن حق الاضافة أن تقع على الاسماء المفردة دون الافعال والجمل فلما خرجت هنا عن أصلها بني الاسم وقد بينت هذا مستقصى في كتاب النكت* يقول لم يمنعنا من التعريج على الماء الا صوت حمامة ذكرتنا من نحب فهيجتنا وحثتنا على السير والأوقال الاعالي ومنه التوقل في الجبل وهو الصعود فيه.

(٥٥٨) الشاهد في اضافة حين الى الفعل وبنائها معه على الفتح للعلة التي ذكرناها واعرابها جائز على الاصل كما تقدم* وصف انه بكى على الديار في حين مشيبه ومعاتبته لنفسه على صباه وطربه ، والوازع الناهي وأوقع الفعل على المشيب اتساعا والمعنى عاتبت نفسي على الصبا لمكان شيبي.

٤٣٣

أنك لو قلت أتاني الا أبوك كان محالا ، وانما جاز ما أتاني القوم الا أبوك لأنه يحسن لك أن تقول ما أتاني الا أبوك فالمبدل إنما يجىء أبدا ، كأنه لم يذكر قبله شيء لأنك تخلى له الفعل وتجعله مكان الأوّل ؛ فاذا قلت ما أتاني القوم الا أبوك فكأنك قلت ما أتاني الا أبوك وتقول ما فيهم أحد الا قد قال ذلك الا زيدا كأنه قال قد قالوا ذلك الا زيدا.

[باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفا بمنزلة مثل وغير]

وذلك قولك لو كان معنا رجل الا زيد لغلبنا ، والدليل على أنه وصف أنك لو قلت لو كان معنا الا زيد لهلكنا وأنت تريد الاستثناء لكنت قد أحلت ، ونظير ذلك قوله عزوجل (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)، ونظير ذلك من الشعر قوله (وهو ذو الرمّة) : [طويل]

(١) أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات الا بغامها

كأنه قال قليل بها الأصوات غير بغامها اذا كانت غير غير استثناء ومثل ذلك قوله تعالى (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)، وقوله عزوجل (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ومثل ذلك في الشعر للبيد بن ربيعة : [رمل]

(٢) واذا أقرضت قرضا فاجزءه

انما يجزى الفتى غير الجمل

__________________

(٥٥٩) الشاهد في وصف الاصوات بقوله الا بغامها على تأويل غير والمعنى قليل بها الاصوات غير بغامها أي الاصوات التي هي غير صوت الناقة ، وأصل البغام للظبي فاستعاره للناقة ، ويجوز أن يكون البغام بدلا من الاصوات على أن يكون قليل بمعني النفي فكأنه قال ليس بها صوت الا بغامها* وصف ناقة أناخها في فلاة لا يسمع فيها صوت الا صوتها لقلة خيرها ، وأراد بالبلدة الاولى ما يقع على الارض من صدرها اذا بركت وبالبلدة الاخيرة الفلاة والبلد الذي أناخها به.

(٥٦٠) الشاهد فيه نعت الفتى وهو معرفة بغير وان كان نكرة والذي سوغ هذا أن التعريف بالالف واللام يكون للبعض فلا يخص واحدا بعينه فهو مقارب للنكرة وان غيرا ـ

٤٣٤

وقال أيضا : [بسيط]

(١) لو كان غيرى سليمى اليوم غيّره

وقع الحوادث الّا الصارم الذكر

كأنه قال لو كان غيرى غير الصارم الذّكر لغيّره وقع الحوادث اذا جعلت غيرا الآخرة صفة للأولى ، والمعنى أنه أراد أن يخبر أن الصارم الذكر لا يغيره شيء ، واذا قال ما أتاني أحد الا زيد فأنت بالخيار ان شئت جعلت الا زيد بدلا وان شئت جعلته صفة ولا يجوز أن تقول ما أتاني الا زيد وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل ، انما يجوز ذلك صفة ونظير ذلك من كلام العرب أجمعون لا يجري في الكلام الا على اسم ولا يعمل فيه ناصب ولا رافع ولا جار ، وقال عمرو بن معدي كرب : [وافر]

(٢) وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

كأنه قال وكلّ اخ غير الفرقدين مفارقه أخوه اذا وصفت به كلا ، كما قال الشماخ : [طويل]

وكلّ خليل غير هاضم نفسه

لوصل خليل ضارم أو معارز (٣)

ولا يجوز رفع زيد على إلا أن يكون لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه لأنّ أن يكون اسما.

__________________

ـ مضافة الى معرفة فقاربت المعارف لذلك ، وان كانت نكرة فجرت على الاول لذلك* يقول ينبغي لمن أقرض قرضا وأحسن اليه أن يجزي عليه ولا يكفر النعمة فيكون كالبهيمة لا تعرف الاحسان ولا تجازي به.

(٥٦١) الشاهد فيه جرى الا وما بعدها على غير نعتالها والتقدير لو كان غيري غير الصارم الذكر لغيره وقع الحوادث ، والمعني ان وقع الدهر لا يغيره كما لا يغير الصارم الذكر ، وهو الماضي من السيوف والذكر والمذكر الحديد الذي ليس بأنيث.

(٥٦٢) الشاهد فيه نعت كل بقوله الا الفرقدان على تأويل غير ، والتقدير وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ، وهذا على مذهب الجاهلية كأنه قال هذا قبل الاسلام ، ويحتمل أن يريد في مدة الدنيا.

(١) الشاهد فيه نعت كل بغير ، وقد تقدم شرحه في ص ٣١٦ رقم ٤٠٠

٤٣٥

[باب ما يقدّم فيه المستثنى]

وذلك قولك ما فيها الا أباك أحد ومالى الا أباك صديق وزعم الخليل أنهم انما حملهم على نصب هذا أن المستثنى انما وجهه عندهم أن يكون بدلا ولا يكون مبدلا منه لأن الاستثناء انما حدّه ان تتداركه بعد ما تنفي فتبد له فلما لم يكن وجه الكلام هذا حملوه على وجه قد يجوز اذا أخرت المستثنى كما أنهم حيث استقبحوا أن يكون الاسم صفة في قولهم فيها قائما رجل حملوه على وجه قد يجوز لو أخرت الصفة وكان هذا الوجه أمثل عندهم من أن يحملوا الكلام على غير وجهه ، وقال كعب بن مالك الانصاري : [بسيط]

(١) الناس ألب علينا فيك ليس لنا

الا السّيوف وأطراف القناوزر

سمعناه ممن يرويه عن العرب الموثوق بهم كراهية أن يجعلوا ما حدّ المستثنى أن يكون بدلا منه بدلا من المستثنى ومثل ذلك مالي الا أباك صديق ، فان قلت ما أتاني أحد الا أبوك خير من زيد وما مررت بأحد الا عمرو خير من زيد وما مررت بأحد الا عمرو خير من زيد كان الرفع والجرّ جائزا ، وحسن البدل لأنك قد شغلت الرافع والجارّ ثم أبدلته من المرفوع والمجرور ، ثم وصفت بعد ذلك ، وكذلك من لى الا أبوك صديقا لأنك أخليت من للاب ولم تفرده لأن يعمل كما يعمل المبتدأ ، وقد قال بعضهم ما مررت بأحد الا زيدا خير منه ، وكذلك من لي الا زيدا صديقا ومالى أحد الا زيدا صديق كرهوا أن يقدّموه في أنفسهم شيء من صفته الا نصبا كما كرهوا أن يقدّم قبل الاسم الّا نصبا ، وحدثنا يونس أنّ بعض العرب الموثوق بهم يقولون مالى الا أبوك أحد فيجعلون أحدا بدلا كما قالوا ما مررت بمثله أحد فجعلوه بدلا ، وان شئت قلت مالي الّا أبوك صديقا كأنك قلت لي أبوك صديقا كما قلت من لي الّا أبوك صديقا حين جعلته مثل ما مررت

__________________

(٥٦٣) الشاهد فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه قوله الا السيوف وأطراف القنا والتقدير مالنا وزر الا السيوف بالرفع على البدل والنصب جائز على الاستثناء فلما قدم لم يجز البدل لانه لا يكون الا تابعا فصار النصب بالاستثناء لازما* يقول هذا للنبي عليه الصلاة والسّلام والألب المجتمعون المتألبون والوزر الملجأ والحصن وأصله الجبل.

٤٣٦

بأحد الا أبيك خيرا منه ، ومثله قول الشاعر وهو الكلحبة [اليربوعي واسمه هبيرة بن عبد مناف وهو من بنى عرين بن يربوع] : [طويل]

(١) أمرتكم أمري بمنقطع اللّوى

ولا أمر للمعصىّ الا مضيّعا

كأنه قال للمعصي أمر مضيعا كما جاز فيها رجل قائما وهذا قول الخليل ، وقد يكون أيضا على قوله لا أحد فيها الا زيدا.

[باب ما تكون فيه في المستثنى الثاني بالخيار]

وذلك قولك مالي الا زيدا صديق وعمرا وعمرو ، ومن لي الا أباك صديق وزيدا وزيد ، أما النصب فعلى الكلام الأول وأما الرفع فكأنه قال وعمرو لي لأن هذا المعنى لا ينقض ما تريد في النصب وهذا قول يونس والخليل.

[باب تثنية المستثنى]

وذلك قولك ما أتاني الا زيد الا عمرا ولا يجوز الرفع في عمرو من قبل أن المستثنى لا يكون بدلا من المستثنى ، وذلك أنك لا تريد أن تخرج الأول من شيء تدخل فيه الآخر وان شئت قلت ما أتاني الا زيدا الّا عمرو فتجعل الاتيان لعمرو ويكون زيد منتصبا من حيث انتصب عمرو ، فأنت في ذا بالخيار ان شئت نصبت الأول ورفعت الآخر وان شئت نصبت الآخر ورفعت الأول ، وتقول ما أتاني إلا عمرا إلا بشرا أحد كأنك قلت ما أتاني إلا عمرا أحد إلا بشر فجعلت بشرا بدلا من أحد ثم قدّمت بشرا فصار كقولك مالي الا بشرا أحد لأنك إذا قلت مالي إلا عمرا أحد إلا بشر فكأنك قلت مالى أحد إلا بشر ، والدليل على ذلك قول الشاعر (وهو الكميت) : [طويل]

(٢) فما لي الّا الله لا ربّ غيره

ومالي إلا الله غيرك ناصر

__________________

(٥٦٤) الشاهد فيه نصب مضيع على الحال من الامر وهو حال من نكرة وفيه ضعف لأن أصل الحال أن تكون للمعرفة ويجوز أن يكون نصبه على الاستثناء والتقدير الا أمرا مضيعا وفيه قبح لوضع الصفة موضع الموصوف ، واللوي مسترق الرمل حيث يلوى وينقطع.

(٥٦٥) الشاهد في تكرير المستثنى بالا وغير ، والتقدير وما لي ناصر الّا الله غيرك فالله بدل من ناصر ، وغيرك نصب على الاستثناء فلما قد ما لزما النصب لأن البدل لا يقدم.

٤٣٧

فغيرك بمنزلة إلا زيدا ، وأمّا قوله (وهو حارثة بن بدر الغداني) : [بسيط]

(١) يا كعب صبرا على ما كان من حدث

يا كعب لم يبق منّا غير أجساد

إلا بقيّات أنفاس نحشرجها

كراحل رائح أو باكر غادي

فانّ غير هيهنا بمنزلة مثل كأنك قلت لم يبق منّا مثل أجساد الّا بقيات أنفاس ، وعلى ذا أنشد بعض الناس هذا البيت رفعا للفرزدق : [بسيط]

(٢) ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة الّا دار مروانا

جعلوا غير صفة بمنزلة مثل ومن جعله استثناء لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدهما ، وهو قول ابن أبي اسحق ، وأما إلا زيد فانه لا يكون بمنزلة مثل الّا صفة ، ولو قلت ما أتاني الّا زيد الّا أبو عبد الله كان جيّدا اذا كان أبو عبد الله زيدا ولم يكن غيره لأنّ هذا يكرّر توكيدا كقولك رأيت زيدا زيدا وقد يجوز أن يكون غير زيد على الغلط والنسيان كما يجوز أن تقول رأيت زيدا عمرا لأنه انما أراد عمرا فنسى فتدارك ومثل ما أتاني الا زيد الّا أبو عبد الله اذا أراد أن يبيّن ويوضح قوله : [رجز]

__________________

(٥٦٦) الشاهد فيه بدل الا وما بعدها من قوله غير أجلاد لأنه أنزل غيرا منزلة مثل في وضعها للاخبار عنها ولم يقصد بها معنى الاستثناء فينصبها لتقدمها على الا والتقدير لم يبق منا شيء هو غير أجلادنا الا بقيات أنفاسنا ويروى غير أجساد وانما قال هذا في محاربته الأزارقة وكان أحد من عقد له في محاربتهم ومعنى تحشرجها نرددها في حلوقنا يريد اشرافهم على الموت لما هم فيه من الشدة في الحرب.

(٥٦٧) الشاهد فيه اجراء غير على الدار نعتالها فلذلك رفع ما بعد الّا والمعنى ما بالمدينة دار هي غير واحدة وهي دار الخليفة الّا دار مروان وما بعد الّا بدل من دار الأولى ، ولو جعل غير واحدة استثناء بمنزلة الّا واحدة لجاز نصبها على الاستثناء ورفعها على البدل واذا رفعت على البدل نصب ما بعد الا ، لأنه استثناء بعد استثناء ، فلا بد من رفع أحدهما ونصب الآخر على ما بينه في الباب ومعنى غير واحدة اذا كانت غير نعتا أي هي مفضلة على دور ودار الخليفة تبيين للدار الأولى وتكرير وأراد بمروان مروان بن الحكم.

٤٣٨

(١) مالك من شيخك الّا عمله

الّا رسيمه والّا رمله

[باب ما يكون مبتدأ بعد إلّا]

وذلك قولك ما مررت باحد الّا زيد خير منه ، كأنك قلت مررت بقوم زيد خير منهم الّا أنك أدخلت الا لتجعل زيدا خيرا من جميع من مررت به ، ولو قال مررت بناس زيد خير منهم لجاز أن يكون قد مرّ بناس آخرين هم خير من زيد فانما قال ما مررت بأحد الّا زيد خير منه ليخبر أنه لم يمرّ بأحد يفضل زيدا ، ومثل ذلك قول العرب والله لأفعلن كذا وكذا الّا حلّ ذلك أن أفعل كذا وكذا فأن أفعل كذا وكذا بمنزلة فعل كذا وكذا ، وهو مبني على حلّ وحلّ مبتدء كأنه قال ولكن حلّ ذلك أن أفعل كذا وكذا ، وأمّا قولهم والله لا أفعل الّا أن تفعل فأن تفعل في موضع نصب والمعنى حتى تفعل أو كأنه قال أو تفعل والأول مبتدء ومبنيّ عليه.

[باب غير]

اعلم أنّ غيرا أبدا سوى المضاف اليه ولكنه يكون فيه معنى الّا فيجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا وهو الاسم الذي يكون داخلا فيما يخرج منه غيره وخارجا مما يدخل فيه غيره ، فأمّا دخوله فيما يخرج منه غيره فأتاني القوم غير زيد فغيرهم الذين جاؤوا ولكن فيه معنى إلا فصار بمنزلة الاسم الذي بعد إلا ، وأما خروجه مما يدخل فيه غيره فما أتاني غير زيد ، وقد يكون بمنزلة مثل ليس فيه معنى إلا ، وكلّ موضع جاز فيه الاستثناء بالّا جاز بغير وجرى مجرى الاسم الذي بعد إلا لأنه اسم بمنزلته ، وفيه معنى إلّا ، ولو جاز أن تقول أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر إلا لما كان إلّا نصبا ،

__________________

(٥٦٨) الشاهد فيه تبيين الأول بالآخر على حد قولك ما جاءني الا زيد الا أبو عبد الله اذا كان ابو عبد الله كنية لزيد وأبو عبد الله بدل من زيد ، وتبيين له والا مؤكدة وكذلك الرسيم والرمل وهما ضربان من السير بدل من العمل وتبيين له والا مؤكدة مكررة وأراد بالرسيم السعي بين الصفا والمروة ، وبالرمل السعي في الطواف أي لا منتفع فيّ ولا عمل عندي أفوت به غيري الا هذا.

٤٣٩

ولا يجوز أن يكون غير بمنزلة الاسم الذي يبتدأ بعد الّا وذلك أنهم لم يجعلوا فيه معنى الّا مبتدأ وانما أدخلوا فيه معنى الاستثناء في كل موضع يكون فيه بمنزلة مثل ويجزىء من الاستثناء ، ألا ترى أنه لو قال أتاني غير عمرو كان قد أخبر أنه لم يأته وان كان قد يستقيم أن يكون قد أتاه فقد يستغنى به في مواضع من الاستثناء ، ولو قال ما أتاني غير زيد يريد بها منزلة مثل لكان مجزئا من الاستثناء كأنه قال ما أتاني الذي هو غير زيد فهذا يجزيء من قوله ما أتاني الّا زيد.

[باب ما أجري على موضع غير لا على ما بعد غير]

زعم الخليل ويونس جميعا أنه يجوز ما أتاني غير زيد وعمرو والوجه الجرّ وذلك أن غير زيد في موضع الّا زيد وفي معناه فحملوه على الموضع ، كما قال :

* فلسنا بالجبال ولا الحديدا*

فلما كان في موضع الّا زيد وكان معناه كمعناه حملوه على الموضع ، والدليل على ذلك أنك اذا قلت غير زيد فكأنك قد قلت الّا زيد ألا ترى أنك تقول ما أتاني غير زيد والا عمرو فلا يقبح الكلام كأنك قلت ما أتاني الا زيد والا عمرو.

[باب يحذف المستثنى فيه استخفافا]

وذلك قولك ليس غير وليس إلا كأنه قال ليس إلا ذاك وليس غير ذاك ولكنهم حذفوا ذلك تخفيفا واكتفاء بعلم المخاطب ما يعني ، وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا وكذا وانما يريد ما منها واحد مات ، ومثل ذلك قوله عزوجل (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ومثل ذلك من من الشعر قول النابغة : [وافر]

(١) كأنك من جمال بني أقيش

يقعقع خلف رجليه بشنّ

__________________

(٥٦٩) الشاهد فيه حذف الاسم لدلالة حرف التبعيض عليه ، والتقدير كأنك جمل من هذه الجمال وبنو أقيش حى من اليمن في ابلهم نفار ويقال هم حي من الجن ومعنى يقعقع يصوت ، والقعقعة صوت الجلد البالي وهو الشن ، وانما وصف جبن عيينة بن حصن ، وهو من فزارة.

٤٤٠