الشيخ زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠
وروي : أن موسى عليهالسلام قال : « يا ربّ ، دلّني على أمرفيه رضاك عني أعمله ، فأوحى الله تعالى ، اليه : أن رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره ، قال : يا ربّ ، دلّني عليه ، قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي » (١).
وفي مناجاة موسى عليهالسلام : « أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني ، قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط؟ قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي ».
وروي ما هو أشد منه ، وذاك أن الله تعالى قال :
« أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سوائي » (٢).
ويروى : أن الله تعالى أوحى إلى داود عليهالسلام : « يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد » (٣).
وعن ابن عباس : « أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال » (٤).
وعن ابن مسعود : لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحب إلي من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان.
وعن أبي الدرداء : « ذروة الايمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ».
وقال صلىاللهعليهوآله : « إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط » (٥).
وقال علي بن الحسين عليهماالسلام : « الزهد عشرة أجزاء : أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة
____________
١ ـ دعوات الراوندي : ٧١ ، والبحار ٨٢ : ١٤٣.
٢ ـ دعوات الراوندي : ٧٤ ، الجامع الصغير ٢ : ٢٣٥ / ٦٠١٠ باختلاف في الفاظه.
٣ ـ التوحيد : ٣٣٧ / ٤.
٤ ـ أخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٤٣.
٥ ـ المحاسن : ١٧ / ٤٧ ، مشكاة الانوار : ١٢ و ١٣ ، الجامع الصغير ١ : ٣٨٢ / ٢٤٩٣ ، منتخب كنز العمال ١ : ١٧٨ و ٢٥٦ و ٢٥٧.
الرضا » (١).
وقال الصادق عليهالسلام : « صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره ، والراضي حقيقة هو المرضي عنه ، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلوب.
سمعت أبي محمد الباقر عليهالسلام يقول : تعلق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا ، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته؟! حاشا الراضين العارفين عن ذلك ».
وروي : أن جابر بن عبد الله الانصاري ـ رضياللهعنه ـ ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقر عليهالسلام ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة.
فقال الباقر عليهالسلام : « أما أنا يا جابر ، فإن جعلني الله شيخاً أحب الشيخوخة ، وإن جعلني شاباً أحب الشيبوبة (٢) ، وإن أمرضني أحب المرض ، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحب الموت ، وإن أبقاني أحب البقاء ».
فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه ، وقال صدق رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فإنه قال : « ستدرك لي ولداً اسمه اسمي ، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الارض » ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين ، اي شاقه.
وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد الله عليهالسلام ، أنه قال : « رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره » (٣).
وبإسناده عنه عليهالسلام قال : « أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ أرضاهم بقضاء الله ـ عزوجل ـ » (٤).
وبإسناده عنه عليهالسلام قال : « قال الله تعالى : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه
____________
١ ـ الكافي ٢ : ٥١ / ١٠ و ١٠٤ / ٤ ، روضة الواعظين : ٤٣٢ ، مشكاة الانوار : ١١٣.
٢ ـ كذا ، ولعل صحتها الشبيبة : وهي الحداثة وسن الشباب ، اُنظر « الصحاح ـ شبب ـ ١ : ١٥١ ».
٣ ـ الكافي ٢ : ٤٩ / ١.
٤ ـ الكافي ٢ : ٤٩ / ٢.
ـ يا محمد ـ من الصديقين عندي » (١).
وعنه عليهالسلام قال : « في ما أوحى الله عزوجل إلى موسى عليهالسلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن ، فإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي ، أكتبه في الصديقين عندي ، إذا عمل برضاي ، وأطاع أمري » (٢).
وقيل للصادق عليهالسلام : بأي شيء يعلم (٣) المؤمن بأنه مؤمن؟ قال : « بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط » (٤).
وروي في الإسرائيليات : أن عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة ، فسأل عنها ، واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائماً ، وتبيت نائمة ، ويظل صائماً ، وتظلّ مفطرة ، فقال لها : أما لك عمل غير ما رايت؟ فقالت : ما هو والله غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره ، فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة ، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أن أكون في الظل ، فوضع العابد يديه على رأسه ، وقال : أهذه خصيلة؟ هذه ـ والله ـ خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.
____________
١ ـ الكافي ٢ : ٥٠ / ٦.
٢ ـ الكافي ٢ : ٥١ / ٧ ، أمالي المفيد : ٩٣ / ٢ ، أمالي الطوسي ١ : ٢٤٣ ، المؤمن : ١٧ / ٩ ، التمحيص ٥٥ / ١٠٨ ، مشكاة الانوار : ٢٩٩.
٣ ـ في هامش « ح » : يعرف.
٤ ـ الكافي ٢ : ٥٢ / ١٢.
فصل
مرتبة الرضا عالية جداً على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة ، نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإن المحبة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه. الصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس ، فتبين بذلك أنّ الصبر والمحبة متنافيان.
وأيضاً ، فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشد المنكرات نكراً ، وأظهر علامات العداوة طراً ، كما قيل :
ويحسن إظهار التجلّد للعدى |
|
ويقبح إلا العجز عند الأحبة |
ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامّة ، وأوحشها في طريق المحبة ، وأنكرها في طريق التوحيد.
وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء ـ وهو في مقام النفس ـ لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.
وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبة ، لأنّ المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والإلتذاذ بالبلاء ، لشهود المتبلى فيه وإيثار مراد المحبوب ، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مرّ ، فيتنافيان.
وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات (١) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى ، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى ، وفناء الصفة قبل فناء الذات.
وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.
__________________
١ ـ في « ح » : مرغوبات.
فصل
للرضا ثلاث درجات ، مترتبة في القوّة ترتّبها في اللّفظ :
الدرجة الاولى : أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضياً به ، بل راغباً فيه ، مريداً له بعقله ، وإن كان كارهاً له بطبعه ، طلباً لثواب الله تعالى عليه ، ومزيداً لزلفى لديه ، والفوز بالجنّة التي عرضها السموات والأرض ، وقد أعدت للمتقين.
وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين.
ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه ، فإنّه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منةً عظيمة بفعله.
ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضياً به ، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى ـ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق مافاقه ـ رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه ، وشكرالله تعالى عليه.
الدرجة الثانية : أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً ، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.
وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة (١) ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيها بين ذلك يحمل العذرة.
والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة ، التي تغلط في ما ترى كثيراً ، فترى الصغير كبيراً ، والكبير صغيراً ، والبعيد قريباً ، والقبيح جميلاً.
فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزليّ الأبديّ ، الذي لاينتهي كماله المدرك بعين البصيرة ، التي لايعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّاً عندالله ، فرحاً مسروراً برزق الله ، مستفيداً
__________________
١ ـ مذرة : خبيثة ، من التمذّر ، وهو خبث النفس « مجمع البحرين ـ مذر ـ ٣ : ٤٨٠ ».
بالموت مزيد تنبّه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار ، وتشهد له جملة من الآثار ، وردت من أحوال المحبيّن وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاءالله تعالى ، وهذه مرتبة المقرّبين.
الدرجة الثالثة : أن يبطل أحساسه بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولايحس ، وتصيبه جراحة ولايدرك ألمه.
ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه ، بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كالّة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهمّ من مهماته ، يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعربه.
وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ماعداه.
ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا ، واشتغالهم بها ، واكبابهم عليها ، حتى لا يتألمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ـ لذلك ـ كثير مشاهد عياناً ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه ، قد يصيبه ما كان يتألّم به ، أو يغتمّ لولا عشقه ، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحب على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!
وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف ، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحب أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره ، بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه.
كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إن لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع.
فصل :
في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم
إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة :
لمّا اشتد البلاء على أيوب عليهالسلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : « يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى » (١).
وروي أن يونس عليهالسلام قال لجبرئيل عليهالسلام : « دلّني على أعبد أهل الأرض » ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :
إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول (٢).
وروي أنّ عيسى عليهالسلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.
فقال له عيسى عليهالسلام : « يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ».
فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.
فقال له : « صدقت ، هات يدك » فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسى عليهالسلام ، وتعبد معه (٣).
وقال بعضهم ، قصدت عبادان (٤) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون
__________________
١ ـ روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر ١ : ٤٠ ، وارشاد القلوب : ١٢٧.
(٢ و ٣) أخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٥٣.
٤ ـ عبادان : بلد تحت البصرة. « معجم البلدان ٤ : ٧٤ ».
قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً.
وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة (١) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة.
وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً. وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه.
وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.
وكان عمران بن حصين (٢) ـ رضياللهعنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة (٣) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله (٤) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني (٥) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة
__________________
١ ـ الإكلة : الحكة. « الصحاح ـ أكل ـ ٤ : ١٦٢٤ ».
٢ ـ في « ش » و « ح » : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه ٥٢ أو ٥٣ للهجرة. راجع « اسد الغابة ٤ : ١٣٧ ، تهذيب التهذيب ٨ : ١٢٥ ، الإصابة في تمييز الصحابة ٣ : ٢٦ ».
٣ ـ في « ش » : حاجته.
٤ ـ في « ش » زيادة : أن.
٥ ـ في « ش » : تزورني.
الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به (١)؟
وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة (٢) ، ودبرت الحراقيف (٣) ، وأصبحت نضواً (٤) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر.
وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره.
وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ؟
__________________
١ ـ اسد الغابة ٤ : ١٣٧ نحوه.
٢ ـ الضجعة : هيئة الإضطجاع. « لسان العرب ٨ : ٢١٩ ».
٣ ـ الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. « لسان العرب ٩ : ٤٦ ».
٤ ـ النّضو : المهزول. « لسان العرب ١٥ : ٣٣٠ ».
فصل
إعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء ، وزوال المرض وحفظ الولد لاينافي الرضاء بالقضاء ، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء ، وندبنا إليه وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكباراً وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعا الأنبياء والأئمة عليهمالسلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدالحصر ، وقدأثنى الله تعالى على الداعين من عباده ، فقال : ( ويدعوننا رغباً ورهباً ) (١).
ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره (٢) بطلبه ، وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرّض لمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع (٣) الرضاء ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء.
ومن علاماته أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألّم من ذلك ، من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملأ على مفسدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتى ترحمه الملائكة وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤمن ، وأجب دعوته ، فيقول الله تعالى : كيف أرحمه من شي به أرحمه؟
نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى ، واستحقاقه للخيبة والإجباه (٤) والطرد والإبعاد ، فلاحرج ، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها حتى لو اجيبت دعوته ، فلا يظنّن أنّ ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل الله تعالى أن يعجّل بإجابته (٥) لتستريح منه.
__________________
١ ـ الأنبياء ٢١ : ٩٠.
٢ ـ في « ش » : ما أمر.
٣ ـ في « ش » : مواقع.
٤ ـ الإجباه : الإستقبال بالمكروه.« لسان العرب ـ جبه ـ ١٣ : ٤٨٣ ».
٥ ـ في « ش » : اجابته.
وكذلك قد يكون سبب تأخير الإجابة ، من محبة الله تعالى وملائكته لصوته ، وتلذّذهم بمناجاته ، فتسأل الله تعالى تأخير اجابته (١) ، كذلك كما ورد في الأخبار ، فالمؤمن أبداً بين رجاء وخوف ، فإنّ بهما قوام الأعمال ، والإنزجار عن المعاصي ، والرغبة في الطاعات.
____________
١ ـ في « ح » : حاجته.
الباب الرابع : في البكاء
إعلم أنّ البكاء بمجرّده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء ، وإنّما هو طبيعة بشرية ، وجبلة إنسانية ، ورحمة رحمية أو حبيبية فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها ، ما لم تشتمل على أحوال تؤذن بالسخط وتنبىء عن الجزع وتذهب بالأجر ، من شقّ الثوب ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.
وقد ورد البكاء في المصائب عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ومن قبله من لدن آدم عليهالسلام ، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم.
فأوّل من بكى آدم عليهالسلام على ولده هابيل ، ورثاه بأبيات مشهورة ، وحزن عليه حزناً كثيراً ، وإن خفي شيء فلا يخفى حال يعقوب عليهالسلام ، حيث بكى حتى ابيضّت عيناه من الحزن (١) على يوسف عليهالسلام.
ومن مشاهير الأخبار ما روي عن الصادق عليهالسلام ، أنّه قال : « إنّ زين العابدين عليهالسلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره ، قائماً ليله ، فإذا حضر الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه ، فيضعه بين يديه ، ويقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ، ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عزّ وجلّ » (٢).
وروي عن بعض مواليه أنّه قال : برز يوماً إلى الصحراء فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكائه ، فأحصيت عليه ألف مرة ، وهو يقول : « لاإله إلا الله حقّاً حقاً ، لاإله إلاّ الله تعبّداً ورقاً ، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً » ثمّ رفع رأسه من سجوده وإنّ لحيته ووجهه قد غمر بالماء من دموع عينيه ، فقلت : يا سيدي ، ما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن يقل؟
فقال لي : ويحك ، إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهمالسلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي ، له إثنا عشرابناً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فشاب رأسه من الحزن ، واحدودب ظهره من الغمّ ، وذهب بصره من البكاء ، وابنه حيّ في دارالدنيا ، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين فكيف ينقضي حزني ، ويقل
__________________
١ ـ في « ش » زيادة : فهو كظيم.
٢ ـ اللهوف في قتلى الطفوف : ٨٧.
بكائي؟! » (١).
وعن أنس بن مالك قال : دخلت مع رسول الله صلىاللهعليهوآله على أبي سيف القين ، وكان ظئراً (٢) لإبراهيم عليهالسلام ، فأخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله يقبله ، ويشمّه (٣) ، ثمّ دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم عليهالسلام يجود بنفسه ، فجعلت عينا رسول الله صلىاللهعليهوآله تذرفان ، فقال له عبدالرحمن بن عوف : وأنت يا رسول الله (٤)؟ فقال : « يا ابن عوف ، إنّها رحمة ـ ثمّ أتبعها بأخرى ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ : العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنّا لفراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون » (٥).
وعن أسماء ابنة زيد قالت : لمّا توفي ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ إبراهيم عليهالسلام ـ بكى رسول الله صلىاللهعليهوآله . فقال له المعزي : أنت أحقّ من عظّم الله عزّ وجلّ حقّه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ، لولا أنّه وعد حق وموعود جامع وأنّ الآخر تابع للأوّل ، لوجدنا عليك ـ يا إبراهيم ـ أفضل ممّا وجدناه ، وإنّا بك لمحزونون » (٦).
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري رضياللهعنه قال : أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآله بيد عبدالرحمن بن عوف فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه ، فوضعه في حجره ، فقال له : « يا بني ، إنّي لا أملك لك من الله تعالى شيئاً » وذرفت عيناه ، فقال له عبدالرحمن : يا رسول الله تبكي ، أولم تنه عن البكاء؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « إنّما نهيت عن النوح ، عن صوتين أحمقين فاجرين : صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان ، إنّما هذه رحمة ، ومن لا يرحم لايرحم ، ولولا أنّه أمر حق ووعد صدق وسبيل نأتيه وأنّ آخرنا سيلحق أوّلنا ، لحزنّا عليك حزناً أشدّ من هذا ، وإنّا بك لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ، ولانقول
____________
١ ـ اللهوف في قتلى الطفوف : ٨٨.
٢ ـ الظئر : زوج المرضعة. « لسان العرب ٤ : ٥١٥ ».
٣ ـ في « ح » : ويضمه الى صدره.
٤ ـ في « ح » زيادة : تبكي.
٥ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٥.
٦ ـ سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٦ / ١٥٨٩ ، ومنتخب كنز العمال ٦ : ٢٦٥.
ما يسخط الرب عزّ وجلّ » (١).
وعن أبي امامة قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوآله حين توفي ابنه وعيناه تدمعان ، فقال : يا نبي الله ، تبكي على هذا السخل؟ والذي بعثك بالحق لقد دفنت اثني عشر ولداً في الجاهلية كلّهم أشب منه ، أدسّه في التراب ، فقال النبي صلىاللهعليهوآله : « فماذا ، إن كانت الرحمة ذهبت منك ، يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا على إبراهيم لمحزونون ».
وعن محمود بن لبيد قال : انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال الناس : انكسفت الشمس لموت إبراهيم ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله حين سمع ذلك فحمدالله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : « أمّا بعد ـ أيّها الناس ـ أنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزّ وجلّ ، لا ينكسفان لموت أ حد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى المساجد » ودمعت عيناه ، فقالوا : يا رسول الله تبكي ، وأنت رسول الله؟ فقال : « إنّما أنا بشر ، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول مايسخط الرب ، والله ـ يا إبراهيم ـ إنّا بك لمحزونون » (٢).
وعن خالد بن معدان. قال لمّا مات إبراهيم بن النبي صلىاللهعليهوآله بكى ، فقيل : أتبكي يا رسول الله؟ فقال : « ريحانة وهبها الله لي ، وكنت أشمّها ».
وقال صلىاللهعليهوآله يوم مات إبراهيم : « ما كان من حزن في القلب أو في العين فإنّما هو رحمة ، وما كان من حزن باللّسان وباليد فهو من الشيطان » (٣).
وروى الزبير بن بكار : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله لمّا خرج بإبراهيم خرج يمشي ، ثمّ جلس على قبره ، ثم دلّي ، فلمّا رآه رسول الله صلىاللهعليهوآله قد وضع في القبر دمعت عيناه ، فلمّا رأى الصحابة ذلك بكوا حتى ارتفعت أصواتهم ، فأقبل عليه أبوبكر فقال : يا رسول الله ، تبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : « تدمع العين ويوجع القلب ولا نقول ما يسخط الربّ عزّ وجلّ ».
__________________
١ ـ التعازي : ٩ / ٨ باختلاف يسير ، وروي باختلاف في ألفاظه في سنن الترمذي ٢ : ٢٣٧ / ١٠١١ ، والجامع الكبير ١ : ٢٩٠ ، وروي نحوه في منتخب كنز العمال ٦ : ٢٦٥ عن عبد بن حميد.
٢ ـ روى نحوه الكليني في الكافي ٣ : ٢٠٨ / ٧ عن علي بن عبدالله عن أبي الحسن موسى عليهالسلام ، ورواه باختلاف في ألفاظه عن المغيرة بن شعبة البخاري في صحيحه ٢ : ٤٢ و ٤٨ ، ومسلم في صحيحه ٢ : ٦٢٨ و ٦٣٠.
٣ ـ الجامع الكبير ١ : ٧٠٩ باختلاف يسير.
وعن السائب بن يزيد ، أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا مات ابنه الطاهر ذرفت عيناه ، فقيل : يا رسول الله ، بكيت؟ فقال صلىاللهعليهوآله : « إنّ العين تذرف وإنّ الدمع يغلب ، وإنّ القلب يحزن ولا نعصي الله عزّوجلّ » (١).
وروى مسلم في صحيحه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله زار قبر أمه ، فبكى وأبكى من حوله (٢).
وروي : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا مات عثمان بن مظعون كشف الثوب عن وجهه ، ثمّ قبّل ما بين عينيه ، ثمّ بكى طويلأ ، فلمّا رفع السرير قال : « طوباك ـ يا عثمان ـ لم تلبسك الدنيا ، ولم تلبسها » (٣).
واشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه رسول الله صلىاللهعليهوآله يعوده ، فلمّا دخل عليه وجده في غشيته ، فقال : « أو قد مات؟ » فقالوا : لا يا رسول الله ، فبكى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ، فقال : « ألا تسمعون؟ إنّ الله لا يعذّب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذّب بهذا ـ وأشار إلى لسانه ـ أو يرحم » (٤).
وروي : أنّ ابنة لرسول الله صلىاللهعليهوآله بعثت إليه : إنّ ابنتي مغلوبة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « إنّ لله ما أخذ ، ولله ما أعطى » وجاءها في ناس من أصحابه ، فأخرجت إليه الصبيّة ، ونفسها يتقعقع (٥) في صدرها ، فرقّ عليها ، وذرفت عيناه ، فنظر إليه أصحابه ، فقال : « ما لكم تنظرون إليّ؟ رحمة يضعها الله حيث يشاء ، إنّما يرحم الله من عباده الرحماء » (٦).
وعن اسامة بن زيد قال : اتي النبي صلىاللهعليهوآله بامامة بنت زينب ، ونفسها يتقعقع في صدرها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لله ما أخذ ، ولله ما اعطى ، وكلّ إلى أجل مسمّى » وبكى ، فقال له سعد بن عبادة : تبكي ، وقد نهيت عن
__________________
١ ـ ورد الحديث في الجامع الكبير ١ : ٢٠٧.
٢ ـ صحيح مسلم ٢ : ٦٧١ ، سنن النسائي ٤ : ٩٠ ، سنن أبي داود ٣ : ٢١٨ / ٣٢٣٤.
٣ ـ ورد الحديث في الجامع الكبير ١ : ٥٦٨.
٤ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٦ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٣٦ / ٩٢٤ باختلاف يسير.
٥ ـ تقعقع : اضطرب وتحرك. « القاموس المحيط ـ قعقع ـ ٣ : ٧٢ ».
٦ ـ صحيح البخاري ٢ : ١٠٠ و ٧ : ١٥١و ٨ : ١٦٦ و ٩ : ١٤١ و ١٦٤ ، صحيح مسلم ٢ : ٦٣٥ / ٩٢٣ ، التعازي : ١٠ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٦ / ١٥٨٨ ، سنن أبي داود ٣ : ١٩٣ / ٣١٢٥ ، سنن النسائي ٤ : ٢٢ باختلاف في ألفاظه.
البكاء! فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « إنّما هي رحمة يجعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء » (١).
ولما اصيب جعفر بن أبي طالب رضياللهعنه أتى رسول الله صلىاللهعليهوآله أسماء رضي الله عنها ، فقال لها : « أخرجي إليّ ولد جعفر ، فخرجوا إليه : فضمّهم إليه وشمّهم ودمعت عيناه ، فقالت : يا رسول الله ، اصيب جعفر؟ قال : نعم ، اُصيب اليوم » (٢).
قال عبدالله بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول الله على اُمي ، فنعى إليها أبي ، ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان (٣) الدموع حتى تقطر لحيته ، ثم قال : « اللّهم إنّ جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب ، فأخلفه في ذريته بأحسن ماخلفت أحداً من عبادك في ذريته » ثمّ إنّه عليهالسلام قال : « يا أسماء ، ألا اُبشرك؟ » قالت : بلى بأبي أنت وأمي ، فقال : « إنّ الله عزّ وجلّ جعل لجعفر جناحين ، يطيربهما في الجنة ».
وعن أبي عبدالله عليهالسلام ، عن أبيه ، عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، أنّه لمّا جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب رضياللهعنه وزيد بن حارثة كان اذا دخل بيته بكى عليهما جدّاً ، وقال : « كانا يحدّثاني ويؤنساني ، فجاء الموت فذهب بهما » (٤).
وعن خالد بن سلمة قال : لمّا جاء نعي زيد بن حارثة إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله أتى النبيّ صلىاللهعليهوآله منزل زيد ، فخرجت إليه بنية لزيد ، فلمّا رأت رسول الله صلىاللهعليهوآله خمشت في وجهها ، فبكى رسول الله صلىاللهعليهوآله وقال (٥) : هاه هاه (٦) ، فقيل : يا رسول الله ، ما هذا؟ قال : « شوق الحبيب إلى حبيبه » (٧).
ولمّا مات سعد بن معاذ رضياللهعنه بكى عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
١ ـ مسند أحمد ٥ : ٢٠٤ و ٢٠٧ باختلاف يسير.
٢ ـ المغازي للواقدي ٢ : ٧٦٦ باختلاف يسير.
٣ ـ تهراقان : تجريان. « لسان العرب ١٠ : ٣٦٧ ».
٤ ـ الفقيه ١ : ١١٣ / ٥٢٧ باختلاف يسير.
٥ ـ كذا ، ولعل المناسب : حتى قال.
٦ ـ هاه هاه : حكاية صوت البكاء.
٧ ـ مكارم الأخلاق : ٢٢.
كثيراً.
وقال صلىاللهعليهوآله لاُمّ سعد بن معاذ يوماً : « ألا يرقأ (١) دمعك ويذهب حزنك فإن ابنك اهتز له العرش ».
قيل : وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله تذرف عيناه ، ويمسح وجهه ، ولا يسمع صوته (٢).
وعن البراء بن عازب قال : بينما نحن مع رسول الله صلىاللهعليهوآله إذ بصر بجماعة ، فقال : « على ما اجتمع هؤلاء؟ » فقيل : على قبر يحفرونه ، قال : فبدر رسول الله صلىاللهعليهوآله بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا عليه ، قال : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بلّ الثرى من دموعه ، ثمّ أقبل علينا فقال : « إخواني ، لمثل هذا فأعدّوا » (٣).
وعنه صلىاللهعليهوآله : « العبرة لا يملكها أحد ، صبابة المرء على أخيه » (٤).
ولما انصرف النبي صلىاللهعليهوآله من أٌحد راجعاً إلى المدينة لقيته حمنة بنت جحش ، فنعى لها الناس أخاها عبدالله بن جحش ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها خالها حمزة ، فاسترجعت واستغفرت له ، ثمّ نعي لها زوجها مصعب بن عمير ، فصاحت وولولت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « إنّ لزوج المرأة منها لمكان » لما رأى صبرها عن أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها (٥).
ثمّ مرّ رسول الله صلىاللهعليهوآله على دار من دور الأنصار من بني عبدالأشهل فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عيناه وبكى ، ثم قال : « لكن حمزة لا بواكي له » فلمّا رجع سعد بن معاذ وأٌسيد بن حضير (٦) إلى دار بني عبدالأشهل ، أمرانساءهم أن يذهبن فيبكين على عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فلمّا سمع
__________________
١ ـ يرقأ الدمع : يجف وينقطع. « لسان العرب ١ : ٨٨ ».
٢ ـ مسند أحمد ٦ : ٤٥٦ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٢٠٦ ، الجامع الكبير ١ : ٣٦٠.
٣ ـ مسند أحمد ٤ : ٢٩٤ ، وروي نحوه في سنن ابن ماجة ٢ : ١٤٠٣ / ٤١٩٥.
٤ ـ الجامع الصغير ٢ : ١١٣ / ٥١٣٥ ، وروي باختلاف يسير في الدرالمنثور ١ : ١٥٨.
٥ ـ السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ١٠٤.
٦ ـ في « ح » : أسيد بن حصين ، وفي « ش » : أسيد بن خضير ، والصواب ماأثبتناه ، وهو اُسيد بن حُضير ، أسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة توفي سنة ٢٠ للهجرة ودفن بالبقيع ، راجع « اُسد الغابة : ١ : ٩٢ ، تهذيب التهذيب ١ : ٣٤٧ ».
رسول الله صلىاللهعليهوآله بكاءهن على حمزة خرج إليهن وهنّ على باب مسجده يبكين ، فقال لهن رسول الله صلىاللهعليهوآله : « ارجعن ـ يرحمكن الله ـ قد واسيتنّ بأنفسكن ».
وروى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى الصادق عليهالسلام : « إنّ إبراهيم خليل الرحمن سأل ربه أن يرزقه ابنة تبكيه بعد موته » (١).
__________________
١ ـ التهذيب ١ : ٤٦٥ / ١٥٢٤.
فصل
عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « ليس منّا من ضرب الخدود ، وشقّ الجيوب » (١).
وعن أبي اُمامة : أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : « لعن الله الخامشة وجهها ، والشاقة جيبها ، والداعية بالويل والثبور » (٢).
وعنه صلىاللهعليهوآله ، أنه نهى أن تتبع جنازة معها رانّة (٣).
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : كبر مقتاً عندالله الأكل من غير جوع ، والنوم من غير سهر ، والضحك من غير عجب ، والرنّة عند المصيبة ، والمزمار عند النعمة (٤).
وعن يحيى بن خالد : أنّ رجلأ أتى النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فقال : مايحبط الأجر عند المصيبة؟ قال : « تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، من رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط » (٥).
وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت : لمّا مات أبو سلمة رضياللهعنه قلت : غريب وفي أرض (غربة ، لأبكينّه) (٦) بكاءً يتحدّث عنه ، فكنت قد تهيّأت للبكاء ، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني ، فاستقبلها رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال لها : « أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه » فكففت عن البكاء (٧).
وعن الباقر عليهالسلام : « أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجزّ الشعر ، ومن أقام النواح فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمدالله ـ جلّ ذكره ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله عزّ وجلّ ، ومن لم يفعل ذلك
__________________
١ ـ مسند احمد ١ : ٣٨٦ ، صحيح البخاري ٢ : ١٠٤ ، صحيح مسلم ١ : ٩٩ / ١٦٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٤ / ١٥٨٤ ، سنن النسائي ٤ : ٢٠ و٢١ ، والبحار ٨٢ : ٩٣ / ٤٥.
٢ ـ الجامع الصغير ٢ : ٤٠٥ / ٧٢٥٢ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٥ / ١٥٨٥ ، والبحار ٨٣ : ٩٣.
٣ ـ سنن ابن ماجة ١ : ٥٠٤ / ١٥٨٣.
٤ ـ الجامع الصغير ٢ : ٢٦٨ / ٦٢١٦.
٥ ـ البحار ٨٢ : ٩٣.
٦ ـ في « ح » : غريبة لأبكين عليه.
٧ ـ صحيح مسلم ٢ : ٦٣٥ / ٩٢٢.
جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله عزوجل أجره (١).
وعن الصادق عليهالسلام قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ضرب الرجل يده على فخذه إحباط لأجره » (٢).
__________________
١ ـ الكافي ٣ : ٢٢٢ / ١.
٢ ـ الكافي ٣ : ٢٢٤ / ٤ باختلاف يسير.