كتاب سيبويه - ج ١

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]

كتاب سيبويه - ج ١

المؤلف:

أبو بشر عمرو بن عثمان [ سيبويه ]


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٥٨٢

(١) أتوعدني بقومك يا ابن جحل

أشابات يخالون العبادا

بما جمّعت من حضن وعمرو

وما حضن وعمرو والجيادا

وزعموا ان الراعي ، كان ينشد هذا البيت نصبا : [كامل]

(٢) أزمان قومى والجماعة كالذي

منع الرّحالة أن تميل مميلا

كأنه قاك أزمان كان قومى والجماعة فحملوه على كان ، لأنها تقع في هذا الموضع كثيرا ولا تنقض ما أرادوا من المعنى حين يحملون الكلام على ما يرفع فكأنه اذا قال أزمان قومى كان معناه أزمان كان قومى ، وأما أنت وشأنك وكلّ امرىء وضيعته ، وأنت أعلم وربّك وأشباه ذلك فكلّه رفع لا يجوز فيه النصب لأنك إنما تريد أن تخبر بالحال التي فيها المحدّث عنه في حال حديثك فقلت أنت الآن كذلك ولم ترد أن تجعل ذلك فيما مضى ولا فيما يستقبل وليس موضعا يستعمل فيه الفعل ، وأما الاستفهام فانهم أجازوا فيه النصب لأنهم يستعملون الفعل في ذلك الموضع كثيرا يقولون ما كنت وكيف تكون اذا أرادوا معنى مع ، ومن ثم قالوا أزمان قومى والجماعة لأنه موضع يدخل فيه الفعل كثيرا يقولون أزمان كان وحين كان ، وهذا شبيه بقول صرمة الانصاري : [طويل]

__________________

(٢٤٦) الشاهد فيه نصب الجياد حملا على معني الفعل والتقدير وما حضن وعمرو وملابستهما الجياد أي ليسا منها في شىء ، وتقديره كتقدير البيت الذي قبله ، وعلته كعلته والاشابات الاخلاط ، ومعني يخالون يظنون ، وأراد بالعباد هنا العبيد ونصب أشابات على الذم ، ويجوز أن يكون بدلا من القوم وحضن وعمرو قبيلتان.

(٢٤٧) الشاهد فيه نصب الجماعة على ما تقدم على اضمار الفعل فكأنه قال أزمان كان قومي مع الجماعة على ما بينه سيبويه* وصف ما كان من استواء الزمان واستقامة الامور قبل قتل عثمان رضى الله عنه وشمول الفتنة وأراد التزام قومه الجماعة وتركهم الخروج على السلطان* والمعنى أزمان قومي والتزامهم الجماعة وتمسكهم بها كالذي تمسك بالرحالة ومنعها ان تميل فتسقط والرحالة الرحل وهي أيضا السرج ضربها مثلا.

١٨١

(١) بدالى أني لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا اذا كان جائيا

فجعلوا الكلام على شيء يقع هنا كثيرا. ومثله قول الأحوص : [طويل]

(٢٤٩) مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة

ولا ناعب إلا ببين غرابها

حملوه على ليسوا بمصلحين ولست بمدرك ، ومثله لعامر بن جوين الطائي : [طويل]

(٢) فلم أر مثلها خباسة واحد

ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله

حمله على أن لأنّ الشعراء قد يستعملون أن هيهنا مضطرين كثيرا.

[باب منه يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام اذا حمل آخره على أوله]

وذلك قولك مالك وزيدا وما شأنك وعمرا فانما حدّ الكلام هيهنا ما شأنك وشأن عمرو ، فان حملت الكلام على الكاف المضمرة فهو قبيح ، وان حملته على الشأن لم يجز لأن الشأن ليس يلتبس بعبد الله انما يلتبس به الرجل المضمر في الشأن فلما كان ذلك قبيحا

__________________

(٢٤٨) (٢٤٩) حمل قوله ولا سابق على معنى الباء في قوله مدرك ، لان معناه لست بمدرك ، فتوهم الباء وحمل عليها كما توهم كان في البيت الاول ، وكذلك توهم الباء في قول الأحوص ليسوا مصلحين فخفض قوله ولا ناعب ، فاذا جاز توهم الحرف الجار مع ضعفه فالحمل على اضمار الفعل أولى وأحرى لقوّته ، وقد رد هذا على سيبويه ولم يجز الراد فيه الا النصب لان حرف الجر لا يضمر ، وقد بين سيبويه ضعفه وبعده مع أخذه لذلك عن العرب سماعا فلا معنى لرد ذلك عليه وقد تقدم هذان البيتان بتفسيرهما في ص ١٠٣ ـ رقم ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢٥٠) الشاهد فيه نصب أفعله باضمار أن ضرورة ودخول أن على كاد لا يستعمل في الكلام فاذا اضطر الشاعر أدخلها عليها تشبيها لها بعسي لاشتراكهما في معني المقاربة ، فلما أدخلوها بعد كاد في الشعر ضرورة توهمها هذا الشاعر مستعملة ثم حذفها ضرورة هذا تقدير سيبويه ، وقد خولف فيه لأن مع ما بعدها اسم فلا يجوز حذفها وحمل الراد الفعل على ارادة النون الخفيفة وحذفها ضرورة والتقدير عنده بعد ما كدت أفعلنه ، وهذا التقدير أيضا بعيد لتضمنه ضرورتين وهما إدخال النون في الواجب ثم حذفها فقول سيبويه أولى لا أن أن قد أتت في الاشعار محذوفة كثيرا* وصف ظلامة هم بها ثم صرف نفسه عنها ، والخباسة الظلامة ورجل خبوس أي ظلوم ، ومعني نهنهت كففت ، وذكر الضمير لأن الظلامة والظلم بمعني واحد.

١٨٢

حملوه على الفعل فقالوا ما شأنك وزيدا ، أي ما شأنك وتناولك زيدا ، قال المسكين الدارميّ : [وافر]

(١) فما لك والتلدّد حول نجد

وقد غصّت تهامة بالرّجال

وقال : [طويل]

(٢) وما لكم والفرط لا تقربونه

وقد خلته أدنى مردّ لعاقل

ويدلّك أيضا على قبحه إذا حمل على الشأن أنّك لو قلت ما شأنك وما عبد الله لم يكن كحسن ما جرم وما ذاك السّويق لأنك توهم أن الشأن هو الذي يلتبس بزيد ، وإنما يلتبس شأن الرجل بشأن زيد ومن أراد ذلك فهو ملغز تارك لكلام الناس الذي يسبق الى أفئدتهم ، فاذا أظهر الاسم فقال ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه فليس إلّا الجرّ لأنه قد حسن أن يحمل الكلام على عبد الله لأنّ المظهر المجرور يحمل عليه المجرور ، وسمعنا بعض العرب يقول ما شأن عبد الله والعرب يسبّها ، وسمعنا أيضا من العرب من يوثق بعربيته يقول ما شأن قيس والبرّ تسرقه ، لمّا أظهروا الاسم حسن عندهم أن يحملوا عليه الكلام الآخر ، فاذا أضمرت فكأنّك قلت ما شأنك وملابسة زيدا أو وملابستك زيدا ، فكان أن يكون زيد على فعل وتكون الملابسة على الشأن لأن شأنك معه ملابسة له أحسن من أن يجروا المظهر على المضمر ، فان أظهرت الاسم في الجرّ عمل عمل كيف في الرفع ، ومن قال ما أنت وزيدا قال ما شأن عبد الله

__________________

(٢٥١) الشاهد فيه نصب التلدد باضمار الملابسة اذ لم يمكن عطفه على المضمر المجرور وقد كان النصب فيما يمكن فيه النصب من نحو قولك ما أنت وزيدا جائزا فقد صار هنا لازما* يقول مالك تقيم بنجد وتترد فيها مع جدبها وتترك تهامة مع لحاق الناس بها لخصبها ، والتلدد الذهاب والمجىء حيرة ، والتلدد أيضا التلبث وأصله من اللديدين وهما صفحتا العنق ومعنى غصت تملأت ، وأصل الغصص الاختناق بالطعام فضرب به مثلا.

(٢٥٢) الشاهد فيه نصب الفرط على ما تقدم والفرط هنا اسم جبل والعاقل الصاعد فيه يقول لم لا تقربون هذا الموضع مع حصانته ورده عمن عقل فيه وتحرز به.

١٨٣

وزيدا كأنه قال ما كان شأن عبد الله وزيدا ، وحمله على كان لأن كان يقع هيهنا ، والرفع أجود وأكثر في ما أنت وزيد ، والجرّ في قولك ما شأن عبد الله وزيد أحسن وأجود كأنه قال ما شأن عبد الله وشأن زيد ، ومن نصب أيضا قال ما لزيد وأخاه يريد ما كان لزيد وأخاه يريد ما كان شأن زيد وأخاه لأنه يقع في هذا المعنى هيهنا فكأنّه قد كان تكلّم به ، ومن ثمّ قالوا حسبك وزيدا لمّا كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنّه قال حسبك ويحسب أخاك درهم ، وكذلك كفيك وقدك وقطك ، وأمّا ويلا له وأخاه وويله وأباه فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه كأنك قلت ألزمه الله ويله وأباه فانتصب على معنى الفعل الذي نصبه فلمّا كان كذلك وإن كان لا يظهر حمله على المعنى ، وإن قلت ويل له وأباه نصبت لأنّ فيه ذلك المعنى ، كما أنّ حسبك مرتفع بالابتداء وفيه معنى كفاك وهو نحو مررت به وزيدا وان كان أقوى لأنك ذكرت الفعل كأنك قلت ولقيت أباه ، وأما هذا لك وأباك فقبيح أن تنصب الأب لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معني فعل حتى يصير كأنّه قد تكلّم بالفعل.

[باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره]

وذلك قولك سقيا ورعيا ، ونحو قولك خيبة ودفرا ، وجدعا وعقرا وبؤسا وأفّة وتفة وبعدا وسحقا ومن ذلك قولك تعسا وتبّا وجوعا وجوسا ، ونحو قول ابن ميّادة (واسمه الرماح بن أبرد) : [طويل]

(١) تفاقد قومى اذ يبيعون مهجتي

بجارية بهرا لهم بعدها بهرا

وقال : [خفيف]

__________________

(٢٥٣) الشاهد فيه قوله بهرا وهو على ما فسره سيبويه بمعنى تبا وهو بدل من اللفظ بالفعل والتقدير بهروا بهرا ويقال معناه هنا غلبة لهم وقهرا أي غلبوا وقهروا ، ومنه قولهم القمر الباهر لغلبة نوره* يقول فقد بعض قومي بعضا حيث لم يعينوني على جارية شغفت بحبها وعرضوني لتلف مهجتى حبالها فغلبوا غلبة وقهرهم العدو قهرا ، وقوله بعدها أي بعد هذه الفعلة.

١٨٤

ثمّ قالوا تحبّها قلت بهرا

عدد النّجم والحصى والتّراب

كأنه قال جهدا أى جهدى ذلك ، وإنما ينتصب هذا وما أشبهه إذا ذكر مذكور فدعوت له أو عليه على إضمار الفعل ، كأنّك قلت سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا وخيّبك الله خيبة ، فكلّ هذا وما أشبهه على هذا ينتصب ، وإنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل كما جعل الحذر بدلا من احذر وكذلك هذا كأنه بدل من سقاك الله ورعاك الله ، ومن خيّبك الله ، وما جاء منه لا يظهر له فعل فهو على هذا المثال نصب كأنّك جعلت بهرا بدلا من بهرك الله فهذا تمثيل ولا يتكلّم به ، ومما يدلّك أيضا على أنه على الفعل نصب أنّك لم تذكر شيئا من هذه المصادر لتبنى عليه كلاما كما تبنى على عبد الله اذا ابتدأته وأنّك لم تجعله مبنيّا على اسم مضمر في نيّتك ولكنه على دعائك له أو عليه ، وأمّا ذكرهم لك بعد سقيا فانما هو ليبيّنوا المعنىّ بالدعاء ، وربما تركوه استغناءا اذا عرف الداعى أنّه قد علم من يعنى ، وربما جاء به على العلم توكيدا فهذا بمنزلة قولك بك بعد قولك مرحبا يجريان مجرى واحدا فيما وصفت لك وقد رفعت الشعراء بعض هذا فجعلوه مبتدئا وجعلوا ما بعده مبنيّا عليه.

قال أبو زبيد : [طويل]

(١) أقام وأقوى ذات يوم وخيبة

لأوّل من يلقى وشر ميسّر

وهذا شبيه رفعه ببيت سمعناه ممن يوثق بعربيته يرويه لقومه [طويل]

__________________

(٢٥٤) الشاهد فيه رفع خيبة بالابتداء وهي نكرة لما فيها من معنى النصب على المصدر المدعو به على ما بينه سيبويه ولم يرد به الدعاء في الحقيقة ولكنه أمر متوقع منتظر فهو كالدعاء في هذا وحكمه كحكمه في جواز الرفع والنصب* وصف أسدا ومعنى أقوى نفد ما عنده من زاد يقال أقوى الرجل اذا نفد ما عنده من زاد وأقوى اذا صار في القواء وهو القفر فيقول من لقي هذا الاسد في هذه الحال فالخيبة له والشر.

١٨٥

(١) عذيرك من مولى اذا نمت لم ينم

يقول الخنا أو تعتريك زنابره

فلم يحمل الكلام على اعذرني ولكنه قال انما عذرك إيّاى من مولى هذا أمره ، ومثله قول الشاعر : [طويل]

(٢) أهاجيتم حسّان عندي ذكائه

فغى لأولاد الحماس طويل

وفيه المعنى الذي يكون في المنصوب كما أنّ قولك رحمة الله عليه فيه معنى الدّعاء كأنّه قال رحمه‌الله.

[باب ما جرى من الأسماء مجرى المصادر التي يدعى بها]

وذلك قولك تربا وجندلا وما أشبه هذا فان أدخلت لك فقلت تربا لك فانّ تفسيرها هيهنا كتفسيرها في الباب الأوّل كأنه قال ألزمك الله وأطعمك الله تربا وجندلا وما أشبه هذا من الفعل فاختزل الفعل هاهنا لانهم جعلوه بدلا من قولك تربت يداك وجندلت ، وقد رفعه بعض العرب فجعله مبتدءا مبنيّا عليه ما بعده قال الشاعر : [طويل]

(٣) لقد ألب الواشون ألبا لبينهم

فترب لأفواه الوشاة وجندل

__________________

(٢٥٥) الشاهد فيه قوله عذيرك بالرفع على الابتداء وخبره في المجرور بعده والوجه فيه النصب لوضعه موضع الفعل على ما تقدم وتقدير رفعه أن يجعل خبرا مضمنا معنى الامر فكأنه قال انما عذرك اياى اللازم لك ان تعذرنى من مولى هذا أمره والمولى هنا ابن العم وأراد بالزنابر ما يغتابه به.

(٢٥٦) الشاهد فيه قوله فغى ورفعه وهو نكرة لما فيه من معنى المنصوب كما تقدم والغى الضلال ، والذكاء انتهاء السن أي هاجيتموه عند اجتماع عقله وعلمه بالهجاء وحنكته ضلالا منكم وغيا ، والحماس حى من بني الحرث بن كعب وهم رهط النجاشي وكانت بينه وبين حسان ابن ثابت مهاجاة.

(٢٥٧) الشاهد فيه قوله فترب لأفواه الوشاة ورفعه بالابتداء وهو نكرة لما فيه من معني المنصوب على ما تقدم في المصادر المدعو بها والترب والجندل كناية عن الخيبة لأن من ظفر من حاجته بهما لم يظفر بشيء ينتفع به ، يقول ألبوا على أي جمعوا الى جمعهم متعاونين على افساد ما بينه وبين من يحب فخيبهم الله عزوجل.

١٨٦

وفيه ذلك المعنى الذي في المنصوب كما كان ذلك في الأول ، ومن ذلك قول العرب فاها لفيك ، وإنما تريد فالداهية كأنه قال تربا لفيك فصار بدلا من اللفظ بالفعل وأضمر له كما أضمر للتّرب والجندل فصار بدلا من اللفظ بقوله دهاك الله ، وقال أبو سدرة الهجميّ : [طويل]

(١) تحسّب هوّاس وأقبل أنّني

بها مفتد من واحد لا أغامره

فقلت له فاها لفيك فإنّها

قلوص امرىء قاريك ما أنت حاذره

ويدلّك على أنه يريد به الداهية ، قوله (أى قول الخنساء) : [متقارب]

(٢) وداهية من دواهي المنو

ن يرهبها الناس لافالها

فجعل للداهية فما حدّثنا بذلك من نثق به.

[باب ما أجرى مجرى المصادر المدعوّ بها من الصفات]

وذلك قولك هنيئا مريئا كأنّك قلت ثبت لك هنيئا مريئا وهنأه ذلك هنيئا وإنما نصبه لأنه ذكر لك خير أصابه رجل فقلت هنيئا مريئا كأنّك قلت ثبت

__________________

(٢٥٨) الشاهد فيه قوله فاها لفيك اي فم الداهية لفيك ونصبه على اضمار فعل والتقدير ألصق الله فاها لفيك وجعل فاها لفيك ونحو هذا من التقدير ووضع موضع دهاك الله فلذلك الزم النصب لانه بدل من اللفظ بالفعل فجرى في النصب مجرى المصدر وخص الفم في هذا دون سائر الاعضاء لان أكثر المتالف تكون منه بما يؤكل او يشرب من السموم ، ويقال معنى فاها لفيك فم الحية لفيك ، فمعناه على هذا خيبك الله والاول تقدير سيبويه وكلاهما صحيح* وصف اسدا عرض له طعاما في راحلته ومعنى تحسب وحسب وظن واحد ، والهواس من صفات الاسد وهو من هست الشيء اذا كسرته ودققته ، وأراد بالواحد الاسد ، والمغامرة المحاربة والمدافعة وأصلها الدخول في الغمرات وهي الشدائد ، والقلوص الناقة الفتية ، وقوله قاريك ما أنت حاذره أي لاقرى لك عندي الا السيف والمكروه.

(٢٥٩) استشهد به لما فيه من الدلالة على ان قوله فاهالفيك يراد به فم الداهية على ما بينت من تفسير مذهبه ومعنى لافالها لا مدخل الى معافاتها والتداوي منها أى هي داهية مشكلة والمنون الدهر وهو أيضا المنية.

١٨٧

ذلك له هنيئا مريئا ، فاختزل الفعل لأنه صار بدلا من اللفظ بقولك هنأك ، ويدلّك على أنه على إضمار هنأك قول الأخطل : [بسيط]

(١) الى إمام تغادينا فواصله

أظفره الله فليهنىء له الظّفر

كأنه اذا قال هنيئا له الظفر فقد قال ليهنىء له الظفر ، واذا قال ليهنىء له الظفر فقد قال هنيئا له الظفر فكلّ واحد منهما بدل من صاحبه فلذلك اختزلوا الفعل هيهنا كما اختزلوه في قولهم الحذر فالظفر والهنء عمل فيهما الفعل والظفر بمنزلة الاسم في قوله هنأ ذلك حين مثّل ، وكذلك قول الشاعر : [طويل]

(٢) هنيئا لأرباب البيوت بيوتهم

وللعزب المسكين ما يتلمّس

[باب ما جرى من المصادر المضافة مجرى المصادر المفردة المدعوّ بها]

وإنما أضيفت ليكون المضاف فيها بمنزلته في اللام اذا قلت سقيا لك لتبينّ من تعنى ، وذلك ويلك وويحك وويسك وويبك ، ولا يجوز سقيك إنما تجرى ذاكما أجرت العرب ، ومثل ذلك عددتك وكلتك ووزنتك ، ولا تقول وهبتك لأنهم لم يعدّوه ولكن وهبت لك ، وهذا حرف لا يتكلّم به مفردا إلا أن يكون على ويلك وهو قولك ويلك وعولك ولا يجوز عولك.

[باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدّعاء]

من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا ، وأفعل ذلك وكرامة

__________________

(٢٦٠) الشاهد فيه قوله فليهنىء له الظفر وتصريحه بالفعل فدل على أن معنى هنيئا له الظفر كمعنى ليهنىء له الظفر وانه موضوع موضعه فلذلك لزمه النصب خاصة* أراد بالامام عبد الملك بن مروان والفواضل العطايا وأراد أظفره الله بقيس عيلان وكانوا من أشياع ابن الزبير.

(٢٦١) القول فيه كالقول في الذي قبله ، والعزب الذي لا زوج له ، والأنثى عزبة وعزب أيضا وهو في الاصل مصدر وصف به ولا فعل له يجري عليه ، ولكن يقال تعزب الرجل اذا صار عزبا :

١٨٨

ومسرّة ونعمة عين وحبّا ونعام عين ولا أفعل ذاك ولا كيدا ولا همّا ولأفعلن ذاك ورغما وهوانا ، فانما ينتصب هذا على إضمار الفعل ، كأنك قلت أحمد الله حمدا وأشكر الله شكرا وكأنك قلت أعجب عجبا وأكرمك كرامة وأسرّك مسرّة ولا أكاد كيدا ولا أهمّ همّا وأرغمك رغما وإنما اختزل الفعل هيهنا لأنهم جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدّعاء كأنّ قولهم حمدا في موضع أحمد الله وقوله عجبا منه في موضع أعجب منه وقوله ولا كيدا في موضع ولا أكاد ولا أهمّ ، وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ ثمّ يبنى عليه وزعم يونس أنّ رؤبة بن العجّاج كان ينشد هذا البيت رفعا وهو لبعض مذحج (وهو هنيّ بن أحمر الكناني) : [كامل]

(١) عجب لتلك قضيّة وإقامتي

فيكم على تلك القضيّة أعجب

وسمعنا بعض العرب الموثوق به يقال له كيف أصبحت فيقول حمد الله وثناء عليه كأنه يحمله على مضمر في نيّته هو المظهر كأنّه يقول أمري وشأني حمد الله وثناء عليه ، ولو نصب لكان الذي في نفسه الفعل ولم يكن مبتدأ ليبنى عليه ولا ليكون مبنيّا على شيء هو ما أظهر ، وهذا مثل بيت سمعناه من بعض العرب الموثوق به يرويه : [طويل]

__________________

(٢٦٢) الشاهد فيه رفع عجب على اضمار مبتدإ والتقدير أمري عجب ، ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وان كان نكرة لوقوعه موقع المنصوب ويتضمن من الوقوع موقع الفعل ما يتضمن المنصوب فيستغني عن الخبر لأنه كالفعل والفاعل فكأنه قال أعجب لتلك قضية ، ويجوز أن يكون خبره في المجرور بعده ونصب قضية على التمييز للنوع الذي أشار اليه بتلك ، وكان هذا الشاعر ممن يبر أمه ويخدمها وكانت مع ذلك تؤثر أخاله عليه يقال له جندب ، وقبله :

واذا تكون كريهة أدعى لها

واذا يحاس الحيس يدعى جندب

فعجب من ذلك ومن صبره عليه.

١٨٩

(١) فقالت حنان ما أتي بك هيهنا

أذو نسب أم أنت بالحيّ عارف

لم ترد تحنّن ولكنها قالت أمرنا حنان أو ما يصيبنا حنان وفي هذا المعنى كلّه معنى النصب ، ومثله ، في أنه على الابتداء وليس على فعل قوله عزوجل (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) لم يريدوا أن يعتذروا اعتذارا مستأنفا من أمر ليموا عليه ولكنهم قيل لهم لم تعظون قوما قالوا موعظتنا معذرة الى ربّكم ، ولو قال رجل لرجل معذرة الى الله واليك من كذا وكذا يريد اعتذار النصب.

ومثل ذلك قول الشاعر : [رجز]

(٢) يشكو اليّ جملى طول السّرى

صبر جميل فكلانا مبتلى

والنصب اكثر وأجود لأنه يأمره ، ومثل الرفع فصبر جميل والله المستعان كأنه يقول الأمر صبر جميل ، والذي يرفع عليه حنان وصبر وما أشبه ذلك لا يستعمل إظهاره ، وترك إظهاره كترك إظهار ما ينصب فيه ، ومثله قول بعض العرب من أنت زيد أي من أنت كلامك زيد فتركوا إظهار الرافع ، كترك إظهار الناصب ولأنّ فيه ذلك المعنى وصار بدلا من اللفظ بالفعل وسترى مثله إن شاء الله.

__________________

(٢٦٣) الشاهد فيه رفع حنان باضمار مبتدإ والتقدير أمرنا حنان ونحوه مما يقوم به المعنى وهو مع رفعه نائب مناب المصدر الموضوع بدلا من اللفظ بالفعل فلذلك جرى مجراه في الافراد والتنكير* وصف أنه فاجأها فأنكرته وتعرفت السبب الموجب لاتيانه هل هو لنسب بينه وبين حيها أو لمعرفة كانت بينه وبينهم فكأنها توقعت عليه قومها فلذلك تحننت عليه والحنان الرحمة.

(٢٦٤) الشاهد فيه رفع صبر جميل مع وضعه موضع الفعل والوجه فيه النصب لأنه أمر لا يقع موقعه الخبر وتقدير سيبويه في هذا أن يحمله على اضمار مبتدأ أو اضمار خبر فكأنه قال أمرك صبر جميل أو صبر جميل أمثل والقول عندي أنه مبتدأ لا خبر له لأنه اسم فعل ناب مناب الفعل والفاعل ووقع موقعه وتعرى من العوامل فوجب رفعه واستغنى عن الخبر لما فيه من معنى الفعل والفاعل ونظيره من كلام العرب في الاكتفاء به وحده دون خبر قولهم حسبك ينم الناس لأن معناه اكفف ولذلك اجيب كما يجاب الامر وهذا بين ان شاء الله.

١٩٠

[باب أيضا من المصادر ينتصب باضمار الفعل المتروك إظهاره]

ولكنها مصادر وضعت موضعا واحدا لا تتصرّف في الكلام تصرّف ما ذكرنا من المصادر وتصرّفها أنّها تقع في موضع الجرّ والرفع ويدخلها الألف واللام ، وذلك قولك سبحان الله ومعاذ الله وريحانه وعمرك الله إلّا فعلت وقعدك الله إلّا فعلت ، كأنّه حيث قال سبحان الله قال تسبيحا وحيث قال وريحانه قال وإسترزاقا لأنّ معنى الريحان الرزق فنصب هذا على أسبّح الله تسبيحا وأسترزق الله استرزاقا فهذا بمنزلة سبحان الله وريحانه ، وخزل الفعل هيهنا لأنه بدل من اللفظ بقوله أسبّحك وأسترزقك وكأنّه حيث قال معاذ الله قال عياذا بالله وعياذا انتصب على أعوذ بالله عياذا ، ولكنهم لم يظهروا الفعل هيهنا كما لم يظهر في الذي قبله ، وكأنّه حيث قال عمرك الله وقعدك الله قال عمّرتك الله بمنزلة نشدتك الله فصارت عمرك الله منصوبة بعمّرتك الله كأنك قلت عمّرتك عمرا ونشدتك نشدا ولكنهم خزلوا الفعل لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ به ، قال الشاعر : [بسيط]

(١) عمّرتك الله إلا ما ذكرت لنا

هل كنت جارتنا أيام ذي سلم

فقعدك الله يجرى هذا المجرى وإن لم يكن له فعل وكأن قوله عمرك الله وقعدك الله بمنزلة نشدك الله وان لم يتكلّم ينشدك الله ، ولكن زعم الخليل أنه تمثيل يمثّل به ، قال الشاعر أيضا (وهو ابن أحمر) : [كامل]

(٢) عمّرتك الله الجليل فانني

ألوي عليك لو أنّ لبّك يهتدى

__________________

(٢٦٥) الشاهد فيه قوله عمرتك الله ووضعه موضع عمرك الله فاستدل سيبويه على أن عمرك وضع بدلا من اللفظ بالفعل فلزمه النصب بذكر الفعل مجردا في البيت ومعنى عمرتك الله ذكرتك به وأصله من عمارة الموضع فكأنه جعل تذكيره عمارة لقلبه ، وذو سلم موضع بعينه وما بعد الا زائدة للتوكيد والا جواب لقوله عمرتك بمنزلة اللام في قوله الله لتفعلن وقد بينت علة دخولها في مثل هذا على اللام في كتاب النكت.

(٢٦٦) القول فيه كالقول في الذي قبله ومعنى ألوي أعطف وأعرّج واللب العقل أي قد وعظتك وتهمت بارشادك لو اهتديت وجعل الفعل للب مجازا لأنه سبب اهتدائه وجواب عمرتك فيها بعد البيت.

١٩١

والمصدر النّشدان والنّشدة ، وهذا ذكر معنى سبحان ، وانما ذكر ليبيّن لك وجه نصبه وما أشبهه زعم أبو الخطّاب أنّ سبحان الله كقولك براءة الله من السّوء ، كأنه يقول أبرّىء براءة الله من السوء وزعم أن مثله قول الشاعر (وهو الاعشى) [سريع]

(١) أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

أي براءة منه ، وأمّا ترك التنوين في سبحان فانما ترك صرفه لأنه صار عندهم معرفة وانتصابه كنصب الحمد لله ، وزعم أبو الخطاب أن مثله قولك للرجل سلاما تريد تسلّما منك كما قلت براءة منك تريد لا ألتبس بشيء من أمرك ، وزعم أن أبا ربيعة كان يقول اذا لقيت فلانا فقل له سلاما فزعم أنه سأله ففسّره له بمعنى براءة منك ، وزعم أنّ هذه الآية مفعول بها (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) بمنزلة ذلك ، لأن الآية فيما زعم مكية ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلّموا على المشركين ولكنه على قوله براءة منكم وتسلّما لا خير بيننا وبينكم ولا شرّ ، وزعم أن قول الشاعر (وهو أميّة ابن أبي الصّلت) : [وافر]

(٢) سلامك ربّنا في كلّ فجر

بريئا ما تغنّثك الذّموم

على قوله براءتك ربنّا من كل سوء فكلّ هذا ينتصب انتصاب حمدا وشكرا ، إلا أن هذا يتصرّف وذاك لا يتصرّف ، ونظير سبحان الله في البناء من المصادر والمجرى لا في المعنى غفران لأن بعض العرب يقول غفرانك لا كفرانك يريد استغفارا لا

__________________

(٢٦٧) الشاهد فيه نصب سبحان على المصدر ولزومها للنصب من أجل قلة التمكن وحذف التنوين منها لأنها وضعت علما للكلمة فجرت في المنع من الصرف مجرى عثمان ونحوه ، ومعناها البراءة والتنزيه* يقول هذا لعلقمة بن علاثة الجعفري في منافرته لعامر بن الطفيل وكان الاعشى قد فضل عامرا وتبرأ من علقمة وفخره على عامر.

(٢٦٨) الشاهد فيه قوله سلامك ونصبه على المصدر الموضوع بدلا من اللفظ بالفعل ومعناه البراءة والتنزيه وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة التمكن ، ونصب بريئا على الحال المؤكدة والتقدير أبرئك بريئا لأن معنى سلامك كمعنى أبرئك ، ومعنى تغنثك تعلق بك وهي بالثاء ثلاث نقط والذموم جمع ذم أي لا تلحقك صفة ذم.

١٩٢

كفرا ، ومثل هذا قوله ويقولون حجرا محجورا أي حراما محرّما ، يريد البراءة من الامر ويبعّد عن نفسه أمرا فكأنه قال أحرّم ذلك حراما محرّما ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل أتفعل كذا وكذا فيقول حجرا أي سترا وبراءة من هذا ، فهذا ينتصب على إضمار الفعل ولم يرد أن يجعله مبتدءا لخبر بعده ولا مبنيا على اسم مضمر.

واعلم أن من العرب من يرفع سلام اذا أراد معنى المبارأة كما رفعوا حنان سمعنا بعض العرب يقول لرجل لا تكوننّ منّى في شيء إلا سلام بسلام أي أمرى وأمرك المبارئة والمتاركة ، وتركوا لفظ ما يرفع كما تركوا فيه لفظ ما ينصب لأنّ فيه ذلك المعنى ولأنه بمنزلة لفظك بالفعل ، وقد جاء سبحان منوّنا مفردا في الشعر قال الشاعر (وهو أميّة بن أبي الصلت) : [بسيط]

(١) سبحانه ثم سبحانا يعود له

وقبلنا سبّح الجودىّ والجمد

شبّهه بقولهم حجرا وسلاما ، وأمّا سبّوحا قدّوسا ربّ الملائكة والرّوح فليس بمنزلة سبحان الله لأنّ السبّوح والقدّوس اسم ولكنه على قوله أذكر سبّوحا قدّوسا ، وذاك أنه خطر على باله أو ذكره ذاكر فقال سبّوحا أي ذكرت سبّوحا كما تقول أهل ذاك اذا سمعت الرجل ذكر الرجل بثناء أو بذم ، كأنّه قال ذكرت أهل ذاك لأنه حيث جرى ذكر الرجل في منطقه صار عنده بمنزلة قوله أذكر فلانا أو ذكرت فلانا كما أنه حيث أنشد ثم قال صادقا صار الانشاد عنده بمنزلة قال ، ثم قال صادقا وأهل ذاك فحمله على الفعل متابعا للقائل والذاكر فكذلك سبّوحا قدّوسا كأنّ نفسه صارت بمنزلة الرجل الذاكر والمنشد حين خطر على باله الذكر ثم قال سبّوحا قدّوسا أي ذكرت سبّوحا متابعا لها فيما ذكرت وخطر على بالها ، وخزلوا الفعل لأنّ هذا الكلام صار عندهم

__________________

(٢٦٩) الشاهد فيه قوله سبحانا وتنكيره وتنوينه ضرورة والمعروف فيه ان يضاف الى ما بعده أو يجعل مفردا معرفة كما تقدم في بيت الاعشى ، ووجه تنكيره وتنوينه أن يشبه ببراءة لأنه في معناها ، والجودى والجمد جبلان.

١٩٣

بدلا من سبّحت كما كان مرحبا بدلا من رحبت بلادك وأهلت ، ومن العرب من يرفع فيقول سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والرّوح كما قال أهل ذاك وصادق والله على ما سمعنا العرب تتكلّم به رفعا ونصبا ، ومثل ذلك خير ما ردّ في أهل ومال وخير ما ردّ في أهل ومال ، أجرى مجرى خير مقدم وخير مقدم ، ومما ينتصب فيه المصدر على إضمار الفعل المتروك إظهاره ولكنه في معنى التعجّب قوله كرما وصلفا كأنّه يقول ألزمك الله وأدام لك كرما وألزمت صلفا ، ولكنهم خزلوا الفعل هيهنا كما خزلوه في الأوّل لأنه صار بدلا من قولك أكرم به وأصلف به كما انتصب مرحبا وقلت لك كما قلت بك بعد مرحبا لتبيّن من تعنى وصار بدلا من اللفظ برحبت بلادك ، وسمعت أعرابيا وهو أبو مرهب يقول كرما وطول أنف أي أكرم بك وأطول بأنفك.

[باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدآت مبنيّا عليها ما بعدها وما أشبه]

«المصادر من الأسماء والصفات»

وذلك قولك الحمد لله والعجب لك والويل لك والتّراب لك والخيبة لك ، وإنما استحبّوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر فقوى في الابتداء بمنزلة عبد الله والرجل ، والذي تعلم لأنّ الابتداء إنما هو خبر ، وأحسنه اذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام ولو قلت رجل ذاهب لم يحسن حتى تعرّفه بشيء فتقول راكب من بني فلان سائر وتبيع الدار فتقول حد منها كذا وحد منها كذا فأصل الابتداء للمعرفة ، فلما أدخلت فيه الألف واللام وكان خبرا حسن الابتداء وضعف الابتداء بالنكرة إلا أن يكون فيه معنى المنصوب ، وليس كلّ حرف يصنع به ذاك كما أنه ليس كلّ حرف يدخل فيه الألف واللام من هذا الباب لو قلت السّقي لك والرّعي لك لم يجز.

واعلم أنّ الحمد لله وان ابتدأته ففيه معنى المنصوب وهو يدل من اللفظ بقولك أحمد الله ، وأمّا قوله شيء مّا جاء بك فانه يحسن وإن لم يكن على فعل مضمر لأنّ فيه معنى ما جاء بك إلا شيء ، ومثله مثل للعرب شر أهرّ ذا ناب ، وقد ابتدىء في الكلام على غير ذا المعنى وعلى غير ما فيه معنى المنصوب ، وليس بالأصل قالوا في مثل أمت في حجر

١٩٤

لا فيك ، ومن العرب من ينصب بالألف واللام ، من ذلك قولك الحمد لله ينصبها عامّة بني تميم ، وسمعنا ناسا من العرب كثيرا يقولون التّراب لك والعجب لك فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة كأنّك قلت حمدا وعجبا ثم جئت بلك لتبيّن من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه.

[باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والاسماء]

وذلك قولك سلام عليك ، ولبّيك ، وخير بين يديك ، وويل لك ، وويح لك ، وويس لك ، وويلة لك ، وعولة لك ، وخير له ، وشر له ولعنة الله على الكافرين فهذه الحروف كلّها مبتدأة مبنى عليها ما بعدها والمعنى فيهن أنك ابتدأت شيئا قد ثبت عندك ولست في حال حديثك تعمل في إثباتها وتزجيتها وفيها ذلك المعنى ، كما أنّ حسبك فيه معنى النهى ، وكما أنّ رحمة الله عليه في معنى رحمه‌الله فهذا المعنى فيها ولم تجعل بمنزلة الحروف التي اذا ذكرتها كنت في حال ذكرك إياها تعمل في إثباتها وتزجيتها كما أنهم لم يجعلوا سقيا ورعيا بمنزلة هذه الحروف فانما تجريها كما أجرت العرب وتضعها في المواضع التي وضعن فيها ولا تدخلنّ فيها ما لم يدخلوا من الحروف ، ألا ترى أنك لو قلت طعاما لك وشرابا لك ومالا لك تريد معنى سقيا أو معنى المرفوع الذي فيه معنى الدعاء لم يجز لأنه لم يستعمل هذا الكلام كما استعمل ما قبله ، فهذا يدلّك ويبصّرك أنه ينبغي لك أن تجرى هذه الحروف كما أجرت العرب وأن تعني ما عنوا بها ، فكما لم يجز أن يكون كلّ حرف بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته ولا بمنزلة المرفوع المبتدإ الذي فيه معنى الفعل ، كذلك لم يجز أن تجعل المرفوع الذي فيه معنى الفعل بمنزلة المنصوب الذي أنت في حال ذكرك إياه تعمل في إثباته وتزجيته ، ولم يجز لك أن تجعل المنصوب بمنزلة المرفوع ، إلا أن العرب ربما أجرت الحروف على الوجهين ، ومثل الرفع طوبى لهم وحسن مآب يدلّك على رفعها رفع حسن مآب ، وأما قوله سبحانه (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ، فانه لا ينبغي أن يقول إنه دعاء هيهنا لأن الكلام بذاك واللفظ به

١٩٥

قبيح ولكن العباد كلّموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنّه والله أعلم قيل لهم (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشرّ والهلكة فقيل هؤلاء ممن دخل الشر والهلكة ووجب لهم هذا ، ومثل ذلك قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فالعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا أنتما في رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم ، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما ومثله قاتلهم الله فانما أجرى هذا على كلام العباد وبه أنزل القرآن ، وتقول ويل له ويل طويل ، فان شئت جعلته بدلا من المبتدإ الأول ، وان شئت جعلته صفة له ، وان شئت قلت ويل لك ويلا طويلا تجعل الويل الآخر غير مبدل مبتدإ ولا موصوف به ولكنك تجعله دائما أي ثبت لك الويل دائما ، ومن هذا الباب فداء لك أبي وأمي وحمى لك أبي ووقاء لك أمي ، ولا تقول عولة لك إلا أن تكون قبلها ويلة لك ولا تقول عول لك حتى تقول ويل لك لأن هذا تبع لهذا كما أن ينوءك يتبع يسوءك ولا يكون ينوءك مبتدئا ، وأعلم أن بعض العرب يقول ويلا له ، وويلة له وعولة يجريها مجرى خيبة ، من ذلك قول الشاعر : [طويل]

(١) كسا اللّؤم تيما خضرة في جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر

ويقول الرجل يا ويلاه فيقول الآخر ويلا كيلا كأنّه يقول لك ما دعوت به ويلا كيلا يدلّك على ذلك قولهم اذا قال يا ويلاه كيلا أي كذاك أمرك أولك الويل ويلا

__________________

(٢٧٠) الشاهد فيه قوله فويلا بالنصب والاكثر في كلامهم رفعه بالابتداء وان كان نكرة لأنه في معنى المنصوب كما تقدم ومعنى الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له يجرى عليه لاعتلال فائه وعينه وما يلزم من النقل في تصريف فعله لو استعمل فاطرح لذلك* هجاتيم بن عبد مناة بن أد ، وهم تيم عدي رهط عمرو بن لجا الخارجي ، وجعل لها سرابيل سودا من اللؤم بادية عليهم على طريق المثل لأنهم يقولون في الكريم النقي العرض فلان طاهر الثوب أبيض السربال والخضرة هنا السوداء والسربال القميص.

١٩٦

كيلا وهذا شبيه بقوله ويل له ويلا كيلا ، وربما قالوا وكيلا وان شاء جعله على قوله جدعا وعقرا.

[باب استكرهه النحويّون وهو قبيح فوضعوا الكلام فيه على غير ما وضعت العرب]

وذلك قولك ويح له وتب وتبّا لك وويحا فجعلوا التّبّ بمنزلة الويح وجعلوا ويح بمنزلة التّبّ فوضعوا كلّ واحد منهما في غير الموضع الذي وضعته العرب ، ولا بدّ لويح مع قبحها من أن تحمل على تبّ لأنها اذا ابتدأت لم يحسن حتى يبنى عليها كلام واذا حملتها على النصب كنت تبنيها على شىء مع قبحها ، فاذا قلت ويح له ثم ألحقتها التبّ فانّ النصب فيه أحسن لأن تبّا اذا نصبتها فهى مستغنية عن لك فانما قطعتها من أوّل الكلام كأنك قلت وتبّا لك فأجريتها على ما أجرت العرب فأمّا النحويّون فيجعلونها بمنزلة ويح ولا تشبهها لأنّ تبّا تستغنى عن لك ولا تستغنى ويح عنها فاذا قلت تبّا له وويح له فالرفع ليس فيه كلام ، ولا يختلف النحويّون في نصب التبّ اذا قلت ويح له وتبّا له فهذا يدلّك على أنّ النصب في تبّا فيما ذكرنا أحسن لأنّ له لم يعمل في التبّ.

[باب ما ينتصب فيه المصدر كان فيه الألف واللام أو لم يكن فيه على إضمار الفعل] «المتروك إظهاره لأنه يصير في الاخبار والاستفهام بدلا من اللفظ بالفعل كما»

«كان الحذر بدلا من احذر في الأمر»

وذلك قولك ما أنت إلّا سيرا وإنما أنت سيرا سيرا وما أنت إلّا الضرب الضرب وما أنت إلا قتلا قتلا وما أنت إلا سير البريد سير البريد ، فكأنه قال في هذا كلّه ما أنت إلا تفعل فعلا وما أنت إلا تفعل الفعل ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك وصار في الاستفهام والخبر بمنزلة الأمر والنهي لأنّ الفعل يقع هيهنا كما يقع فيهما ، وإن كان الأمر والنهي أقوى لأنهما لا يكونان بغير فعل فلم يمتنع المصدر هيهنا أن ينتصب لأن العمل يقع هيهنا مع المصدر في الاستفهام والخبر كما يقع في الأمر والنهي ، والآخر غير الأوّل كما كان ذلك في الأمر

١٩٧

والنهى اذا قلت ضربا فالضرب غير المأمور ، وتقول زيد سيرا سيرا وإنّ زيدا سيرا سيرا ، وكذلك ليت ولعلّ ولكنّ وكأنّ وما أشبه ذلك ، وكذلك إن قلت أنت الدهر سيرا سيرا ، وكان عبد الله الدهر سيرا سيرا وأنت منذ اليوم سيرا سيرا ، وأعلم أنّ السير اذا كنت مخبرا عنه في هذا الباب فانما تخبر بسير متّصل بعضه ببعض في أيّ الاحوال كان ، وأما قولك إنما أنت سير فانما جعلته خبرا لأنت ولم تضمر فعلا وسنبيّن لك وجهه إن شاء الله ، ومن ذلك قولك ما أنت إلا شرب الابل وما أنت إلا ضرب الناس وما أنت إلا ضربا الناس ، وأمّا شرب الابل فلا ينوّن لأنه لم يشبّهه بشرب الابل ولأنّ الشرب ليس بفعل يقع منك على الابل ، ونظير ما انتصب قول الله عزوجل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)، فانما انتصب على فامّا تمنّون منّا وإمّا تفادون فداءا ، ولكنهم حذفوا الفعل لما ذكرت لك.

ومثله قول الشاعر (وهو جرير) : [وافر]

(١) ألم تعلم مسرّحى القوافي

فلا عيّا بهنّ ولا إجتلابا

كأنّه نفى قوله فعيّا بهنّ واجتلابا ، أي فأنا أعيا بهنّ عيّا وأجتلبهن اجتلابا ولكنه نفى هذا حين قال فلا ، ومثله قولك ألم تعلم مسيري يا فلان فاتعابا وطردا ، فانما ذكر مسرّحه وذكر مسيره وهما عملان فجعل المسير إتعابا وجعل المسرّح لاعيّ فيه وجعله فعلا متّصلا اذا سار واذا سرّح ، وإن شئت رفعت هذا كلّه فجعلت الآخر هو الأول ، فجاز على سعة الكلام من ذلك قول الخنساء : [بسيط]

(٢) ترتع ما رتعت حتى اذا ادّكرت

فانما هي إقبال وإدبار

__________________

(٢٧١) أي فلا أعيا بهن ولا أجتلبهن اجتلابا وقد تقدم البيت بتفسيره في ص ١٤٣ رقم ٢٠٠* وصف ناقة أو بقرة فقدت ولدها فكلما غفلت عنه رتعت فاذا ادكرته حنت اليه فأقبلت وأدبرت فضربتها مثلا لفقدها أخاها صخرا.

(٢٧٢) الشاهد فيع رفع اقبال وادبار على السعة والمعنى ذات اقبال وادبار فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ولو نصب على معنى فانما هي تقبل اقبالا وتدبر ادبارا ووضع المصدر موضع الفعل لكان أجود.

١٩٨

فجعلها الاقبال والادبار فجاز على سعة الكلام كقولك نهارك صائم وليلك قائم ، ومثل ذلك قول الشاعر (وهو متمّم بن نويرة) : [طويل]

(١) لعمرى وما دهرى بتأبين هالك

ولا جزع مما أصاب فأوجعا

جعل دهره الجزع والنصب جائز على قوله فلا عيّابهن ولا اجتلابا ، وانما أراد وما دهرى بدهر جزع ولكنه جاز على السعة ، واستخفوا واختصروا كما فعل ذلك فيما مضى ، وأمّا ما ينتصب في الاستفهام في هذا الباب فقولك أقياما يا فلان والناس قعود وأجلوسا والناس يفرّون ، لا يريد أن يخبر أنه يجلس ولا أنه قد جلس وانقضى جلوسه ، ولكنه يخبر أنه في تلك الحال في جلوس وفي قيام ، وقال العجاج [رجز]

(٢) * أطربا وأنت قنّسرىّ*

فانما أراد أتطرب أي أنت في حال طرب ولم يرد أن يخبر عما مضى ولا عما يستقبل ، ومن ذلك قوك بعض العرب أغدّة كغدة البعير وموتا في بيت سلوليّة كأنه انما أراد أأغدّ غدّة كغدّة البعير وأموت موتا في بيت سلوليّة وهو بمنزلة أطربا وتفسيره كتفسيره ، وقال جرير : [وافر]

__________________

(٢٧٣) الشاهد فيه قوله بتأبين هالك ولا جزع والمعنى بدهر تابين ولا جزع فحذف اختصارا او اتساعا ، ويجوز أن يكون تقديره وما دهرى بذي تابين فيجعل الفعل للدهر اتساعا ثم يحذف المضاف الى التأبين اختصارا ومجازا ، كما تقدم في البيت الذي قبله* يرثى أخاه مالك بن نويرة وهو الذي يقال فيه فتى ولا كمالك فيقول لا أرثي بعده هالكا أو لا أبكي عليه ولا أجزع من شيء يصيبني بعده والتأبين مدح الرجل ميتا ، والتقريظ مدحه حيا.

(٢٧٤) الشاهد فيه نصب طرب على المصدر الموضوع موضع الفعل ، والتقدير أتطرب طربا ، والمعنى أتطرب وأنت شيخ والطرب خفة الشوق هنا والطرب أيضا خفة السرور والقنسرى الشيخ وهو غير معروف في اللغة ولم يسمع الا في هذا البيت وحده.

١٩٩

(١) أعبدا حلّ في شعبى غريبا

ألؤما لا أبالك واغترابا

يقول أتلؤم لؤما وأتغترب اغترابا وحذف الفعل في هذا الباب لأنهم جعلوه بدلا من اللفظ بالفعل وهو كثير في كلام العرب ، وأما عبدا فيكون على ضربين إن شئت على النداء ، وإن شئت على قوله أتفخر عبدا ثم حذف الفعل ، وكذلك إن أخبرت ولم تستفهم ، تقول سيرا سيرا عنيت نفسك أو غيرك ، وذلك أنك رأيت رجلا في حال سير او كنت في حال سير أو ذكر رجل بسير أو ذكرت أنت بسير وجرى كلام يحسن بناء هذا عليه كما حسن في الاستفهام لأنك إنما تقول أطربا وأسيرا اذا رأيت ذلك من الحال أو ظننته فيه ، وعلى هذا يجرى هذا الباب اذا كان خبرا أو استفهاما اذا رأيت رجلا في حال سير او ظننته فيه فأثبتّ ذلك له وكذلك انت في الاستفهام اذا قلت أأنت سيرا ، ومعنى هذا الباب أنه فعل متصل في حال ذكرك إياه استفهمت أو أخبرت وأنك في حال ذكرك شيئا من هذا الباب تعمل في تثبيته لك أو لغيرك ، ومثل ما تنصبه في هذا الباب وأنت تعنى نفسك ، قول الشاعر : [وافر]

(٢) سماع الله والعلماء أني

أعوذ بحقو خالك يا بن عمر

وذلك لأنه جعل نفسه في حال من يسمع فصار بمنزلة من رآه في حال سير ، فقال سماعا الله بمنزلة قولك ما أنت إلا ضربا الناس وإلا ضرب الناس إذا حذفت التنوين تخفيفا.

__________________

(٢٧٥) الشاهد فيه قوله ألؤما واغترابا وانتصابه لوقوعه موقع الفعل ، كما تقدم* هجا رجلا فجعله عبدا لئيما نازلا في غير أهله غريبا فأنكر عليه أن يجمع بين اللؤم والغربة وشعبى اسم موضع ونصب عبد على النداء المنكور ويجوز نصبه على الحال ، وتقدير العامل فيه اتفخر عبدا على ما فسره سيبويه بعد هذا.

(٢٧٦) الشاهد فيه قوله سماع الله ونصبه على المصدر الموضوع موضع الفعل والتقدير أسمع الله والعلماء اسماعا ووضع سماعا موضع اسماع كما قالوا أعطيته عطاء أي اعطاء* والمعنى أشهد الله والعلماء إشهاد مسمع مبين لا شهاده أني أعوذ بخالك من شرك وذكر الحقو وهو الخصر لأنه موضع احتضان الشيء وستره

٢٠٠