كتاب سيبويه - ج ١

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]

كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٨٢

[باب ما ينتصب من الأسماء التي أخذت من الأفعال انتصاب الفعل استفهمت أو لم تستفهم]

وذلك قولك أقائما ، وقد قعد الناس ، وأقاعدا وقد سار الرّكب وكذلك إن أردت هذا المعنى ولم تستفهم تقول قاعدا علم الله ، وقد سار الركب ، وقائما قد علم الله وقد قعد الناس ، وذلك أنه رأى رجلا في حال قيام أو حال قعود فأراد أن ينبّهه فكأنّه لفظ بقوله أتقوم قائما وأتقعد قاعدا ، ولكنه حذف استغناءا بما يرى من الحال وصار الاسم بدلا من اللفظ بالفعل فجرى مجرى المصدر في هذا الموضع ، ومثل ذلك عائذا بالله من شرّها كأنّه رأى شيئا يتّقى فصار عند نفسه في حال استعاذة حتى صار بمنزلة الذي رآه في حال قيام وقعود لأنه يرى نفسه في تلك الحال فقال عائذا بالله كأنه قال أعوذ بالله عائذا بالله ولكنه حذف الفعل لانه بدل من قوله أعوذ بالله فصار هذا يجري هاهنا مجرى عياذا بالله ، ومنهم من يقول عائذ بالله واذا ذكرت شيئا من هذا الباب فالفعل متّصل في حال ذكرك وأنت تعمل في تثبيته لك أو لغيرك في حال ذكرك إيّاه كما كنت في باب سقيا وحمدا وما أشبهه اذا ذكرت شيئا منه في حال تزجية وإثبات وأجريت عائذا بالله في البدل والاضمار مجرى المصدر كما كان هنيئا بمنزلة المصدر فيما ذكرت لك وقال الشاعر (وهو عبد الله بن الحرث السّهميّ من اصحاب الرسول «ص») [بسيط]

(١) ألحق عذابك بالقول الّذين طغوا

وعائذا بك أن يعلوا فيطغوني

ومثله : [وافر]

(٢) أراك جمعت مسئلة وحرصا

وعند الحقّ زحّارا أنانا

__________________

(٢٧٧) الشاهد فيه وضع عائذ موضع المصدر الموضوع موضع الفعل والتقدير وعياذا بك والمعنى وأعوذ بك أن يعلوا المسلمين ويظهروا عليهم فيطغوني واياهم.

(٢٧٨) الشاهد فيه وضع زحار وهو تكثير زاحر موضع الزحير بعد أن قدر الزحير بدلا من اللفظ بتزحر فانتصب لذلك* والمعنى أراك جمعت مسئلة الناس والحرص ما في أيديهم ، وعند ما يلزمك من حق تزحر وتئن بخلا ونصب أنانا على المصدر المؤكد ، والمعنى تزحر انينا والانان الأنين والزحير السعال.

٢٠١

كأنه قال تزحر زحيرا وتئنّ أنينا ثم وضعه مكان هذا ، أي أنت عند الحقّ هكذا.

[باب ما جرى من الأسماء التي لم تؤخذ من الفعل مجرى الأسماء التي أخذت من الفعل]

وذلك قولك أتميميّا مرّة وقيسيّا أخرى ، وإنما هذا أنّك رأيت رجلا في حال تلوّن وتنقّل ، فقلت أتميميّا مرّة وقيسيّا أخرى كأنك قلت أتحوّل تميميّا مرّة وقيسيّا أخرى فأنت في هذه الحال تعمل في تثبيت هذا له وهو عندك في تلك الحال في تلوّن وتنقّل ، وليس يسأله مسترشدا عن أمر هو جاهل به ليفهّمه إيّاه ويخبره عنه ، ولكنه وبّخه بذلك ، وحدّثنا بعض العرب أنّ رجلا من بني أسد قال يوم جبلة واستقبله بعير أعور فتطيّر منه فقال يا بني أسد أعور وذا ناب ، فلم يرد أن يسترشدهم ليخبروه عن عوره وصحّته ، ولكنه نبّههم كأنه قال أتستقبلون أعور وذا ناب والاستقبال في حال تنبيهه إيّاهم كان واقعا كما كان التلوّن والتنقّل عندك ثابتين في الحال الأولى ، وأراد أن يثبّت لهم الأعور ليحذروه ، ومثل ذلك قول الشاعر : [طويل]

(١) أفي السّلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النّساء العوارك

أي تنقّلون وتلوّنون مرّة كذا ومرّة كذا وقال : [بسيط]

(٢) أفي الولائم أولادا لواحدة

وفي العيادة أولادا لعلّات

وأما قول الشاعر : [وافر]

__________________

(٢٧٩) الشاهد فيه نصب الأعيار باضمار فعل وضعت موضعه بدلا من اللفظ به كما فعل في الباب قبله ، والمعنى اتتحولون في السلم أعيارا جفاء وفي الحرب نساء حيضا جبنا وضعفا ، والسلم الصلح ، وهو بالفتح والكسر والاعيار جمع عير وهو الحمار ، والغلظة القسوة ، والعوارك الحيض واحدتها عارك.

(٢٨٠) الشاهد فيه نصب اولاد باضمار فعل وضعت موضعه بدلا من اللفظ به* والمعنى أتصيرون اولاد الواحدة وتنتقلون الى هذه الحال في الولائم وهي جمع وليمة وتصيرون اولاد العلات وهن الامهات الشتى واحدتهن علة في عيادة المرضى أي تتعاونون على شهود الطعام وتتفقون وتتخاذلون عند عيادة المريض وتتقاطعون.

٢٠٢

أعبدا حلّ في شعبي غريبا

فيكون على وجهين على النداء وعلى أنه رآه في حال افتخار واجتراء فقال أعبدا أي أتفخر عبدا كما قال أتميميّا مرّة ، وإن أخبرت في هذا الباب على هذا الحد نصبت أيضا كما نصبت في حال الخبر الاسم الذي أخذ من الفعل ، وذلك قولك تميميّا قد علم الله مرّة وقيسيّا أخرى ، فلم ترد أن تخبر القوم بأمر قد جهلوه ولكنّك أردت أن تشتمه بذلك فصار بدلا من اللفظ بقولك أتتمّم مرّة وتتقيّس أخرى ، وأتمضون ، وقد استقبلكم هذا وتنقّلون وتلوّنون فصار هذا هكذا كما صار تربا وجندلا بدلا من اللفظ بتربت وجند لت لو تكلّم بهما ، ولو مثّلت ما نصبت عليه الأعيار والأعور في البدل من اللفظ لقلت أتعيّرون مرة وأتعوّرون اذا أوضحت معناه لأنك إنما تجريه مجرى ما له فعل من لفظه ، وقد يجرى مجرى الفعل ويعمل عمله ولكنه كان أحسن أن توضّحه بما يتكلم به اذا كان لا يغيّر معنى الحديث وكذلك هذا النحو ولكنه يترك استغناءا بما يحسن من الفعل الذي لا ينقض المعنى ، وأما قوله جلّ وعزّ (بَلى قادِرِينَ) فهو على الفعل الذي أظهر ، كأنّه قال بلى نجمعهما قادرين حدّثنا بذلك يونس ، وأما قوله (وهو الفرزدق) : [طويل]

(١) على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام

__________________

(٢٨١) الشاهد فيه قوله ولا خارجا ونصبه لوقوعه موقع المصدر الموضوع موضع الفعل على مذهب سيبويه والتقدير عاهدت ربي لا يخرج من في زور كلام خروجا ، ويجوز أن يكون قوله ولا خارجا منصوبا على الحال والمعني عاهدت ربي غير شاتم ولا خارج أي عاهدته صادقا وهذا على مذهب عيسى بن عمر ، وقد ذكره سيبويه عنه ولا شاهد فيه على هذا التقدير* يقول هذا حين تاب عن الهجاء وقذف المحصنات وعاهد الله على ذلك بين رتاج باب الكعبة ومقام ابراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانما فصل سيبويه رحمه‌الله هذا الباب من الباب الاول لما احتمل من التأويلين على مذهبه ومذهب عيسى بن عمر ، وقد بينت الحقيقة في المذهين في كتاب النكت.

٢٠٣

فانما أراد ولا يخرج فيما أستقبل كأنّه قال ولا يخرج خروجا ، ألا تراه ذكر عاهدت في البيت الذي قبله فقال :

ألم ترني عاهدت ربي وإنّني

لبين رتاج قائما ومقام

ولو حمله على أنه نفى شيئا هو فيه ولم يرد أن يحمله على عاهدت لجاز ، والى هذا الوجه كان يذهب عيسى فيما نرى لأنه لم يكن يحمله على عاهدت ، فاذا قلت ما أنت إلا قائم وقاعد وأنت تميمى مرّة وقيسى أخرى وإنّي عائذ بالله ارتفع ، ولو قال هو أعور وذو ناب لرفع ، فهذا كلّه ليس فيه إلا الرفع لأنّه مبنىّ على الاسم الأوّل والآخر هو الأوّل فجرى عليه ، وزعم يونس أنّ من العرب من يقول عائذ بالله أي أنا عائذ بالله كأنه أمر قد وقع بمنزلة الحمد لله وما أشبه ذلك وزعم الخليل أنّ رجلا لو قال أتميمي يريد أنت ويضمرها لأصاب ، وإنما كان النصب الوجه لانه موضع يكون الاسم فيه معاقبا للّفظ بالفعل فاختير فيه كما يختار فيما مضى من المصادر التي في غير الأسماء ، والرفع جيّد لأنه المحدّث عنه والمستفهم ، ولو قال أعور وذو ناب كان مصيبا ، وزعم يونس أنّهم يقولون عائذ بالله ، فان أظهر هذا المضمر لم يكن الا الرفع اذ جاز الرفع وأنت تضمر وجاز لك أن تجعل عليه المصدر وهو غيره في قوله أنت سير سير فلم يجز حيث أظهر عندهم غيره كما أنّه لو أظهر الفعل الذي هو بدل منه لم يكن إلا نصبا كما لم يجز في الاضمار أن تضمر بعد الرافع ناصبا كذلك لم تضمر بعد الاظهار وصار المبتدأ والفعل يعمل كلّ واحد منهما على حدة في هذا الباب لا يدخل واحد على صاحبه.

[باب ما يجىء من المصادر مثنىّ منتصبا على إضمار الفعل المتروك إظهاره]

وذلك قولك حنانيك كأنه قال تحنّنا بعد تحنن كأنّه يسترحمه ليرحمه ، ولكنهم حذفوا الفعل لأنه صار بدلا منه ، ولا يكون هذا مثنى إلا في حال إضافة كما لم يكن سبحان الله ومعاذ الله إلا مضافين ، فحنانيك لا يتصرّف سبحان الله وما أشبه ذلك ، قال الشاعر (وهو طرفة بن العبد) : [طويل]

٢٠٤

(١) أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض

وزعم الخليل أن معنى التثنية أنّه أراد تحنّنا بعد تحنّن كأنّه قال كلّما كنت في رحمة وخير منك فلا ينقطعنّ وليكن موصولا بآخر من رحمتك ، ومثل ذلك لبّيك وسعديك ، وسمعنا من العرب من يقول سبحان الله وحنانيه ، كأنّه قال سبحان الله واسترحاما ، كما قال سبحان الله وريحانه يريد واسترزاقه ، وأمّا قولك لبّيك وسعديك فانتصب هذا ، كما انتصب سبحان الله ، وهو أيضا بمنزلة قولك اذا اخبرت سمعا وطاعة إلا أنّ لبّيك لا تتصرّف ، كما أنّ سبحان الله وعمرك الله وقعدك الله لا تتصرّف ، ومن العرب من يقول سمع وطاعة أي أمرى سمع وطاعة بمنزلة :

* فقالت حنان ما أتي بك هاهنا*

وكما قال سلام والذي يرتفع عليه حنان وسمع وطاعة غير مستعمل ، كما أنّ الذي ينتصب عليه لبّيك وسبحان الله غير مستعمل ، واذا قال سمعا وطاعة فهو في تزجية السمع والطاعة ، كما قال حمدا وشكرا على هذا التفسير ، ومثل ذلك حذاريك كأنه قال ليكن منك حذر بعد حذر كأنّه أراد بقوله لبّيك وسعديك إجابة بعد إجابة كأنّه يقول كلما أجبتك في أمر فأنا في الأمر الآخر مجيب وكأنّ هذه التثنية أشدّ توكيدا ، ومثله إلا أنه قد يكون حالا وقع عليه الفعل قول الشاعر (وهو عبد بني الحسحاس واسمه سحيم الاسود) : [طويل]

__________________

(٢٨٢) الشاهد فيه نصب حنانيك على المصدر الموضوع موضع الفعل ، والتقدير تحنن علينا تحننا وثني مبالغة وتكثيرا أي تحنن تحننا بعد تحنن ولم يقصد بهذا مقصدا لتثنية خاصة وإنما يراد به التكثير فجعلت التثنية علما لذلك لأنها أول تضعيف العدد وتكثيره ، وكذلك ما جاء من نحوه في الباب* خاطب عمرو بن هند الملك وكنيته ابو المنذر حين أمر بقتله وذكر قتله لمن قتل من قومه تحريضا لهم على طلب ثاره.

٢٠٥

(١) اذا شقّ برد شقّ بالبرد مثله

دواليك حتّى ليس للبرد لابس

أي مداولتك ومداولة لك وإن شاء كان حالا ، ومثله أيضا : [رجز]

(٢) ضربا هذا ذيك وطعنا وخضا

ومعنى تثنية دواليك أنه فعل من اثنين لأني اذا داولت فمن كلّ واحد منّا فعل ، وكذلك هذا ذيك كأنّه يقول هذّا بعد هذّ من كلّ وجه ، وإن شاء حمله على أنّ الفعل وقع هذّا بعد هذّ فنصبه على الحال ، وزعم يونس أنّ لبّيك اسم واحد ولكنه جاء على هذا اللفظ في الاضافة كقولك عليك ، وزعم الخليل أنها تثنية بمنزلة حواليك لأنّا سمعناهم يقولون حنان وبعض العرب يقول لبّ فيجريه مجرى أمس وغاق ولكنّ موضعه نصب وحواليك بمنزلة حنانيك ولست تحتاج في هذا الباب الى أن تفرد لأنك اذا أظهرت الاسم تبيّن أنه ليس بمنزلة عليك وإليك ، لأنك لا تقول لبّى زيد وسعدى زيد ، وقد قالوا حوالك فأفردوا ، كما قالوا حنان.

قال [رجز]

(٣) أهدموا بيتك لا أبا لكا

وحسبوا أنّك لا أخا لكا

وأنا أمشي الدّ ألي حوالكا

__________________

(٢٨٣) الشاهد فيه قوله دواليك ونصبه على المصدر الموضوع موضع الحال وثني لأن المداولة من اثنين والمعنى اعتورنا هذا الفعل متداولين له والكاف للخطاب ولا حظ لها في معنى الاضافة ، فلذلك لم يتعرف ما قبلها بها ووقع حالا ، وكان الرجل اذا أراد تأكيد المودة بينه وبين من يحب ، واستدامة مواصلته شق كل واحد منهما برد صاحبه يرى أن ذلك أبقي للمودة.

(٢٨٤) الشاهد فيه قوله هذا ذيك والقول فيه كالقول في الذي قبله أعني دواليك ، والمعنى ضربا يهذ هذا بعد هذ على التكثير وهو صفة للضرب أو بدل منه ، ويجوز أن يكون حالا من نكرة والهذ السرعة في القطع وغيره ، والوخض الطعن الجائف أي يضرب الاعناق ، ويطعن في الاجواف.

(٢٨٥) الشاهد فيه قوله حوالكا وافراده والمستعمل فيه التثنية يقال حولك وحواليك وحوالك قليل كما أن حوليك قليل ، وإنما ذكر سيبويه هذا محتجا لحواليك ولبيك ونحوه مما يثني ـ

٢٠٦

وقال [متقارب]

(١) دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبّى يدي مسور

فلو كان بمنزلة علي لقال فلبّي يدي مسور لأنّك تقول على زيد اذا أظهرت الاسم.

[باب ذكر معنى لبّيك وسعديك وما اشتقّا منه]

وإنما ذكر ليبيّن لك وجه نصبه كما ذكر معني سبحان ، حدّثنا أبو الخطّاب أنّه يقال للرجل المداوم على الشيء لا يفارقه ولا يقلع عنه قد ألبّ فلان على كذا وكذا ، ويقال قد أسعد فلان فلانا على أمره وساعده والالباب والمساعدة دنؤ ومتابعة ، اذا ألبّ على الشيء فهو لا يفارقه واذا أسعده فقد تابعه فكأنّه اذا قال الرجل للرجل يا فلان فقال لبّيك وسعديك ، فقد قال قربا منك ومتابعة لك فهذا تمثيل وإن كان لا يستعمل في الكلام كما كان براءة الله تمثيلا لسبحان الله ولم يستعمل ، وكذلك اذا قال لبّيك وسعديك ، يعني بذلك الله عزوجل ، كأنّه يقول أي ربّ لا أنأى عنك في شيء تأمرني به فاذا فعل ذلك فقد تقرّب الى الله بهواه ، وأما قوله وسعديك فكأنّه يقول أنا متابع أمرك وأولياءك غير مخالف فاذا فعل ذلك فقد تابع وأطاع وطاوع ، وإنما

__________________

ـ للتكثير ، وربما افرد فقيل حوال ولب كما تفرد حواليك فيقال حوالك ، وزعم أبو عبيدة أن هذا من قول الضب للحسل أيام كانت الاشياء تتكلم ، فيما تزعم الاعراب ، والدال مشي والد ألي مشية فيها تثاقل يقال مريد أل بحمله.

(٢٨٦) الشاهد فيه قوله فلبى يدي باثبات الياء لأنها ياء التثنية وانما احتج به على يونس لزعمه أن لبيك اسم مفرد بمنزلة عليك وان ياءه كيائها فأخذه سيبويه بقول الشاعر فلبى يدي مسور ، واظهاره الياء مع اضافته الى الظاهر ولو كان بمنزلة عليك لقال فلبى يدي مسور كما تقول على يديه ونحوه* يقول دعوت مسور الرفع نائبة نابتني فأجابني بالعطاء فيها وكفاني مؤنتها وكأنه سأله في دية ، وانما لي يديه لأنهما الدافعتان اليه ما سأله منه فخصهما بالتلبية لذلك.

٢٠٧

حملنا على تفسير لبّيك وسعديك وضح به وجه نصبهما لأنهما ليسا بمنزلة سقيا ورعيا وحمدا وما أشبهه ، ألا ترى أنك تقول للسائل عن تفسير سقيا وحمدا إنما هو سقاك الله سقيا وأحمد الله حمدا ، وتقول حمدا بدل من أحمد وسقيا بدل من سقاك الله ، ولا تستطيع أن تقول ألبك لبّا وأسعدك سعدا ، ولا تقول سعدا بدل من أسعد ولا لبّا بدل من ألبّ ، فلما لم يكن ذاك فيه التمس له شيء من غير لفظه معناه براءة الله حين ذكرتها لأبيّن معنى سبحان الله فالتمست ذلك للبّيك وسعديك وللفظ الذي اشتقا منه اذ لم يكونا فيه بمنزلة الحمد والسّقي في فعلهما ، ولا يتصرّفان تصرّفهما فمعناهما القرب والمتابعة فمثّلت بهما النصب في سعديك ولبّيك كما مثّلت ببراءة النصب في سبحان الله ، ومثل ذلك تمثيلك أفّة وتفّة اذا سئلت عنهما تقول نتنا لأنّ معناهما وحدهما واحد مثل تمثيلك بهرا بتبّا ودفرا بنتنا ، وأما قولهم سبّح ولبّى وأفّف فانما أراد أن يخبرك أنه قد لفظ بسبحان الله وبلبّيك وبأفّ فصار هذا بمنزلة قوله قد دعدع وقد بأبأ اذا سمعته يلفظ بدع وبقوله بأبى ، ويدلك على ذلك قوله هلّل اذا قال لا إله إلا الله ، وإنما ذكرت هلّل وما أشبهه لتقول قد لفظ بهذا ولو كان هذا بمنزلة كلمّته من الكلام لكان سبحان الله ولبّ وسعد مصادر مستعملة متصرّفة في الجر والرفع والنصب والألف واللام ولكن سبّحت ولبّيت بمنزلة هلّلت ودعدعت اذا قال دع ولا إله إلّا الله.

[باب ما ينتصب فيه المصدر المشبّه به على إضمار الفعل المتروك إظهاره]

وذلك قولك مررت به فاذا له صوت صوت حمار ومررت به فاذا له صراخ صراخ الثّكلى.

وقال الشاعر (وهو النابغة الذّبياني) : [بسيط]

(١) مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد

__________________

(٢٨٧) الشاهد فيه نصب صريف القعو على المصدر المشبه به والعامل فيه فعل مضمر ـ

٢٠٨

وقال أيضا : [طويل]

(١) لها بعد إسناد الكليم وهدئه

ورنّة من يبكي اذا كان باكيا

هدير هدير الثّور ينفض رأسه

يذبّ بروقيه الكلاب الضّواريا

فانما انتصب هذا لأنك مررت به في حال تصويت ولم ترد أن تجعل الآخر صفة للأوّل وبدلا منه ولكنّك لمّا قلت له صوت علم أنه قد كان ثمّ عمل فصار قولك له صوت بمنزلة قولك فاذا هو يصوّت فحملت الثاني على المعنى وهذا شبيه في النصب لا في المعنى بقوله عزوجل (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) لأنّه حين قال جاعل الليل فقد علم القارىء أنّه على معنى جعل فصار كأنه قال وجعل اللّيل سكنا وحمل الثاني على المعنى وكذلك له صوت كأنّه قال فاذا هو يصوّت فحمله على المعني فنصبه كأنّه توهّم بعد قوله صوت يصوّت صوت الحمار أو يبديه أو يخرجه صوت حمار ولكنه حذف هذا لأنه صار له صوت بدلا منه فاذا قلت

__________________

ـ دل عليه قوله له صريف فكأنه قال بازلها يصرف صريفا مثل صريف القعو ورفعه على البدل جائز* وصف ناقة بالقوة والنشاط فيقول ، كأنما قذفت باللحم قذفا لتراكمه عليها ، والنحض اللحم ودخيسه ما تداخل منه وتراكب والبازل سن تخرج عند بزولها وذلك العام التاسع من سنها ، وعند ذلك تكمل قوتها ويقال لها بازل والصريف صوت أنيابها اذا حكت بعضها ببعض نشاطا أو اعياء ، وأراد هنا النشاط خاصة والقعو ما تدور فيه البكرة اذا كان من خشب ، فاذا كان من حديد فهو خطاف والمسد حبل من ليف او جلد ولا يسمى مسدا الا كذلك ويقال مسدته اذا أحكمت فتله وحبل ممسود والمسد الاسم.

(٢٨٨) الشاهد فيه نصب هدير الثور على اضمار فعل دل عليه قوله لها هدير لان معناه تهدر ، والقول فيه كالقول في الذي قبله* وصف طعنة جائفة تهدر عند خروج دمها وفوره ، والكليم المجروح واسناده اقعاده معتمدا بظهره على شيء يمسكه لضعفه ، وهدوءه سكونه ، ونومه والرنة رفع الصوت بالبكاء ، والضواري التي ضريت على الصيد ، واعتادته والروق القرن.

٢٠٩

مررت به فاذا هو يصوّت صوت الحمار فعلى الفعل غير حال ، فان قلت صوت حمار فألقيت الألف واللام فعلى إضمارك فعلا بعد الفعل المظهر ، وتجعل صوت حمار مثالا عليه يخرج الصوت أو حالا كما أردت ذلك حين قلت فاذا له صوت ، وإن شئت أوصلت اليه يصوّت فجعلته العامل فيه كقولك يذهب ذهابا ، ومثل ذلك مررت به فاذا له دفع دفعك الضعيف ، ومثل ذلك أيضا مررت به فاذا له دق دقّك بالمنحاز حبّ الفلفل ، ويدلّك على أنك اذا قلت فاذا له صوت صوت حمار فقد أضمرت فعلا بعد له صوت وصوت حمار انتصب على أنه مثال أو حال يخرج عليه الفعل أنّك اذا أظهرت الفعل الذي لا يكون المصدر بدلا منه احتجت الى فعل آخر تضمره فمن ذلك قول الشاعر : [رجز]

(١) اذا رأتني سقطت أبصارها

دأب بكار شايحت بكارها

ويكون على غير الحال ، وإن شئت بفعل مضمر كأنّك قلت تدأب فيكون أيضا مفعولا وحالا كما يكون غير حال فمما لا يكون حالا ويكون على الفعل قول الشاعر [رجز]

(٢) لوّحها من بعد بدن وسنق

تضميرك السابق يطوى للسّبق

__________________

(٢٨٩) الشاهد فى قوله دأب بكار ونصبه على المصدر المشبه به ، كالذي تقدم والعامل فيه معنى قوله اذا رأتني سقطت أبصارها لانه دال على دؤبها في ذلك* والمعنى كلما رأتني سقطت ابصارها ، وخشعت هيبة لي أي كما تفعل البكار وهي جمع بكرة من الابل اذا جدت فحولها في اعتراضها ، ومعني شايحت جدت ، والمشيح من الرجال الجاد الماضي ، ويقال معني شايحت حاذرت فيكون المعني على هذا دأب بكار شايحت هي أي حاذرت ثم وضع البكار موضع الضمير وأضافه الى الضمير نفسه توكيدا لاختلاف اللفظين كما قال* ازلناها مهن عن المقيل* بعد ذكر الرؤوس اي ازلناها عن المقيل ، وقد بينت علة جوازه والدأب العادة.

(٢٩٠) الشاهد فيه قوله تضميرك السابق ونصبه على اضمار فعل دل عليه قوله لوحها لانه في معني ضمرها واللائح الضامر وأصله من اللوح وهو العطش* وصف ناقة ضمرت لدؤوب السير والبدن السمن ، والسنق أن يكثر لها من العلف حتى تسنق وتتخم ، وشبه ـ

٢١٠

وإن شئت كان على أضمرها وان شئت كان على لوّحها ، لأنّ تلويحه تضمير.

ومثله (للعجاج) : [رجز]

(١) ناج طواه الأين ممّا وجفا

طىّ اللّيالي زلفا فزلفا

* سماوة الهلال حتى احقوقفا*

وقد يجوز أن تضمر فعلا آخر كما أضمرت بعدله صوت ، يدلّك عليه أنك لو أظهرت فعلا لا يجوز أن يكون المصدر مفعولا عليه صار بمنزلة له صوت ، وذلك قوله (وهو أبو كبير الهذلي) : [رجز]

(٢) ما إن يمسّ الأرض إلّا منكب

منه وحرف السّاق طىّ المحمل

__________________

ـ ضمرها بضمر السابق من الخيل المعد للرهان ، ومعني تطوى تضمر والسبق الخطر ، ويجوز أن يريد السبق فحرك ضرورة.

(٢٩١) الشاهد في قوله طى الليالي ونصبه على المصدر المشبه به دون الحال لانه معرفة لهذا ذكره سيبويه ولم يقصد فيه ما قصد في الذي قبله من أن يجعله على اضمار فعل من غير لفظه كما تأول عليه من غلطه ، ونسب اليه أنه استشهد بنصب سماوة على المصدر المشبه به* وصف بعيرا أضمره دؤب السير حتى اعوج من الهزال كما تمحق الليالي القمر شيئا بعد شىء حتى يعود هلالا محقوقفا معوجا ، والناجي السريع ، والوجيف سير سريع ، والأين الاعياء والفتور ولم يرد أن الاعياء طواه وانما أراد سيره الشديد المفضى به الى الاعياء فجعل الفعل له مجازا والزلف الساعات المتقاربة واحدتها زلفة ، وأراد بها الاوقات التي تطلع فيها بعد منتصف الشهر وبعضها يتأخر عن بعض تأخرا قريبا وسماوة كل شيء أعلاه ونصبها بالطي نصب المفعول به ، والمحقوقف المعوج ، والحقف ما اعوج من الرمل وكان ينبغي أن يقول سماوة القمر ، ولكنه سمى القمر هلالا لما يؤول اليه.

(٢٩٢) الشاهد فيه نصب طي المحمل باضمار فعل دل عليه قوله ما أن يمس الارض الا منكب منه وحرف الساق لان ذلك لانطواء كشحه وضمر بطنه فكأنه قال طوى طيا مثل طى المحمل* وصف رجلا بالضمر فشبهه في طى كشحه وارهاف خلقه بحمالة السيف وهي المحمل ، وزعم انه اذا اضطجع نائما نبا بطنه عن الارض ولم ينلها منه الا منكبه وحرف ساقه.

٢١١

صار ما إن يمسّ الأرض بمنزلة له طى لأنه اذا ذكر ذا عرف أنه طيّان ، وقد يدخل في صوت حمار إنما أنت شرب الابل اذا مثّل بقوله ، انما أنت شربا فما كان معرفة لم يكن حالا ولم يكن إلّا مفعولا وتشركه النكرة ، وإن شئت جعلته حالا عليه وقع الأمر وهو تشبيه للاوّل ، يدلّك على ذلك أنك لو أدخلت مثل هيهنا كان حسنا وكان نصبا ، فاذا أخرجت مثل قام المصدر النكرة مقام مثل لأنه مثله نكرة فدخول مثل يدلّك على أنه تشبيه ، فاذا قلت فاذا هو يصوّت صوت حمار فان شئت نصبت على أنه مثال وقع عليه الصوت ، وإن شئت نصبت على ما فسّرنا وكان غير حال ، وكأنّ هذا جواب لقوله على أىّ حال وكيف ومثله كأنّه قيل له كيف وقع الأمر ، أو جعل المخاطب بمنزلة من قال ذلك فأراد أن يبيّن كيف وقع الأمر وعلى أىّ مثال فانتصب وهو موقوع فيه وعليه ، وعمل فيه ما قبله وهو الفعل ، واذا كان معرفة لم يكن حالا وكان على فعل مظهر إن جاز أن يعمل فيه أو على مضمر إن لم يجز المظهر كما ينتصب طىّ المحمل على غير يمسّ ، وإن شئت قلت له صوت صوت حمار وله صوت خوار ثور ، وذلك اذا جعله صفة للصوت ولم يرد فعلا ولا إضماره ، وإن كان معرفة لم يجز أن يكون صفة لنكرة كما لا يكون حالا ، وسترى هذا مبيّنا في بابه إن شاء الله ، وزعم الخليل أنه يجوز له صوت صوت الحمار لأنه تشبيه فمن ثم حسن أن تصف به النكرة ، وزعم الخليل أنه يجوز أن يقول الرجل هذا رجل أخو زيد اذا أردت أن تشبّهه بأخى زيد ، وهذا قبيح ضعيف لا يجوز إلّا في موضع الاضطرار ، ولو جاز هذا لقلت هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل ، فلم يجز هذا كما قبح أن تكون المعرفة حالا كالنكرة إلّا في الشعر وهو في الصفة أقبح لأنك تنقض ما تكلّمت به فلم تجامعه في الحال كما فارقه في الصفة ويبيّن ذلك في بابه إن شاء الله تعالى

[باب يختار فيه الرفع]

وذلك قولك له علم علم الفقهاء ، وله رأى رأى الأصلاء وإنما كان الرفع في هذا الوجه لأنّ هذه خصال تذكرها في الرجل كالحلم والعقل والفضل ولم ترد أن

٢١٢

تخبر أنك مررت برجل في حال تعلّم ولا تفهّم ، ولكنّك أردت أن تذكر الرجل بفضل فيه وأن تجعل ذلك خصلة قد استكملها كقولك له حسب حسب الصالحين لأنّ هذه الأشياء وما يشبهها صارت تحلية عند الناس وعلامات ، وعلى هذا الوجه رفع الصوت ، وإن شئت نصبت فقلت له علم علم الفقهاء كأنّك مررت به في حال تعلّم وتفقّه وكأنّه لم يستكمل أن يقال له عالم ، وإنما فرق بين هذا وبين الصوت لأنّ الصوت علاج وأنّ العلم صار عندهم بمنزلة اليد والرّجل ، ويدلّك على ذلك قولهم له شرف وله دين وله فهم ، ولو أرادوا أنّه يدخل نفسه في الدين ولم يستكمل أن يقال له دين لقالوا يتديّن وليس بذلك ويتشرّف وليس له شرف ويتفهّم وليس له فهم ، فلمّا كان هذا اللفظ للذين لم يستكملوا ما كان غير علاج بعد النصب في قولهم له علم علم الفقهاء ، واذا قال له صوت صوت حمار فانما أخبر أنه مرّ به وهو يصوّت صوت حمار ، واذا قال له علم علم الفقهاء فهو يخبر عمّا قد استقرّ فيه قبل رؤيته وقبل سمعه منه ، أو رآه يتعلّم فاستدل بحسن تعلّمه على ما عنده من العلم ، ولم يرد أن يخبر أنّه إنما بدأ في علاج العلم في حال لقيّه إيّاه لأن هذا ليس مما يثنى به وإنما الثناء في هذا الموضع أن يخبر بما استقرّ فيه ولا يخبر أنّ أمثل شيء كان فيه التعلّم في حال لقائه.

[باب ما يختار فيه الرفع اذا ذكرت المصدر الذي يكون علاجا]

وذلك اذا كان الآخر هو الأوّل وذلك قولك له صوت صوت حسن ، وإنما ذكرت الصوت توكيدا ولم ترد أن تحمله على الفعل لمّا كان صفة وكان الآخر هو الأوّل كما قلت ما أنت إلا قائم وقاعد حملت الآخر على أنت لمّا كان الآخر هو الأوّل ، ومثل ذلك له صوت أيّما صوت وله صوت مثل صوت الحمار لأنّ أي والمثل صفة أبدا ، واذا قلت أيّما صوت فكأنّك قلت له صوت حسن جدّا وهذا صوت شبيه بذاك فأى ومثل هما الأول ، فالرفع في هذا أحسن لأنك ذكرت اسما يحسن أن يكون هذا الكلام

٢١٣

منه فحمل عليه كقولك هذا رجل مثلك وهذا رجل حسن وهذا رجل أيّما رجل ، وأمّا له صوت صوت حمار فقد علمت أنّ صوت حمار ليس بالصوت الأوّل وإنما جاز لك رفعه على سعة الكلام كما جاز لك أن تقول ما أنت إلّا سير وكان الّذين يقولون صوت حمار اختاروا هذا كما اختاروا ما أنت إلّا سيرا اذ لم يكن الآخر هو الاوّل فحملوه على فعله كراهية أن يجعلوه من الاسم الذي ليس به كما كرهوا أن يقولوا ما أنت إلّا سير اذا لم يكن الآخر هو الأوّل فحملوه على فعله فصار له صوت صوت حمار ينتصب على فعل مضمر كانتصاب تضميرك السابق ، على الفعل المضمر ، وإن قلت له صوت أيّما صوت أو مثل صوت الحمار أوله صوت صوتا حسنا جاز وزعم ذلك الخليل ويقوّى ذلك أنّ يونس وعيسى جميعا زعما أن رؤبة كان ينشد هذا البيت نصبا : [رجز]

(١) * فيها ازدهاف أيّما ازدهاف*

فحمله على الفعل الذي ينصب صوت حمار لأن ذلك الفعل لو ظهر نصب ما كان صفة وما كان غير صفة لأنه ليس باسم تحمل عليه الصفات ، ألا ترى أنه لو قال مثل تضميرك أو مثل دأب بكار نصب فلما أضمروه أيضا فيما يكون غير الأول أضمروه أيضا فيما يكون هو الأول كأنه قال تزدهف أيّما ازدهاف ولكنه حذفه لأن له ازدهاف قد صار بدلا من الفعل

[باب ما الرفع فيه الوجه]

وذلك قولك هذا صوت صوت حمار لأنك لم تذكر فاعلا لأن الآخر هو الأول حيث قلت هذا فالصوت هو هذا ثم قلت هو صوت حمار لأنك سمعت نهاقا فلا شكّ في رفعه ، وإن شبّهت أيضا فهو رفع لأنك لم تذكر فاعلا يفعله وإنما ابتدأته كما تبتدأ الأسماء

__________________

(٢٩٤) الشاهد فيه نصب أيما وان كان من نعت المصدر قبله وإن كان حقه أن يجرى عليه ولكنه حمل على المعنى لانه اذا قال فيها ازدهاف علم أنها تزدهف فكأنه قال تزدهف أيما ازدهاف* وصف رجلا بالخلف وقول الباطل ويقال ان ذلك الرجل أبوه العجاج فجعل أقواله تزدهف العقول أي تستخفها وقبله :

قولك أقوالا مع التخلاف

فيها ازدهاف أيما ازدهاف

٢١٤

فقلت هذا ثم بنيت عليه شيئا هو هو فصار كقوله هذا رجل رجل حرب ، فاذا قلت له صوت فالذي في اللام هو الفاعل وليس الآخر به فلمّا بنيت أول الكلام كبناء الأسماء كان آخره أن يجعل كالاسماء أحسن وأجود فصار كقولك هذا رأس رأس حمار وهذا رجل أخو حرب اذا أردت الشبه ومن ذلك عليه نوح نوح الحمام على غير صفة ، لأن الهاء في عليه ليست بالفاعل كما أنك اذا قلت فيها رجل فالهاء ليست بفاعل فعل بالرّجل شيئا فلما جاء على مثال الأسماء كان الرفع الوجه ، وإن قلت لهنّ نوح نوح الحمام فالنصب لأن الهاء هي الفاعلة ، يدلّك على ذلك أنّ الرفع في هذا وفي عليه أحسن لأنك اذا قلت هذا أو عليه فأنت لا تريد أن تقول مررت بهذه الأسماء تفعل فعلا ولكنك جعلت عليه موضعا للنّوح وهذا مبني عليه نفسه ، ولو نصبت كان وجها لأنه اذا قال هذا صوت أو هذا نوح أو عليه نوح فقد علم أن مع النوح والصوت فاعلين فحمله على المعنى ، كما قال : [طويل]

(١) ليبك يزيد ضارع لخصومة

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح

[باب لا يكون فيه إلا الرفع]

وذلك قولك له يد يد الثور وله رأس رأس الحمار لأن هذا اسم ولا يتوهّم على الرّجل أنه يصنع يدا ولا رجلا وليس بفعل.

[باب لا يكون فيه إلا الرفع]

وذلك قولك صوته صوت حمار وتلويحه تضميرك السابق ووجدى بها وجد الثّكلى ، لأنّ هذا ابتداء فالذي يبنى على الابتداء بمنزلة الابتداء ، ألا ترى أنك تقول زيد أخوك فارتفاعه كارتفاع زيد أبدا ، فلما ابتدأه وكان محتاجا إلى ما بعده لم يجعل بدلا من اللفظ بيصّوت وصار كالأسماء ، قال الشاعر (وهو مزاحم العقيلى) [طويل]

(٢) وجدى بها وجد المضّل بعيره

بنخلة لم تعطف عليه العواطف

__________________

(٢٩٥) تقدم شرحه في ص ١٧٢ ـ رقم ٢٣٢

(٢٩٦) الشاهد فيه رفع وجد المضل بعيره لأنه خبر عن الأول لا يستغنى عنه فلم يجز نصبه كما انتصب ما قبله في الابواب المتقدمة* يقول وجدى بهذه المرأة وحزني لفقدها كوجد ـ

٢١٥

وكذلك لو قلت مررت به فصوته صوت حمار ، فان قال فاذا صوته يريد الوجه الذي يسكت عليه دخله نصب لأنه يضمر بعد ما يستغني عنه.

[باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر]

لوقوع الامر فانتصب لأنه مرفوع له ولأنه تفسير لما قبله لم كان وليس بصفة لما قبله ولا منه فانتصب كما انتصب الدرهم في قولك عشرون درهما وذلك قولك فعلت ذاك حذار الشّر وفعلت ذاك مخافة فلان وادّخار فلان ، وقال الشاعر (وهو حاتم ابن عبد الله الطائي) : [طويل]

(١) وأغفر عوراء الكريم ادّخاره

وأصفح عن شتم اللّئيم تكرّما

وقال الآخر (وهو النابغة الذّبياني) : [طويل]

(٢) وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع

يخال به راعى الحمولة طائرا

حذارا على أن لا تصاب مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

__________________

ـ من أضل بعيره أحوج ما يكون اليه ، ونخلة موضع بقرب مكة ، وعليها يأخذ الحاج منصرفين بعد انقضاء حجهم ولذلك قال لم تعطف عليه العواطف لأنهم آخذون في الانصراف ومزعجون لمطيهم.

(٢٩٧) الشاهد فيه نصب الادخار والتكرم على المفعول له والتقدير لادخاره وللتكرم ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل فنصب ، ولا يجوز مثل هذا حتى يكون المصدر من معنى الفعل المذكور قبله فيضارع المصدر المؤكد لفعله كقولك قصدتك ابتغاء الخير وغفرت ذنبك ادخارا لك لأنه بمنزلة ابتغيت ما عندك بقصدي لك ابتغاء وادخرتك بغفري ذنبك ادخارا ، فان كان المصدر لغير الاول لم يجز حذف حرف الجر لأنه لا يشبه المصدر المؤكد لفعله كقولك قصدتك لرغبة زيد في ذلك لأن الراغب غير القاصد ، ولا يجوز قصدتك رغبة زيد في ذلك* يقول اذا جهل على الكريم احتملت جهله ابقاء عليه وادخارا له وان سبنى اللئيم أعرضت عن شتمه اكراما لنفسي عنه ، والعوراء الكلمة القبيحة أو الفعلة وأصله من العور أو العورة.

(٢٩٨) الشاهد فيه نصب حذار على المفعول له* يقول هذا للنعمان بن المنذر وكان واجدا عليه أي لا أوذيك بهجو ولا ذم وان كنت بحيث لا أخافك وفاء بحق نعمتك وقضاء لما يلزمني من مراعاة أمرك ، واليفاع ما ارتفع من الأرض وجعل راعي الحمولة فيه كالطائر لاشرافه ـ

٢١٦

وقال الحرث بن هشام المخزومي : [كامل]

(١) فصفحت عنهم والأحبّة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مفسد

وقال الراجز (وهو العجّاج) :

(٢) يركب كلّ عاقر جمهور

مخافة وزعل المحبور

* والهول من تهوّل الهبور*

وفعلت ذاك أجل كذا وكذا ، فهذا كلّه ينتصب لأنه مفعول له كأنه قيل له لم فعلت كذا وكذا فقال لكذا وكذا ولكنه لمّا طرح اللام عمل فيه ما قبله كما عمل في دأب بكار ما قبله حين طرح مثلا وكان حالا ، وحسن في هذا الألف واللام لأنه ليس بحال فيكون في موضع فاعل حالا ولا يشبّه بما مضى من المصادر في الأمر والنهي ونحوهما لأنه ليس في موضع ابتداء ولا موضعا يبنى على مبتدإ ، فمن ثم خالف باب رحمة الله عليه وسقيا لك وحمدا لك.

__________________

ـ وبعده في السماء وكل ما أشرف فالكبير يبدو فيه صغيرا وما اطمأن واتسع ظهر فيه الصغير كبيرا فلذلك جعله كالطائر ، ويحتمل أن يريد أنه كالطائر المحلق في الهواء ، والمقادة ، الطاعة والانقياد ، والحرائر جمع حرة على غير قياس ، وقيل واحدتها حريرة بمعنى حرة وهو غريب.

(٢٩٩) الشاهد فيه نصب طمع على المفعول له كما تقدم في الذي قبله* يقول هذا معتذرا من فراره يوم قتل أبو جهل أخوه ببدر وهو من أحسن الاعتذار فيما يأتيه الرجل من قبيح الفعل أي لم أفر جبنا ولم أصفح عنهم خورا وضعفا ولكن طمعا في أن أعد لهم وأعاقبهم بيوم أوقع بهم فيه فتفسد أحوالهم.

(٣٠٠) الشاهد فيه نصب مخافة وما بعده على المفعول له وعلته كعلة ما قبله* وصف ثورا وحشيا فيقول يركب لنشاطه وقوته كل عاقر من الرمل وهو الذي لا ينبت ، والجمهور المتراكب لخوفه من طائر أو سبع أو لزعله وسروره ، والزعل النشاط ، والمحبور المسرور والهول يهوله كهول القبور ، ويروى الهبور ، وهي الغيابات من الأرض المطمئنات واحدها هبر لانها مكمن للصائد فهو يخافها لذلك.

٢١٧

[باب ما ينتصب من المصادر لأنه حال وقع فيه الامر فانتصب لأنه موقع فيه الأمر]

وذلك قولك قتلته صبرا ولقيته فجاءة ومفاجأة وكفاحا ومكافحة ولقيته عيانا وكلمته مشافهة وأتيته ركضا وعدوا ومشيا ، وأخذت ذلك عنه سمعا وسماعا ، وليس كلّ مصدر وإن كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب يوضع هذا الموضع لأن المصدر هيهنا في موضع فاعل اذا كان حالا ، ألا ترى أنه لا يحسن أتانا سرعة ولا أتانا رجلة كما أنه ليس كلّ مصدر يستعمل في باب سقيا وحمدا ، واطّرد في هذا الباب الذي قبله لأن المصدر هناك ليس في موضع فاعل ، ومثل ذلك قول الشاعر (وهو زهير بن أبى سلمى) : [طويل]

(١) فلأيا بلأى ما حملنا وليدنا

على ظهر محبوك ظماء مفاصله

كأنه يقول حملنا وليدنا لأيا بلأى كأنه يقول حملناه جهدا بعد جهد فهذا لا يتكلّم به ولكنه تمثيل ، ومثله قول الراجز :

(٢) * ومنهل وردته التقاطا*

أي فجاءة ، واعلم أن هذا الباب أتاه النصب كما أتي الباب الأول ولكنّ هذا جواب لقوله كيف لقيته كما كان الأول جوابا لقوله لمه.

[باب ما جاء منه في الألف واللام]

وذلك قوله أرسلها العراك ، قال لبيد بن ربيعة : [وافر]

__________________

(٣٠١) الشاهد فيه قوله لأيا بلأى ونصبه على المصدر الموضوع موضع الحال والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين* وصف فرسا بالنشاط وشدة الخلق فيقول اذا حملنا الغلام عليه ليصيد امتنع لنشاطه فلم نحمله الا بعد ابطاء وجهد ، واللأى الابطاء ولا فعل له يجري عليه ولكن يقال التأت عليه الحاجة اذا ابطأت ، والمحبوك الشديد الخلق والظماء هنا القليلة اللحم وهو المحمود منها ، وأصل الظمأ العطش.

(٣٠٢) الشاهد فيه قوله التقاطا والمعنى وردته ملتقطا أي مفاجئا له لم أقصد قصده لأنه في فلاة مجهولة والمنهل المورد

٢١٨

(١) فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال

كأنه قال اعتراكا ، وليس كلّ المصادر في هذا الباب يدخله الألف واللام كما أنه ليس كلّ مصدر في باب الحمد لله والعجب لك يدخله الألف واللام ، وإنما شبّه بهذا حيث كان مصدرا وكان غير الاسم الأول.

[باب ما جاء منه مضافا معرفة]

وذلك قولك طلبته جهدك ، كأنه قال اجتهادا وكذلك طلبته طاقتك ، وليس كلّ مصدر يضاف ، كما أنه ليس كلّ مصدر يدخله الألف واللام في هذا الباب ، وأما فعلته طاقتي فلا يجعل نكرة كما أن معاذ الله لا يجعل نكرة ، ومثل ذلك فعله رأى عيني وسمع أذني قال ذاك ، وإن قلت سمعا جاز إذا لم تختصّ نفسك ولكنه كقولك أخذته عنه سماعا.

[باب ما جعل من الأسماء مصدرا كالمضاف في الباب الذي يليه]

وذلك قولك مررت به وحده ومررت بهم وحدهم ومررت برجل وحده ، ومثل ذلك في لغة أهل الحجاز مررت بهم ثلاثتهم وأربعتهم وكذلك الى العشرة ، وزعم الخليل أنه اذا نصب ثلاثتهم فكأنه يقول مررت بهؤلاء فقط ولم أجاوز هؤلاء كما أنه اذا قال وحده فانما يريد مررت به فقط لم أجاوزه وأما بنو تميم فيجرونه على الاسم الأول إن كان جرّا فجرّا ، وإن كان نصبا فنصبا وإن كان رفعا فرفعا ، وزعم الخليل أنّ الذين يجرّون كأنهم يريدون أن يعمّوا كقولك مررت بهم كلّهم أي لم أدع منهم أحدا وزعم الخليل حيث مثّل نصب وحده وخمستهم أنه كقولك أفردتهم إفرادا فهذا تمثيل ولكنه لم

__________________

(٣٠٣) الشاهد فيه نصب العراك وهو مصدر في موضع الحال والحال لا يكون معرفة وجاز هذا لانه مصدر والفعل يعمل في المصدر معرفة ونكرة فكأنه أظهر فعله ونصبه به ووضع ذلك الفعل موضع الحال فقال أرسلها تعترك الاعتراك ولو كان من أسماء الفاعل لم يجز ذلك فيه نحو أرسلها المعتركة* وصف ابلا أوردها الماء مزدحمة والعراك الازدحام ولم يشفق على ما تنغص شربه منها والدخال ان يدخل القوي بين ضعيفين أو الضعيف بين قويين فيتنغص عليه شربه.

٢١٩

يستعمل في الكلام ، ومثل خمستهم قول الشّماخ : [طويل]

(١) أتتنى سليم قضّها بقضيضها

تمسّح حولي بالبقيع سبالها

كأنّه قال انقضاضهم أي انقضاضا ومررت بهم قضّهم بقضيضهم كأنّه يقول مررت بهم انقضاضا فهذا تمثيل ، وإن لم يتكلّم به كما كان إفرادا تمثيلا وإنما ذكرنا الافراد في وحده والانقضاض في قضّهم لأنه اذا قال قضّهم فهو مشتق من معنى الانقضاض لأنه كأنه يقول انقضّ آخرهم على أوّلهم ، وكذلك وحده إنما هو من معنى التفرّد فكذلك أيضا يكون خمستهم نصبا اذا أردت معنى الانفراد ، فان أردت أنك لم تدع منهم أحدا جررت كما كان ذلك في قضّهم وبعض العرب يجعل قضّهم بمنزلة كلّهم يجريه على الوجوه.

[باب ما يجعل من الأسماء مصدرا كالمصادر التي فيها الألف واللام نحو العراك]

وذلك قولك مررت بهم الجمّاء الغفير والناس فيها الجمّاء الغفير فهذا ينتصب كانتصاب العراك وزعم الخليل أنهم أدخلوا الألف واللام في هذا الحرف وتكلّموا به على نيّة طرح الألف واللام وهذا جعل كقولك مررت بهم قاطبة ومررت بهم طرّا أي جميعا إلا أنّ هذا نكرة لا يدخله الألف واللام كما أنه ليس كلّ المصادر بمنزلة العراك كأنه قال مررت بهم جميعا فهذا تمثيل وإن لم يتكلّم به فصار طرّا وقاطبة بمنزلة سبحان الله في بابه لأنه لا يتصرّف كما أنّ طرّا وقاطبة لا يتصرّفان وهما في موضع المصدر ولا يكونان معرفة ولو كانا صفة لجريا على الاسم أو بنيا على الابتداء فلم يوجد ذا في الصفة وقد رأينا المصادر قد صنع ذا فيها فهما في موضع المصدر.

__________________

(٣٠٤) الشاهد فيه نصب قضها على الحال وهو معرفة بالاضافة لانه مصدر والقول فيه كالقول في العراك ، وعلته كعلته* وصف جماعة من تميم أتته تشهد عليه في دين لزمه قضاؤه فجعلوا يمسحون لحاهم تأهبا للكلام ، ومعنى قضها بقضيضها منقضا آخرهم على أولهم وأصل القض الكسر ، وقد استعمل الكسر موضع الانقضاض كقولهم عقاب كاسر أي منقضة ، والبقيع موضع بالمدينة ويروى أتتني سليم.

٢٢٠